26 ديسمبر، 2024 3:46 ص

مع كتابات.. محمد الطيب: الرواية تنسج خيوطها في بطء مثل ميلاد النجوم

مع كتابات.. محمد الطيب: الرواية تنسج خيوطها في بطء مثل ميلاد النجوم

خاص: حاورته- سماح عادل

“محمد الطيب يوسف”، كاتب سوداني، من مواليد السودان سنة 1977، حصل على بكالوريوس مع درجة الشرف كلية الصيدلة جامعة الخرطوم، كما حصل على ماجستير إدارة أعمال جامعة بحري.  صدرت له رواية “الحبل السري” من الدار العربية للعلوم ناشرون 2016، كما صدرت له رواية “روحسد” من الدار العربية للعلوم ناشرون 2017.

إلى الحوار:

(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟

• لا أظن أن هناك لحظة معينة يمكنني الإشارة إليها كنقطة بداية لقلق الكتابة، يبدو الأمر شبيها بمحيط الدائرة، لا توجد نقطة بداية محددة وليست هناك نقطة نهاية أيضاً. لابد أن شغف القراءة هو البذرة الأولى، ووضع فرضيات لمساق السرد في الرواية أثناء قراءتها، كان واحدة من الإشارات الأولى لقلق الروائي عندي، رغم عدم توافق فرضياتي مع فرضية الروائي في أغلب الأحيان، ولكني كنت أعتز بفرضيتي وأدافع عنها بيني وبين نفسي، هي شرارة التمرد ومن بعدها أتى الاشتعال لاحقاً.

(كتبات) هل بدأت بكتابة الرواية أم كانت هناك محاولات لكتابة قصة أو شعر؟

• يقول الروائي حامد الناظر: “الراوي شاعر فاشل في الأساس” أنا فررت من قيد الشعر بعد أن عاقرته سنين عددا، للشعر سطوة مثل سطوة العاشقات المتطلبات، يصنع قيوده الناعمة ثم يضعها حول عنق الخيال حتى يخنقه، كان لابد من الفرار إلى فضاء السرد بلا رجعة, بدأت بالقصة القصيرة برهة ثم غرقت في لجة الرواية ولم أظن أنني سأعود يوماً إلى القصة القصيرة, فالقصة القصيرة عندي مثل رفيق الطريق، يؤانس وحدتك المؤقتة ولكنه يغادر سريعاً، أما الرواية عندي، فهي صديق العمر، تنسج خيوطها في بطء مثل ميلاد النجوم، وتتداعى شخوصها على مهلها كما تنضج الثمار، ولكن قبل شهرين كنت في حاجة إلى رفيق للسفر، فصادفت عشراً خلقوا مجموعة قصصية طارئة بنفس روائي.

(كتابات)  في رواية (روحسد) هل هناك إمكانية للفصل بين الروح والجسد في رأيك؟

• تماماً مثل إمكانية الفصل بين العين والرؤية، بين القلب والهوى، بين الحياة والأمل، بين الحلم والغد، لو تمكنا من فصل هؤلاء عن بعضهم البعض، يمكننا مناقشة فرضية الفصل بين الروح والجسد، كان “خيري” في (روحسد) روحاً خالصة, وكان”سليم” جسداً خالصاً، الإنسان في داخله  يتصارع “خيري” و”الصوفي”, وما نراه فيه هو نتاج هذا الصراع، فالمنتصر فيه هو من يشكل ملامح الإنسان بتباينها واختلافهما من أقصى “خيري” إلى أقصى “الصوفي”.

(كتابات)  في رواية (روحسد) رسمت شخصيات تنبض بالحياة.. هل تستعين بالواقع في رسم الشخصيات أم يلعب الخيال الدور الأكبر؟

• هل هناك حد فاصل بين الخيال والواقع؟ أذكر أن  “أحمد عبد الجواد” في ثلاثية “نجيب محفوظ” كان حقيقياً أكثر من الحقيقة, وكذلك “غرنوي” في (العطر) ل”زوسكيند”, و”فيرونتينو أريثا” في (الحب في زمن الكوليرا) ل”ماركيز”، لو كان هؤلاء الثلاثة حقيقيين لما  خلفوا أثراً كما خلفوه في الروايات, الحقيقة هي ما نحسه ونلمسه ونذكره وما دون ذلك محض نسيان أو خيال.

على مستوى الخلق السردي لا يوجد خط فاصل بين الخيال والواقع، بين الذكرى والأمنية، بين الخوف والكوابيس، تتماهى الخطوط الفاصلة بينها حتى تستحيل واحداً، فالشخوص في العمل الروائي مزيج من كل هذا، وكذلك ما ينتج عن تفاعلهم داخل الرواية وتشابك أحداثها، يجعل ذات الخطوط تتماهى حتى تزول فيغدو العمل مزيج لن يستطيع حتى كاتبه إصدار رأي جازم لمدى واقعية النص من عدمه، في العمل نفسه ناقشت فكرة قتل المؤلف أو موته، فلو تجنبنا تعمد بعض الكتاب لوضع ملامح منهم في العمل الروائي، ففرضية الرواية تقوم على اتفاق ضمني بين الروائي والقارئ بأنها محض عمل تخيلي، يجب قراءته بمعزل عن الكاتب، ولكن فضول القارئ يكسر هذا الاتفاق وهو يبحث عن الروائي المسكن عله يجده مختبئاً  بين السطور، فيقتنصه في سرور.

(كتابات) لما اخترت تقنية تعدد الأصوات في رواية (روحسد) وهل أنت مع إلغاء سطوة الراوي الواحد؟

• الرواية هي من تختار أصواتها, في (الحبل السري) كان الراوي العليم، وفي (روحسد) كان تعدد الأصوات، وفي روايتي القادمة كان الراوي المشارك الذي تحول في النهاية إلى الراوي البطل, وإن كنت أظن أن تعدد الأصوات أكثر ديمقراطية, وربما يكون أبطال الرواية أكثر سعادة وراحة في التعبير عن أنفسهم، بعكس ديكتاتورية الراوي العليم الذي يجسد دور الأخ الأكبر في العمل الروائي، فلا يتنفس واحد من شخوص الرواية من دون أذن مسبق منه، فكل شاردة أو واردة في العمل الروائي لابد أن تمر عبره، عادة ما يسقط العمل في فخ التطويل والترهل، لأن الراوي العليم يجتهد في تبرير وتوضيح الدوافع الخفية في الحدث السردي للقارئ.

تعدد الأصوات يريح الكاتب من تجشم هذا العناء، ليس لديه سوى نقل ضجيج الشخوص من عقله إلى صفحات الكتاب، ويترك التبرير والتوضيح لثقافة القارئ ومدى وعيه وعمق تجربته بعيداً عنه.

(كتابات) رغم أنك ناقشت الصراع حين يتم الفصل بين الروح والجسد إلا أنك لم تكتب مشاهد جريئة.. ما رأيك بالكتابة التي تستغرق في رسم المشاهد الجنسية؟

• في الكتابة متسع للكل, لا قيود ولا أحكام مسبقة, الجنس ضلع من أضلاع مثلث التابوهات الثلاثة التي تيسر الانتشار لطارق أبوابها, لم أجد نفسي مضطراً لكتابة مشاهد جريئة حتى في حديثي عن الجنس, الكتابة تمنحنا عدة طرق لإيصال ما نريد قوله، ديكتاتورية الكاتب هنا محمودة ولا غبار عليها في اختيار ما يناسبه, ما أسعى إليه هو تداول ما أكتب على مستوى الأسرة بلا حرج, بين الأب وابنته، والأم وابنها, والأخ وأخته.

(كتابات) ما تقييمك لحال الثقافة في السودان؟

• محزنة جداً، يقع المثقف بين سندان انعدام الكتاب ومطرقة غلاء سعره إن وجد، يدور المثقفون في حلقة ضيقة من الخيارات المحدودة في القراءة، سرطان الكتب المزورة متفشي في جسد الثقافة, ولعناوين محددة وكتاب معينون, دور الدولة في دعم الثقافة والمثقف غائب تماماً، حتى أنني لا أعرف اسم وزير الثقافة, بل إني أتساءل في جدية كاملة, هل نملك في السودان وزارة ثقافة؟ صدقاً لا أعلم.

(كتابات) لما في رأيك لا يتم تداول الأدب السوداني في البلدان العربية إلا في حالات نادرة.. هل هناك تهميش متعمد؟

• لو سلم الكاتب السوداني من التهميش فهو يمارس الدونية ويستجدي الاهتمام, لا أظن أن هناك تهميشاً، هناك عدة عوامل أدت لقلة انتشار الأدب السوداني عربياً, أولها هو الثقافة الآفرو عربية في السودان، وليس آخرها سندان الظروف الاقتصادية الطاحنة التي يعاني منها الكاتب السوداني، مروراً بمشكلة تسويق الذات، وغياب دور النشر السودانية الاحترافية، وغياب الدعم الحكومي الرسمي للحراك الثقافي السوداني داخل وخارج السودان.

(كتابات) هل نحن في زمن الرواية.. وما رأيك في حال الرواية في السودان؟

• نحن في زمن الإغراق، الرواية تتحول إلى منتج استهلاكي مثل أي منتج آخر، مئات دور النشر في الوطن العربي تنشر آلاف الروايات سنوياً ولكن من يقرءون قلة قليلة، معظم الكتاب يطبعون على نفقتهم الخاصة ودور النشر تتنازل عن شرط الجودة مقابل العائد المادي المربح، فأرفف المكتبات تئن من ثقل الروايات الساذجة المغرقة بالإسفاف والسطحية، مع ندرة الجيد والذي يكاد يضيع في دوامة الرديء لو لم تلتقطه عين فاحصة,  حال الرواية في السودان لا يختلف كثيراً عن وسطه الإقليمي, ولكن هناك إشراقات جيدة ومحفزة لعدة رواة سودانيين خلفوا بصمة جيدة, مع جيل قادم يخطو خطوات ملهمة ومحفزة تدعو للتفاؤل بمستقبل أكثر إشراقاً وجمالاً.

(كتابات) هل واجهتك صعوبات ككاتب وما هو جديدك؟

• لو كنت تقصدين صعوبات في النشر، ففي العملين المنشورين لم أواجه أية صعوبات في نشرها, العمل الثالث هو الذي يواجه العثرات لعدة أسباب، ألم ببعضها وربما يغيب عني البعض الآخر, كما أن لدي مجموعة قصصية جاهزة للطبع ولكني لم أقدمها للنشر, فدور النشر تحتفي بالرواية فقط وتنشر المجموعات القصصية بمقابل مادي غالباً وهذا أمر مرفوض بالنسبة لي، ربما أنشرها في الصحف أو في دوريات ثقافية أو أكتفي بإشباع شهوة الكاتب لدي وتظل قابعة في حضن الحاسوب حتى إشعار آخر.

جزء من رواية (روحسد)..

ل”محمد الطيب”

انقطع الاتصال فحاولت الرجوع إليه ولكن هاتفه كان مغلقاً, هذا الرجل بقايا إنسان, محطم وكأنما دهسه قطار سريع, الحب لعنة, أدركت هذا مبكراً عندما رأيت عشق أمي لصاحب الشارب الضخم المشغول بالتهام البطاطس على الدوام, سعيد بأني لم أعرفه في يوم من الأيام, عندما تحب واحدة من النساء تمتلكك و تربطك إليها برباط وثيق لا تستطيع  منها فكاكاً ثم تبدأ  في صب لعناتها عليك الواحدة تلو الأخرى حتى تغدو مكباً للعنات دون أن تملك قدرة على الفرار, عندما أنظر إلى وئام أدرك مدى صحة كلامي لو أني تعلقت بها لكنت تعيساً الآن  ولكني لا زلت أستمتع بزجاجة الويسكي ولفافة التبغ وثرثرة دريابي الغير مجدية, نعم أنا أشتهيها ولكني أدرك استحالة الحصول عليها في هذا القبر فتواءمت مع الأمر رغم صعوبته, ثم يأتي خيري ليتحدث عن الروح, هذا الجسد دابة تحتاج لإشباع غرائزها  وإلا تمردت, الروح من أمر ربي, مالنا فيما اختص الله به نفسه, هذا الجسد حاجاته محددة بدقة, نساء وطعام ولا شيء آخر ولكن أمثال خيري يجعلون من الأمر أكثر صعوبة بفلسفاتهم العجيبة التي هي أقرب للكفر والعياذ بالله.

عندما أتاني نداء الزيارة ظننتها وئام, يزورني خيري فقط وكنا نتحدث قبل قليل, لو أتت تطلب الطلاق سأطلقها ولو لم تطلبه سأطلقها أيضاً.

عندما انحرف العسكري نحو مكتب المدير دهشت وعندما رأيت خيري في وجهي تفاجأت

– ما هذا ما الذي أصابك؟

تجاهل سؤالي وهو يصافحني ثم جلس دون أن يعقب

– لماذا يغطيك الطلاء, تبدو غارقاً في الأوساخ يا رجل

نظر إلى ملابسه ثم نظر إلي ساهماً

– الملابس هي الأقل قذارة فينا

– وهل الإنسان إلا مظهره وما يظهره يا خيري؟

وضع يده على فمه غارقاً في التفكير ثم قال

– انظر إلينا, انظر إليك

اعتدل في جلسته وبرقت عيناه ثم قال

– سليم لما قتلت أمك؟

باغتني سؤاله فتلعثمت قليلاً ثم قلت

– قتلتها في نوبة غضب

هز رأسه نافياً ثم دنا بوجهه مني وهمس

– أنت قتلتها يوم البطاطس, قتلت حبك لها بكرهك لطبخة البطاطس, هي جثة في داخلك منذ ذلك الحين

خفق قلبي في عنف, الكتاب المجانين غريبي الأطوار الحمقى

– عندما قتلتها لم تكن لحظة غضب, كانت لحظة إشهارك الرسمي لنفسك كقاتل

– ما هذا الكلام يا خيري

– هل تظن لو أن أمك كانت طيبة السيرة وامرأة فاضلة بمقاييس المجتمع هل كنت ستكون في السجن الآن؟

لذت بالصمت عاقداً يداي على صدري

– ما نحن عليه هو حصاد ما غُرس في ماضينا, الحاضر ثمرة الأمس وغرس الغد, متوالية لا تنقطع منذ البدء وحتى النهاية

– بمقاييسك أنا بريء من تهمة القتل إذن ويجب إخراجي من السجن

هز رأسه نافياً ثم مط شفتيه

– بمقاييس المجتمع أنت ثمرة فاسدة وغرس معطوب لذا يجب عزلك, المجتمع ليس عادلاً بالطبع ولكن أحكامه نافذة للأسف

– هذه محادثة ثقيلة على النفس يا خيري لما لا تغير الموضوع

– وإن غيرناه هل سيختفي, هههه , لن يختفي بالطبع ولكنه سيتخفى في محادثات أخرى مرتدياً ثوب المزاح مرة وثوب السأم في أخرى وغيرها من أسمال الكلام البالية حين نقول شيئاً ونحن نقصد شيئاً آخر وفي أحايين نادرة يقف عارياً من كل ثوب فيبدو قبيحاً ومقززاً وثقيلاً على النفس لذلك نركض بحثاً عن رداء مناسب له

يتصاعد كلامه من عمق النفس كبخار بحيرة مالحة

– تباً يا خيري أنت تفسد الآن واحدة من المتع القليلة التي أجدها في ذلك القفر الذي أعيش فيه

– هل تدرك من هم أسعد أهل الأرض؟ إنهم المتبلدون, الذين اكتفوا من هذه الحياة بلقمة طيبة وجسد بض, ولكن من تنهض عندهم الروح أولئك كتب عليهم الشقاء إلى الأبد, فالروح رفيقة الضمير, والضمير في أحكامه أكثر ظلماً وتعسفاً من المجتمع والأسوأ من ذلك أنه أكثر إقناعاً أيضاً, وهنا تبدأ الحلقة المفرغة في التكون, غرس سيء, ضمير زاعق, ثمرة سيئة فغرس فاسد, أنا وأنت ندور في ذات الحلقة, أنت تجاهد للخروج منها بسخريتك واستخفافك بعكسي, فأنا ما زلت أركض رغم وعيي ببؤس مصيري المنتظر, العلم مع العجز شيء مؤلم يا صديقي

صمت خيري, في روايته التي أعارني إياها كتب   (( تنفس الصمت كان هادئاً مثل ثورة رجل أبكم)) أظنه كان صمتاً شبيهاً بهذا, ما يقال الآن كلام عظيم رغم أني لم أفهمه تماماً ولكني أشعر به, هذا الرجل يغير في داخلي شيئاً لا أعرفه ولكنه يجعلني رجلاً مختلف عما كنته, رجلاً يكترث لما يحدث حوله ويحيط به

– لا أملك سلاحاً سيغير من ترتيب هذا المصير ولكني سأقاوم للخروج من هذه المصيدة المحكمة, سأقاوم مثل كل الفئران التي تظل تصرخ وتخربش بأظافرها في الهواء حتى تسحب روحها في هدوء, قد يكون السر في المقاومة يا صديقي وليس في النجاة.

أطرق خيري طويلاً, كأنه ذاهب في غفوة طويلة, لولا صدره الذي يصعد ويهبط في انتظام لظننته ميتاً ولكني لم أجرؤ على تنبيهه أو الكلام معه, لا أدري كم مر من الزمن حينما رفع رأسه نحوي, عيناه كانتا كرتين من النار ولكنه كان مبتسماً, هذا رجل عجيب, من أين تأتيه قوة الابتسام في وسط هذا العذاب المقيم, نهض من جلسته وتناول حاسوبه ثم اعتذر عن عدم حمله نقود هذه المرة رددت عليه بجملة واحدة

– تباً لك وللنقود يا صديقي

لو أني أملك أن أنجيه من كل هذا لفعلت, خيري صديق طيب, يمنحني المال والتقدير في حين أن زوجتي ضنت بمالها وأختي بتقديرها, يتجاهل كوني قاتلاً ويعاملني معاملة الند للند ولكني عاجز عن فعل شيء سوى التربيت على كتفه المثقل بالهموم, احتضنته في قوة وودعته مع وعد بلقاء قريب, ساحة السجن كانت شبه خاوية وقد تناثر المساجين في ظلالها الشحيحة, مصباح يزعق في واحد من المساكين ودريابي يرتجف خوفاً في زنزانتنا من لا شيء ولا زال يحسب الأيام لخروجه من السجن لعله يلحق بقطار الحياة.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة