خاص: حاورته- سماح عادل
“مرتضى الأمين”، “كاتب لبناني” من مواليد 1957، بدأ النشر في الصحف بعد خروجه من المعتقل في الخيام في العام 1988.
صدر له: (بعض القسوة، قصص، 1994- مخلوقات غريبة، قصص، 1997-ظل الجدار، سيرة سجن، 1997- أصوات حادة، رواية 2000-رجل المطاط، قصص، 2005- أذى، رواية، 2014- القراءات المستحيلة، 2016- مرايا القراءة، 2017- عبء رجل قنوع، 2018).
إلى الحوار:
(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟
- نشرت أول كتاب لي في العام 1994، ولكن الكتابة سبقت هذا التاريخ بأعوام كثيرة، ويمكنني أن أقول إن الكتابة عندي هي انعكاس لعلاقتي بالكتاب، وربما تكون الظروف التي فرضت أن أكون انطوائياً بطبعي هي التي دفعتني نحو القراءة، ومن هناك إلى الكتابة.
لقد كتبت على امتداد سنوات كثيرة نصوصاً وقصصاً لم أطلع عليها أحداً، كنت أعتبر الكتابة شأناً يخصني ولا يعني الآخرين، فحرصت على إبعادهم عن تلك النصوص. ثم جاءت واقعة اعتقالي مباشرة بعد تخرجي كطبيب، لقد نبهتني أيام السجن، التي هي في الحقيقة موت مؤقت، إلى أيامنا التي نهدرها في حريتنا، وإلى حياتنا التي تضيع حاملة معها فرصنا في أن نكون ما نشتهيه ونحلم به. ولأن حلمي كان على الدوام أن أكون كاتباً، فإنني باشرت فور خروجي من المعتقل بنشر كتاباتي في الصحف على شكل قصص قصيرة عن الحياة في المعتقل. أما التأخر في خروج مجموعتي الأولى إلى النور فهو جزء من تأخري، أيضاً، في الخروج إلى الحياة بمعناها الواسع. فليس لنا أن نحسب السنوات التي يمضيها واحدنا خلف مقاعد الدراسة، فيما يمكن وصفه بالطفولة التي لامست، في حالتي، حد الكهولة في عمري!.
(كتابات) رغم اختلاف تخصصك إلا أنك اتجهت لكتابة الأدب.. كيف ذلك؟
- لا أجد علاقة مباشرة بين تخصصي كطبيب للعيون وبين كتاباتي، فالكتابة عندي سبقت دراستي للطب. ولكنني أشير إلى أن مهنة الطبيب بشكل عام هي “عنصر مساعد”، لأنها تمنحنا ـــ مثلما هو الحال عند رجل الدين ـــ فرصة التعرف على عيوب المجتمع، وتعطينا الحق في التواجد مع الإنسان في أكثر لحظاته ضعفاً وصدقاً.
دون أن يعني ذلك أن المشاهير من الكتاب ــ الأطباء قد استفادوا من صفتهم المهنية ليكتبوا نصوصاً جيدة. فمن أين لنا أن نثبت أن “تشيخوف”، مثلاً، ما كان ليكتب روائعه لو أنه لم يكن طبيباً؟. فنحن لا نحاكم أديباً على مهنته ولا على مكانته الاجتماعية وإنما هو عمله الأدبي الذي يوزن بموازين لا تحتكم إلا إلى ما هو مكتوب، مزيحين إلى مستوى ثان عوامل أخرى مساعدة (لا يهمنا مدى مركزيتها أو هامشيتها في حياة الكاتب) ساهمت في إيجاد الكاتب والكتاب.
(كتابات) في رواية (عبء رجل قنوع) هل تعمدت الحكي بطريقة مغايرة وكسر الإيهام؟
- أعتقد أن اضطرارنا اليومي لمشاهدة التلفزيون، كتاب العصر الميسّر، يكوّن في لاوعينا شكلاً مفترضاً للنص الذي نريد كتابته، فالتلفزيون يمنحنا فرصة الحصول على كل التفاصيل الممكنة. ولعل هذا هو التفسير الذي أضعه جواباً على سؤالك بعيداً عن كل الأجوبة الأكاديمية الأخرى.
فأنا “أرى” نصي قبل أن أكتبه، وأحاول أن أكتبه كما أريد أن يراه القارئ، ومن هنا تجيء التغيرات في شكل النص وطريقة كتابته. فالكتابة، في الأساس، هي وسيلة للخروج من الوحشة والضجر اللذين يعاني منهما الكاتب، وهي، ثانياً، وسيلة اتصال منشود بالآخر. فإذن أنا أكتب لهدف ذاتي بحت، ولذلك فإن لي شروطي التي تؤمن وصولي إلى هذا الهدف. وطبيعي أن يكون لدى المتلقي (القارئ) شروطه للتلقي الإيجابي. ولذلك فأنا لا أستطيع الزعم أنني اخترت هذا الأسلوب أو ذلك متعمداً، ولكن تصوري النهائي للنص الذي أريد كتابته فرض له شكله الذي خرج به على الورق.
(كتابات) في رواية (عبء رجل قنوع) تقنية تعدد الأصوات أكسبت الحكي عمقا.. حدثنا عن ذلك؟
- لعلك لاحظت في روايتي (عبء رجل قنوع) أنها قليلة الأحداث والشخصيات، في البداية، حين جلست للكتابة، كنت أحسب أن النص سيكون قصة قصيرة، لأن واقع ما حصل في تلك الرحلة إلى كييف يخالف ما يرويه كتابي، فأنا لم أنجح في الوصول إلى أي من الفتاتين رغم ما بذلته من جهود، لم أتصل ب”أولغا” ولا أنا عرفت ما صارت إليه “إيرا”، ولكن تفاصيل الماضي الذي عشته معهما تدفقت في ذاكرتي وفاجأتني بغزارتها، فاضطررت أن أختلق مساراً متخيلاً لأحداث “كان يمكن أن تحصل”، لأتمكن من رواية ذلك الماضي.
مسار متخيل يشبه جدولاً صغيراً رميت فيه دفق الذكريات المنهمرة، وتجدد مأزقي حين اكتشفت أن صفتي ككاتب وكراو للأحداث لا تخولني أن أقول كل ما تفكر به نساء الرواية الثلاث. كان تعنّتي ككاتب، واستئثاري بالقلم سينقص من كمية القول و”نوعيته”، ولذلك فقد تركت لهن حرية التحدث بألسنتهن وعلى طريقتهن، جعلتهن يشاركنني “تأليف” الرواية، كما أنني جعلتهن مرايا تعكس ما كنت عليه حينذاك، وما هي عليه حالي الآن. وفاجأني أن ذلك هوّن عليّ كتابة الفصول، كنت كأنني بالفعل أوكلت إلى آخرين أن يساعدوني بكتابة الفصول التي تخصهم، في العادة تستغرق كتابة رواية مني سنوات، أما هذه فكتبتها في ثلاثة شهور أو أقل، كنت أكتب، فكأنني أنسخ عن مسوّدة مكتوبة لنص جاهز!.
(كتابات) كتبت عن تجربتك في السجن، احكي لنا عن ذلك؟
- للسجن “فضائل” كثيرة، لعل أهمها، فيما يخصني، هو أنني بدأت فور خروجي بنشر ما أكتبه، كانت الكتابة في الزنزانة متعذرة بسبب منع الأوراق والأقلام، ولذلك فإنني سجلت بعض أحداث الزنازين على شكل قصائد، لسهولة حفظها في الذاكرة، واختزنت أحداثاً أخرى كبذور لقصص “سأكتبها” عند خروجي. ويمكنني القول أن أغلب قصص مجموعتَيْ “بعض القسوة” و”مخلوقات غريبة” هي حصاد لتلك البذور.
(كتابات) لما في رأيك يصعب على الكاتب العربي الخروج عن نطاق المحلية؟
- قبل أن نفكر في الخروج من “المحلية” فإن على الكاتب أن يثبت أنه موجود في وطنه. وكلا الأمران صعب، وإذا كان غياب الترجمة يقف كسبب، وحجة، يحول دون “انتشارنا” إلى عوالم لا تتحدث لغتنا، فما الذي يمنع كتبنا من الوصول إلى قارئ يحكي لغتنا ويعيش الهموم التي تحكيها قصصنا؟.
نحكي في العادة عن كسل القارئ ونتهمه بالتقصير، فيما أن السبب الحقيقي، برأيي، يعود إلى أن هذا القارئ المسكين وقع ضحية فوضى الخفة في نشر الكتب، ففقد الثقة بما يصدر عن دور النشر العربية، ولم يعد يبالي ــــ إلا قلة مؤمنة!ــــ ببريق الكتب الجديدة الخادع. أما من ثابر على القراءة فتراه يلجأ إلى أسماء مكرسة، تصد عنه خيبة يتوقعها مع كل عنوان أو اسم جديد.
(كتابات) كتبت القصة وكتبت الرواية والسيرة الذاتية ما سر التنوع؟
- رغم أن لكتابة القصة القصيرة سحرها ولذتها، فإن لها حدودها التي قد تضيق على ما يريد الكاتب قوله. الرواية في هذا المجال أكثر كرماً، تمنحنا العدد الذي نشاء من الصفحات فنكتب بالتفصيل الذي نريد، وقد يفقد بعضنا السيطرة على قلمه فيبالغ، حد النفور، في الوصف والإطالة.
وبين الرواية والقصة، تظل القصة القصيرة مفضلة عندي، ومن قرأ رواياتي، يعرف أنني لم أغادر القصة القصيرة في الكتابة أبداً، ففصول رواياتي هي سلسلة مترابطة من القصص القصيرة المكتملة، التي يجمعها خيط رفيع يكون هيكل الرواية، عنقود من القصص يمكن القول، ولذلك يمكنني أن أنشر أي فصل من أي رواية كقصة قصيرة بدون أن تترك في ذهن القارئ فراغاً كالذي يتركه فصل مقتطع من نص لروائي آخر. وليس في قولي مديح ولا ذم. هذا وصف محايد لطرق الكتابة في القصة وفي الرواية.
(كتابات) هل واجهتك صعوبات ككاتب.. وما هو جديدك؟
- أعمل حالياً على نشر مجموعة قصصية، لا يمكن وصفها بالجديدة لأنها عملياً ستشمل أغلب قصص مجموعاتي السابقة إضافة إلى عدد من القصص الجديدة غير المنشورة. ما يعيق نشرها هو افتقادي إلى عنوان مناسب فقط.قصة لمرتضى الأمين..
الحقيبة..
“أغرتني في الحقيبة أناقتها ونقوش خفيفة على الجلد الذي أكسبه اللون البني فخامة. كما لفتت انتباهي زواياها الجلدية، التي هي من لون أقل قتامة، وقبضة اليد التي لم تكن من جلد، وإنما صنعت من مادة تشبه العظم، لا أدري كنهها. ولم ألتفت إلى بقعة الدم الطازجة، بقرب المقبض، والتي حاول البائع، جاهداً، أن يغطيها بكفه العريضة، فيما هو يتعمّد، في حركات تمثيلية، أن ألاحظها. وأقنعت نفسي بأن بإمكاني إزالتها بواسطة واحد من المساحيق المتوافرة في السوق.
كان البائع، الذي وقف في زاوية معتمة من زقاق ضيق، يبدو مستعجلاً. وطلب مني، فيما صبره يكاد ينفذ، أن أعجل بالدفع لأن صديقه ينتظره. وأشار إلى شاب خشن الملامح، فـي سيارة صفراء، يتطلع في اتجاهنا. كانت تلك أيام تباع فيها، في شوارع مدينتنا، أشياء كثيرة بأثمان مريبة، لأن بائعيها هم مالكون عابرون، لم يتعبوا في الحصول عليها. ولم يغب عن بالي أن الحقيبة هي غنيمة إحدى غزوات القتال المتبادلة، ولكنني كنت قد أغرمت بكل ما للـكلمة من معنى بلونها ونقوشها. كما أن الفضـول، المغشى بالطمع، الـذي أثارته ظروف الحصول عليها، وكذلك بقعة الدم (فأن تعرف أن صاحب الحقيبة قاوم، فجرح أو مات، قبل تسليمها، فهذا يعني أنها ثمينة!)، عجل في إقناعـي بدفع الثمن الذي طلبه اللص، ثم حملتها، ثقيلة، إلى منزلي.
كانت من الحجم الصغير. ليست من ذلك النوع الذي يحمله رجال الأعمال، ولكنها مجرد حقيبة صغيرة للثياب. وكانت مغلقة بالمفتاح. ويبدو أن الرجل فضّل أن يقبض ثمن غنيمته، على المغامرة بكسر قفلها فلا تعود قابلة للبيع.. وكان من الغباء سؤال اللص عن محتوياتها، أو عن المفاتيح، لأن ذلك سيقود الحوار إلى كشف طريقة “اقتنائها”، فيشكل، بالنسبة لي على الأقل، إحراجاً شكلياً أنا في غنى عنه. ثم إنني كنت واثقاً أن فتحها، في غياب المفاتيح المناسبة، لن يشكل صعوبة تذكر.
تأملت للحظة، بعد أن نجحت في فتحها بواسطة سكين دقيقة، الحرير الناعم الذي غطى الحقيبة من الداخل، والذي زينت لونه المائل إلى الصفار، نقوش لا بد أنها شعار الشركة الصانعة، ثم أزحت ببطء وعناية، الرباط المطاطي الذي يمسك محتوياتها ويمنع تناثرها أثناء الحركة، ورفعت الثيـاب القليلة ــــ قميصان أزرقان وبنطال أسودــــ التي غطت تلك المحتويات، ووضعتها، آسفـاً، خارج الحقيبة ـــ فقد كانت لشخص أضخم مني جثة! ــــ ، فتبدى لي، تحتها، عالم غريب، وخليط من الأغراض لا يجمعه شيء.
كانت رزم من الأوراق، سبعة بالضبط، مرتبة بعناية في زاوية الحقيبة اليمنى، وقد ربطت كل رزمة بخيط من الصوف، مختلف بلونه عن الخيطان الأخرى. وكانت الأوراق صغيرة ومربعة، تميل إلى زرقة خفيفة، وهي بالضبط ذلك النوع من الورق، الذي يشبه بملمسه البلاستيك، والذي يغلف نوعاً من الحلوى الرخيصة، اشتهر لدينا، والذي كانت تكتب عليه حكم وأمثال ونبؤات وأبيات شعر. وكانت أوراق كل رزمة تحمل نفس النوع من الحكم أو الأمثال. فيما لا تزال تفوح منها، ومن الحقيبة، رائحة تلك الحلوى اللذيذة.
لم أشأ أن أفسد ترتيب الأشياء، ولذلك فإنني أعدت الأوراق إلى مكانها بالقدر الذي أمكنني، ثم رفعت كتاباً ركن في نفس الزاوية. كان كتاباً قديم الطباعة عنوانه “الدرة اليتيمة في الأمة اللئيمة”، وكانت أوراقه صفراء خشنة، لا تزال في معظمها غير مقروءة، لأنها لم تكن فصلت عن بعضها بسكين كما كنا نفعل مع الكتب القديمة، لقراءتها.
تحت الكتاب مباشرة قبع مسدس كبير. رفعته في يدي، بعد أن وجّهته غريزياً، نحو الأرض. كانت خبرتي في الأسلحة معدومة، ولكنه بدا كالمسدسات التي يحملها رعاة البقر في أفلامهم. فتحت، مقلداً مشهداً في فيلم، مخزن الرصاص، فعددت خمسة رصاصات في أماكنها، فيما بدا من الثقب السادس لون السجادة الحمراء التي تغطي أرض الغرفة. ركبني الرعب، فمسدسات كهذه، حسبما أعرف، تخلو من أي جهاز يمنع انطلاق الرصاصات الفجائي، ولذلك فإنني بادرت، قبل أن أعيده مرتجفاً إلى مكانه، إلى إفراغ المخزن من رصاصاته، ووضعتها، زيادة في الحيطة، في الجانب البعيد من الحقيبة.. بالضبط في المكان الذي رفعت منه قناعاً صغيراً، بمقبض عاجي دقيق. كان قناعاً نصفياً. وبدا واضحاً أنه أنثوي، كالذي نشاهده في الأفلام في حفلات تنكريـة، نستنكر على الدوام أنها ليست من التنكر في شيء. وضعته، مقلداً، على عيني، فداعبت ريشلته الملونة أجفاني، وأحسست على الفور بارتياح، دفعني غموضه إلى نزع القناع وإعادته إلى مكانه متأملاً زركشات زينت جلده الملون. فيما دفعت فكرة جمعت القناع إلى المسدس ابتسامة ساخرة إلى شفتي.
إلى جانب القناع ركنت رزمة من المفاتيح القديمة التي تتميز بضخامتها، تجمعها حلقة أنيقة من النحاس. كان عددها خمسة، مختلفة الأشكال والأحجام، وليس بينها أي مفتاح من النوع الحديث، الذي اعتدنا عليه. بدت الرزمة في يدي ثقيلة. وتطلعت، في حركة أعرف مسبقاً أنها عبثية، إلى قفل الحقيبة لعل أحد المفاتيح يناسبه. كانت تلك بالطبع، حركة زائدة.. و لكنني قمت بها مدفوعاً بأمل يراودنا كلنا، عبثي هو الآخر، في أن تحل مشاكلنا اليومية على هذا المنوال.
في قعر الحقيبة، وبين أشيائها المرتبة، تناثرت، بدون ترتيب معين مجموعة من الخرق الممزقة والمناديل القماشية الملونة، مجعدة وغير نظيفة. وبدا وجودها في ذلك المكان نافراً، فكأن من وضعها هو شخص آخر غير صاحبها. أخرجتها كلها من الحقيبة، ووضعتها قرب الملابس، لأنها، في تناثرها، كانت تنقص من متعتي، ثم رفعت رزمة أنيقة من أوراق مطوية بعناية، ومربوطة بخيط ملون كسابقاتها. كانت تلك ثلاثة رسائل وبطاقة بريدية واحدة. وجميعها مكتوبة بنفس الخط والحبر. فأما البطاقة فلم تكن تحمل أية إشارة أو ختم يدل على كونها أرسلت. وكان وجهها يصور شارعاً في مدينة ما، وقرأت على ظهرها كلمات تختصر حالة من “الشوق الجارف” ألمت بكاتبها، “فسارعت إلى النزول إلى الشارع من غرفتي في الفندق حيث أمضيت أيام رحلتي” لشراء هذه البطاقة وكتابة ما عليها، ثم حالت ظروف قاهرة دون إرسالها، كما خطر لي. وتلك خاطرة سرعان ما تبين أنها غير صحيحة. فالرسائل الثلاث، هـي الأخرى، لم تكن أرسلت إلى أي مكان بعد كتابتها. وكانت تواريخها المسجلة تدل على أنها كتبت في أزمنة متقاربة، لأن الأولى، حسب تاريخ الكتابة، تحدثت عن أسف الكاتب وتعاطفه “معها” بسبب مرض والدتها المفاجئ. كما أنها تضمنت عرضاً سخياً بالمساعدة “بأي شكل كان”. وحوت الرسالة الثانية، التي كتبت بعد حوالي أسبوع، إلحاحاً تمثّل في تكرار مملّ للعبارات المحملة بمشاعر محبة جارفة، بضرورة التصريح عن الطريقة التي يمكن فيها أن يساعد إنسانة هي، له، معنى الحياة كلها. ثم يخبرها في سطر كتب في نهاية الرسالة بأنه اشترى لها قناعاً جميلاً، سيعجبها بالتأكيد. وحوت الرسالة الثالثة، التي كانت أطول من سابقتيها، وصفاً دقيقاً للقناع (يطابق الواقع، فكأنه رسمه بالكلمات!)، وإن يكن ذكر في آخرها، أنه قرأ في الجريدة، في صفحة الوفيات، اسم والدتها، ويقدم، بالتالي، تعازيه الحارة بوفاة هـذه الأم العزيزة “التي هي لنا، أنا وأنت، كل الدنيا”. لم ترسل تلك الرسائل إلى أي مكان، وإنما قبعت في الحقيبة، مختزنة كل هذه المشاعر والخمول، ومربوطة بخيط أسود إلى جانب الأشياء الأخرى.
أحسست بعد قراءة الرسائل بإحباط شديد وأسى، فأهملت محتويات الحقيبة الأخرى. وتمثل لي صاحبها في اللحظات التي سبقت اقتحام منزله، وقد انزوى في زاوية غرفة ما، متأبطاً حقيبته، ومتأهباً لفتحها وإخراج المسدس ليـدافع عن نفسه وأشيائه، ثم، وفي حركة مفاجئة تشبه تماماً عزوفه عن إرسال ما كتبه لتلك المرأة، استسلامه البليد لمصيره ــــ أياً كان ذلك المصير!ــــ.
ثم جرف الأسى حنق كبير على هذا الرجل، صاحب الحقيبة، الذي كانت طريقته البليدة في العيش سبباً في وقوعي ضحية خداع، فاشتريت حقيبة تحتوي كل هذه التفاهات بمبلغ يساوي ثمن واحدة جديدة، لا تلوثها بقعة دم كبيرة، تسربت، كما تبين لي، إلى قماش الحقيبة الداخلي، ورسمت عليه بقعة تشبه خارطة بلد أوروبي كبير”.