9 أكتوبر، 2024 4:23 ص
Search
Close this search box.

مع كتابات.. مؤيد جودة: يوجد فنانون عراقيون أهم من الفن التشكيلي العراقي

مع كتابات.. مؤيد جودة: يوجد فنانون عراقيون أهم من الفن التشكيلي العراقي

 

خاص: حاورته- سماح عادل

“مؤيد جودة” فنان تشكيلي عراقي، ولد في بغداد عام 1974، تخرج من كلية الفنون الجميلة- جامعة بغداد، ليقيم بعد ذلك بالجزائر والمغرب، ثم ينتقل بعدها إلى بلجيكا حيث يعيش ويعمل الآن . أعماله تتوزع بين الرسم وأعمال الانستليشن والفديوارت. بدأ أعماله التركيبية في فترة مبكرة من مسيرته الفنية، عندما كان طالبا بكلية الفنون متمردا على إطار اللوحة، ليبدأ باللعب بالخامات التي كان ينتشلها من محيطه المحترق بنار الحرب، فأنتج أول أعماله التركيبية من خوذ الجنود المقتولين بالشوارع.

رغم اختلاف الأعمال والتنوع الذي يتميز به إلا أن هناك نسق وثيمة تكاد تكون كخيط يمر من خلالهم جميعا، فالموضوعات التي يشتغل عليها تنطلق دائما من الشخصي المحلي إلى العالمي الإنساني، بفكرة شمولية كالموت والحياة, علاقة الإنسان بالأرض, التلوث, الحرية, حقوق المرأة والطفولة.

أقام “مؤيد جودة” العديد من المعارض الشخصية والجماعية  داخل العراق، مرورا بالدول العربية والأوربية، حيث ما زال ينتج ويقدم أعمال جديدة وورش عمل, لعل من أهم المشاريع التي أنتجها وقدمها بالسنوات الأخيرة، والتي عرضت في أوربا، عمل (رحلة نمل- آخر سمكة بالعراق- عمل ثورة- حلم الزورق الورقي- رنين الأرض) بجانب ذلك لم يتوقف عن الرسم وانجاز اللوحات والنحت الفديو أرت وتجارب بالانميشن.

فأعماله تنقسم بين اللوحات التشكيلية واعمال الانستليشن والفديوارت، حيث قدم خلال مسيرته، وخاصة العشرين سنة الأخيرة، مشاريع قسم منها كأعمال تركيب وبأحجام كبيرة، مستخدما مواد بسيطة من البيئة المحلية لها علاقة بذاكرته الشخصية وبتراثنا المحلي كشعوب شرقية لها سحرها الخاص، كالاشتغال بالطين، وخيوط الصوف وسعف النخيل والأقمشة، وتقديمها بشكل معاصر كلغة عالمية، يعالج من خلالها إشكاليات هامة.

إلى الحوار:

(كتابات) متى بدأ شغفك بالرسم وهل وجدت الدعم ؟

  • بدأ الشغف بالرسم منذ الطفولة، أتذكر أول ما خطت يدي مربع غير منتظم وبداخله شباك صغير قبل دخولي المدرسة، اندهش جدي فاستغربت لم أفهم ما خطت يدي, بعدها نمت الموهبة مع العمر انتبه لها الأهل والمدرسة، ثم الحلم والهدف وأكاديمية الفنون.

(كتابات) أعمالك ما بين الرسم وأعمال الانستليشن والفديوارت.. حدثنا عن ذلك؟

  • منذ الطفولة بموازاة شغفي بالرسم كان هناك هوس بالخلوة والانقضاض على الأشياء شبه المعطلة، لأعطلها تماما واشرحها لأطوي أسلاكها، وأخرج محركها وأصنع شيء جديد، حب الابتكار بقي موازيا لكوني رسام حتى جاءت اللحظة الفارقة 1995 بالمعرض الطلابي المرحلة الثاني، كان معرض لوحات ونحن نصلح بالقاعة المتهرئة من سنوات الحصار، أقصد قاعة العرض الوحيدة، تجمعت المصابيح المعطلة لتشتعل في رأسي فكرة المرأة التي صنعتها من الأسلاك، التي كان مادتها الخام سرير عمي الحديدي على السطح، فالسرير شبه معطل وعمي بالجيش، لأصنع هذا الكائن، المرأة من الأسلاك برأس مصباح محترق، وأسلاك معطبة، وصدر بمصابيح كبيرة بيضاء. كان هذا الكائن يختزل حال العراق البائس بسنوات الحصار المميتة، وعندما أثار الدهشة بالنسبة للحضور والأساتذة، قلت لنفسي إذا إنها ألعاب الطفولة، فعرفت في وقت مبكر أين منطقتي التي انطلق منها، بوقت لم نسمع بالعراق عن أعمال انستليشن أو فيديوأرت.

كنا محاصرين من العالم، اكتشفت ذلك تلقائيا، ومع هروبي للجزائر والاستقرار هناك تسنى لي الاطلاع والتأكد بأني على الطريق الصحيح، وما علي إلا الاستمرار، أعمل دون قيود بمدرسة فنية، مخيلتي هي من تضع قواعد اللعبة في لوحة أو عمل تركيبي أو فيديو أو حتى أنيميشن، كما حصل في عمل WC تواليت، كان مزيج بين الرسم والفيديو والانميشن وهو عمل تركيبي.

(كتابات) في أعمالك التركيبية استخدمت مواد من بيئتك التي اكتوت بنار الحرب وكان أول أعمالك التركيبية من خوذ الجنود المقتولين بالشوارع .. احكي لنا عن ذلك؟

  • في عام 2003 عندما اجتاح الجيش الأمريكي العراق وانهار النظام، كنت قد رجعت من الجزائر إلى بغداد بعد الإقامة هناك أكثر من ثلاث سنوات، درست هناك علم الآثار ونضجت تجربتي، وخلال رحلاتي الى الجنوب الجزائري باحثا عن العراق عثرت عليه بين نخيل قرية تهودة وبيوتها الطينية حتى صوت الذباب نفسه، هناك أنجزت مجموعة “أغنية إلى عشتار” على الكرب أو قاعدة سعف النخيل، مادة العمل جزء من النخلة والحناء والطين ومفاتيح، إنه الحنين فعل فعلته بالقلب والمخيلة، كانت النخلة بالنسبة لي اختزال للعراق، أكملت المجموعة عند عودتي إلى بغداد من نخيل العراق.

وأنا في الطائرة خلال عودتي من الجزائر إلى بغداد كنت أراقب من النافذة مجهريتنا نحن البشر، نحن كالبكتريا على هذا الكوكب في هذه اللحظة، جاءت فكرة عمل “رحلة نمل” لتوقظ في داخلي لحظات، كان خدي يرضع برودة الأرض وأنا طفل أراقب حركة النمل، وما يحمل من أشياء صغيرة بيضاء، والنمل كأنه سرب من النسوة بالعباءات السوداء، باشرت بالعمل به بعد وصولي بغداد.

الوصول إلى بغداد كان على متن مزيج معقد من المشاعر وردات فعل مرتبكة، بين الفرح والاشتياق الحزن والصدمة، مشاهد جنود و دبابات أماكن مهدمة ورائحة الدخان، مثل هذه التضاربات قد تسيطر عليها مطاطية الأحلام. كان الهروب من بغداد سنة ١٩٩٩ إلى الأردن فالجزائر بسبب رعبي من الخوذة والجيش والحرب وحياة العسكر في ظل الدكتاتور، هذا الرعب كان يتوزع على كل الشباب وخاصة الحالمين، فالخوذة العسكرية تفتت الأحلام وتنخر المخيلة إنها الموت .الموت كان حاضر.. حاضر كأنه سرطان نائم والخوذ موجودة، بدأت أجمعها من المعسكرات المنهارة، من الرؤوس الباردة، امتلئ سطح البيت بالخوذ كأني أعمد نفسي من الوحش الذي أرعبني، أتأملها، واحدة مثقوبة من الأمام والأخرى من الخلف والأخرى قديمة تحمل رقم ٦٧، يبدو أنها من بداية الحرب العراقية الإيرانية، يا ترى كم من الأحلام ماتت في جوفك، كم شاب، أحلام بالخطيبة، بالسفر، بنومة قيلولة في البيت، أحلام. ماذا سأفعل بك أيتها الخوذ فأنت حبيستي في السطح، فضاء المخيلة والخلوة بالنسبة لي.

بداية عام ٢٠٠٤ التحقت بكلية الفنون التي تركتها وأنا بالمرحلة الثالثة عند  رحيلي إلى الجزائر، كان الوضع هادئا نسبيا في بغداد، كنت فرح بأجواء الكلية التي افتقدتها مرغما، ووجدت مجموعة من الشباب المتحمس للتغيير حتى في الفن، فتناغمت أفكارنا، أعجبهم ما أنجزت من أعمال مختلفة في الجزائر، وكانت الفكرة أن نقوم بمعرض يعتمد على التجريب واللعب بالخامات وخاصة من المحيط..

بين غابات القصب ورائحة الطين عند هطول المطر كنا نجمع تلك الدعاسيق الملونة بألوان الفتيات، الأحمر البرتقالي المنقط بالأسود، وتزرع البهجة في قلوبنا نحن الصغار فنغني  لها أغنية معروفة في الذاكرة الجمعية للعراقيين، تصورها كأنها فتاة بشعر طويل تجلس بقرب النهر تسرح شعرها بانتظار حبيبها نومي.. إلى آخر الأغنية بذاكرة الطفولة، برائحة الطين بالأحمر والبرتقالي ساطلي لون الموت، وتتحول الخوذ إلى دعاسيق كبيرة لها جدائل طويلة تنساب وتتسلق منطقة خضراء على الجدار، عرضت هذا العمل بجانب “رحلة نمل” في بدايته ومجموعة “أغنية إلى عشتار” مع أعمال الشباب التي كانت تتسم بالجراءة والرغبة بالتغيير.

(كتابات) هل لديك رؤية ورسالة تجمع إنتاجك الفني على تنوعه واختلافه؟

  • في أغلب المشاريع التي قدمتها انطلق من الشخصي المحلي إلى الإنساني الفكرة الشاملة الموت والحياة، الحرية، علاقة الإنسان بالأرض، الحرب، الطفولة، التلوث، الجفاف، أغوص كثيرا لأيام الطفولة أغرف منها ما أشاء، أتأثر بالمتغيرات من حولي، تسبح المكونات في مخيلتي، ترقص وتتفاعل فيتشكل العمل، أغلب المواد التي استخدمها مواد بسيطة من البيئة، كسعف النخيل والطين الحناء الماء وخيوط الصوف وأحيانا البيض وحتى أسماك حية كما في عمل “حلم الزورق الورقي”.

(كتابات) من أهم المشاريع التي أنتجتها بالسنوات الأخيرة والتي عرضت في أوربا عمل (رحلة نمل- آخر سمكة بالعراق- عمل ثورة- حلم الزورق الورقي- رنين الأرض) نريد أن نتعرف على هذه المشاريع؟

  • ٢٠٠٤ كانت هادئة، أنجزت أعمالي وعرضت في بغداد وفي مدينة سليمانية حتى جاء عام الرعب واستيقظ سرطان الموت النائم. ٢٠٠٥عام الرعب، الموت في كل مكان، في حقيبة طفل، في سيارة واقفة، في البيت، في السوق، الموت قد يكون جارك تصادفه بالشارع، فقدت أعز أصدقائي، تركت العراق منكسر الروح، تركت كل شيء ورحلت مع النمل إلى المغرب، بقيت ثلاث سنوات ونصف، عشت بمدينة مراكش، تأثرت بألوانها بالجبال بالصحراء بعيدا عن مدن الموت، بعد الطمأنينة تكاثرت نملاتي وأصبح العمل أكبر وأجريت عليه تحولات، كانت انعكاس للرعب الذي بقي عالق بذاكرتي، أنتجت الكثير من اللوحات، كنت بحاجة للتلوين.

أقمت العديد من العروض، لكن بعض المشاريع حبيسة في رأسي مثل مشروع عمل مرافق عامة wc، فقد كان من الصعب تنفيذه بالدول العربية بسبب التمويل وبسبب جرأة الطرح، فبقي مؤجل في رفوف الرأس. حصلت على دعوة لعرض أعمالي في ألمانيا، عرضت بأكثر من مدينة لانتقل بعدها إلى بلجيكا، حيث استقريت، وعملت بمؤسسة موسم الثقافية، حصلت على فضاء مناسب للعمل، كذلك حصلت على التمويل اللازم لإنتاج مشاريع كبيرة، وأنجزت wc, و”آخر سمكة بالعراق”، أنجزت “حلم الزورق الورقي”، بعد ذلك كان العمل الأكبر “رنين الأرض” استمر العمل به سنتين تقريبا، كان علي إنجاز ٢٥ماكنة بأحجام مختلفة كمضخات البترول التقليدية، عرض العمل لأول مرة في مدينة بروج، وبعد ذلك مدينة انتويربن البلجيكية.

(كتابات) ما تقييمك لحال الفن التشكيلي في العراق؟

  • من اللبوة الجريحة ومشاهد الصيد عند الآشوريين، والتعبيرية العالية بعيون المتعبدين البابليين والسومريين وهذه الدراماتيكية العالية في النحت العراقي القديم، مرورا بمخطوطات الواسطي هذا الخزين المتراكم، من البديهي أن ينتج تشكيل يرتقي بالعمق الحضاري والإرث المحلي المتنوع، إذا كان العراق معروف بالأدب والشعر خاصة على المستوى العربي، فهو يمتلك سمعه لا بأس بها على المستوى العالمي بالفن التشكيلي.

كان جيل الرواد ربما يعتبره البعض العصر الذهبي من منتصف الخمسينات وحتى السبعينات بل حتى الثمانينات، باعتقادي رغم الحرب العراقية الإيرانية، ومحاولة النظام لأدلجة كل مشارب الثقافة، إلا أن النتاج التشكيلي كانت له ملامحه، وهي امتداد لما أسس له جيل الرواد، ومحاولتهم لبلورة فن تشكيلي عراقي، ومن هذه الجملة أسأل هل هناك شيء اسمه فن تشكيلي فرنسي وفن تشكيلي إسباني أو هولندي، أم هناك مدارس فنية وحركات وأسماء لفنانين معروفين ولدوا في دول وأنتجوا في دول أوربية أخرى.

لا أعرف إلى أي مدى نجح الرواد ومن تلاهم في هذه المهمة، إنتاج فن تشكيلي عراقي، باعتقادي المتواضع كان نوع من التكبيل للمخيلة بترسيخ بعض الأعراف المتوارثة، التي لا تترك مساحة كبيرة للمغامرة والتمرد، باستثناء بعض النتاجات كأعمال “صالح القرغلي” على سبيل المثال، وما زاد الطين بلة عندما خيم الحصار وجثم على رؤوسنا فترة التسعينات، التي كانت مرحلة انهيار القيم وتهديم الإنسان بامتياز، ماذا يفعل الفن في مجتمع منهك ومنهار، العوز والعزلة الثقافية واحدة من مجسات الحصار التي التفت حول الفنانين، أعمال مكررة أغلبها تنتج لغاية تسويقية، سيطر التسويق على حساب رقي المنجز.

الآن كم كبير من اللوحات الجميلة المتشابهة، ما أنجز لا يتناسب مع عمق المتغيرات التي هزت الواقع العراقي، لكن هناك أسماء عراقية حتى من الشباب بداخل العراق وخارجه تقدم أعمال تستحق الانحناء لها، يوجد فنانون عراقيون أهم من الفن التشكيلي العراقي هذه وجهة نظر متواضعة  وانطباع شخصي.

(كتابات) هل تشعر بالحنين إلى الوطن وكيف يظهر ذلك في إنتاجك الفني؟

  • عشت بالجزائر وأثرت بي وشعرت بالانتماء، عشت بالمغرب وذبت بها وما زالت تسحرني، وأنا أعيش في بلجيكا وانتمي إليها، أحمل جنسيتها وهي بلدي الآن وبلد أطفالي، لكن العراق هو أمي، كل نساء الدنيا هم أخريات وكل البلدان مهما انتمينا إليها تبقى بديلة، وهناك شعور ملازم لكل الأماكن أنها محطات حتى توزع العمر بين المحطات. والحنين كجمرة راكدة في القاع البعيد من القلب ما أن تضربها رياح الغربة حتى يتوجر القلب ويشتعل شوقا لكل شيء، سنوات الطفولة، النخيل، رائحة الطين والمطر، أصوات الجيران، وحتى الذباب افتقده أحيانا. كيف يخرج ذلك في أعمالي؟.. لا أعلم.

(كتابات) كيف يستقبل الأوربيون أعمالك وهل يرضيك رد فعلهم؟

  • رغم اختلاف العروض في أوربا وتنوع الأساليب إلا أن عين المتلقي الأوربي عين خبيرة مدربة على الجمال، الفن والتنسيق الجمالي يبدأ مع الأطفال كتربية وسلوك، وينتشر بالمحيط من الحدائق والمتنزهات، الشوارع والعروض الفنية، مهرجانات الشوارع، الفن للجميع جزء من الحياة، لذلك عندما أراهم يندهشون من العروض التي قدمتها أسأل يا ترى ما السر الذي يجذبهم ويفجر كل ذلك الفضول، يفهم للتعرف على الكامن في العمل كأنه لغة أخرى تترجم لهم العالم البعيد، لغة جمالية تختلف عن لغة الأخبار والتلفزيون التي تعودوها، يأتيني جمهور ذواق فضولي متفاعل مشجع وما أجملها لحظة اللقاء مع الجمهور.

(كتابات) هل واجهتك صعوبات وما هو جديدك؟

  • هل واجهتني صعوبات، اعتقد لا يوجد عراقي حياته خالية من الصعوبات، بل أعمق من الصعوبات، إنه الخطر وعدم الأمان، نجوت من كل هذا، الآن لدي صعوبات من نوع آخر مثلا الموازنة الصعبة بين هواياتي المجنونة والفن والأولاد وعملي، الترحال، الوقت والإيقاع الزمني الممتد كخطوط الرمال بالصحراء هو ما افتقده، إيقاع رجل يتكئ بمقهى عتيق يتأمل المارة ويسمع أم كلثوم، نعم إيقاع الحياة السريع صعوبة وضغط. غياب الشمس واختباءها خلف السحب الرمادية أكبر صعوبة، إذا اقتلعنا نخلة من جذورها ومن جوها المشمس وزرعناها ببلاد البرد ستعيش ولكن بصعوبة.
  • جديدي مشروع اسمه “رحلة الزورق الورقي” بدأ بلوحات ولا أعرف أين سينتهي.

 

 

 

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة