خاص: حاورتها- سماح عادل
“هند مرشد” كاتبة سورية من مواليد دمشق، عملت 25 سنة في الإعلام. طبعت أول مجموعة شعرية بعنوان “همس الأصابع” في 2016، أصدرت مجموعة ثانية بعنوان “أنثى وارفة الظلال” في 2018.
كان لي معها هذا الحوار الشيق:
* هل واجهتك صعوبات في النشر وما رأيك في النشر التجاري؟
– بداية أنا لست بشاعرة لأني لا أتقن كتابة الشعر بمفهومه العام والتقليدي. أنا مجرد عاشقة للحروف تستهويني الكلمة الجميلة وتسحرني الصور التي يمكن أن ترسمها جملة صغيرة وموجزة، لهذا أنا أكتب الخاطرة أو الومضة التي يمكن أن اختصر بها حكاية طويلة بمفردات قليلة فيها عمق اللحظة وأبعادها النفسية. فالكتابة بالنسبة لي مرآة تعكس ألوان الطيف في مشاعري حين تبللها قطرة المطر، فتارة هي حمراء عنيفة وصادمة، وتارة أخرى برتقالية مترددة وحائرة، ومرة هي صفراء باهتة قلقة بمزاج متقلب وانفعالي فيها، وأخرى هي بنضارة اللون الأخضر وثقته وتفاؤله ووضوحه. وأحيانا هي زرقاء رقيقة عميقة وصافية، وأحيانا أخرى نيلية أقرب إلى السواد في تشاؤمها وعدوانيتها وشرها، وأكثر الأحيان رومانسية هادئة ومسالمة كالبنفسج. التقط إحساس اللحظة وارسمه بالكلمات.
* في مجموعتك الشعرية “أنثى وارفة الظلال” قصائد تعبر عن حب عذب، كيف هي صورة الرجل في شعرك؟
– ديواني “أنثى وارفة الظلال” هو كتابي الثاني بعد “همس الأصابع” ونصوصه كانت أكثر كثافة وعمقا من الأول، ففيه تبلورت صورة الرجل في حياتي وباتت أكثر وضوحا وواقعية. صرت أراه كما هو دون تنميق ولا تزييف، ولم يعد ذاك الرجل في صورته المثالية التي تتخيلها المرأة.
فهو بالنهاية إنسان قد يكون وفيا حنونا وقد يكون خائنا وكاذبا، والمرأة حين تحب تتغاضى عن بعض النواقص وتتقبل رجلها كما هو، بالحب وحده نستطيع أن نغفر ونسامح.
* عملتي في مجال الإعلام 25 عاما حدثينا عن تجربتك فيه، وهل يعاني من مشكلات؟
– للأسف كان الإعلام العربي يعاني من مشكلات جمة. واعتقد أن السبب يعود إلى عدم استقلالية أجهزة الإعلام في بلادنا وإن كان هناك في بعض الدول وسائل إعلام موضوعية ومستقلة، إلا أن الغالبية العظمى مازال الإعلام فيها يخضع لسيطرة المنظومة السياسية التي تنتهجها البلد فهو هنا إعلام مقيد ومسيس.
ورغم أن الانترنت قد أضعف بشكل أو بآخر دور الحكومات في تقييد الإعلام، لأن كل ما يحصل في العالم بات يعرف فور حصوله عبر شبكات التواصل، ولم يعد مجديا هذا المنع ولم تعد الرقابة لها سلطتها بل جعلت من وسائل الإعلام في بلادنا مجرد وسائل محلية تبث الخبر الداخلي فقط، والرقابة التي تحرم الإعلامي هامش الحرية والمصداقية تحد من إبداعه ومن إنتاجه.
بالمحصلة ومن خلال تجربتي كمحررة في الوكالة السورية للأنباء “سانا” اكتشفت أننا لا تتقن صناعة الخبر ولا الترويج له، لأن ما حصل ويحصل في بلدنا في السنوات الأخيرة جعلنا الخبر العاجل في أجهزة الإعلام العالمية.
* كان حلمك أن تكتبي رواية ووجدت نفسك تكتبين الشعر ثم القصة القصيرة، كيف عبر كل نوع من هذه الأنواع عنك؟
– ومازال هذا الحلم يراودني. رغم كل ما كتبته إلا إني أحس أنها مبتورة وغير مقنعة تفتقد الدهشة والسرد المحكم للأحداث والمشاعر ووصلت لقناعة أني لا أمتلك الأدوات المناسبة ولا الحس الإبداعي اللازم لكتابة رواية، لهذا صرفت النظر عن الموضوع واكتفيت بكتابة ما تجود به مشاعري من خواطر ونصوص قصيرة.
* هل الكتابة بالنسبة لك محاولة للهروب من واقع عانيت فيه الفقد، أم محاولة للتعبير عن مشاعرك وأفكارك وحكي الأحداث التي مررت بها في الحياة؟
– لا ليست محاولة هروب. فالهروب لا يحل مشكلة، أنا أكتب لأتخفف من أعباء مشاعر إنسانية مختلطة أمر بها، من حب وخوف، حزن أو فرح، لقاء ووداع، حضور وغياب. أو لأعبر عن رأيي الخاص بفكرة أو موقف أو موضوع يمس حق المرأة في الحياة ويؤكد دورها كشريكة فاعلة ومهمة ومؤثرة، وليست مجرد ظل للرجل يتضامن معها في كفاحها من أجل إحقاق هذا الحق.
قلمي هو الدرع الذي أحمي به قناعاتي وحقي كفرد في هذا المجتمع، وهو السلاح الذي أدافع به عن كياني في مواجهة تهميش دور المرأة في كل مجالات الحياة. وأعتقد أن الكتابة هي الفضاء الرحب الذي يتسع لتحليق المرأة والتعبير عن ذاتها ووجودها، ورسم أحلامها وتطلعاتها. وهذا الفضاء هو ما جعلني أدون كل الأحاسيس والأحداث المؤلمة والمفرحة التي عشتها وأعبر عن ما أحلم به وأتمناه.
* ما رأيك في حال النشر؟
– لم أفكر بنشر خواطري إلا حين أبلغني بعض الأصدقاء إنه قد تمت سرقة بعض من نصوصي التي كتبتها على صفحتي في “الفيسبوك” وأن من سرقها نشرها على حسابه وباسمه، ونصحوني بأن أوثق ما انشره في كتاب خوفا من ضياعها. وهكذا فعلت وقد دفعت أجرة طباعة كتبي الثلاثة من حسابي الخاص لأن دور النشر الخاصة لا تدفع تكاليف نشر كتاب ما إلا إذا كان الكاتب مشهورا أو معروفا في الساحة الثقافية.
وكذلك اتحاد الكتاب، إلى جانب أنه يفرض شروطا خاصة لكي يوافق على نشر كتاب للهواة أمثالي. عدم احتضان المواهب ودعمهم يقلل من فرص طباعة كتبهم في دور نشر محترمة أو في الاتحاد فيلجئون إلى دور نشر غايتها الكم وليس النوع، تقوم بطباعة كل ما يقدم لها من أجل الربح فقط.
وطبعا هذا يحمل الكاتب أو الشاعر عبء مادي كبير خاصة بعد ارتفاع أسعار والحبر. ولم يكن مشروع طباعة كتبي مشروع ربحي أبدا فأنا لم استعيد تكاليف طباعتها، وكنت في حفل التوقيع أوزع النسخ مجانا على الأصدقاء أو بسعر رمزي. كان يهمني أن أشجع على القراءة في زمن لم يعد الكتاب مطلبا أساسيا وباتت القراءة عادة قديمة لا يمارسها معظم الناس.
* ما تقييمك لحال الثقافة في سوريا وهل يدعم الكاتبات؟
– كانت سوريا قبلة لأهم الكتاب والشعراء العرب على مر التاريخ، يتسابق إليها المثقفون من كل حدب وصوب، فهي المنبر الأوسع والأرحب لكل أنواع الفنون والإبداع. ولكن في العقد الأخير ولما عانته المنطقة بشكل عام وسوريا بشكل من حروب ومشاكل أدت إلى تداعيات جمة في الأوضاع، وخلق الكثير من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكان أخطرها الأزمة الثقافية التي أنتجت نوعا من التردي والانهيار في البنية الثقافية ومؤسساتها.
أي نشاط ثقافي يلزمه بيئة آمنة ومستقرة ومؤسسات حكومية وخاصة راعية وحاضنة لهذا النشاط، وللأسف الوضع المتأزم في سوريا خلال السنوات الماضية نتيجة الحرب والحصار الذي فرض عليها وقانون قيصر وتخوف المبدعين من كتاب وشعراء وفنانين كبار من زيارتها، جعلها غير مؤهلة لإقامة أي نشاط ثقافي كبير. إلى جانب إغلاق أهم المكتبات وبعض دور النشر أبوابها أو انتقالها إلى بلدان أكثر أمانا واستقرارا.
رغم كل هذا بقيت دمشق عاصمة الإبداع والثقافة ولم تتوقف دور النشر التي بقيت عن إصدار وطباعة كل ما هو جديد، ولمعت أسماء جديدة لكتاب وكتابات وشعراء وشاعرات من سوريا ودول عربية أخرى، مما يؤكد الجهود الحثيثة لإعادة إحياء دور سوريا الثقافي من جديد.
* هل توجد اختلافات بين الكتابة لدى النساء وبين الكتابة لدى الرجال في الشعر، وما هي ملامح هذه الاختلافات؟
– لا حدود لإبداع المرأة وخاصة المرأة العربية المثقفة والمتعلمة والواعية. ولكن للأسف في مجتمعنا الشرقي هناك حربا مع الفكر غير المألوف والثوري والتغييري، ولذلك يفرض هذا المجتمع قيوده على حرية الإبداع وهذه القيود تتضاعف على المرأة التي نجدها بين خيارين إما التصادم مع المجتمع أو الاستسلام لرغبته.
ورغم أن التاريخ الثقافي العربي تاريخ ذكوري لوفرة الكتاب والشعراء والفلاسفة من الذكور، وندرة الأقلام النسائية إلا أن المرأة استطاعت أن تثبت ذاتها في المشهد الثقافي في أواخر القرن التاسع عشر عبر رائدات الحركة النسائية مثل “نازك الملائكة ومي زيادة وليلي بعلبكي وزينب فواز ونبوية موسى، والسورية هند نوفل التي أصدرت مجلة “السيدات” عام 1892″ وغيرهن كثيرات.
كل أولئك النساء اللواتي خرجن من الفضاء الضيق الذي لم يتجاوز جدران المنازل وحلقن في فضاء الفكر والثقافة والأدب أسسن الفكر الإبداعي للمرأة العربية. وحين تتساوى فرص الإبداع للمرأة كما الرجل سنكتشف أنه لا اختلاف جوهري بين ما يكتبه الرجل وتكتبه المرأة. الاختلاف فقط في مساحة الحرية الممنوحة للطرفين. وأعتقد أن لدى كل امرأة تلك اللحظة الإبداعية التي لو كان لها حرية التقاطها لتفوقت على الرجل ككاتبة وشاعرة وأدبية.
* ماهو رأيك في مصطلح “الأدب النسوي” وهل تسعين في أدبك إلى الدفاع عن قضايا المرأة وحقوقها وكشف التمييز الواقع على المرأة في المجتمع؟
– أنا ضد تصنيف الأدب بحسب جنس الكاتب، لماذا هذه الخصوصية لما تكتبه النساء وتسميته بالأدب النسوي؟ ولماذا إذن لا تصنف ما يكتبه الرجال ونسميه بالأدب الرجالي؟
وإذا افترضنا جدلا أن الأدب النسوي هو الذي يتناول قضايا المرأة وحركة تحررها ورصد لنضالاتها وحربها ضد كل أنواع الظلم والقهر، الذي تعرضت له تاريخيا من تهميش وإقصاء. نجد أن هذه المواضيع قد كتب عنها أدباء كبار ذكور ك”قاسم أمين وطه حسين ونجيب محفوظ ويوسف إدريس” وغيرهم كثيرين.
وهنا نجد أن هذا المصطلح غير دقيق وقد تم الترويج له في ظل موجة الحداثة، وتحت ضغط الحركات التحررية للنساء الرائدات في طرح قضايا حقوق المرأة التي نادت بحق المرأة في التعبير عن ذاتها، وإيصال صوتها للعالم من خلال الأدب والشعر والفن بأشكاله المتعددة، وذلك لاستعادة دورها التاريخي في الحياة الاجتماعية والفكرية والثقافية والسياسية، كفرد مؤسس وشريك في نهضة المجتمعات ورقيها. إذن يجب أن لا يصنف الأدب وفق جنس الكاتب، فهو بالمحصلة أدب إنساني يهدف لخدمة المجتمع والبشرية.
* كيف هي طقوس الكتابة وهل تختارين المفردات بعناية؟
– الطبيعة والمشاعر الإنسانية ملهمتي فأنا أعشق الصور الجميلة التي ترسمها الطبيعة، فالليل ونجومه وغيومه والقمر والشمس والبحر والأشجار صورا تسحرني، والحزن والفراق واللقاء والحب والانتظار والفقد والفرح والحلم واليأس والتفاؤل مشاعر تأسرني. فأجدني أتخيل القمر حبيبا والشجرة امرأة والمطر عناقا والليل لصا والحب دفئا والصقيع غيابا والوطن عشقا والأنثى عطرا.
لهذا تجدين مفرداتي غريبة بعض الشيء ولا تحمل المعنى التقليدي لها في اللغة حيث أميل إلى الترميز في استعمال المفردة لإيصال عمق الفكرة، التي أريدها بصورة مكثفة وموجزة بنفس الوقت دون ضياع المعنى والقصد. لهذا كان كتابي الأول “همس الأصابع” والثالث “غواية الصمت” من نوع الومضة أو الخاطرة وليس فيهما نصوصا طويلة كما في “أنثى وارفة الظلال”، لقد اعتمدت فيهما الاختصار والإيجاز للفكرة بكلمات قليلة وجمل قصيرة كهذه الومضة من ديواني الأخير “غواية الصمت”.
حين فارقتني
بت أنثى بلا رائحة
من يومها وأنا أبحث
عن أبجدية جديدة للعطر.
ومن ديواني “همس الأصابع”..
كأنني امرأة
أنجبتني المحنة
يتناسل من خاصرتي
ألف وجع
ومن بين أضلاعي
تتدحرج أصداف الخيبات.
* هل تخافين من الكتابة بجرأة، وتشعرين أن هناك رقيب داخلي يمنعك من تجاوز القيود التي يضعها المجتمع والتقاليد؟
– للأسف حراس الأخلاق يعتبرون جرأة المرأة المبدعة كاتبة أو شاعرة نوعا من الغواية. والقارئ العربي في المجتمع الذكوري انتقائي بطبعه، يرصد محاولات بعض الشاعرات والكاتبات في وصف العلاقة الحميمة مع الرجل لينهال عليها بأقذر الأوصاف لخروجها عن القيم والأخلاق الاجتماعية. لهذا وخوفا من شبهة التعهير نجد أن بعض الكاتبات يتحفظن في كتابة مشاعرهن وأحاسيسهن بصدق وشفافية.
لا يمكننا تقييد الإبداع ولا إبداع دون حرية، والحرية هي أن تتحرر المرأة من كل القيود التي تحد من إبداعها، واعتقد أن من حق كل امرأة أن تعبر عن حقيقة مشاعرها باللغة التي تريدها، حتى لو خرجت عن نمطية الكتابة التقليدية السائدة التي تفرض عليها تناول بعض الأفكار، وترك بعضها لأنها تمس الثالوث المقدس “الدين والجنس والسياسة” والذي كان محرما عليها تناوله أو الحديث عنه.
الأقلام النسائية المبدعة التي تجاوزت كل الخطوط الحمراء كسرت كل تابوهات المجتمع، عبر طرحها مفاهيم جديدة غيرت من المنظومة الجامدة للأعراف والتقاليد الاجتماعية الراسخة كثيرة منها مثلا المبدعات “هدى شعراوي ومي زيادة و لطيفة الزيات وليلى بعلبكي وغادة السمان وكوليت خوري” ورائدة الحركة النسائية العربية الدكتورة “نوال سعداوي” التي كانت بحق “سيمون دو بفوار” العرب.
وهناك الكاتبات المغاربيات اللاتي فرضن وجودهن في المشهد الثقافي العربي مثال”فاطمة المعراوي والدكتورة زينب الأعوج وآسيا جبار وأحلام مستغانمي وفاطمة المرنيسي ولطيفة الشابي” وغيرهن كثيرات.
* هل في رأيك يواكب النقد غزارة الإنتاج وهل يحتفي بإنتاج الكاتبات؟
– غزارة الإنتاج لا تعني جودته وليس دليلا على أن الثقافة والأدب بخير، بل على العكس قد تدل على حالة تدني المستوى الإبداعي. وللأسف بات الإنتاج يقاس بالكم وليس بالنوعية، مما يخلق إشكالية في النقد فعدد النقاد لا يتناسب مع كثافة الكتب المطبوعة لأن النقد لكي يكون موضوعيا يجب أن يقرأ الكتاب أكثر من ناقد، وألا يكون للناقد علاقة شخصية مع الكاتب.
ونجد أن لجوء بعض النقاد إلى مجاملة دور النشر وبعض الكتاب والكثير من الكاتبات يؤدي إلى عدم مصداقية الناقد والوثوق برأيه الذي لا يكون محايدا في هذا الوضع. وهذا ما يؤكد أن ازدياد عدد المطبوعات والكتب والمنشورات ليس دليل صحة ثقافية فدور النشر بات يهمها الربح وليس الارتقاء بالفكر ورعاية الإبداع.
فمثلا كاتبنا الكبير الحائز على جائزة نوبل للأدب “نجيب محفوظ” وخلال سنوات عمره الأدبي التي تجاوزت الستين لم يصدر له سوى ثلاثين رواية، و”دوستوفسكي” الروائي العالمي لم يكتب سوى خمسة عشر رواية خلال حياته. بينما نرى أن هناك بعض الروائيين الآن يصدر له كل ستة أشهر أو سنة رواية.