خاص: حاورته- سماح عادل
“هادي الحسيني” شاعر وكاتب عراقي، من مواليد بغداد، يقيم في العاصمة النرويجية أوسلو منذ عام 1999. غادر العراق أواخر عام 1994 حيث أقام في العاصمة الأردنية عمان. هو عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، وعضو اتحاد الأدباء والكتاب العرب، وعضو اتحاد كتاب النرويج. فاز بجائزة المكتبة العالمية للشعر والإبداع في شمال أمريكا في عام 1998 عن قصيدة له بعنوان (تماثيل الموت).
أعماله:
- ضباب الأضرحة، شعر دار ألواح اسبانيا 2000.
- فتوحات البياتي، قصائد ونصوص مختارة، دمشق 1998.
- رجال من قصب، شعر المركز الثقافي السويسري 2007.
- الحياة في الحامية الرومانية، رواية، دار نينوى دمشق 2014.
- رحيل الملائكة، شعر، العراق 2019.
- قصائد أوسلو، مجموعة شعرية قيد الطبع.
إلى الحوار:
(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟
- كنتُ صبيا لم يتجاوز عمري العاشرة وأنا اقرأ بعض القصائد لشعراء كبار من العرب والعراقيين ومن القدماء والمعاصرين، فحفظت الكثير من شعر المتنبي وأحمد شوقي والجواهري ومحمود درويش، وأغلب شعر مظفر النواب العامي والفصيح، وحاولت مبكرا تجريب الكتابة الشعرية باللغة العامية ونجحت إلى حد ما، ثم بدأت الكتابة في القصيدة الكلاسيكية والشعر الحر، لكني كنت أشعر في داخلي أنني لن أقدم أفضل مما قدمه السابقون.
لهذا بعد سنوات من التجريب في الكتابة وجدت ضالتي في قصيدة النثر التي من خلالها أستطيع أن أعبّر عن الكثير من التراكمات والمآسي، من خلال المساحة والحرية التي يتمتع بها الشاعر بعيدا عن أحكام بحور الفراهيدي التي ترهل القصيدة وتجمد حركتها، وبالرغم من استسهال البعض لكتابة قصيدة النثر لكنهم لم يفهموا أنها أشد صعوبة من القصيدة العمودية. وحدهم كتاب القصيدة الحديثة يعرفون سرها، والمهم ليس شكل القصيدة إنما حرية التعبير التي لا تقيد الشاعر.
ثم بدأت بقراءة الروايات العالمية بتشجيع من أخي الأكبر وبعض أصدقائه عندما كان يصطحبني معه إلى مقاهي مثل “البرلمان” و”البرازيلية” التي يلتقي فيها الأدباء والفنانين في شارع الرشيد أواخر العقد السبعيني، والذي كانت فيه بغداد تعيش عصرا ذهبيا بعيدا عن شبح الحرب ومأساتها التي تناسلت وأصبحنا نعيشها كل يوم. ونتيجة للقراءات اليومية التي كنت أحيانا أعيش مع قصصها، خاصة قصص الحب العذري التي اشتعل فيها الشعر عند قيس وليلى وجميل بثينة وكثيرعزة وابن زيدون وأسماء أخرى معاصرة جعلت دواخلي ترتجف جراء انبهاراتي بالصور الشعرية.
كما وأن الحروب التي عشتها كجندي ومشاهداتي للموت والتدمير مرات عديدة، وحياة الفقراء وبؤسهم الذين كنت أراهم في بعض المدن العراقية وحتى داخل العاصمة بغداد، كل تلك المعطيات جعلتني امتلك خزين كبير من الجراح المثخنة التي عبّرت عنها من خلال الكتابة، التي هي تفريغ لهذا الخزين المملوء بالآلام والوحشة والخوف، ومن خلال القراءات وتعرفيّ على الكثير من الأدباء أصبح اندفاعي يزداد حبا وشغفا بالكتابة، بالرغم من أن الكتابة هي واحدة من أصعب وأعقد المهن. أن تكتب يعني أن عليك أن تتهيأ نفسيا عندما يداهمك شبح الإلهام في كتابة الشعر، والتي هي أصعب أنواع الكتابة وأشدها وقعا على الروح.
(كتابات) في كتابك الشعري (رحيل الملائكة) تكتب عن الحب والحرب والمنفى والشعور بالغربة، حدثنا عنه؟
- كل إنسان يبدأ حياته بأحلام وردية عن الحب والحبيبة، والسعادة التي قد يصعب الوصول لها بسبب نشوب الحروب التي تنهي آمال الشباب في هذه الحياة، لقد عشت الحرب كجندي لأكثر من عشر سنوات في جبهات القتال، أيام الحرب العراقية الإيرانية التي كانت تسمى بحرب الخليج، ومن ثم حرب الكويت التي أطلق عليها حرب الخليج الثانية، وبالرغم من لقائي لمرات عدة مع الموت، ذلك الشبح الهلامي الذي يصعب تمييزه بين الناس إلا عندما نرى أصدقاء وأحبه تقتلهم شظايا الانفلاقات وقنابل المدافع الثقيلة، كنت أعيش مع الموت وكان يرافقني في كل خطواتي أيام الحرب.
لكني حين آتي في إجازتي الدورية إلى أهلي داخل العاصمة بغداد وألتقي الأحبة والأصدقاء ينتابني شعور آخر فيه من الأمل والسعادة الكثير. سنوات تجاوزت العقد من الزمان في الحرب وما أن انتهت الحروب حتى بدأت صفحة أقذر من الحرب، ألا وهي الحصار الذي فرضته أمريكا على الشعب العراقي بحجة معاقبة النظام، الأمر الذي تم قتل الأطفال والشيوخ والنساء بسبب نقص الغذاء والدواء.
وبعد ضغوطات سياسية وتقييد الحريات وخاصة بالنسبة للكاتب والمثقف داخل العراق اضطررت ومعي العشرات إلى الهجرة خارج الوطن، ولعل الشعور بالغربة من أصعب المراحل التي يمر بها الإنسان، وتجعل منه إنسان ضعيف لا يقوى على فعل شيء سوى البكاء والحزن الشديد، وما على الكاتب إلا أن يترجم تلك الأحاسيس عبر الكتابة الإبداعية التي تعتبر المتنفس الوحيد له، وتشعره بنشوة الانتصار على الغربة وآلامها، وهكذا ترجمت معاناتي في مجاميعي الشعرية السابقة قبل أن أصدر آخر كتبي قبيل شهور قليلة في بغداد وكان بعنوان (رحيل الملائكة)، امتزج فيها الحب والحنين والحرب والغربة والمنفى الذي مازلت أعيشه بمرارة.
مازلت منفياً وبعيدا عن وطني العراق ولهذا تجديني أكتب عن المنفى، وحين أتذكر أيام الصبا والشباب أكتب عن الحب الذي مازال يسري في عروقي، ولعل مأساة الحروب التي مررت بها على مدى أكثر من عقد من الزمان مازلت شاخصة أمامي ولم أتمكن من نسيان ماضيها المؤلم الذي أصبح عبارة عن كابوس مزمن في داخل نفسي. ولهذا أحيانا لا أستطيع النوم وأسهر مع الذكريات الفاجعة التي أفرغها بالكتابة التي تجعلني أشعر بالأمان، كل هذه الأمر وفوقها الضغوطات الأخرى جعلتني اختار عنوان (رحيل الملائكة) وهو عنوان نابع من فقداني لأصدقاء وأحبة عرفتهم وخبرتهم لكنهم فارقونا عن الحياة وتركوا لنا الألم والفقدان.
(كتابات) في كتابك الشعري (رحيل الملائكة) قلت: وفي الحرب كنتِ/ دائما تمرقين مثل حمامة/ غادرت عشها لتنثر السلام/ ومرات أسألُ قلبي عنكِ/ حين أدخل عواصم دول استباحت أحلامنا/ كان قلبي يردد باستمرار/ المرأة عاصمة القلب وبوصلته. كيف هي صورة المرأة في شعرك؟
- في البدء لابد من الإشارة إلى أن كتابي (رحيل الملائكة) هو آخر كتاب صدر لي قبل شهرين تقريبا، وهو كتابي الشعري الثالث الذي طبع بعد مجموعتيّ (ضباب الأضرحة) و(رجال من قصب)، وقد احتوى الكتاب على قصائد منوعة كتبت حديثا، وللمرأة حصة كبيرة في أغلب قصائد المجموعة فالمرأة هي عنفوان كل الأشياء، هي الجمال وهي الحياة ، لا يمكن أن أتخيل هذا العالم المترامي الأطراف بدون المرأة صاحبة القلب الكبير الحامل لكتل من المشاعر والأحاسيس التي تخيّم على الكون لتجعل منه أكثر جمالا.
وهكذا ينطبق الحال على الشعر والفنون الأخرى التي يكون للمرأة فيها الحصة الأكبر، المرأة هي المحرك الفعال للكتابة وللإبداع بشكل عام، قد أكون كشاعر عراقي طغت في الكثير من نصوصي ونصوص شعراء عراقيين كثيرين صور الحرب والموت والخوف والحصار والتهميش، بسبب الحروب وويلاتها التي مر بها وطننا العراق منذ أكثر من أربعة عقود من الزمان، ومازالت تلك الحروب مشتعلة ولم تتوقف يوما! لا بل رافق كل تلك الكوارث هجرات متتالية إلى المنافي والفقدان، وقد شكلت الغربة ومأساتها أعباء كبيرة على الشاعر العراقي.
لكن رغم كل تلك الكوارث والفواجع في القصيدة العراقية ظلت المرأة تلوح داخل كل قصيدة كمنبع للحب والسلام الذي ننشده منذ زمان، ولم نستطع الوصول إليه بسبب الأنظمة التي حكمت العراق وغالبيتها أنظمة قمعية تتفاوت بدكتاتوريتها. العراق بلد ألف ليلة وليلة، وفيه ولدت الحضارة والحب ولعل انخيدوانا الأميرة الأكدية وابنة الملك سرجون التي كانت أول شاعرة في التاريخ وآلهة للحب قد خرجت من العراق الذي هو منبع الحب، إلا أن الحروب لم تتمكن من الحب مهما طالت أو قصرت، فالمرأة بالنسبة لي هي نهر الحب الخالد الذي يسير فوق قلوبنا ويكون الأكثر حنينا من الجميع، المرأة هي الأم والحبيبة والزوجة والأخت التي لا يمكن بأي حال من الأحوال الاستغناء عنها وبدونها لا يمكن أن تستمر الحياة.
(كتابات) في كتابك (الحياة في الحامية الرومانية.. سيرة أخرى للمثقف العراقي) هل أردت به أن تؤرخ لمجموعة من الكتاب العراقيين في عمّان في فترة التسعينيات؟ وهل لاقى الكتاب قبولا في الأوساط الثقافية العراقية؟
- في السنوات الأولى لبدأ الحصار الظالم على الشعب العراقي اضطر الكاتب والفنان العراقي إلى مغادرة العراق، بعد معاناة شديدة جراء الحصار والظروف الصعبة والتقلبات السياسية التي عصفت في البلاد، سافرت مع مجموعة من الأدباء إلى الأردن في بداية ومنتصف العقد التسعيني وأقمنا داخل العاصمة عمّان، وفي تلك السنوات التسعينية الصعبة عانينا من الجوع والتعب أكثر ما عانيناه داخل العراق بسبب الحصار، لكن كان علينا أن نصبر حتى حصولنا على عمل في الصحافة أو أماكن أخرى من أجل العيش.
وكنت في تلك الفترة شاب خارج من حربين طويلتين وحصار مازال يأكل في البلاد لينخر أحشائها المتعبة أصلا. كانت العاصمة عمّان في تلك الفترة ساكنة وهادئة لكن قدوم الكتاب والفنانين العراقيين وفعالياتهم الثقافية الأسبوعية المستمرة، بحضور شخصيات ثقافية أدبية كبيرة لها تاريخها الأدبي مثل (عبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف) وآخرين، قد أشعل ليالي عمّان ثقافيا وحرك الأوساط الثقافية والفنية بطريقة رائعة، ولقربي وعلاقتي الطيبة ب”البياتي” و”سعدي” وشخصيات أخرى تعرفت على العديد من الفنانين والأدباء والشخصيات التي كنت أحلم يوما أن أراها، فكيف بيّ أجالسهم في أماسيهم وسهراتهم.
وقلت في قرارة نفسي أن هذه المرحلة العمّانية، والتي تجاوزت الأربع سنوات ونصف حتى مغادرتنا إلى المنافي الواحد بعد الآخر، هي فترة ذهبية اجتمعت فيها أغلب أجيال الشعر العراقي الذين عاشوا في الأردن ودول عربية أخرى. فكانوا يجتمعون في المهرجانات والعطل الصيفية داخل عمّان، فتكونت لديّ فكرة عظيمة أن أكتب عن تلك المرحلة المهمة التي امتزجت فيها حياة الأديب والفنان العراقي ما بين الحروب والحصار، والهجرة والخوف من المجهول، والنوم بغرفة بائسة لكل خمسة وستة أشخاص.
وما أن وصلت المنفى النرويجي بداية عام 1999 ظلت فكرة الكتابة تدور في رأسي، وطالما تحدثت وبعد سنوات بدأت بالكتابة وقمت بنشر ما أكتبه في بعض الصحف العربية، وفي صفحتي الشخصية في الفيس بوك، وكان التفاعل مع ما أكتبه من قبل الأدباء والمثقفين العراقيين والعرب قد شجعني كثيرا على الاستمرار في الكتابة حتى نهاية الرحلة داخل الأردن. وقد حقق إعجابا وإقبالا رائعا من قبل الأصدقاء، وهكذا أنجزت الكتاب الذي تجاوز ال 300 صفحة، عن سيرة المثقف العراقي الذي عاش وعانى داخل العاصمة الأردنية عمّان في أيام الحصار.
كما وثقت الكتاب بفصل أخير بالصور التي شملت العديد من الأدباء والفنانين العراقيين، وقد طبعت الكتاب في دار نينوى بدمشق وبعثت بالنسخ جميعها إلى بغداد وقد بيعت بسرعة فائقة، وكتب أكثر من 30 ناقدا وأديبا عراقيا عن الكتاب ومنهم كتاب عرب، كان كتابا ناجحا أرشفت لمرحلة مهمة بتاريخ الأدب والفن العراقي في المنفى، ومن خلال الكتاب يتعرف القارئ على طقوس “البياتي” اليومية، و”سعدي يوسف” كيف يكتب القصيدة، وصراخ “جان دمو” وأشياء لا يمكن أن تخطر ببال أحد، إنه كتاب فيه من التشويق الكثير.
(كتابات) ماذا يعني الشعر بالنسبة لك؟
- بالرغم من أن الشعر يصعب تعريفه لكنه بالنسبة لي يعني الكثير في هذه الحياة، وبدون الشعر وكتابته لا يمكن أن أتصور نفسي ككائن حي في هذه الكرة الأرضية، فبالشعر وحده يحيا الشاعر والإنسان وليس في الخبز كما يقول سارتر. في الشعر وحده يحق لنا أن نحلم كما ينبغي وكما نريد وأن نحب الناس وننشر المودة فيما بينهم عبر مفاهيم وقيم وأخلاق هي الأسس الثابتة التي أرتكز عليها الشعر.
استطيع أن أغير العالم كما أشاء وبالطريقة التي تعجبني، وأحاول أن أبعد الظلم عن الفقراء والمحرومين وأسكنهم في منازل فارهة وجميلة وأؤمن لهم حياة سعيدة، وكذلك استطيع الانتقام من القتلة والمجرمين ومسببي الحروب وويلاتها، أستطيع أن أفعل أي شيء ولكن في الشعر فقط! الشعر هو الحلم الذي لا ينتهي لدى الإنسان، الشعر هو زاد العالم وهو الدافع القوي للحب والإخلاص، الشعر والشاعر هما قوة المظلومين والفقراء على هذه الأرض، والشعر يتبنى أفكارا إنسانية عالية ومهمة يسجلها ويضغطها ومن ثم يقدمها للناس بطريقة سهلة وممتعة، ولو تحدثت عن جماليات الشعر وروحه العذبة في هذا العالم لسنوات ضوئية فهي لا تكفي لأن تعطيه حقه في النبل.
(كتابات) هل ينتابك الحنين إلى العراق، وهل حاولت التعبير عنه في نصوصك؟
- العراق يعيش في داخل قلبي وفي جوارحي وفي روحي، العراق بالنسبة لي هو الحب الأول الذي لا يمكن للزمن أن يمحي آثاره، أنام وأصحو على حب العراق الذي يشغل تفكيري منذ عقود من الزمن المرّ حتى قبل هجرتي القسرية منه، لقد كنت داخل العراق أشعر أن الحنين يسحبني بقوة لأرى كل شيء فيه، ومن حسن حظي وقد أكون واحدا من قلائل العراقيين الذين زاروا وعاشوا في أغلب مدن العراق من الجنوب والى الوسط وحتى الشمال.
كل هذه الحياة الحافلة بالحب والموت كانت بسبب الحرب العراقية الإيرانية والحروب التي تلتها. كانت وحدتنا العسكرية تنتقل كثيرا أثناء المعارك الطاحنة من موقع إلى أخر، تصوري أنني في منتصف الثمانينات وفي واحدة من معارك شرق البصرة كنا داخل الأراضي الإيرانية التي تشعرني بغربة شديدة ووحشة في الدرب، وبمجرد أن جاءتنا الأوامر بالانسحاب إلى حدودنا بعد ضغط المدفعية الشديد ونحن ندخل حدودنا العراقية شعرت أنني عند أهلي في الوقت الذي هي الأرض ذاتها ولم تختلف الطبيعة ولا المناخ فقط بضعة مئات الأمتار، إنما هكذا هو شعوري حين أخرج من جغرافية الوطن إلى جغرافية أخرى تشعرني بالغربة والوحشة.
وعندما هاجرت منتصف التسعينيات إلى الأردن والتي كانت محطتي الأولى قبل وصولي إلى أوروبا كان الحنين ينتابني بطريقة لا تصدق، وكم فكرت بالعودة إلى بغداد في الشهر الأول لكني استطعت الصمود أمام غربة وجوع شديدتين، بعد أن كتبت أولى قصائدي في الأردن وكانت بعنوان (مقصلة الحروب)، والتي تحدثت فيها عن مأساة العراقيين وحياتهم داخل الحروب، ومن ثم السفر مرغمين إلى خارج العراق بعد الحصار الظالم الذي دمر كل شيء جميل.
أتذكر حين نشرت القصيدة في جريدة “القدس العربي” في لندن لاقت صدى طيب، وهكذا فإن الشعر يولد من المأساة فكنت كلما أشعر بالحنين والحزن يسحبني قلبي إلى الكتابة التي تنقذني وتجعلني أتنفس الوطن داخل مشاعري، اعتقد أغلب الشعراء العراقيين والعرب المنفيين يحبون أوطانهم بطريقة جنونية لا تصدق، هكذا نحن العرب بشكل عام ينتابنا الهوس بقوة عندما نغادر من مدينة إلى أخرى داخل الوطن فكيف بنا نقتلع من جذورنا إلى بلاد بعيدة لا تربطنا معها أي روابط.
(كتابات) كيف هو نشاطك الثقافي في النرويج؟
- ثمة العديد من النشاطات الثقافية داخل النرويج فثمة نادي السنونو الذي يشرف عليه الشاعر والكاتب النرويج المعروف (آرلنك كتلسن) وكان يساعده الكاتب والمترجم العراقي الراحل (وليد الكبيسي) الذي غادرنا قبل سنة، وكانت أماسي شهرية ثابتة قدموا فيها الشعراء باللغتين النرويجية والعربية، وتمت استضافتي للقراءة مرات عدة كما شارك في هذا النادي الكثير من الأدباء العرب، ولدينا أيضا مركز ثقافي عربي نقدم فيه أمسيات عربية يجتمع فيه الأدباء العرب من العراق ومصر والمغرب وفلسطين ولبنان والسودان وتونس والجزائر.
ولديّ مشاركات عديدة في الكثير من الأمسيات التي أقامتها وزارة الثقافة النرويجية، وترجمت الكثير من قصائدي إلى اللغة النرويجية، لكن يبقى الشاعر يحس بحاجز كبير بينه وبين الغربيين، فحياتهم تختلف عنا كثيرا طقوسهم للكتابة، حواراتهم كلها مختلفة وباردة، على العكس تماما ما موجود في مصر والعراق ولبنان وسوريا والمغرب تجدين النقاش على أشده والبحث عن النصوص وخفاياها والترجمة، هنا العمل الثقافي ليس فيه روحنا العربية التي تعلو وتسمو فوق كل شيء لتعطيه طعما آخر.
(كتابات) هل واجهتك صعوبات ككاتب؟
- اللغة كانت عامل صعب في بداية الأمر، وحين لا يعرفها الغريب عن البلاد التي يعيش فيها يصبح مثل الأعمى، لكن عندما يتعلم اللغة ويحاول الاندماج مع المجتمع الجديد الذي يعيش فيه تنفتح له العديد من الطرق وتذلل جميع الصعوبات. نعم لاقيت الكثير من الصعوبات داخل المجتمع النرويجي ومنها صعوبة الحصول على العمل، وكل شيء هنا مرتب ورائع لكنهم يتمتعون ببيرقراطية عالية في دوائرهم، إلا أنهم في نهاية الأمر يشجعون الأدباء والفنانين على الكتابة ونشر كتبهم وأحيانا تتكفل بلدية المدينة بدفع ثمن طبع الكتاب حتى لو كان في اللغة العربية، ولديهم مؤسساتهم الثقافية التي تعمل بطريقة تناسب حجم ما يخصصون لها من أموال.
لكل كاتب صعوبات كثيرة في بلدان المهجر التي نختلف معهم في اللغة والثقافة ولم يجد الكاتب العربي ضالته إلا في بلاده وشعوره بالوهج الثقافي الحقيقي، عبر الأمسيات الكثيرة والمعارض والمقاهي والاتحادات! هنا لا نستطيع أن نجلس بمقهى كما في مقاهينا في بغداد والقاهرة ودمشق وبيروت وغيرها بسبب كثرة الممنوعات ومنها ممنوع التدخين! الوقت محدد كل شيء له ضوابط وأعراف، والكاتب والفنان لا يحب التحكم به وتقييد حريته في الأماكن العامة يريد كل شيء يسير كما يتمنى.
(كتابات) في رأيك هل ستكون للثورة العراقية نتائج ملموسة على حال الثقافة العراقية سواء لكتاب الداخل أو الخارج.. وكيف يكون ذلك؟
- في كل ثورات وانتفاضات دول العالم ومنذ القدم ثمة دور مهم وحيوي للمثقف داخل وطنه والحريص على العدالة الاجتماعية، فعندما يكتب المثقف في العراق مؤيدا لثورة شعبه المنتفض وهو يوجه إرشاداته ومقالاته وقصائده سواء في الصحافة أو مواقع التواصل الاجتماعي، موجها الشباب الثائر ضد الظلم والفساد والدكتاتوريات والقمع والقتل ومصادرة الحريات وسرقة ثروات البلاد، كما موجود في العراق وطننا الذي تحرر من نظام دكتاتوري شمولي هو نظام البعث القمعي ليقع في نظام متعدد الدكتاتوريات ومتفاوتة في تدميرها للبلاد.
وعدا عن ذلك غياب سلطة الدولة والقانون في بلد أسس وشرع أولى القوانين في العالم قبل آلاف السنين عبر مسلة حمورابي. الأحزاب العراقية الحاكمة لها ميليشيات خارجة عن السلطة استخدمت هذه الميلشيات بقتل المتظاهرين الأبرياء السلميين في ساحات الانتفاضة في بغداد والناصرية والبصرة وكربلاء والنجف ومدن الجنوب الأخرى. وبعد أن أصبح ما بين الحكومة والبرلمان والأحزاب من جهة والشعب المنتفض من جهة أخرى بعض الإصلاحات وتقديم الفاسدين للقضاء فأضافوا لها دماء شبابنا البريء الذي وصل عددهم إلى أكثر من 600 شهيدا وأكثر من 3 آلاف معاق وآلاف الجرحى، وهذه الأعداد أقل من الإحصائيات الحقيقية، مع العلم أن أرقام الضحايا هذه عادة ما تكون في الحروب ما بين دولتين! وأمام صمت دولي مخزي وحكومي متعمد.
المثقف العراقي عليه أن ينحاز لوطنه وشعبه وإن فعل الكلمة هو أشبه بفعل الرصاصة داخل المعركة، الكلمة هي موقف والكلمة هي شرف الإنسان وبالكلمة نستطيع أن نغير الكثير من الأشياء فما بالك أن توجه لشعب عانى بما فيه الكفاية من الظلم والتهميش والموت والفقر والخوف والضياع، الجميع يرفع العلم ويبحث عن وطنه العراق والسياسي العراقي يعقد الصفقات من أجل زيادة رصيده في بنوك العالم على حساب الفقراء. إسناد المثقف لشعبه واجب وطني لا بد منه وهناك الكثير من الأمثلة في الثورة الفرنسية وثورات في دول أخرى، اليوم المستقبل للشباب الواعي الذي قاد ثورة جبارة في العراق مازالت مشتعلة وتقدم التضحيات الجسام. على المثقف أن يكرس كل طاقاته في الكتابة والمشاعر والفكر كلها من أجل الانتصار للمنتفضين الأحرار الذين سيعيدون كرامة بلاد مسلوبة منذ عقود من الزمن تعاقبت الأنظمة على سلبه وتدميره وتبديد ثرواته.
(كتابات) هل تتوقع أن تصمد الثورة العراقية رغم التحديات التي ظهرت مؤخراً على الساحة؟
- منذ سنوات كانت بعض التنظيمات تحاول أن تمسك بساحة التحرير وتجيّر حركة الاحتجاجات الرافضة لسياسات الأحزاب الحاكمة ما بعد سقوط نظام البعث عام 2003. وقد اقترفت تلك الأحزاب السرقة وتدمير البلاد تدميرا منهجيا ومبرمجا ضمن خطط مدروسة من قبل دول معادية للعراق وفي مقدمتها دول الجوار. فكانت أغلب التظاهرات خجولة لجهة على حساب أخرى ومن ثم يذهب للتفاوض قادتها الوهميين وسرعان ما نجدهم قد حصلوا على مناصب برواتب خيالية أو رشح قسما منهم إلى البرلمان وفاز!
وهكذا هي الدولة العراقية التي بنيت على الفساد، لا تحصد سوى الفساد، ويبقى الإنسان العراقي الفقير يعيش تحت خط الفقر والعوز والمرض، بينما تعيش الأحزاب قاطبة الشيعية والسنية والكردية التي اشتركت في العملية السياسية العرجاء تعيش على مليارات النفط العراقي وتوزع فتاته على المتنطعين والطبالين من إعلاميين وخونة ولصوص وهلم جرا، لكن بالمقابل كانت ثمة محاولات لانتفاضة عارمة تخرج وتعبر ساحة التحرير باتجاه المنطقة الخضراء إلا أنها تقمع بوقت قياسي من قبل تلك الأحزاب، فكان العام الماضي قد شهد دخول الجماهير بطريقة سلمية إلى المنطقة الخضراء وهرب السياسيون وأحزابهم.
وبعد غليان شعبي جراء تراكمات كثيرة وبخاصة أن تلك الأحزاب باعت العراق إلى دول معادية وتقاسموا ثرواته وكان من الطبيعي أن تخرج جموع الشباب الغاضب إلى شوارع بغداد والبصرة والناصرية والعمارة والديوانية والنجف وكربلاء ومدن أخرى، لتعبر عن غضبها لتبديد ثروات البلاد وقتل شعبه وتدمير البنى التحتية، فكانت انتفاضة الأول من أكتوبر عبارة عن صرخة بوجه الظلم والإجحاف الذي أصاب الإنسان العراقي، ولعل المضحك بالأمر أن يخرج فالح الفياض يهدد المتظاهرين وهو الذي أعطى أوامره للقناصين بأن يطلقوا الرصاص على الشباب الثائر ليقتلوا منهم المئات أمام صمت مطلق لدول الجوار وأمريكا ودول أخرى والذين اشتركوا في عملية تدمير العراق ونهب ثرواته.
شخصيا كنت أتوقع أن العراقيين لم ولن يسكتوا على الظلم، وكان توقعي ومازال قائما أنه سيأتي اليوم الذي ستنحل فيه هذه الأحزاب القذرة التي دمرت وطننا العراق وهدمته وقتلت فقراء الشعب. ومازال توقعي قائما ومازالت الانتفاضة مستمرة بالرغم من الوعود الكاذبة التي أعطتها الأحزاب والحكومة والقرارات، التي أصدرها رئيس الوزراء عادل عبد المهدي الذي وهب كل شيء لحليفه مسعود بارزاني، ولمع بصورته بعد أن تم تحجيمه في حكومة حيدر العبادي.
أما المطالب التي يفترض أن يتضمنها الحراك الشعبي فهي كثيرة وكثيرة جدا وفي مقدمتها أن يكون العراق خاليا من عصابات الأحزاب ونأتي بوجوه جديدة محبة ومخلصة للعراق لا تساوم على العراق أرضا وشعبا، فإن أحزاب السلطة اليوم أصبحت في خانة اللصوص والقتلة والخونة، كلهم سرقوا بدون استثناءات تذكر وكلهم قتلوا ونكلوا في الشعب العراقي، سواء كانوا في المناطق الغربية أو المناطق الشمالية والوسطى والجنوبية، عدا عن تآمر تلك الأحزاب مع عصابات داعش والقاعدة وغيرها من التنظيمات الإرهابية وولائها لدول الجوار، كما وأن ثمة العديد ممن يتسلمون الرواتب الخيالية وفي الجهة الثانية مئات الآلاف من العوائل يعيشون تحت خط الفقر! إن ثروات الشعب العراقي هي ملك له وليست لعصابات هذه الأحزاب.
يفترض محاكمة كل الذين اشتركوا في الحكومة والبرلمان ورئاسة الجمهورية، وهذه الرئاسات هي أوكار للسرقة وليست مؤسسات حكومية تدير شؤون البلاد، إنها مافيات للفساد دمرت العراق ويجب اقتلاعها من الجذور ليعود العراق لأبنائه الذين يطمحون بوطن حر تسوده العدالة الاجتماعية، أي مبادرة أو ترقيع من قبل حكومة عبد المهدي العميلة أو من الأحزاب والبرلمان غير مقبولة فهم قد أصبحوا أكثر سوء من نظام صدام المجرم لا بل تفوقوا عليه بقنص شبابنا المسالم الذي خرج يطالب بحقوقه المشروعة، لهذا فإن الثورة صامدة بدماء الشهداء والجرحى وستسقط النظام حتما.
نصوص لهادي الحسيني..
في آخر الليل
في تعويذة المنفى
في حلم الطفولة والصبا
في المسافات البعيدة
في انكسار الثلج فوق أرصفة الزمن
في لجة البرد والجلوس قرب الموقد الخشبي
في غيابكِ المّر على الروح المثخنة بالجراحات النازفة
في المقهى
في الشارع
في الورد الذي كان يتفتح فوق خديكِ
في اغتيال الأمل
وفي الهدوء التام
كنتِ تدقين باب قلبي
وتهمسين بشفاه حبلى بالقبلات
وتفرشين الماضي على ضوء القمر
أتذكر أحلامنا المؤجلة على طول البعد
لم يتحقق منها سوى رعشة الحب
أحلامنا التي رسمناها على شجرة حمراء
قبل حربين أو أكثر
أنا لا أجيدُ ذاكرة الحروب القذرة
التي مازالت تصادفني في ليل الوحشة
لكني مازلت أحلم بالورد
حين ينثال من عينيكِ العسليتين
وكيف حفرنا بتلك الشجرة الحمراء أسماءنا
ورسمنا قلباً للحب يشبه قلبينا .
يا آخر الليل
يا شغفي المطرز بالولع الأحمق
يا روحي المغتسلة بنظراتكِ الساحرة
مازلت أحلم في آخر الليل ..
………………
غربة جسد
امرأة ذابلة من شدة الألم
تتوارى خلف الجبال
منكسرة القلب
لا تعرف سوى ظلام الزمن المرّ
تقف في ليل الثلج الموحش
وهي مبتسمة للمارة
ثم تبكي
وتضحك
على آهات حبلى !
تتلمس جسدها المهمل من قيامة حزنها
الممتد على الروح العاشقة
وتلطم خديها بقوة
مثل امرأةٍ ثكلى بزوجها الذي مات في الحرب .
أجتمعت العشيرة لتقرر زواجها من أخيه
وهي في شدة حزنها
لم تفرح
ستبقى فاغرة فمها
وهي ترى ابناءها يلعبون
وزوجها الذي مات
مازالت رائحته الطيبة
تشمها في جسدِّها
جسدها الذي لم تغيره
رائحة جسد أخرى!
………..
خريف
منذ عشرين عاماً
وأنا أعلق جنسيتي داخل قلبي
شرياني الأبهر هي
وجذوري التي تضرب في عمق التاريخ
أحمل في جيبي المثقوب جنسية أخرى
تجعلني أجوب مطارات العالم
وتحميني من مضايقات رجال الأمن
الحقراء!
عراقيٌ دمي
وأوردتي مثل نهرين متعانقين
ووجهي يشبه تراب العراق
لكن ليلي طويل
وروحي متعبة
وحين صحوت من نوم عميق
بعد عشرين خريفاً
وعشرين حرباً
وعشرين منفى
وجدتُ عراقيتي تلوّح من بعيد
ومكتوبة فوق الجبين..