16 نوفمبر، 2024 2:47 ص
Search
Close this search box.

ملحمة “جلجامش” .. ما بين البحث عن الخلود وهزيمة الإلهة الأنثى

ملحمة “جلجامش” .. ما بين البحث عن الخلود وهزيمة الإلهة الأنثى

خاص : كتبت – سماح عادل :

تعد ملحمة “جلجامش” أحسن نموذج يمثل أدب العراق القديم.. يصنفها الباحثون ومؤرخو الأدب من إحدى روائع الأدب العالمي، وهي أطول وأكمل ملحمة وصلت إلينا من حضارات الشرق الأدنى، ولقد دونت هذه الملحمة قبل 4000 عام ق. م، وترجع حوادثها إلى أزمان أبعد، ولقد عالجت هذه الملحمة البطولية قضايا إنسانية عامة، كمشكلة الحياة والموت، ومشكلة الخلود، فقد مثلت الصراع الأزلي بين الموت والزوال وبين إرادة الإنسان المغلوبة في محاولتها التشبث بالوجود والبقاء.. لقد انشغلت الملحمة بموضوع أساسي هو حتمية الموت حتى بالنسبة لبطل مثل “جلجامش”، ثلثاه من مادة الآلهة الخالدة وثلثه الباقي من مادة البشر الفانية، كما حوت الملحمة على موضوعات إنسانية أخرى.. الصداقة، والحب، والكراهية، والأماني، والحنين إلى الذكريات، والبطولة، والحرب، والمغامرات، والرثاء.. وأروع رثاء ما قام به “جلجامش” لصديقه “انكيدو” وبكاؤه عليه.

كما صورت الملحمة جوانب هامة من حضارة وادي الرافدين، حيث يمكن للباحث عنها أن يطلع على عقائد العراق الدينية، وآرائهم وأفكارهم في الحياة والكون وأحوالهم الاجتماعية، والجوانب المثيرة من حياتهم العاطفية وعلاقتهم الاجتماعية وتركيب المجتمع.

لقد انتشرت الملحمة في القسم الجنوبي والأوسط من العراق، ذلك القسم الذي عرف باسم بلاد “سومر وأكد”، كما تسربت إلى القسم الشمالي إلى “بلاد آشور”، فقد وجدت نسخ كثيرة للملحمة في حواضر العراق القديم من عهد ازدهار الحضارة البابلية، في العهد البابلي القديم “الألف الثاني قبل الميلاد”.

البطل..

“جلجامش” كان في تاريخ أدب وادي الرافدين القديم من أبطال القصص والملاحم، وقد أصبحت أعماله ومغامراته مادة لملاحم وقصص سومرية وبابلية عديدة، أما الحقائق التاريخية عنه فهي قليلة وفقاً للباحث “طه الباقر”.. اسم “جلجامش” ورد في إثبات الملوك السومريين، من سلالة الوركاء الأولى، وهي السلالة الثانية التي حكمت من بعد الطوفان، وكانت سلالة “كيش” أول سلالة حكمت بعد حادثة الطوفان مباشرة، ويأتي ترتيب حكمه في سلالة الوركاء الأولى خامس ملك وقد حكم 126 عاماً, وفقاً لـ”إثبات الملوك”، ولعل أقدم كتابة ذكرت اسم “جلجامش” و”لوكال بندا” بصفتهما اسمين لألهين، الألواح الصورية التي وجدت في “فارة” ويرجع زمنها على الأرجح إلى أواخر عهد “جمدة نصر” في “3200 ق. م”.

ويبدو من الأدلة الأثرية أن “جلجامش” كان أحد حكام دول المدن السومرية في مطلع العصر المسمى بعصر فجر السلالات “3000 – 2400 ق. م”، ولعله من أواخر عهد “جمدة نصر” وأنه حكم في الوركاء ونسبت إليه أعمال البطولة المختلفة في القصص والأساطير السومرية، ومنها قصة “أكا” ملك “كيش” ونزاعه مع “جلجامش”, وأن الملحمة بشكلها “الأكدي” بدأت تتبلور في عهد سيطرة السلالة “الأكدية” السامية، التي أسسها “سرجون الأكدي” الشهير في حدود ” 2350 ق. م”, ودونت كاملة في بداية الألف الثاني قبل الميلاد.

الملحمة..

بالرغم من أن الملحمة وصلت إلينا على هيئة وحدة متكاملة من ناحية الفن القصصي، خاصة في آخر نسخة لها من القرن السابع ق. م, “وهي النسخة الآشورية من خزانة الملك آشور بانيبال”، إلا أنها كانت أقرب ما يكون إلى الجمع الأدبي، أي أنها مؤلفة من عدة قطع وأجزاء تتعلق بحوادث وأعمال مختلفة، ومن هذه الأجزاء المهمة القصص الدائرة عن أعمال “جلجامش” البطولية ومغامراته مع “انكيدو”، وقسم آخر مهم يدور حول رواية الطوفان الذي يؤلف قسماً مستقلاً من الناحية الفنية، وهناك قسم ثالث يكون بنفسه قصة لا علاقة لها بسياق حوادث الملحمة ولا بموضوعها العام، حيث يدور على وصف العالم الأسفل، أو عالم الأرواح كما شاهده “انكيدو”، ومما يقال أن المؤلف أو المؤلفين لهذه النسخة وفقوا في جمع الجزأين الأولين أي الأعمال البطولية والمغامرات لـ”جلجامش” و”انكيدو” وحوادث الطوفان الشهيرة مما جعل الملحمة كلها تبدو وكأنها وحدة فنية مطردة، على الرغم من أن المؤلف أو المؤلفين استعملوا ما يشبه طريقة القصص المتبعة في حكايات “ألف ليلة وليلة” و”كليلة ودمنة” في ربط قصة بأخرى، أما القسم الثالث الذي يدور عن عالم الأرواح فليس له صلة بموضوع الملحمة ولذلك نجد كل المترجمين للملحمة لا يدرجونه فيها.

المعنى في ملحمة “جلجامش”..

فسر الباحث “فراس السواح” معنى متميز يخالف ذلك التفسير الذي ساد زمناً طويلاً لملحمة “جلجامش”، والذي ارتكز بشكل أساسي على أنها ملحمة بحث الإنسان عن الخلود، فقد رأى أنه إذا كان النتاج الأدبي مرآة للمجتمع فإن ملحمة “جلجامش” تصور بطولة الفرد، “جلجامش” أول شخصية “تصلنا من التاريخ القديم مدونة” تعلن حضورها في استقلال عن الجماعة، وعن ألهتها، معلناً ابتداء عصر الإنسان الذي يرث الأرض ويشق الزمن الآتي كابن بار للإله، يطمح للجلوس عن يمينه لا كعبد مسلوب، واقع في دائرة الميلاد والموت المفرغة، و”جلجامش” الفرد لم يؤسس لفردية فوضوية خارجة عن الكل ساعية وراء أهدافها وغايتها المستقلة والمتضاربة مع غايات الجماعة والبحث الإنساني المشترك، بل لقد جعل من نفسه النموذج الفرد الذي يمكن لأية شخصية في الجماعة أن تتشكل وفقه وتنسج على منواله، ليغدو المجتمع فريقاً من الأحرار، وهو بتطوره الشخصي من الفردية الفوضوية إلى الفردية الجماعية المنظمة إنما يحدد المسار الذي يحرر الأفراد ويربطهم في آن معاً في مسيرة الإنسانية الكبرى، نحو معرفة الذات ومعرفة الكون وخلافة الإله.

كان “جلجامش” ملك “أوروك” وكان متباهياً بقوته، وعندما اشتكى أهل “أوروك” إلى الآلهة من قمع “جلجامش” استجابت الآلهة بأن مضوا إلى الإلهة الأم “ارورو” خالقة الجنس البشري، وطلبوا منها أن تخلق نداً لـ”جلجامش”, ثم أخذت بكفها قبضة من طين رمتها في الفلاة، فكان منها “انكيدو” وعندما سمع “جلجامش” بخبر “انكيدو” بعث إليه كاهنة حب من معبد “عشتار” لتقوده إلى”أوروك”، وانضم “انكيدو” إلى المرأة يروي نفسه من جسدها ستة أيام وسبع ليال متواصلة، لقد غير الاتصال بعالم البشر “انكيدو” تغييراً عميقاً، واكتسب الحكمة والمعرفة من الكاهنة.

وذهب “انكيدو” للقاء “جلجامش”، واحتشد الناس حوله فقد كان نداً لـ”جلجامش” في كل شيء، والتحما في مصارعة عنيفة غلب فيها “جلجامش” وتركه ماضياً في طريقه، غير أن “انكيدو” ناداه بكلمات وقعت في نفسه حسناً، وكانت بداية صداقة دائمة بين الطرفين، كان تأثير صداقة “انكيدو”على “جلجامش” حاسماً، لم يعد “جلجامش” الفرد الحر الوحيد بين جماعة من المسلوبين، إذ ظهر أمامه رجل حر آخر تعلم من تعامله معه كيف يحترم حريات الآخرين، وأدرك أن الحرية الفردية لا معنى لها إن لم تتعاون مع حريات أولئك الآخرين وتتحدد من خلالها، ومع تلاشي أحلام الحرية المطلقة أتى وعي مسألة الموت والتفكر فيه، يغادر “جلجامش” أوروك مع “انكيدو” بحثاً عن المغامرات والأعمال البطولية وتظهر عواطف البطلين الإنسانية من إقدام وتردد وشجاعة وخوف ويقين وشك.

صراع مع “عشتار”..

دخل “جلجامش” في صراع مع الآلهة “عشتار”, حيث سجل ذلك الصراع في زمن بلغ فيه الصراع الديني بين الديانة الأمومية القديمة والديانة الذكرية الجديدة أوجه.. فملحمة “جلجامش” من أولها لآخرها هي ملحمة الذكر الفاتح الذي يبني ويشيد، واضعاً بصمته على الطبيعة خارجاً من أحضانها إلى الأبد بعد أن استسلم لها عشرات الألوف من السنين، مع الانتصار على “عشتار” وثور السماء تبلغ مرحلة البطولة قمتها وتصل حرية الفعل الإنساني أقصى حد، مستولية على مواقع متقدمة من أرض الآلهة، ويرد الآلهة حيث يقررون إنزال العقوبة بالبطلين فـ”انكيدو” يجب أن يموت و”جلجامش” سيفجع بموت صديقه ويندبه ما تبقى من عمره.

البحث عن معنى الحياة..

تنهار عوالم “جلجامش” القديمة، ويبدأ رحلته في البحث عن المستحيل, يرى “فراس السواح” أن “جلجامش” لم يكن باحثاً عن الخلود كما تؤكد معظم التفسيرات والدراسات للملحمة، بل كان باحثاً عن المعنى في الحياة، وعودته إلى “أوروك” في النهاية لم تكن هزيمة للإنسان بل انتصاراً لحياة وجد المعنى فيها والغاية، لقد اتخذ البحث عن معنى الحياة شكل البحث عن الخلود، وفي كل مرحلة من مراحل رحلته كان “جلجامش” يتلقى درساً في معنى الحياة، لقد تعلم “جلجامش” أن معنى الحياة قائم في المعرفة والحكمة التي نكتسبها.

قراءة مغايرة لملحمة “جلجامش”..

يقدم الباحث “ناجح المعموري” قراءة مخالفة لملحمة “جلجامش”، تعتمد على نفي التفسيرات القديمة للملحمة، والتي دارت حول ثنائية الموت – الحياة، واستبدل ذلك بالصراع بين الديانتين القمرية والشمسية، مشيراً إلى أن “جلجامش” كان, وظل, مركزاً حيوياً في نص الملحمة، ومثل “انكيدو” هامشاً فيه، على الرغم من أنه قام بمهام عديدة وخطيرة، ولولاه لما استطاع الملك من تحقيق كل أحلامه، لكن في رأيه الذي كتب نص الملحمة لم يستطيع أن يتخلص من هيمنة مركزية المؤسسة الدينية والسياسية، ويكون محايداً في تعامله، لذا اختار نهاية مأساوية لـ”انكيدو”, وتقرر باجتماع شكلي هيمن عليه الإله “انليل” اغتيال “انكيدو”.

لقد هيمن “جلجامش” على مدينة “أوروك” ومارس لهوه وعبثه فاتكاً برجالها وشبابها، مغتصباً فتياتها، فهو الملك المفوض من الإله “انليل” بالحكم.. لقد كان المجتمع العراقي القديم يتألف من طبقتين الأحرار والعبيد، واستنجد أهل المدينة بعد طغيان “جلجامش” سواء من العبيد أو الأحرار، المقيدة حريتهم بسلطة ملك جائر، بالسلطة القمرية وسلطة الألوهة الأنثوية، وهذا الاستنجاد كان تأكيداً لقوتها وبقاء فاعليتها وتأثيرها في الحياة العامة، على الرغم من أنها دفعت إلى منزلة أدني، بعد صعود الديانة الشمسية، لذا كانت الإلهة “ارورو” هي التي خلقت “انكيدو” كما كانت كاهنة الرغبات واحدة من ممثلات الإلهة “عشتار” هي التي أوكلت لها مهمة التحاور مع “انكيدو”.

لقد تجاورت الديانة القمرية مع الشمسية وتحاورتا معاً، لكن الديانة القمرية كانت مهيمنة في الخلق والحوار الاتصالي الشفاهي، حيث حصلت على يديها المتغيرات الأساسية والجوهرية في  شخصية “انكيدو”، لقد استلم “انكيدو” المعرفة والفطنة، وأصبح مثل الإله “آنو”، وأكدت تحولات شخصيته سيادة سلطة الألوهة الأنثوية التي قادت “انكيدو” مأسوراً بها إلى مدينة “أوروك”، ويرى “ناجح المعموري” أن المركز الديني تعرض إلى الخلخلة بعد دخول “انكيدو” إلى “أوروك” وتعرضه لـ”جلجامش” بعد تهيئة مراسم طقوس الاتصال المقدس مع الإلهة “شخارا” (شكل من أشكال عشتار), ويتضمن المشهد الشعائر الدينية الخاصة بالزواج المقدس، الذي كان يمارس في العراق القديم، رمزاً لاتصال الملك بالآلهة، وكانت الكاهنة تقوم بدور الآلهة في الاتصال الجنسي مع الملك لإحلال الخصب والرخاء في البلاد، ولما كان “جلجامش” يتهيأ للقيام بهذه الشعائر، وصادف مجيء “انكيدو” فتصدى له ومنعه من دخول المعبد وعطل الطقس المقدس، ولم يستطع “جلجامش” الانتصار على خصمه فعقد صداقة متينة معه، لكن تلك الصداقة حرمت “جلجامش” من مزاولة طقوس الاتصال المقدس، وعطلتها تماماً، وتعطلت إلى الأبد اغتصابات الملك للفتيات.

تخليق شخصية “انكيدو”, واتصاله الشهوي المعرفي قد حدث من خلال سلطة الألوهة الأنثوية وبذا استطاعت أن تجد لها نصيراً في صراعها مع السلطة الشمسية الذكرية، الممثل لها الملك “جلجامش” لكننا نفاجئ بـ”انكيدو” القمري يدخل في صراع مقدس مع طقس قمري، يؤديه بممارسة فعلية الملك “جلجامش” عند عتبة المعبد.. لقد حدثت قطيعة، فقد اتخذ مسار الصراع طابعاً جديداً، وتحول “انكيدو” و”جلجامش” إلى علامة شمسية بعد نمو الصداقة بينهما.

أن ثورة “جلجامش” على الطقوس وما فعله لاحقاً بالثور المقدس السحري, تمثل انهياراً للثقافات الأمومية وصعود الثقافات الذكرية، غلبت الشمس القمر، وتوطدت الديانات الشمسية وراح آلهة الشمس وآلهة السماء السامية يبنون مجدهم بعد معارك حاسمة مع “سيدة العتم” وابنها الثور، فقتل “مردوخ” الأم “تعامة” في صورة تنين رهيب، إن أساطير هؤلاء الأبطال بشكلها المزخرف الأخير وبناءها الأدبي لا يخفي أصلها القديم وشكلها الأول، الذي صاغه آباء الانقلاب الديني قبل مطلع عصور الكتابة، وكل أفعاله تتركز على قهر الرموز القمرية فـ”جلجامش” البابلي حبيب “شمش” إله الشمس يسير برعاية الإله وتوجيهه، فيقتل مع صديقه “انكيدو” تنين غابة الأرز، وتجعل الأسطورة الذكرية من “عشتار” امرأة لعوب تقع في حب “جلجامش” الذي يعرض عنها ويقوم بتحقيرها وتعداد مثالبها، لقد اتسعت سلطته الذكرية بسبب انتصارها وشموخها والإعلان عن سيادتها المطلقة داخل “أوروك”.

ثم تأتي أقصى الصدمات التي تواجه “جلجامش” بموت “انكيدو”, لتدخل الملحمة في مرحلة جديدة، مرحلة ما بعد تصفية رموز الديانة القمرية في غابة الأرز، هذه الحقبة الجديدة والتي سيواجه فيها النظام السياسي والديني نوعاً جديداً من الصراع، يتمثل في العداوات الباقية مع المدن المتجاورة والتي تتعمق حتماً، والصراع الذي ستشهده الديانة الشمسية الجديدة والتي صعدت فوق حراك الديانة القمرية، التي لم تستلم رغم انهيار رموزها وتعطل بعض طقوسها، هذه الحقبة ستثير المتاعب للملك “جلجامش” والمؤسسات التي يمثلها (سياسية واقتصادية ودينية) أمامها الكثير لتثبيت دعائم حكمها.

موت “انكيدو” يمثل حسماً لصراع مرير بين قوتين يمثلان مرحلتين، وانتهى الصراع باستتاب السلطة الذكرية “البطرياركية” وتعمق هيمنتها وإزاحتها للسلطة القمرية، هكذا صورت ملحمة “جلجامش”، في مستوى من مستويات القراءة المتعمقة، صعود سلطة الذكر الفاتح الباني، الذي كان له دور هام في إنشاء المدن وإخضاع أهلها في نفس الوقت.

المصادر:

كتاب “ملحمة كلكامش” – طه الباقر.

كتاب “كنوز الاعماق.. قراءة في ملحمة جلجامش” – فراس السواح.

كتاب “المسكوت عنه في ملحمة جلجامش” – ناجح المعموري.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة