19 ديسمبر، 2024 3:48 م

مع كتابات..”كاملة صيداوي”: المرأة الحكاءة امرأة ذكية سريعة البديهة والتفاصيل صنعتها

مع كتابات..”كاملة صيداوي”: المرأة الحكاءة امرأة ذكية سريعة البديهة والتفاصيل صنعتها

خاص: حاورتها- سماح عادل

“كاملة صيداوي” كاتبة وروائية فلسطينية، أصدرت ثلاث روايات.

كان لي معها هذا الحوار الشيق:
* في روايتك “حروب وأحمر شفاه” ما سر تمسكك بالحس الإيجابي حتى حين الحكي عن المآسي؟
– إن أفضل ما يمكن أن يقدمه الكاتب في هذه المرحلة العصيبة يمر بها شعبنا العربي عمومًا والفلسطيني على وجه الخصوص هو بث روح التفاؤل رغم ضبابية الصورة وسوداويتها في أغلب الأحيان، لطالما قلت أنني من جيل جاء للحياة وورث كل الخسارات والهزائم ولكن هل معنى ذلك أن نيأس!! فكرة الحياة بالعموم ليست دائمًا سهلة وميسرة الحياة تحدي.
وجودك على هذا الكوكب وبقائك قيد كل مظاهر الحياة أكبر امتحان لذا أظن ولأن الكتابة ستبقى عملًا إنسانيًّا بالدرجة الأولى بدأ عندما حاول الإنسان القديم تدوين يومياته على حائط الكهف يعيش فيه ليخبر من هم بعده بشيء أي شيء !!
كثيرًا ما أفكر أنه لولا الحكي لعانت البشرية أضعاف أضعاف معاناتها، الكتابة بصورتها البدائية ظلت مؤثرة وفاعلة فما بالك اليوم في عصرنا هذا أصبحت عملية التلقي لكل أنواع الكتابة سهلة وميسرة طالما هناك محفز ورغبة للانكشاف والتعاطي !!.
التفاؤل المدروس يبثه أي إنسان وليس شرط الكاتب فقط هو بمثابة نافذة موجودة أصلًا ولكن كل ما عليك أن تفتحها، بقي فقط مسألة صياغة الفكرة بشكل يتماهى مع عقلية القارئ أي قارئ سواء أكان يعيش في خيمة في صحراء أو شقة في شارع مزدحم في إحدى المدن..
ولنعد لروايتي “حروب وأحمر شفاه” نعم في هذه الرواية وعلى مدى النص كان التفاؤل جوًا عامًا للرواية، ولكن لنتفق أن للمجموعات الصغيرة في أي مجتمع خصوصيتها، فالمجتمع اليافاوي عبر التاريخ كان مجتمعًا منفتحًا متداخلًا فمن الطبيعي أن يتقدم على باقي المجموعات بالأداء والتعاطي، وقد كان ذلك واضحًا من خلال ردات فعل الشخصيات في الرواية الرئيسية منها والغير رئيسية، بدءًا من الحملة الفرنسية حتى النكبة وما بعدها. لا أريد أن أحرق للقارئ متعة الانكشاف الخاصة به ولكن على مر العصور كانت مدن البحر عرضة للكثير من الأحداث ما زلنا نكتشفها حتى يومنا هذا وجزء من موروثنا الفلسطيني جاء من هناك.
سبب آخر ربما جعل التفاؤل والأمل حيزًا عامًا للرواية هو كون الاحتلال والاستهداف من الخارج معطًى كان دائم الحضور على مر العصور لبلادنا، لذا هذه الشخصيات متمرسة ببث روح المقاومة والعمل ضد المحتل بآليات وأساليب مختلفة ومتنوعة على مر الأجيال..
ولكن لنشدد أن الكاتب ملزم بنقل الصورة بشكل واقعي لكي لا يوهم القارئ بوعي مزيف، وأنا شخصيًا رغم تحيزي لفكرة الأمل والتفاؤل لم ألغ ولم أغيب باقي الظروف والحيثيات للمشهد المركب في النص والذي كان في بعض الأحيان سريالي غريب هجين ولكنه حقيقي وواقعي.
الإيجابية المسئولة قادرة على بناء جسور بين الأفكار والممارسة لذا ككاتبة تنويرية أحاول بث روح التفاؤل في نفس القارئ حتى لو كان هذا القارئ يائس من أتفه الأسباب، فكرة أن الكاتب يحكي عن أشياء متفاوتة في أهميتها يطمئن المتلقي ويجعله سلس أكثر في عملية استساغة النص فهو بالمحصلة يريد نورًا آخر النفق. يريد كاتبًا هو بالمحصلة بشر عادي يربت على كتفه ويشجعه حتى لو استطاع فتح علبة تونة !!
التفاؤل مناخ للأفكار العظيمة قادرة أن تحدث تغييرًا جذريًا في المجتمعات الإنسانية حتى ولو بعد حين، هذا على الأقل منظوري المتواضع أؤمن به.
* في روايتك “حروب وأحمر شفاه” كانت شخصيات النساء قوية، جميلة، ساحرة، متعلمة وذكية، هل هذه الشخصيات أبدع فيها الخيال بحيث أنه أبعدها عن ما يدور في الواقع؟
– كما قلت سابقًا المجتمع اليافاوي كان سابقًا للمجتمعات الفلسطينية بأشواط وذلك لعدة اعتبارات منها تاريخية وسياسية وثقافية، وكل هذه الظروف أثرت على المجتمع النسائي في يافا وساهمت في تفرده لذلك أنا لم أخترع فكرة التمدن والتحضر، وبالتالي الشخصيات النسائية فعلًا كانت مميزة شكلًا وحضورًا، نحن نحكي عن مدينة بحر أولًا وعن عاصمة ثقافية لفلسطين، مدينة كانت سابقة حتى لعواصم عربية، فيها مسارح مطابع دور نشر دور سينما كل هذه الامتيازات ضمنًا، جعلت نساء يافا طبقة مختلفة ومغايرة!! لا الشخصيات النسائية لم تكن وليدة خيال بل على العكس هي شخصيات واقعية وحقيقية مثلت الحضور النسائي بكل تفاصيله على مر العصور والأزمنة في هذه المدينة .
المرأة اليافاوية كانت جريئة قوية متداخلة وموروثنا مليء بالقصص الحقيقية ولكن هي الفكرة السائدة عمومًا أن النساء كن الطرف غير الفاعل، فمثلًا أول جمعية خيرية أسست لجمع التبرعات للمناضلين والثوار أسست في يافا وعلى يد نساء، حركة مقاومة فدائية أيضًا أسست على يد نساء وغيرها من الاستثناءات الكثيرة وجميعها موثقة.
المجتمعات المتمدنة في معظم حالاتها الخاصة ارتقت بكل أطيافها ومجموعاتها وخصوصًا النساء، فنحن نتكلم عن مجتمع سمح لنسائه بالتعلم وهو أمر في غاية الأهمية مجتمع لم يختزل المرأة ولم يغيبها حتى في حمل السلاح.
لنتفق أن مسألة ازدحام الرواية بشخصيات نسائية هو أمر طبيعي فعلى مر العصور الحكي وخصوصًا في بر الشام كان مهمة النساء فهن بارعات وجدًا في سرد الحكايا لا يهملن صغيرة ولا كبيرة!! والمرأة الحكاءة امرأة ذكية سريعة البديهة والتفاصيل صنعتها وذلك لخصوصية نشأتها فهي منذ كانت طفلة كانت تنام على ترويدة جدتها تحكي فيها عمن غابوا وذهبوا شمالًا ولم يرجعوا أو عمن أعدموا أو عمن ركبوا البحر ولم يعودوا. لذلك فإن مخزونها العاطفي السمعي غني ومتنوع وقد انعكس ذلك على روايتنا الفلسطينية بشكل رهيب!
حتى المستوى الآخر من المجتمع اليافاوي ففي قراها كانت النساء متمدنات فقد حصلن التعليم وأغلبهن قرأن وكتبن!! كما قلت سابقًا يافا وقراها كانت حالة متفردة، وأضيف على ذلك مسألة الانفتاح سببها وجود طبقة من المتعلمين والمتنورين تلقوا تعليمهم في الخارج فجاءوا بأفكار تنويرية علمانية لم تقص المرأة أصلًا كانت لديها الجاهزية لمثل هذه التطورات!! والدليل حركة الترجمة نشطت في المدينة وخصوصًا الروسية فالأرشيف اليافاوي ذاخر ومليء بالحضور النسائي الفاعل على كل المستويات.
وحتى يومنا هذا ما زالت المرأة اليافاوية فاعلة ونشيطة ولها حضورها المميز، فأنا أؤمن بفكرة أن الإنسان بمفهومه البسيط البدائي غير المغلف بنظريات متفلسفة ومتجملة ضمنًا سيحافظ على بعض ممارسات من ربوه، فمن تعلمت السباحة في البحر سنوات عمرها الأربعة الأولى امرأة قوية وقس على ذلك..
المرأة الفلسطينية تدرك منذ لحظات وعيها الأولى أن مسألة بقاء العائلة والحفاظ على البيت والأبناء هي مهامها، لذلك هي قوية وجدًا والدليل أننا ما زلنا موجودين على هذه الأرض .
* في روايتك “حروب وأحمر الشفاه” هل كنتي تودين القول أن يافا باقية رغم كل شيء؟
– لنقل أنني أردت أن أحكي من خلال مدينة اختزلت الحكايا كلها فيها وهو أمر جيد فالقارئ ومن خلال المشهدية حاولت رسمها واستحضارها من خلال النص سيبقى قيد اسم واحد ولكن العالم كله كان حاضرًا فيها، ف”يافا” مدينة غير عادية وقد حاولت رصد تاريخها ثقافتها مجتمعها الواصل لأعلى درجات المدنِيَّة لأشدد على أننا شعب له تاريخه ووجوده على الخارطة الإنسانية، بل له وقعه وحضوره المميز يحاولون إنكاره وطمسه كنت أكتب بعقلية لا تغيب فكرة أن القارئ ملّ النصوص التقليدية والروايات جوها العام البكاء والنحيب!!
خلال النص في “حروب وأحمر شفاه” كنت كمن يمشي على حبل رفيع، اللغة، الجو العام، الشخصيات، حتى سرد التاريخ. حاولت أن أنقله بطريقة سلسة سهلة تبقي القارئ قيد تلك الفترة لقبل النكبة لأضيء على ما جاء بعدها!! من خلال قصص وحواديت ومغامرات شخصية لأبطال وبطلات روايتي .
ففكرة أن الحكاية انتهت حسب النوستالجيا والذاكرة الجمعية الفلسطينية عند عام ٤٨ فكرة سائدة ولها ظلالها على الشعب الفلسطيني أولًا، سواء أكان داخل فلسطين التاريخية أو خارجها وهو أمر يحتاج لدراسة معمقة والجدل فيها ما زال قيد انشغال وعمل. والطامة الكبرى أننا نقلنا تلك الفكرة لغير الفلسطينيين!! لذلك كان مهمًا لي كفلسطينية أولًا أن أنقل صورة لمدينة ومجتمع فلسطيني كيافا لأناقش هذه الجزئية، وبأن تاريخنا لا يمكن اختزاله فقط ضمن هذه الجزئية، وأحيانًا الراوي يجب أن يكون كالمصور الجيد ويختار الزاوية الأفضل من خلالها يحكي حكايته لتكون الصورة واضحة!!
يافا كانت كود وشفرة ملائمة لنص يحكي قصة صمود المدن وإصرار أناسها على البقاء قيد حكاية وأرض، لكي لا تنطفئ شعلة الأوطان مهما مرها من عابرين وعابثين سيبقون هم أصحاب الأرض، فالنص نصهم والحكاية حكايتهم وغيرهم دخيل لا أساس له، ولكن بلغة ومنطق حداثي يلائم هذا الزمن والوقت ويحاكي نفس الظروف والهموم يواجهها القارئ ليجعل مهمة استساغة النص أسهل.
* لما اتجهت إلى الكتابة وهل وجدت الدعم من الأسرة؟
– أنا شخص بطبيعتي لا أقف في مساحة معينة أحب التنقل بين الأفكار أحب التداخل والتعلم والإطلاع المستمر، أحب الانكشاف على الأشياء بمفهومها العميق!! لذلك أظنني وجدت كل هذه الميزات في الكتابة وكنت أضيف أنني شخص يعيد صياغة تجربته الإنسانية وعلى كل الأصعدة بشكل دوري لكي أبقى لكي أشفى لكي أكون!!
الكتابة بمنظوري أعلى درجات الوعي لذلك أشعر بنوع من المسئولية، فأنا في الأساس معلمة، ومن الخلاص كلما كتبت نصًا!! عندما كنت طفلة كنت استغرب من جدي كيف أنه بقي على ذلك القدر من الاتزان من الشغف من الحكمة فأيقنت أنها الكتابة!! لذلك أظن أنني أردت أن أبقى قيد تماس مع جدي أولًا وقيد كل ظواهر الحياة!! فنحن لا نعيش أفضل أيامنا ولا أفضل حالاتنا وكذب إذا ادعينا ذلك.
لذلك كان لزامًا لمن هي مثلي أن تكتب، وأن تتجرأ وتفتح تلك الأبواب المغلقة وأن تطأ تلك المساحات التي نظل ندور حولها ولا نقدم عليها!! المثير أننا في الكتابة نستوعب من اللحظة الأولى أن كل الأمور بداخلنا نحن وأن محيطنا حجة أو ترس أو حتى حاجز وهمي اخترعناه لنبرر كسلنا حياديتنا برودنا، الكتابة تجعلك لا تقبل بأن تظل ثابت هي تدعوك للحركة. الكتابة تمقت الحياد والعدمية، وأحيانًا تنجرف معها فلا تعود ترضيك أنصاف الحلول ولكن ذلك لا يمنعك بأن تبقى قيد منطق يشابه ظروف الكتابة نفسها لكي تعود.
أكاد أجزم لو أنني طلبت من أبي أن أنشر روايتي لباع ما يملك وكذلك أمي!! وجدي لأنني تربيت في بيئة حاضنة وداعمة محبة لكل أنواع الإبداع.. كان أبي يسافر لمدة ساعتين للمدن المجاورة ليحصل ويشتري لي الكتب التي أطلبها منه.
لا أستطيع القول أنني واجهت اعتراضًا من أي نوع لأن أكتب بل على العكس كنت وما زلت من المحظوظات ككاتبة بأنني تربيت في بيئة الكتاب متواجد وحاضر والنقاش حول الكتاب كان دائمًا متواجد.
حتى عندما تزوجت وقررت بعد فترة ترك الوظيفة والتفرغ للكتابة لاحقًا كان شريكي وزوجي أول المشجعين لي، إجمالا نحن الكاتبات في فلسطين التاريخية وداخل الخط الأخضر حظينا بعائلات وأهل لم يعارضوا مشروعنا الأدبي بل على العكس!!
* هل واجهتك صعوبات في النشر وماهي هذه الصعوبات؟
– طبعًا أنا ككل الكتاب في بداياتهم واجهت مشاكل وصعوبات في النشر، ولنكن واقعيين ما زلنا ككتاب عرب للآن نواجه وسنواجه مشاكل في النشر وتبني انتاجاتنا، حتى لو قطعنا شوطًا كبيرًا في الكتابة. فنحن لا نملك دور نشر على قدر كاف من الفاعلية والمهنية لنشر أعمالنا وتوزيعها كما يجب لعدة أسباب وظروف تحتاج لمقال خاص للتسليط على هذه المسألة !! ولنعد لمسألة أزمة الكتاب الورقي في العالم العربي وهي مسألة في غاية الأهمية والسبب الرئيسي لقلة التوزيع. وكنت أضيف أزمة الكورونا تزامنت مع طباعة رواياتي الطبعة الأولى ولكن الحمد لله عوضتها في الطبعة الثانية.
أما عن وضعنا ككتاب محليين ومشاكلنا في النشر فالأمر لا يختلف كثيرًا عن باقي الكتاب في العالم العربي وحتى الغربي، مع زيادة في العقبات يفرضها الواقع الأمني والسياسي في بعض الحالات، إضافة لحيثيات النشر ! إذ لا توجد مؤسسة ثقافية رسمية تدعم عملنا ومشروعنا الثقافي رغم أهمية هذا الحيز لنا ولوجودنا واستمراريتنا، هنا قلما توفرت دور نشر تدعم الأعمال المحلية للكتاب الشباب والكتاب المحليين، وهو أمر محبط لذا يجب أن نجمع جهودنا لإنشاء مؤسسة ثقافية تعنى بالثقافة والنشر والتوزيع ومشروع كهذا يحتاج ميزانيات وكوادر مؤهلة لنساهم في إيصال نتاجاتنا المحلية الفلسطينية للمكانة التي تستحقها.
* ما تقييمك لحال الثقافة في فلسطين وهل يدعم الكاتبات؟
– كنت أصف المشهد الثقافي الفلسطيني بالمجمل أنه بخير رغم كل الظروف، هناك زخم في الإنتاج في العقدين الأخيرين وخصوصًا داخل الخط الأخضر والحركة الثقافية نشطة جدًا، ولكن هذا لا يعني أننا حققنا جميع الأهداف نصبو إليها، ما زال أمامنا الكثير لننجزه. على سبيل المثال مشروع الترجمة وإيصال نتاجاتنا للعالم الغربي قبل العربي، وهو مشروع وطني بامتياز ويجب أن نعمل عليه بجدية. إقامة معارض كتب بشكل دوري وتنشيط الحركة الأدبية من خلال تظاهرات ومؤتمرات وندوات ونشاطات دورية.
أما عن وضع الكاتبات فهو لا يختلف كثيرًا عن وضع الكتاب الرجال في المسائل التقنية، فدور النشر لم تعد تزكي عملًا لأن كاتبه رجل!! بل أحيانًا نرى أن غالبية الأعمال نشرت ولفترات متواصلة لكاتبات، إذًا الأمر نسبي ولا علاقة له بكاتب أو كاتبة، ولنكن صريحين لا يوجد دار نشر نشرت لكاتب بالمجان!! جميعهم تحملوا أعباء نفقات ومصاريف الطباعة والنشر وهو أمر مكلف!!.
نحن ككتاب لا فرق بيننا في سيرورة العمل على النتاج الأدبي منذ أن كان مجرد مسودة، لأن أصبح عملًا مطبوعًا ومنشورًا إلا في بعض الحالات النادرة. بل على العكس أحيانا كان هناك تحيز لنتاجات نسوية لعدة اعتبارات آنية فرضها الواقع الاجتماعي والمناخ الثقافي والسياسي!! فالمرأة الكاتبة لها تفردها في النص وبعض دور النشر تعي وتقدر هذه الميزة، وأعزي ذلك لخصوصية كتاباتنا كفلسطينيات على مر عقود وارتباط نتاجاتنا بالقضية والهم الخاص بنا كشعب فلسطيني قبل العام!!.
حتى في وقتنا هذا يصبو فيه الجميع لنص روائي حداثي يلائم التغييرات الجذرية حصلت في المجتمعات العربية وفي المجتمع الفلسطيني بعد أوسلو، وما رافقه من تغييرات مفصلية ألقت بظلالها بشكل قوي، كانت النصوص النسائية خيارًا ممتازًا ولكن هذا لم يعطها أي ميزة على صعيد النشر والتوزيع وهو أمر غير منصف لجميع الكتاب رجال كانوا أو نساء!!
أما عن مسألة التقبل للأدب الذي تكتبه النساء فهو أمر أصبح محتومًا رغم الاختلاف بين الفريقين تفكيرًا وأسلوبًا، وهو أمر نؤكده نحن الكاتبات أنفسنا ولا ننكره، ولو رجعنا لجميع النظريات النفسية والفلسفية والاجتماعية وحتى الدينية لوجدناها لا تذهب بعيدًا عن هذا الطرح ولكن لنشدد في التفكير والنشأة!! وأنه رغم الاختلاف لا يوجد تراتبية معينة تزكي أو تفضل أدبًا على آخر لأن الإبداع سيبقى إبداع بغض النظر عن كاتبه!!..
* هل توجد اختلافات بين الكتابة لدى النساء وبين الكتابة لدى الرجال في رأيك، وما هي ملامح هذه الاختلافات؟
– أكيد كما ذكرت سابقًا أن الاختلاف موجود ضمنًا فالأدب بتعريفه العام عمل وعطاء إنساني، ولكن هذا لا يلغي فكرة الخصوصية لدى كلا الفريقين، ولكي أوضح هذه النقطة أكثر يجب أن نتفق على مسألة أن الأدب هو حصيلة آفاق ورؤى إبداعية، ومن قبلها تجارب حياتية إذًا هل نستطيع أن نلغي خصوصية المرأة أو الرجل؟! هنا السؤال!! هل نستطيع أن نجزم أن لكلا الفريقين نفس الآفاق والاهتمامات مثلًا!! طبعاً لا.
نقطة أخرى كانت وما زالت سببًا رئيسيًا في هذه الفروقات والاختلافات هي مسألة الجمال والتعاطي معه من قبل الفريقين. مسألة التذوق الإحساس والحكم.
المرأة نظرتها للجمال مجزأة أما الرجل فهو عكسها تمامًا فهو يحكم على الأشياء بشكل عام. المرأة تستسيغ وتستقبل الجمال بعينها أما الرجل فبوجدانه. إذا هذه الخصوصيات البيولوجية والنفسية والحياتية ترجمت بشكل واضح وجلي من خلال النصوص الأدبية كالشعر والقصة القصيرة .
أما في الرواية فالاختلافات بشكل خاص تكمن في أن معظم النساء كن وما زلن يكتبن عن تجاربهن الخاصة، فهن بغالبيتهن لم يستطعن تجاوز حدود هويتهن والعمل على تكوين منظور خاص بهن إلا قلة قليلة، وتكوين هوية مستقلة بعيدًا عن عالم الرجل تمكنها من وضع بصمة خاصة بها. قليلات من كتبن عن الحياة بنظرة شمولية غير محدودة ومقيدة بتجربتها الفردية لذا يجب أن تدرك المرأة الكاتبة أنه مهما كانت حياتها غنية ومتنوعة يبقى العالم المحيط بها أكثر تنوعًا، لذلك يجب أن تتواصل أكثر وألا تبقى رهينة مشاعرها وتجاربها الخاصة.
إن تفاعل المرأة وإشكاله أيضَا عامل أساسي في هذه الفروقات، فالمرأة غارقة في مشاعرها الخاصة لن تكون بذلك القرب من القراء ذكورًا وإناث، .يجب على المرأة الكاتبة أن تدرك أن التفاعل في الأدب لا يقل أهمية عن التفاعل من أجل التعلم أو العمل وتحقيق الذات ..
لا نستطيع أن نتجاهل فكرة أن الرجل يكتب عن الحقائق، عن المعاني، بينما المرأة تصفها وتصف تجربتها هي معها، الرجل دائمًا يحاول استكشاف حياة جديدة مفاهيم ومضامين تضفي على تجربته، بينما المرأة مترددة خائفة تكبلها مسئولياتها الكثيرة اتجاه من هم حولها ونصبت نفسها مسئولة عنهم.
ولكن لو دققنا في مسألة الحداثة للرواية العربية على وجه العموم وخصوصًا في العقود الأخيرة، لرأينا أن هناك تطور نوعي في النصوص كتبتها النساء!! وأن كل التغييرات حدثت ضمن سياق تجربتها الفردية والمكتسبات حصلتها على مدار عقود، ناضلت من أجلها كالتعلم والعمل والمشاركة كان أثرها واضحًا وجليًا في النص.
إذا بالمحصلة ورغم كل تلك الفروقات يسعى الفريقان لإرساء العمل الأدبي لنطاق شمولي واسع يستقطب الجميع فالكاتب الجيد هو من يدرك جيدًا كيف يصوغ فكرته ورؤيته، فنحن نعيش في زمن سريع الإيقاع في كل ثانية يحدث فيها تغيير كل شيء أصبح متحرك وأظن أن الأدب واجب عليه أن يتماهى مع هذه الحركة، لذلك واجب على الكتاب على كل تصنيفاتهم أن يتنازلوا لصالح النص ليجتمع حوله أكبر عدد من المتلقين من القراء!!
* ماهو رأيك في مصطلح “الأدب النسوي” وهل تسعين في أدبك إلى الدفاع عن قضايا المرأة وحقوقها وكشف التمييز الواقع على المرأة في المجتمع؟
– أنا شخصيًّا لا أحب هذه التصنيفات “أدب نسائي” إذا كان المقصود منه تسمية نتاجات لنساء سواء شاعرات روائيات قاصات بينما إذا كان يُعنى بالمرأة وقضاياها فهو أمر جيد!! سواء أكان كاتبه رجلًا أو امرأة..
فأنا لست من هواة التصنيفات من شأنها أن تقصي وتباعد وتهمش بدلًا من أن تقارب وجهات النظر، وتضع نتاجات النساء ضمنًا في مكانة أقل لتلك يكتبها من غير النساء!!
لنتفق أن للمجتمع الفلسطيني خصوصيته وهمومه ومشاكله وواقعه المعقد وأن فعل الظلم والإجحاف تعاني منه كل أطياف المجتمع وليس المرأة فقط، وأنا كفرد من هذا المجتمع متجردة من كل وصف واعتبار خارج النص لا أفرق عن أي شخص وفرد من أبنائه، لذا أسعى من خلال مشروعي الكتابي التنويري أن أسلط الضوء على قضايا مجتمعي بكل جوانبه ومن ضمنها قضايا المرأة.
ولكني أشدد أنني أرفض معاملة المرأة على أنها مواطنة درجة ثانية بل على العكس من يقرأ رواياتي سيدرك أن المرأة الفلسطينية شريكة وطن ونضال، كانت وما زالت من أقوى النساء وأجرأها وأكثرهن وعيًا وعطاءًا وفاعلية ومشاركة، وأن تفانيها واستمرارها في هذا النضال لم ترتح منه منذ أكثر من خمسة سبعين سنة، نابع من منطلق تراكمات وتداعيات لنساء كن قبلها وأبلين بلاءًا حسنًا بنين البيوت وربين الأبناء وعلمن البنات وحافظن على الأسرة رغم شراسة الظروف. المرأة في فلسطين منذ العصور القديمة وحتى في الصور البدائية للمجتمع الكنعاني لم تكن ضعيفة ومستهدفة بل على العكس كانت قوية ومنتجة ومعطاءة.
ولكن إذا أردنا أن نرصد واقعها اليوم فهو واقع معقد وصعب ويتطلب جهدًا مضاعفًا للرجل والمرأة على حد سواء داخل الخط الأخضر أو في نطاق السلطة فهي ليست أفضل أيامهم، المرأة بطبيعتها يشكل الآمان لها مظهر حياة أساسي لكي تستقر وتبدع وتعطي وتساهم وهو أمر مفقود والأمان نابع من شريك كالوطن هو أيضًا يشعر بالأمان فيحب ويدعم.
ومن منطلق الشفافية يجب أن نشدد أن لكل مكان في فلسطين حكاياته وصراعاته ومشاكله وهمومه الكبيرة والصغيرة العامة والخاصة، ولكن وعلى مدى كل العصور كنا ننجو على ظهور نساء قويات متميزات عوضن كل ما فقد من وطن وبيوت وعائلة وغيرها من أمور حياتية !! النساء في فلسطين رغم كل التحديات دائمًا صمدن ونجون لهن قدرة خارقة على القتال على كل الجبهات وفي أغلب الأحيان بلون بلاءًا حسنًا.
أنا أكتب عن هموم المرأة بأسلوب سلس غير معقد بطريقة أقارب بين همها وهم أي امرأة، حتى لو كانت في آخر المعمورة فالهم النسائي هو ذلك الإرث توارثناه عبر أجيال وأجيال، ولكن أحاول أن أجعل المرأة تنظر للأمور بنظرة مختلفة فالحلول الجيدة تأتي من الزاوية الجيدة تعمقنا من خلالها بظروفنا ومشاكلنا، بدليل أن هنالك نساء استطعن أن يصلن وحتى الآن نضال المرأة مستمر فالمرأة المدركة لقدراتها حتمًا لن تبقى قابعة في نفس المكان ونفس الدور يفرض عليها في أغلب الأحيان !
والدولة بمفهومها العميق أدركت ومنذ البداية أن هذا الشعب صامد لأن نسائه من النوع القوي الصلب، الوطن لديها مسألة مفروغ منها المرأة الفلسطينية لا يمكن أن تصنف هي خارج كل تصنيف بدليل صمودها المستمر ونضالها كفرد يحاول تطوير ذاته وتحقيقها، وفي نفس الوقت تحكمها ظروف تجعلها لا تكون اقل أداء عندما تصر على النضال والاستمرار دون كلل أو ملل. النضال ضد تمييز دولة عنصرية تحاول سلبها كل ظواهر الحياة والنضال داخل مجتمع يحاول تغييبها واجتزاء بعض من حقوقها في بعض صوره الرجعية !!
في روايتي” سبع فاطمات لعلي” سلطت الضوء على المرأة وعلاقتها بالأرض وعن نضالها وعن عالمها الغني!! في هذه الرواية كان هنالك جدل مفتوح حول العلاقة بين الرجل والمرأة، بين الحياة والنساء بين التجدد والفرص الثانية، الحديث كان عميقًا سبر تاريخ العلاقة المعقدة بين الرجل والأنثى بأسلوب فلسفي عميق ولكن صوره كانت بسيطة قاربت بين الأفكار، الحضارة الجيدة في روايتي”حروب وأحمر شفاه” وصفت على لسان إحدى الشخصيات بأنها حضارة بنتها النساء!!
أنا أحاول أن أكتب عن النساء القويات متعمدة وأن أكثف من تواجدهن في أعمالي فللأمانة والمصداقية تربيت على يد نساء مختلفات قويات مناضلات، فجدتي كانت تستقبل الثوار ومهربي السلاح وكانت تنظم الشعر لذا أحب أن أبث روح التفاؤل لغيري من النساء لينجون!! فكرة تعزيز قوة المرأة وإظهارها في النصوص لا تقل أهمية عن مقابلة امرأة وجهًا لوجه فتخبريها بمدى قوتها ومدى تميزها وتفردها !!
* هل تخافين من الكتابة بجرأة، وتشعرين أن هناك رقيب داخلي يمنعك من تجاوز القيود التي يضعها المجتمع والتقاليد؟
– أنا أظن أن أعلى درجات الجرأة أن تكتب!! فالكتابة عملية انكشاف رهيبة هي مغامرة ورحلة لا رجعة منها إذا الخطوة الأجرأ ضمنًا تخطينها!! أما إذا كنت تعنين بالجرأة في الأساليب فأنا لا أخاف وأؤمن أن لا بقرات مقدسة في الأدب!!
نحن نكتب في الألفية الثالثة وطبيعي أن تكون الجرأة حاضرة في نصوصنا ولكن لنتفق أن النص الإبداعي ليس شرطًا أن يكون جريئًا، أنا عندما أكتب لا أكون متعمدة الجرأة فبالتالي أنا لا أخاف ذلك الهاجس والرقيب الداخلي ولا أعير اهتمامًا لتلك المعايير المجتمعية وحكمها علي وعلى النص!!
الكتابة بمفهومي فضاء غني لتمرير كل ما لا يحتمله مجتمعنا وواقعنا السياسي والديني والثقافي وحتى ذاكرتنا الجماعية كشعب عربي فلسطيني!! إذا أنا لا أتعمد الجرأة ولا أقصد إقحام طابوهات لكي أثير القارئ، هي حيثيات وظروف يرسيها المناخ العام للنص. ولا يمكن لي ككاتبة أن أتجاهل الجوانب الجمالية، الجرأة كسمة جوهرية في تقديم المواضيع من خلال النصوص اختلفت من جيل لجيل.
فالأجيال السابقة من الكتاب كانوا محكومين بأيديولوجيات معينة اختصرت الأدب على أنه صراع طبقي وصراع مع السلطة، أما أنا وجيلي فقد انسلخنا وتمردنا عليها بعد فقداننا للثقة بها. وهذا يظهر واضحًا في رواياتي وخصوصًا الأولى “عندما أزهرت بندقية” بأن الأجيال الجديدة فقدت ثقتها بالايديولوجيات السيارة كانت تروج لها السلطة والأحزاب السياسية تبين مدى إفلاسها وخصوصًا بعد أوسلو، ولكن حتى في هذه المسألة أحاول أن آخذ مسافة معقولة ولكني سأبقى معارضة لها!! وأحشد كل طاقاتي في النص وأطوره فنيًّا لكي أقنع المتلقي بجدارة الفكرة لتستولي على جزء من وقته وتفكيره!!
ولأنني لا أتصنع الجرأة بل جل اهتمامي أضعه في التشخيص فالنص حالة نفسية وانفعالية تتطلب أن أكتب بأريحية وانطلاق دون إسفاف أو ابتذال، أنا مؤمنة أنه طالما الحب موجود علينا أن لا نخاف وأن نترجم قوتنا بهذا الحب بجميع أشكال الإبداع الممكنة وهذا ما فعلته في روايتي “سبع فاطمات وعلي” تناولت الدين والجنس والحب بأسلوب راق وسلس يبتعد عن صور البذاءة. ولكن الطرح بقي جريئًا وهنا تكمن صنعة الكاتب حيث تحايلت على اللغة والبلاغة فقدمت واقعًا بصورة تليق بالفكرة ومتلقيها!!
أما عن كوني امرأة كاتبة ومسألة الخوف ومراعاة مجتمعي فهي مسألة باتت خلفي، فروايتي الأولى هي” سيرورواية ” كنت فيها شخصية مركزية شاركت القارئ بكل تفاصيلي كامرأة وهل هنالك ما هو أجرأ من ذلك!! ولكن حتى في نص “عندما أزهرت بندقية” انطلقت من قناعة تامة بأن الكتابة والأدب مسئولية بين الكاتب وذاته، فالجرأة إذا كانت الجهر بالكلمة والدفاع عن الرأي بصورة إبداعية فلا سلطة لأحد علي وعلى كتاباتي!! فالجرأة في هذه الرواية كانت موظفة بشكل واقعي وحتى تقريري في بعض الأحيان لكي أنقل صوتي وتصوري بطريقة تشبهني ككاملة تلك المجنونة أحيانًا والهذاءة حاولت أن أنقل تجربتي الإنسانية لأنير طريقًا نحو المستقبل قد نتفق أو نختلف حوله ولكني تجرأت وحاولت.
* في رأيك هل الدفاع عن القضية الفلسطينية أصبح مقتصرا على الكتاب الفلسطينيين، بمعنى أنه خبا في أدب الكتاب في المنطقة؟
– مسألة فتور وتراجع القضية الفلسطينية في الأدب العربي عامة أصبح أمر واقع!! ولا يمكن أن ننكره وقبل أن نخوض في مسألة فتور القضية الفلسطينية في الأدب يجب أن لا نرمي الحمل كله على الأدب والكتاب، فالقضية الفلسطينية حتى إعلاميًا غيبت بعد أن كانت تحتل الصدارة في قضايانا العربية والإسلامية على وجه الخصوص باتت هامشية بعد أن كانت مركزية وتمثل الهم العام والمشترك للعرب والمسلمين. وذلك لأسباب دولية وإقليمية وعربية ومحلية فلسطينية أدت إلى تراجعها بشكل كبير وانحسارها في الميادين الإعلامية والسياسية وخروجها من دائرة الاهتمام بعد أن شغلتها لمدة سبعة عقود.
ولست بصدد رصد لأسباب تحتاج لمقال مستقل!! لذلك وبناءًا على كل هذه الظروف والتراكمات للقضايا العربية المحلية يشهدها عالمنا العربي الصراعات الثورات والانقلابات جعلها مادة حية أكثر للأدب وهي مثار اهتمام أكبر، سواء للرأي العام مما صرف الكتاب عن القضية الفلسطينية والإلتفاف حول قضاياهم المحلية وهذا حسب رأيي أمر منطقي ومشروع طالما أنه لا يوجد في فلسطين حدث موازي!! فمن حق الكاتب المحلي ومن منطلق مسئولية أن ينشغل بهمه الخاص وبقضاياه السياسية الخاصة وبالصراع الاجتماعي السياسي لمحيطه.
وبالمقابل تتضافر الأقلام الفلسطينية في المهجر وفي الداخل لتبقي قضيتنا العادلة قيد وجود، وهو أمر مفروغ منه في هذه الظروف تمر فيها منطقتنا ومن ضمنها فلسطين، هنالك هاجس وخوف مستمر يحتم مواجهة خطر تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، سواء في الداخل أو الخارج، وانحسار تعاطف الشعوب معها ومجابهة وتصدي الرواية للطرف الآخر. مع التأكيد أن قضية فلسطين ليست قضية الفلسطينيين وحدهم بل هي قضية عادلة تمثل الأصالة العربية وقضية إنسانية تستقطب أحرار العالم في كل مكان ..
* هل لديك مشروع ما أو تحاولين بث رسائل في نصوصك؟
– أنا بالمجمل أكتب لأنني أحب أن أكتب حتى بعد نشر ثلاثة روايات ما زلت أكتب كهاوية محبة مغامرة، لم ألبس عباءة الكتاب لأنني عندها سأشعر بالضيق وستخنقني المسميات والتعريفات لذلك أحب أن أظل منطلقة كما حرفي.
ولكني لا أنكر أن لي غاية من خلال نصي وأبسطها أنني أكتب للتنفيس وإراحة دواخلي المثقلة المتعبة!! أكتب أيضًا نيابة عن أولئك المتعبين لا قلم لهم ولا صوت طالما أنني قادرة على نقل مشاعرهم ومعاناتهم!
في الكتابة أنا قيد حديث مفتوح مع الآخرين، وهو أمر جيد لأنني في الواقع شخص انعزالي قليل الكلام ولكني دائمة التفكير والدهشة. أكتب لأؤثر وأتأثر وهذا ما يحدث معي في كل رواية حيث يبقى أثر تلك الشخصيات ممتدًا في لأيام وأسابيع وأحيانًا شهور .
أكتب من منطلق قناعة أن الكتابة العمل الإنساني الوحيد مفعوله سيبقى مدى الدهور، لأن دوافعه إنسانية بحتة خالصة، لا أظن أن هنالك من يكتب ليضر أحدا!! فنحن نذهب للنص معترفين ببشريتنا ضعفنا، زلاتنا، هفواتنا .
أكتب لأضع حدًا لذاتي المتضخمة أحاول أن أحجم الأنا فأردعها، أكتب لكي أستعيد بعض مشاعري وأحاسيسي التي فقدتها في خضم معاركي في هذه الحياة!! الكتابة وحدها قادرة أن تجعلك تعود طفلًا يمشي على يديه ليرى العالم رأسًا على عقب وهو شعور جميل!! كتاباتنا رؤى ونوافذ أمل من خلالها نحاول أن نستشرف غدًا أفضل فالأفكار قادرة على تحقيق الكثير طالما حيزها تجارب إنسانية …
أما على مستوى الكتابة كمشروع تنويري فأنا أظن أن أي كاتب يكون حيز نصوصه الأفكار، يقدمها بأسلوب حداثي يهدف إلى تفعيل أدوارنا ككتاب وقراء، نلتف حول أوطاننا ونلامس همومها هو ضمنًا صاحب مشروع توعوي ثقافي حتى لو لم يعلن عن ذلك ولم يصنف أعماله !!
الكاتب المثقف المتشابك لا يقل أهمية عن الطبيب والمخترع والمهندس بل أحيانًا هو أهم، إذ أنه قادر في تلك المراحل المفصلية أن يقدم رؤية استشرافية للمستقبل من شأنها أن تؤدي لواقع أفضل!! المهم أن يقتنع بأن مشروعه الأدبي والتنويري هو مشروع إصلاحي أيضًا، هدفه حياة أفضل بعيدًا عن التنظيرات واعتمادًا على تجارب لأمم أخرى سبقتنا. وهذا ما أحاول جاهدة فعله .
أؤمن أن الكتابة انتفاضة سلمية لذا أحاول حشد أكبر عدد من المتظاهرين حول أفكاري وقناعاتي التي أرى وبكل تواضع أنها قادرة على إحداث تغيير لن يأتي بين ليلة وضحاها !!
* هل يمكن النضال أو الدفاع عن الوطن وقضاياه من خلال الأدب؟
– قبل أن أجيب عن فاعلية الأدب بالدفاع عن الأوطان لا بد لنا أن نشدد على ديناميكية الأدب وحركته المستمرة، الأدب لا يثبت ولا يقبع في مساحة واحدة هو في حالة تطور دائمة لجانب تأقلمه مع كل زمان ومكان، لذا هو قادر على فعل وظيفة جمالية أو تعليمية وأحيانًا كلاهما معًا.
لطالما كان الأدب مؤثرًا في المجتمعات ولطالما منح حلولًا لمشاكل ومعضلات كبيرة، فكم من رواية غيرت مجرى السياسة لدولة ما وألقت الضوء على معاناة اجتماعية تم تجاهلها.
لذلك أنا ككاتبة دائمًا في حالة قلق وخوف من أن يتم تقليص مساحة الأدب في المجتمع وفي المناهج الدراسية، نظرًا لأهميته في عملية تعليم وتطوير النشء الجديد، على اختلاف خلفياتهم الطبقية والاجتماعية والدينية !! خصوصًا في عصرنا هذا ساهم في توسيع الفجوة بين الأدب والمجتمع.
ولا بد لنا أن نشدد من ناحية أخرى أنه إذا كان الأدب ملتزم ومسئول ومراقب لكل جوانب الحياة لمجتمع معين، فهو سيظل طوق نجاة مهما التهمت التكنولوجيا من مساحات للفكر والوقت.
نحن بحاجة ماسة في الأوطان العربية إلى نقل التجربة الغربية لمجتمعاتنا، حيث وعت وأدركت لدور الأدب في تشكيل رؤى وقناعات أفراد هذه المجتمعات والدليل أنها توفر إمكانيات مهولة لدعم مثل هذه التوجهات بغض النظر عن فحواها، ولكننا للأسف في العالم العربي ما زلنا نخبط بين ركب وركب والدليل أننا ما زلنا نظن أن تأثير الأدب محدود ومنوط بعدة اعتبارات مما جعلنا نتغافل عن نوعية أعمال لم تزدنا إلا عدمية !!
الأدب المتطور المتفاعل الحقيقي النابع من نتاجات فكرية وتجارب إنسانية، قادر لأن يتوسع ويتحول لأداة وسلاح في يد من يملكه ليحافظ على وطنه واستقلاليته.. فالشاعر والأديب يتفيأ بظلال الوطن ولا يحاول أن ينتمي له لغة وأدبًا وفكرًا، سيظل في حالة حيادية والأدب الحيادي لا يتخذ موقفًا واضحًا مما يجري حوله، هو مجرد زحمة على الصفحات كان الأفضل لو بقيت مسودات..
إذا هي ليست مسألة اختيار!! أظنها مسألة وعي وانتماء ومسئولية توارثناها وسنورثها لمن سيأتي بعدنا، فالوطن هو المعطى الوحيد لا يتغير في معادلة الهوية. لذا أرى لزامًا علينا ككتاب فلسطينيين أن نبقى قيد الكتابة لنصون تاريخنا وحضارتنا وأن لا نسمح للطرف الآخر بأن يستفرد بهما !!
أنا أدرك أن مهمتنا ككتاب ليست بالسهلة مهما حاولنا التغاضي عن المناخ السياسي يلف حول قضيتنا، ولكن هذا لا يعني أن نتوانى عن نقل قضيتنا للعالم …
نحن كشعب فلسطيني نهتم كثيرًا في مسألة بلورة هويتنا الوطنية بمكوناتها الحضارية والثقافية، كوننا شعب يقبع تحت احتلال!! لذلك من الطبيعي أن يتحول الكاتب لمقاوم يحمل قلمه ليدافع عن شعبه وأرضه.
لذا أنا أظن أن الرواية من أكثر المساحات الأدبية القادرة على حمل مثل هذه المهمة المعقدة والصعبة، لما تمتلكه من فضاء رحب وواسع في تناول الحياة الاجتماعية بكل مكوناتها !!
فالرواية الفلسطينية حتى بعد الحداثة ومع كل التطورات والسمات الجديدة أكسبتها للنص لكي تواكب عصر الحداثة ظلت باختلاف كتابها ومكانها وزمانها ومواضيعها واقفة وحاضرة بالمرصاد لرواية الطرف الآخر الكاذبة والزائفة..
لذا أنا أشدد في مشروعي الأدبي والروائي على الإضاءة على ما قبل النكبة يحاول بعض من مفكريهم وكتابهم من خلال كتاباتهم أن يستولوا على ثغرات فيه، ليدعو كذبًا وزورًا وجود جذور لهم فيه وقد أنرت على هذا الجانب المهم في روايتي “حروب وأحمر شفاه”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة