خاص: حاورته- سماح عادل
ظل العراق يسكن داخله رغم رحيله عنه منذ سنوات طوال، يتابع أحواله وصراعاته وكوارثه وأيضا أحوال الثقافة والفن والأنشطة السياسية، رغم اغترابه إلا أنه ظل وفيا لوطنه يكتب عنه وعن تحولاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعن الأحداث الهامة التي أثرت عليه. كما ظل هاجس فهم لما انهزم اليسار العراقي يلاحقه، يبحث في الكتب والمذكرات والاعترافات، لكن ظل وجع الانهزام في قلبه.
ورغم أنه بني حياة أخري لكن اهتم بتعزيز ثقافة العراق في بلده الجديد وتشجيع ودعم الأجيال الشابة والمبدعين، وظلت شوارع العراق تسكن ثنايا روحه، وظل الحنين إلي الوطن يعطيه الدفء.
هو “عبد محمد حسن السعدي” المعروف ب”محمد السعدي” . ولد في قرية الهويدر محافظة “ديالى”. “العراق” ١٩٥٨، درس في كلية الآداب جامعة بغداد اللغة الروسية وآدابها ١٩٨٠ . اهتم بدراسة الأدب الروسي بدءاً من ألكسندر بوشكين إلى الناقد الديمقراطي “فساريون بيلينيسكي “. وصل إلى السويد عام ١٩٨٩، وما زال مقيما بها. وهو عضو في إتحاد أدباء السويد منذ عام ٢٠٠٢، عضو في إتحاد الأدباء الدولي، رئيس إتحاد المنتجين العراقيين في أوربا من عام ٢٠١٧، ممثل إتحاد المنتجين العرب في أوربا ٢٠١٧
صدرت له خمسة كتب في الشأن العراقي والعربي بعضها حصل على دعم من وزارة الثقافة السويدية. الكتاب الأول ” الحلم والشهادة ” ٢٠٠١ ، عن دار نشر قوس الدانمارك . الكتاب الثاني ” سجين الشعبة الخامسة ” طبع خمسة مرات في العراق ولبنان والسويد ” ، الكتاب الثالث ” حرب الديمقراطية أحداث وسياسات ” عن دار فيشون عن العراقي وتداعياته بعد احتلاله عام ٢٠٠٣، الكتاب الرابع ” بيني وبين نفسي ” عن دار الرافدين بيروت حكايات من أرشيف الحركة الشيوعية في العراق. الكتاب الخامس “أوراق صفراء في الصندوق الأسود”، عن دار أبجد بغداد.
كان لي معه هذا الحوار الشيق:
* كيف بدأ معك شغف الكتابة، وكيف تطور في ظل حياة صعبة؟
– كانت البدايات الأولى صعبة وخجولة ومترددة في مطلع الثمانينات، عندما حجزت مقعدي طالباً في كلية الآداب جامعة بغداد، تفتحت أمامي آفاق جديدة وتشرعت أبواب من العلاقات والقراءات المتنوعة أدب وثقافة وفلسفة بحكم دراستي للغة والأدب الروسي على يد أساتذة كبار أمثال ضياء نافع، حياة شرارة، جليل كمال الدين، ناشئة كوتاني، محمد يونس، طارق الكاظمي . كانوا هؤلاء مدرسة للثقافة والمعرفة لي، وأنا الشاب القروي القادم من قرية الهويدر في محافظة ديالى، شكلوا أساتذتي جزئية مهمة في تطور نوعي بشخصيتي الثقافية وشكلوا عامل دفع لي في القراءة والبحث والدراسة.
لكن هذا لايعني، أن أجرد حالي من امتلاكي مستوى ثقافي قد يكون محدود ضمن أطر محددة، قد يكون قريب إلى طابع حزبي وسياسي بسبب انتمائي إلى تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي . ثلاثة سنوات في كلية الآداب، كانت كفيلة بتطور ملحوظ في كفاءاتي من خلال الدراسة والقراءة والمحاضرات اليومية في الأدب الروسي، إضافات جديدة على مستوى العلاقات مع طلبة جدد من مختلف محافظات العراق، فجملة هذه الانعكاسات إنعكست على رغبتي ومحاولاتي في القراءة والكتابة.
لكني في الواقع لم أجرؤ على البوح بها لأقرب الناس حولي، كنت أكتب وأحتفظ بها لنفسي، وأحياناً أمزقها وأرميها في حاوية المهملات. سؤالك هذا دعاني أن أستذكر طريقة ووقت هاجس الكتابة، كنت عندما أعود في نهاية كل أسبوع بالحافلة من منطقة باب المعظم في العاصمة بغداد إلى مدينة بعقوبة والطريق الذي يستغرق قرب الساعة أقضيه بالكتابة، أحياناً لا على التعين، وعندما أقترب من أطراف المدينة وأعيد قراءته عديد من المرات أمزقه أو أخفيه خوفاً من أحداً يراه!.
في تلك المرحلة والعمر والدراية، تجرأت مرة، وكتبت مقال عن الشاعر والروائي الروسي ”ميخائيل ليرمنتوف ”. صاحب رواية ”بطل من هذا الزمان”، وصاحب أشهر قصيدة شعرية أدت بحياته إلى حد سواء إلى الشهرة والموت تحت عنوان ”موت شاعر ”. وكانت مقالتي التي كتبتها تحت عنوان ”من قتل ليرمنتوف ”. وحملتها معي إلى أروقة الآداب في جو ربيعي مفرح، وكنت أشعر بسعادة من حولي في الحرم الجامعي، وأنا متيقن من وجود أستاذ جليل كمال الدين في صومعته الصباحية، حيث كان في كل صباح يرتشف قهوته في زاوية بأصغر مكتبة في أروقة الآداب، وعندما دخلت عليه قبل بدأ الدوام الرسمي، استقبلني بابتسامته المعهودة ظناً منه ربما أحمل شكوى أو طلب بإعفائي من حضور المحاضرة، فتفاجأ عندما عرضت عليه المقالة.
وبعد قراءتها بتمعن أشاد بأسلوبي وشجعني بقوة، مما شكل في مكنوني فرح متدفق وكسر في داخلي حاجز الخوف والتردد، وأعطاني جملة ملاحظات حول أسلوب وطريقة الكتابة، وما زلت أعتمدها في كتاباتي. من هنا كانت البداية !.
يقول “أرنست همنغواي”: “الكتابة عبارة عن لعبة مع الموت ”!”.
ومن هنا صقلت أسلوب وطريقة كتاباتي، والتي أتسمت بالجرأة والواقعية والشجاعة، لأنني انطلقت من تأثير الكتابة في الوعي الجمعي وتطوره باتجاه بناء الإنسان. في الحقيقة لا أشعر بسعادة سوى أنا شخصياً أو ممن أقرأ لهم من أصدقاء ورفاق درب يكتبون بانتهازية ونفاق ويحرفون الحقائق بعيداً عن الفائدة والمتعة والصراحة. أنا كتبت في زمن صعب وبحت عن الحقائق المطوية بالتواريخ والمواقف شعوراً مني بالفائدة للأجيال القادمة وانسجاما مع تجربتي ورؤيتي للحياة، مما عرضني إلى حملة تشهير من بعض ضعاف النفوس، والذين تخلوا ذات يوم عن الواجب الوطني والإنساني، عندما حلت لحظاته، ولم يخيفني هذا الهوس بل زادني تمسكاً بموقفي وتجربتي النضالية، التي أعتز بها جداً، وأعتبرها أرث كبير إلى تاريخي ورفاقي وعائلتي !.
الآن أنا أكتب في زمن صعب اختلطت به الأوراق وتشابكت المواقف وقل به القراء، والكتابة تشكل وتعني لي اليوم أسلوب نضالي وإقصائي وهذا ليس سهلاً، ويشكل عبأ كبير على صحتي وحياتي لكني مصر على مواصلته مهما تكن مردوداته السلبية. ما زلت أعتبر الكتابة تجربة صعبة وقاسية بمنظوري الفكري والشخصي لها، ولهذا تعرضت بسببها إلى حملات تشهير وافتراءات ليس لشيء إلا لجرأتها ودهشتها.
واليوم أنا منغمر ومنهك ومهلك، لكني مع هذا أشعر بالمتعة والفائدة في قيد إصدار كتابي الجديد ”يوتبيا بين الهويدر والجبل والشيوعية ”. وفي متنه بحت بما لم يجرؤ أن يفكر به الآخرين من قضايا وهموم ومواقف وتداعيات وحكايات في نهاية تجربة العمر !.
* لما درست اللغة الروسية وهل هذا بسبب انتمائك السياسي؟
-في عام ١٩٨٠، كنت قد أكملت مرحلة الإعدادية الفرع الأدبي في إعدادية بعقوبة المركزية، وكان معدلي العام يسمح لي بقبولي بعدة فروع وكانت بعضها قريبة إلى نفسي ومحط اهتمامي، قسم الاقتصاد، دراسة التاريخ، قسم الفلسفة، علم الاجتماع، علم النفس. لكن أثناء مليء استمارة التقديم شجعني صديقي عزيز الشيباني علي دراسة الأدب الروسي ووضعناه الاختيار الأول في الاستمارة المقدمة إلى القبول المركزي، وفي الاعلان عن النتائج للقبول المركزي ، ذهبت إلى العاصمة بغداد ووجدت اسمي معلق على جدران الجامعة المستنصرية في بغداد ضمن المقبولين في قسم اللغة الروسية.
أكيد هناك علاقة ممتدة بين الاختيار والانتماء، كنا ثمة فتية في قرية الهويدر نتابع ونقرأ عن الأدب الإنساني وأدباء العالم وأعمالهم الأدبية، والتي لها علاقة بالحرية والتحرر والثورة، وهذا جاء انطلاقا من علاقتنا باليسار والشيوعية، حيثما شكلت رواية ”الأم ”، للأديب الروسي السوفيتي الشيوعي “مكسيم غوركي” انعطافة كبيرة في مخيلتنا وتعلقنا بفكرة الشيوعية!.
* صف لنا علاقتك بالأدب الروسي . وهل شعرت بالهوس ناحيته؟
– بعد أن أصبحت طالباً في الآداب/ جامعة بغداد ومن خلال محاضرات ودروس الأساتذة الكبار، والذين أشرت لهم سلفاً، والمصادر والكتب المترجمة والتي توفرت بسهولة تحت أيادينا، وكان القسم الأغلب منها عن دار التقدم في موسكو، أنا شخصيا تركت في نفسي حافز كبير على القراءة والمطالعة والدراسة، وهذا ليس بمعزل عن ميولي السياسية السابقة داخل تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي ومنظماته المهنية.
كنت أسخر وقت كبير من وقتي للقراءة حول مكنونات الأدب الروسي، بدءاً من الشاعر والكاتب المسرحي “بوشكين” ومروراً ب “ليرمنتوف وكوكل وتورغنيف ودستوفيسكي وتولستوي وتشيخوف” وأنتهاءا بأدباء الحقبة السوفيتية ومرحلة الواقعية الاشتراكية وتحزب الفن للحزب!.
أكيد لقد شعرت بالهوس من خلال قراءاتي المتعددة والمتنوعة تجاه الأدباء الروس ومحطات حياتهم المثيرة والغربية في أكثر من محطة وموقف ومصير مؤلم وأسلوب حياة وعلاقتهم مع بعضهم . ففي فترة دراستي الجامعية حقاً أصابني هوس حقيقي، بعد أن قرأت وتعمقت بشخصية الشاعر والكاتب والروائي والرسام ” بوريس باسترناك ”، الذي يمثل الحقبة السوفيتيية وابن ثورة أكتوبر العظمى والمؤمن بمشروع البلاشفة السياسي.
لكن بمرور الوقت والإخفاقات التي اعترت مشروع الثورة وأهدافها وانحراف قادتها، تكون له موقف آخر بالضد من تسلكات مسيرة الثورة المتردية وقادة السلطة، فتوج موقفه هذا بروايته المشهورة ”دكتور زيفاكو”. في انتقاد لاذع للسياسة السوفيتية فتعرض على أثرها إلى الاعتقال والمساءلة والمطاردة وحرمانه من نشاطه الأدبي والتدخل الفظ بأبسط تفاصيل حياته الشخصية. وعلى وقع بناء روايته وشهرتها عالميا بعد أن هرب مسودتها الأصلية إلى إيطاليا وطبعت هناك بملايين النسخ وموقفه المعارض للسياسة السوفيتية منح جائزة نوبل للآداب من قبل الأكاديمية السويدية عام ١٩٥٨، لكنه رفضها لدواعي سياسية، حيث ذهب إلى أقرب دائرة بريد وحرر خطاب بقلم الرصاص إلى الأكاديمية السويدية يرفض بها الجائزة !. وأعتبرها بعض النقاد والمتابعين إنها تدخل ضمن سباق الحرب الباردة بين السوفييت والامريكان . وفي عام ١٩٦٠، عندما مات أثر مرض سرطان الرئة لم يمش خلف جنازته إلا عدد أصابع اليد من المارة والمعارف.
فضلاً عن معلومة مهمة وواقعية لم تكن خافيى على من له علاقة بدراسة الأدب الروسي . وهي أن الأكاديمية السويدية منحت أغلب الجوائز، التي خصصتها لأدباء سوفييت ممن كانوا ضد السلطة السوفيتية من خلال أعمالهم الأدبية، والبعض منهم كان مطرودا من الأراضي السوفيتية ومسحوبة منه الجنسية الروسية، مما هنا يفرض الاستفسار المشروع عن علاقة جائزة نوبل والأكاديمية السويدية بالمواقف السياسية وعلاقة السياسة بمنح الجائزة !.
الهوس الذي تملكني آنذاك، وأنا طالب في الآداب جامعة بغداد جعلني أتخصص بدراسة شخصية “بوريس باسترناك” وأعماله الأدبية ومواقفه السياسية وعلاقته بالمشروع الأدبي ودور السلطات في كبح جماح إبداعه، لقد وجدته قريباً إلى شخصيتي وتلبست جزء مهم من شخصيته ومنظره العام ونظراته!.
وفي فترات لاحقة، أيضاً شكل عندي هاجس الشاعرة السوفيتيية ”آنا أخماتوفا ”، هوس في جزء من تفاصيل حياتي، وهي تعتبر من أشهر وأهم شعراء روسيا السوفيتيية، وزوجها الشاعر والضابط البلشفي ”نيكولاي غوموليف”، الذي أعدم عام ١٩٢١، في حدة الصراعات السياسية بتهمة العمالة، وابنها الوحيد ”ليف غوموليف” ألقي به في السجن، وهي تعرضت إلى حملات تشهير وطعن ومقاطعة لسنوات طويلة من حياتها في عهد الإتحاد السوفيتي ونظامه الاشتراكي !.
* لما خرجت من العراق وكيف كان إحساسك.. وهل وجدت في المنفى وطنا آخر؟
– هنا إذا سمحتي لي، سوف أجيب على الشطر الثاني من السؤال، حول المنفى والبديل عن الوطن، أؤكد لك لا بديل عن الوطن إلا الوطن، تركت العراق والقرية والجامعة والأصدقاء أكثر من ٤٢ عاماً، ومررت بعواصم ودول، ولم أشعر يوماً بأن هذا سيكون بديل عن وطني العراق، وهنا في مملكة السويد منذ ٣٥ عاما، أقترنت بزوجة صالحة وبنات رائعات وتجربة عمل قاسية، مما تركت مساحة بحبوحة حياة مرتاحة من الاستقرار والعيش الكافي.
ومجمل هذه الميزات والمميزات في حياتي المستقرة، لكنها لم تمنعني من الحنين الجارف وعمق الذكريات ومرابع الطفولة في كل ساعة من حياتي، وفي مرات عديدة حاولت جاهداً أن أنفك عن هذا الهوس من الحنين والعودة، لكنها هي لا تنفك عني، موجودة في كل تفاصيل حياتي وتمشي مع شرايين الدم !.
أنا خرجت من العراق وتركت القرية آب عام ١٩٨٣، مجبراً ومضطراً بعد أن تعرض بيتنا في قرية الهويدر إلى مداهمة كبيرة من رجال استخبارات النظام العراقي الراحل، ونجوت بأعجوبة عجيبة، وتمكنت من الوصول سالماً إلى الأراضي المحررة في جبال العراق، وأصبحت نصيراَ ومقاتلاً شيوعياً ضمن تشكيلات الأنصار للحزب الشيوعي العراقي، الذي كان يقاتل قوات نظام البعث بعد أن فرط عقد الجبهة مع العبثيين في نهايات عام ١٩٧٨، وأنا كنت في يومها منتمي ضمن تنظيمات الحزب الشيوعي السرية في العاصمة بغداد ضمن تشكيلات منظمة ”الصدى ”.
في لحظتها الفارقة، عندما وطأت قدماي قرية ”أحمد برنوا” في سهل شهرزور بعيداً عن سيطرة السلطات العراقية انتابني إحساس غريب بين الفرح لكوني تخلصت من كابوسهم المرعب، قد يطيح بحياتي إذا وقعت في أياديهم، ووجع بالفقد لأصدقاء ورفاق وأهل ومقاعد دراسة وأحلام رومانسية!.
* في كتابك ”بيني وبين نفسي ” من أرشيف الحركة الشيوعية في العراق وبدايات تكوينها ومواقفها ومستقبلها .. لما سعيت لتوثيق والحكي عن الحركة الشيوعية ؟
– في كتابي “بيني وبين نفسي” أخذ مني ومن صحتي مساحة وقت طويلة وهواجس قلق وخوف، حيث بحت بين سطوره تجربتي الشخصية والسياسية وتجربة الاعتقال في الشعبة الخامسة وزنزانتي الأثيرة رقم ٣. تلك الزنزانة الرهيبة ذات الحيطان الصفراء الممتلئة بالشخابيط والمعاني المختلفة بين شوق للأم وللحبيبة وقصيدة وذكرى يوم الاعتقال وأسماء العائلة ممن سبقوني من أبناء شعبنا وغيبوا فيها.
كنت أشغل وقتاً كبيراً من إعادة قراءة هذه الشخابيط على الحيطان، وأنا ممدداً وتحتي قطعة سوداء من القماش الممتلئ بدبيب القمل، الذي أصبح جزء مهم من تفاصيل يومي، طالما ألفته، وفي الليل القاتم والرعب المخيف مكوراً بدني النحيل في زاوية زنزانتي، وأنا أنظر بدهشة وصمت إلى تفاصيل زنزانتي، وأبحث عن منفذ ضوء وأفق للحياة!. هذه التجربة الشخصية المريرة رويتها في كتابي، ظناً مني، إنها ستكون تجربة ودراسة للأجيال القادمة.
تحدثت في هذا الكتاب، وهو يدخل ضمن خانة الأدب السياسي ”أدب السجون”، رويت في صفحاته تجربة أليمة بكل معاني الأمانة والوضوح وجلد الذات من أجل تبيان الحقائق، وهذه لها علاقة بصدق انتمائي وعلاقتي بالتجربة السياسية العراقية ”الشيوعية ”. حيث مررت به على أهم المنعطفات التاريخية، التي واجهتني في حياتي النضالية القاسية، كان ثمنها غالي ومكلف بفقد بوصلة تجربة نضال وأهل ورفاق رحلوا بدون تلويحة وداع بدون مقابل يذكر، لا على المستوى الشخصي ولا الاجتماعي الاعتباري. كان ختامها فقدان وطن ينهش به الفساد والطائفية راحلاً إلى التقسيم لا سامح الله .
كان وما زال هزيع الليل هو هاجسي في الإلهام والكتابة والتفرد ربما سكونه السويدي يوحي لي بتقليب صفحات التاريخ وإعادة كتابة التجربة رغم قساوتها، التي تركت ندبات عميقة في الروح والمزاج. في كتابي ”بيني وبين نفسي” من أرشيف الحركة الشيوعية في العراق. والكتاب الذي سبقه ”سجين الشعبة الخامسة”. وأنا أدون صفحاتهما، كنت أحس أحياناً هناك أشباح تحيطني من كل اتجاه بل تلاحقني بكل كلمة وجملة أقولها وفي حس توجساتي، مما تركت في نفسي خوف ورعب وإصرار على قول الحق والحقيقة ومكاشفة النفس مهما كان ثمنها غالي، لكن ليس أغلى من الوطن!.
* تمتلك شركة إنتاج باسم مؤسسة بيدر الإعلامية في السويد ما هو نشاطها وما هي الأعمال التي قامت بإنتاجها؟
– مؤسسة بيدر للإعلام، مؤسسة سويدية عراقية، كان لها نشاط كبير وملحوظ في تعزيز الثقافة الوطنية العراقية ومد جسور التواصل المقطوعة مع المؤسسات الثقافية في السويد. إنها تميزت بنشاطات متفردة وملحوظة داخل أوساط الجالية العراقية والعربية من دورات إعلامية على يد أساتذة كبار شاركوا في أعدادها أمثال الإعلامي شاكر حامد والإعلامي عبد الحميد الصائح، في تخرج كوكبة لامعة من الشبيبة العراقية والعربية في مجالات الصحافة والإعلام والتقديم.
وقدمت أماسي ومحاضرات ثقافية فكرية وتوقيع إصدارات كتب جديدة لأساتذة كبار وفنانين ومثقفين على وزن الأستاذ الكبير عبد الحسين شعبان، والشاعرة الدانماركية لولا بايدل، والوزير التونسي خالد شوكات. وقامت بمهرجان ثقافي وأدبي لمدة أربعة أيام بين مسرح وسينما وموسيقى وبحضور نوعي من المثقفين وأبناء الجالية العربية. وقامت بدورات للموسيقى وتعلم اللغات ودروس تنمية للأطفال. واستضافت الدكتور حميد عبد الله ليلتقي بعدة شخصيات مهمة في الشأن السياسي العراقي لبرنامجه الشهير ”شهادة للتاريخ ”.
واستضافت نبذة من الفنانين الممثل حيدر عبد ثامر والشاعر أحمد الثرواني والمسرحي ضياء حجازي. وقدمت برنامج ”سومريون” عبر منصة زووم، استضافت به الصحفية “هبة نبيل” كوكبة من الفنانين والمثقفين العراقيين والعرب، وفي افتتاحه، كان الضيف الموسيقار الكبير “نصير شمه” !. ونظمت مؤسسة بيدر وقفة احتجاج كبيرة في ساحات مالمو تضامناً مع ثورة التشرينيين في العراق، وساهمت وما زالت بكل الفعاليات في دعم انتفاضة تشرين وقدمت مساعدات عينية ومادية إلى ثوارها من أجل ديمومتها ودعم أهدافها في القضاء على الفساد والفاسدين.
* لما أسست موقع الكتروني وما الهدف منه؟
– أسست موقع بيدر الالكتروني عام ٢٠٠٧ ، تزامناً مع تعقد الأوضاع وتشابك الأحداث في بلدي العراق، ومساهمةً مني في الاعتقاد ربما سيساهم الموقع بدور في الحفاظ على نسيج المجتمع العراقي ودرء المخاطر عنه من خلال ناصية للخطاب الوطني على أسس الوحدة الوطنية العراقية، وإدانة الاحتلال الأمريكي للعراق بكل أشكاله وكشف نواياه والدعوة إلى تضافر الجهود والمساعي في الحفاظ على وحدة وسلامة أراضيه ونبذ الطائفية وفصل الدين عن السياسة وسيادة القانون وسن دستور دائم للعراق باستفتاء شعبي يضمن سلامة الوطن والمواطن.
وطيلة السنوات التي مضت على انطلاقه ساهم في صفحاته كوكبة كبيرة من المثقفين العراقيين والعرب بشتى المواد والمواضيع التي تهدف إلى الوطنية والتحرر، بعيداً عن المساومات السياسية ومهادنة الاحتلال وأجندته، وفي اعتقادي الشخصي أوقدت ببصيص من الضوء في عتمة حالكة !.
*ما تقييمك لحال الثقافة في العراق.. وهل تتابع حركة الأدب هناك؟
– بعد احتلال العراق عام ٢٠٠٣، توفرت لي فرصة في زيارة الوطن واللقاء بالأهل والأصدقاء، وكانت الناس تعيش في غمرة فرح عارمة للتخلص من سطوة الدكتاتورية وجرائمها البغيضة، كانت سفرتي سريعة بعد غياب طويل وفراق موجع، لكني كنت أرصد حركة الناس ومحور أحاديثهم حول السياسة في المرتبة الأولى قبل الثقافة، تخوفت من أن الأيام القادمة ستكون صعبة وخسائرها فادحة وهذا ما وقع، ولم تكن عائلتي في معزل عن هذه العواصف الطائفية عندما هبت رياحها المسمومة، فقدت أخوة وأبناء أخوة وأولاد أخت وأبناء عمومة وخؤولة، مما ترك في روحي وجع كبير، ما زلت أئن منه.
وبعد أن توفرت لي فرصة ثانية في بدايات هذا العام ٢٠٢٤، كانت فرصة مناسبة ومساحة واسعة بلقاء شريحة كبيرة من العراقيين رفاق وأصدقاء وأقرباء، وكانت مناسبة أن أكون ضيفاً على إتحاد أدباء وكتاب ديالى بتقديم أمسية حول الثقافة والهجرة والكتابة في مقرها العام بمنطقة السراي القديمة، وعلى قاعة الشهيد الشاعر خليل المعاضيدي وبتقديم الشاعر والصديق إبراهيم البهرزي، وهذا بحد ذاته اعتبره تكريم كبير لي وأعتز به بين قامتين عراقيتين كبيرتين وذات مغزى كبير للثقافة العراقية الشاعر والشهيد خليل المعاضيدي والشاعر البهرزي إبراهيم.
في هذه الرحلة تحديداً اهتزت كثير من قناعاتي السابقة حول حالة الثقافة، حيث شعرت وعشت جو ثقافي وأدبي من خلال الحوارات والنقاشات ومتابعة الإصدارات والآراء الواعية في الثقافة والأدب والسياسة، مما شعرت بالزهو والفرح الغامر، أن هناك جيل جديد قادم مسلح بالعلم والثقافة رغم قتامة الوضع الحالي، هناك نافذة ضوء قد تكون بعيدة، لكنها قادمة لا محالة!.
وأنا منذ خروجي من العراق عام ١٩٨٣، لم أكن يوماً ولا حتى ساعات متوقفا عن متابعة الشأن الثقافي العراقي وأحوال البلد العامة، وهذا ديدني ورؤيتي للمستقبل وعلاقتي بوطني، ورغم الظروف الصعبة التي عشناها في المنفى قبل احتلال العراق وصعوبة التواصل مع أبناء شعبنا في الداخل لقسوة أساليب السلطة في القمع والتغييب، لكني كنت لا أضيع فرصة في متابعة شأن الثقافة والسياسة في العراق وفي ظل الحرب والحصار!.
وفي عام ١٩٨٦، عندما تسللت من الجبل إلى العاصمة بغداد لمهام حزبية مكلف بها من قيادة التنظيم، واختفيت بين أزقتها وفي بيوت الطيبين من المناضلين العراقيين ورغم خطورة الوضع آنذاك، وفي أي فرصة كانت تتوفر لي بعيدة عن يد السلطات القمعية المنتشرة في كل زنكة في ذلك الظرف العصيب والمرعب أزور بعض المكتبات المنتشرة في بغداد، وأقتني أهم الكتب والمجلات، وكنت في متابعة دائمة عبر عدة قنوات للشأن الثقافي العراقي وتطوراته أيام الحرب والدكتاتورية .
* حدثنا عن كتاب ”أوراق صفراء في الصندوق الأسود ” ؟.
– كتاب ” أوراق صفراء في صندوق الأسود ” حصرته بين عدة شخصيات عراقية وعربية وعالمية، أثرت بي ذات يوم، وشكلت شأن كبير لشعبها ولشعوب العالم، وذات دلالات رمزية، في كتابي هذا حيث حاورت بعض أبطاله وهي ميتة، حاولت استنطاقها حول أحداث جلل، كان جزء به ومنه في صناعته، مثل: ألبير كامو، مهدي ابن بركة، عبد الفتاح إسماعيل، عطشان ذيول الأيزرجاوي، عبد الرحمن القصاب، عامر عبد الله، سلام عادل، شوقي الماجري المخرج التونسي وعمله الضخم ” هدوء نسبي ”، بعد احتلال العراق.
وضم الكتاب أيضا بين جنباته عدة أحداث ووقائع التاريخية محاولاً أن أقدم قراءة جديدة حولها على ضوء معطيات جديدة وعلى سبيل المثال: ” مسرحية ” محكمة قاعة الخلد ” الشهيرة في تموز ١٩٧٩، والذي ذبح بها صدام رفاقه ٥٣ رفيقاً قربان لاعتلائه رئاسة الدولة والحزب في عمل مسرحي فاشل سيناريو وتمثيل وإخراج، وتداعيات هذا السيناريو على مستقبل العراق السياسي والوطني. وأيضا توقفت في كتابي هذا على ”جريمة بشتاشان ”، التي أرتكبها حزب الإتحاد الوطني الكردستاني بقيادة مام جلال ونوشيروان مصطفى بحق الشيوعيين العراقيين وستبقى وصمة عار في جبين التاريخ الوطني العراقي ولم تسقط بالتقادم !.
في هذا الكتاب، الذي بحت بين سطوره بتفاصيل عديدة ومتنوعة في مسيرة حياتي، والبعض منها كان مخفي بين عظام الصدر وأحشاء القلب، فوجدت لزاماً عليه البوح بها، عسى ولعل تنفع في تنبيه عقول المغفلين، هناك معلومة أود أن تعرفيه ويعرفها المتابعين، أن مكتبتي البيتية تضم بين رفاتها كل ما كتب عن تاريخ الشيوعيين العراقيين منذ تأسيس الحزب في آذار عام ١٩٣٤، وكل مذكرات قادته والتي صدرت تباعا وفي حقبات زمنية متعاقبة من تاريخ العراق، وقرأتها بتمعن وهدوء وتعاملت مع المعلومات بروح نقدية بناءة رغم حملها الكثير من الإزعاجات والاستفزازات والأوجاع والتخلي عن المسؤوليات في المواقف والمنعطفات التاريخية وترحيلها أي لصقها بجملة تبريرات غير مقنعة وأدت بنا ما عليه وضعنا اليوم لا تحمد عقباه .
كان همي الكبير في متابعة هذه السلسلة الطويلة من الأحداث التاريخية هو سبب هزيمتنا وحالنا المتشظي وموقفنا من السلطة والتحالفات وجوهر الصراعات الفكرية الداخلية والانشطارات والانشقاقات وموقفنا من الاحتلال والطائفية والفساد، لكن للأسف الشديد وأقولها بقلب موجوع ويأس وخوف لم تشكل لي تلك التبريرات في صفحات المذكرات أي قناعة لي في سبب هزيمة اليسار هي هزيمتنا!.
* كيف استطعت أن تمارس أنشطة ثقافية في السويد.. وهل وجدت صعوبات؟
– السويد بلد عجيب غريب في نظامه السياسي والضريبي ولهذا لم تكن هناك سهولة إنجاح أي مشروع ثقافي فكري بمعزل عن أجندة الدولة وخطابها السياسي. مفهوم الديمقراطية بهذا البلد فضفاض وأحيانا قريب إلى الفوضى. ذات مرة زار صحافي سويدي دولة ”كوبا ” والتقى بالزعيم الشيوعي ”فيديل كاسترو” ووجه له سؤال: في بلدي والغرب ينعتوك بالدكتاتوري، أجابه وهل في بلد مثل السويد به ديمقراطية؟.
مضى من عمري ٣٤ عاما في مملكة السويد وبحكم عملي في مجالات التجارة، أصبح لديه خزين معرفي ومعلوماتي عن سير مؤسسات الدولة في التعامل الضريبي وقوانين التصدير والاستيراد. لو كتب الله لي عمر إضافي سوف أوثق الكثير من المعلومات والحقائق والتعاملات في تجربتي بمملكة السويد !.
* هل فكرت في العودة للعراق أم ألفت الحياة في السويد؟
– فكرت وما زالت أفكر !. لكن أين المفر؟. لا وطن حنون حتى يشرع لك أبوابه بالترحاب ضمن آلية قوانين ونظام حياة يحفظ لك دورك في المجتمع وتساهم في بنائه بعيداَ عن كل الأجندات. في سفرتي الأخيرة، حاولت أن أعصر ذاكرتي وملاعب طفولتي في أزقة القرية وبيوتها وناسها، كانت محاولة لاتقاد الذاكرة، ولم تخونن رغم مرارة أربعة عقود في معرفة دلالة البيوت وساكنيها وذكرياتهم وحكايات عن الماضي.
تجولت في الطرقات التي ولدت بها وعبثت في درابينها أفتش عن ذاكرة البيوت ووجوه الناس وثمة أحلام أحن لذكراها ولم تخونن ذاكرتي في حصرها . مملكة السويد فيها أشياء مهمة للعيش الآمن وضمانات اجتماعية واقتصادية لكن تركيبة الناس والمجتمع وظروف الطقس المتقلبة على طول السنة كلها عراقيل أمام الألفة والاندماج .
أما وضع العراق بهيكله العام لا يسعد أحداً . الفساد مستشري ببنائه وبتفكير الناس. وصنع المحتل طبقة سياسية تعمل ليل ونهار من أجل تغييب وعي الناس، وهي المسئولة عن تدمير العراق منذ احتلاله عام ٢٠٠٣. ولا يمكن أن تستغني أحداً أو تعفيه من المسؤولية الأخلاقية والسياسية كأحزاب وأشخاص ومنظمات مجتمع مدني وغير مدني وتيارات مما شاركوا في العملية السياسية الطائفية وجلسوا في برلمان بول بريمر وصوتوا على دستور المحتل.
*ما هو تأثير البيئة المكان الأول على شخصيتك؟
– البيئة كانت المكون الأول في تشكيل تباشير وعيه وأحساسيه بالأشياء، إنني ولدت في عائلة فقيرة قروية أمي وأبي أميين لا يقرأون ولايكتبون ولا يجيدون صنعة تمكنهم في إعالة عائلة كبيرة، فكان العوز حول مستلزمات الحياة رغم بساطتها، لكنها كانت معاناة حقيقية، فطنت على حزن أمي الدامي وبقى معلقاً على مشجب طفولتي، كنت طفلاً أمسك أذيال عباءة أمي السوداء إلى بيوت الجيران لإقامة مراسيم العزاء للمناسبات والشعائر الدينية. ومرات عديدة يتملكني الخوف والبكاء، وأنا أرى أمي من وطأة وشدة اللطم على وجهها يغمى عليها، وفي وعيي آنذاك إنها ماتت، كانت تعذب نفسها بالألم والوجع والانتقام، عندما تعدد ”الملاية ”. حول العسكر وبريق لمعان النجمات على الأكتاف والموت، تشعر حينها إنه المقصود أخيها الضابط الشهيد خزعل السعدي، الذي قتلوه البعثيين والقوميين في إنقلابهم المشؤوم في ٨ شباط ١٩٦٣ .