15 نوفمبر، 2024 6:25 م
Search
Close this search box.

مع كتابات.. نهاد عبد: الكتابة أعادتني إلى قوتي 

مع كتابات.. نهاد عبد: الكتابة أعادتني إلى قوتي 

خاص: حاورتها- سماح عادل

“نهاد عبد القادر”، كاتبة عراقية مغتربة، من مواليد محافظة (الأنبار)- قضاء حديثة، تخرجت من كلية القانون جامعة بغداد، عملت بالتعليم فترة من الزمن، غادرت العراق بعد الغزو الأمريكي بفترة قصيرة، صدرت روايتها (بغداد نيويورك) عن دار سطور 2017.

إلى الحوار:

(كتابات) متى ظهر لديكِ حلم الكتابة.. ولما بدأتِ الكتابة متأخرة؟

• حقيقة لم أحلم يوما بالكتابة ولم أطمح أن يكون لي مؤلف وكتابات، كنت محض قارئة شرهة فحسب، لقد مررت في ظروف قاهرة شعرت وقتها أن دفقا من الكلام محبوس يريد أن يخرج، ربما فقد الأولاد هو أشد فقد يمر به الكائن الحي، وقتها صرت أحدث نفسي بصوت مسموع، تارة ألومها وأخرى أشفق عليها، كنت أغادر سريري بعد منتصف الليل، وأخرج إلى الباحة الأمامية لمنزلي في العاصمة العراقية بغداد حيث يعم الظلام والأنام في عمق نومهم، احكي مأساتي علني أتنفس من خلال ذلك، وقد خفف ذلك من وطأة حزني البليغ، صار هاجسي أني لست على ما يرام، وأن كثير من الذين يكلمون أنفسهم ليسوا بخير، تذكرت وقتها مأساة جدي رحمه الله حين فقد أحد أبناءه غرقا في نهر الفرات؛ يومها كنت طفلة صغيرة لكني أعي تماما، كنت أراه يهيم في البراري يتحدث بصوت مسموع وكأنه يحدث أحدا معه، فقلت لنفسي لعلني ورثت ذاك من جدي.

من هنا بدأت رغبتي في تدوين خواطري، غير أنها محض خواطر متواضعة أتنفس من خلالها، بعد سفري إلى الولايات المتحدة تغيرت ظروف الحال كثيرا، وبدأت تنمو فكرة الكتابة لدي، حيث لا شيء أفعله في تلك البلاد، ووجدتني كما الضائعة وأظن أن كتابتي كانت إثبات وجود لا أكثر، ومن هنا بدأت.

أما لماذا جاءت متأخرة؟ فلا أراها كذلك، إنني الآن أشعر بعودتي إلى أيام قوتي، ولدي قدرة فائقة على القراءة المكثفة والكتابة دون توقف، لعل النضج جاء متأخرا وكل شيء له حكمة.

(كتابات) في رواية (بغداد نيويورك) رصدتِ إحساس اللاجئ الذي يذهب لأمريكا وكيف يشعر ومحاولته في التأقلم.. حدثينا عن ذلك؟

• في رواية (بغداد نيويورك) باكورة أعمالي؛ تطرقت إلى أحوال اللاجئين وإحساس اللاجئ أول وهلة، وكنت أصف إحساسي أول ليلة، حين كنت أرى وكأن جموع من الناس تحوم حول المنزل تريد اقتحامه، مجرد خوف ينتاب القادم من الشرق إلى عالم مختلف تماما، ما أن تمر الأيام حتى يجد نفسه كما النخلة حين تقتلع من جذورها من بلاد الشمس إلى بلاد الثلوج، فهل ستنمو قطعا الإجابة لا، لنا امتدادنا الطويل في بلداننا ولدينا ثقافتنا وليس من السهل التخلي عنها، أظنه سبب كاف ليجعلني انكب على حاسبتي أكتب ليل نهار، أراه إعلان عن انفصام تام عن الأرض التي أعيش عليها.

اللاجئ من الشرق يستحق الشفقة، ومهما طال به الزمن لن ينخرط تماما لأنه مختلف، ولأن المجتمع الأمريكي مجتمع منغلق على نفسه، حذر وحساس ومتوجس، أتحدى لاجئا عربيا مهما فعل أن يشعر معهم أنه أمريكي، صدمني شيء واحد كان مهما، وهو قوة القانون لديهم، الدول هذه ليست عبقرية بشيء أكثر من عبقريتها بسن القانون وقوة تنفيذه، لا غفير هنا ولا وزير، العدالة على وسعها والقانون سيد الجميع.

(كتابات) في رواية (بغداد نيويورك) كانت البطلة امرأة أربعينية تسعى للحب.. هل تقبل مجتمعاتنا الشرقية ذلك في رأيك؟

• بطلة رواية (بغداد نيويورك) “مريم” شخصية أخذت من كل صديقة لي شيئا أحبه بها، لعل شخصيتها أثناء اختفاءها خلف اسم “ناي” هي واقع لامرأة أعجبت بها وبتفاصيل حياتها، والدها الأستاذ الجامعي، حياتها وأسرتها، والوالدة العصامية، التي هي شخصية عراقية من صميم الواقع العراقي، حيث كانت كذلك كل أم في تلك السنوات، أقصد سنوات الحصار، هي والدة “ناي” من حيث المعاناة والاقتدار على إدارة شؤون البيت في ظل انخفاض دخل الأسرة.

أما معاناتها وهي المرأة الأربعينية الساقطة في الخمسين فهي أيضا شخصية ليست غريبة على المجتمع المتزمت، الذي جعل من الزواج قيد مقدس لا فكاك منه للمرأة إلا القبر، مهما عانت وتألمت الكل يريد منها الصبر والسكوت.. القصص الواقعية لا تبدو مشوقة دون إسقاط الخيال عليها، خيال الكاتب هو لب الحكاية.. والحب علنا ممنوع دون شك، بل حتى الكتابة عن الحب في مجتمعنا تعتبر وصمة، لعل كتابي هذا قد أفقدني علاقتي بعدد من أفراد أسرتي فكيف لو أحبت المرأة حقا؟.

أما عن الحب للرجل فهو مباح له، على اعتبار أنه وريث الألوهية، من خلال أن كل شيء ذكوري وكل شيء متاح أمامه، ويبقى التزامه متوقف على ضميره، ولا أحد يفرض عليه أي شيء.

(كتابات) لما تخفت “مريم” في شخصية “ناي” العشرينية؟

• كما أسلفت إنه لا توجد حرية للمرأة في مجتمعنا كي تعلن عن حبها أو تمارسه، ما زالت النساء تتزوج حسب الطريقة التقليدية، تختارها أم العريس أو شقيقاته، ومستقبل العلاقة كما البطيخ  إما أحمر حلو لذيذ أو أبيض كما طعم القرع.

نحن مجتمعات بدائية في هذه الناحية، التخفي هو سر عالمنا الافتراضي، الكل يكتب ولا رقيب، والكل يحب خلف الشاشة، يحب ويكذب ويفعل ما يشاء، نحن مجتمعات تنقصها الحرية لكل ذلك صار التواصل على هذه الشبكة متنفس لمن لا متنفس له.

(كتابات) هل وسائل التواصل الاجتماعي والتقدم التكنولوجي سمح بظهور علاقات حب لها ملامح جديدة في رأيك؟

• العالم صار صغيرا بعد اكتشاف الانترنت، أطفال صغار صاروا يتواصلون مع كل العالم، بلا شك التقدم التكنولوجي سهل الحياة أكثر ولم تعد المعرفة عسيرة، والحصول على المعلومة سهل بالإضافة إلى التواصل الاجتماعي أيضا.

(كتابات) في رأيك هل توجد كتابات نسائية تتميز عن كتابات الرجال؟

• هذا موضوع كتب عنه كثير من المقالات، ونوقش كثيرا واعترضت الكاتبات على أن لا سرد اسمه سرد نسائي ولا أدب نسائي، قرأت قبل أيام مقالا لكاتب خليجي لا أريد ذكر اسمه، عدد أسماء كاتبات خليجيات وتطرق إلى كتاباتهن ومؤلفاتهن، ووصل إلى نتيجة أن الكاتبات الخليجيات، على سبيل الحصر، ما زلن يكتبن عن أحوالهن، قضاياهن، عن مواضيع لا تتجاوز شؤون المرأة وذاتها.

بينما أرى أنا، من خلال تواجدي في الساحة، أنه ليس من الصحيح أن نقسم الأدب إلى نسوي وغير نسوي، سوف أطلق عليه رجالي، المرأة تكتب عن كل شيء، من قال أنها فقط تدافع عن حقوقها، لدينا كاتبات عربيات كتبن وتميزن في كتاباتهن، وكثير من الأدباء كتبوا عن المرأة وشؤونها فكيف نصنف كتاباتهم؟، الرواية جنس أدبي لا بد أن تتوفر فيه شروط من حيث السرد، الحبكة، البنية الدرامية، وجوانب أخرى تقيس جمالياتها، وهنا سنكون بعيدين دون شك عن التصنيف  سالف الذكر.

(كتابات) هل تحنين إلى الوطن.. وكيف تتعاملين مع ذلك الحنين؟

• الوطن أهلي وأشقائي وشقيقاتي، البيوت التي كنت أسعد حين أبيت بها، في الرحيل عن الوطن فقد كبير، لا أحد يلمسه إلا من مر به، منذ مغادرتي العراق قبل أربعة عشرة عاما وأنا لم أبيت ليلة في بيت حبيبة أدردش معها حتى بزوغ الفجر، نمر بجفاف عاطفي كبير، ونفتقد للأسرة الكبيرة، للمة الأحبة، للفرحة حين تأتي إحدى أخواتي إلى بيتي.

أحيانا أمر في ظرف بسيط يشعرني بغربتي وابتعادي عن بلادي، حينما أفرح أريد أن أخبر أحبتي أن أحد أولادي رزق بطفل، فأجدني أركض نحو الحاسوب لأكتب الخبر، فصار جهاز الحاسوب هو أقرب الناس إلينا، هو أول من يشعر بدموع وحشة غياب الأهل، من هنا صار الحنين إلى الوطن كما الناقوس يدق مهما تظاهرت بالجلد والقوة، لا تكذب أيها اللاجئ الذي أصبحت مواطنا تحمل جنسية بلد اللجوء، فرحتك ناقصة وحسرتك دائمة.

(كتابات) هل يمكن الحديث عن نهضة ثقافية وأدبية في العراق في الوقت الحالي ولما؟

• أرى أن هناك نهضة ثقافية يمر بها العراق، من خلال كثافة الإصدارات من الكتب المترجمة والروايات وكتب الشعر، كنا نقرأ لما تطبع بيروت وتكتب القاهرة، أراني اليوم أقرأ لبغداد كثيرا، صار لدينا انفجار ثقافي وليست نهضة فقط، أتذكر أن صدام حسين الرئيس السابق للعراق قال ذات مرة أنه سيترك العراق وسيكتب كل عراقي روايته، أظنه أحسن قولا حيث أرى أن كل عراقي سيكتب روايته والظروف خلاقة، والحمد لله في كل الأحوال.

(كتابات) من الكتاب المفضلين بالنسبة لك وهل تأثرت بأحد ما؟

• حقيقة أنا أقرأ كل ما يتاح أمامي، منذ صغري وأنا تواقة لقراءة أية ورقة أجدها أمامي لا أتركها إلا بعد قراءتها، في صبايا قرأت المتاح لأنه كان قليل، وتعلقت بكتب الكاتب المصري “محمد عبد الحليم عبد الله” و”إحسان عبد القدوس”، بعدها صرت اختار الكاتب الذي أريد القراءة له، أنا بطبيعتي أميل للروايات التي تحمل مواضيع إنسانية، ولا أتذكر أني قرأت رواية بوليسية في يوم ما، “ستيفان زافاييغ” الكاتب النمساوي قرأت له كل كتبه المترجمة.

كما أحببت بشغف روايات “رضوى عاشور” ككاتبة عربية، وأحببت روايات الكاتب السوداني “الطيب صالح”  كثيرا، أما بالنسبة للكتاب العراقيين فقد أحببت أسلوب الكاتب “محسن الرملي” في رواية “ذئبة الحب والكتب”، وأحببت السيدة “لطفية الدليمي” في روايتها “سيدات زحل”، كما أعشق الرائعة “إنعام كجه جى” وأرى بها نفسي أحيانا.. لا أدري إن تأثرت بكاتب، ولا أظن أننا بعيدون عن التأثر بطريقة أو بأخرى، وأظن أن لكل كاتب لمسة خاصة تختلف عن غيره، الكتابة فن كما فن الطبخ، لكل امرأة نفس في طبخها، ولكل كاتب نفس ونكهة مختلفة تميزه عن غيره، وإلا ما الذي يجعلنا نقرا للجميع.

(كتابات) ما هو جديدك.. وهل واجهتك صعوبات في الكتابة؟

• نعم لي مشروع جديد قيد العمل، إن شاء الله سيكون في متناول القارئ بداية العام الجديد، هي رواية بذلت فيها جهدا مميزا، أردت بل تمنيت أ يكون لها مكانا مميزا في الأدب العراقي، لا ينجز كتاب دون جهد لابد من بذل قصارى الجهد من أجل أن يكون كتابا مفيدا على مدى الأجيال، أتمنى أن يمنحنا الله عمرا وعافية كي نكتب دون توقف. وشكرا للقراء الأكارم وتمنياتي لكم بالخير.

جزء من رواية ( بغداد نيويورك)..

“مريم لا تشبه ناي شكلاً، ولكنها تحمل ذات القلب، وذات الوجع.. أنا لست هي؛ أنا امرأة تركها زوجها وطفلين ورحل، ألم فقدان وطن.. ليالٍ شتائيةٍ طويلة دون أنيس، فراش بارد، وأطراف تبحث عن عناق، قضيتُ سنوات الحرب الثماني، أعيش مع ظل رجل أرسمه في سقف غرفتي وأحتضنه كي أنام، زوجي هو الآخر ينام في ملجأ كونكريتي يحتضن بندقيته كي يحمي الوطن.

كيف يحرس الجندي وطنه، ويترك زوجته تحتضن الوهم؟ ألا يقولون إن المرأة وطن؟ كيف تبيت الإناث وحدها في أجواء حرب؟ كيف ينامُ هؤلاء الذين كلما اختصموا مع بعضهم ساقوا الرجال بوهم الدفاع عن حياض الوطن؟ رحل زوجي وفقدتُ البندقية، وضاع الوطن، وها أنا هذه المنكسرة التي أمامك.

لقد هربتُ منك مراراً، وكنت تعيدني إليك فأرتمي بأحضانك وأستسلم لقدري وقدرك.. كنتُ في ظروف صعبة وقاسية، وجئتني منقذاً في غربة غير منصفة… اصطدمتَ بي صدفة واصطدمتُ بك، واشتبكنا ولم نعد نجيد الفكاك.. على كل حرف سأقوله يشهد الله: لولاك لكنت الآن في حال مختلف تماماً، الوحدة يا كريم، أنا وحيدة حتى قبل أن يرحل زوجي، إنها بيت الداء وأسباب الموت بلا معنى.

من يراني يغبطني كوني أعيش بين ابني وابنتي، أرافقهم وأسعد بهم، لكن قلبي وحيد. لا أدري لماذا كشفت لك عن أوجاعي وآلامي المتراكمة فوق بعضها، ترفض الانزياح وترفض الضمور؟ كاذبة إن قلت: إنني كنت يوماً بخير، لكن من في موقفي يحرم عليها أن تقول أحتاج لرفيق، الحياة تنتهي برحيل الزوج، وعلى الزوجة أن تستسلم لقدرها.

كاد قلبي أن يتحجر ويموت من هول ما رأى؛ لقد ظلمتنا الحياة كثيراً، لم نعش طفولتنا كما يجب، ولم نعش مراهقتنا؛ فكل شيء نفعله يقيد في سجل العيب؛ ولم نعش شبابنا، وما أن تزوجنا حتى اكتشفنا أن الزواج مشروع يحتاج لمحترف يجيد دفع دفة الأيام بالاتجاه الصحيح الذي يجعلك تحب نفسك وحياتك ومن حولك حقيقة لا تمثيلاً وتظاهراً…

ألم يكن يعرف لماذا ينام هو وأبقى أنا معلقة العينين في سقف غرفتي؟ ولم يسألني يوماً عن السبب؟ ولِمَ يسأل!، وكل شيء في منزله يمضي كما الساعة! أتذكر مرة كنت على سطح منزلنا، أنشر الغسيل من الملابس، ورأيت جارنا مفوض حسين، وهو يدفع (إلهام) زوجته ليحشرها على جذع شجرة التوت الباسقة في حديقة بيتهم ويلتهمها كأنه لم يرها من قبل، تتلوى بين ذراعيه، منتشية بعلاقة بطعم الاغتصاب، وقتها عرفت أني لست متزوجة، ولم أعد أطيق النظر بعينه وعشت مراراً حلم أن أكون (إلهام).

في الصباحات الرتيبة التي تأتي بعد ليلة، نمت بها معه، وأنا أفكر في جدول اليوم القادم، وأنتظره حتى ينتهي، لألملم نفسي، وأنكفئ على وجهي دون أن أعترض، أذهب إلى عملي، وكأني محارب، عاد للتو من معركة خاسرة، يقرض بقايا أظفاره، ويحك رأسه المليء بالقمل، ويتمنى لو أنه لا يرى بعد اليوم خوذة لجندي يشبهه، كرهت رائحة المتزوجين من أمثالي الذين لا يعرفون لما دخلوا معركةً، لم يعدوا سلاحها سلفاً؟ أو الذين يعيشون الخسارة كالأرانب تتناسل دون توقف”.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة