خاص: حاورته- سماح عادل
“كاظم مزهر” شاعر من العراق- البصرة، حاصل على بكالوريوس علم المعلومات والمكتبات، وهو عضو اتحاد أدباء العراق، صدر له ثلاث مجاميع شعرية مطبوعة (ما لاينطق تحكيه القسمات- بستان الليل- شيء عن الغابة).
إلى الحوار:
(كتابات) كيف بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟
- كل ما أذكره أنني كنت طفلا فضولياً في استراق السمع والأسئلة، وكانت مرحلة الابتدائية من الدراسة بمثابة الفتح بالنسبة لذلك الطفل، تلقي معلومات المدرسة كل يوم يمثل لي غنيمة وبهجة، وأدركت منذ ذلك العمر أن أذني تستأنس لسماع الشعر وحفظه.
ثم تولد داخلي هاجس ورغبة أن أكتب شعرا يوما ما أو أؤلّفَ كتابا، كنت متميزا بين أقراني في درس الإنشاء (التعبير) حتى لفت أسلوبي انتباه مدرس اللغة العربية في الصف السادس من تلك المرحلة، فكان يمنحني درجة كاملة. وأذكر كذلك احترافي كتابة رسائل الغرام لأصدقائي آنذاك. وربما تقاضيت عليها بعض المشروبات الغازية او الشوكولاته ومرة أهدي لي طائر جميل من عاشق مغرم.
في مرحلة متقدمة صرت أقرأ كل ما يقع تحت يدي، وشغفت جدا بكتب التراث العربي من أدب وتأريخ ودين. رافقني أثناء ذلك دفتر صغير أكتب فيه كل ما يخطر ببالي، وأعتقد أن تطور القراءة يرافقه حتما تطور الكتابة، وأعترف لم يكن لي أستاذ في القراءة والكتابة غير الكتب. وقد أصدرت حتى اللحظة ثلاث مجاميع شعرية (ما لاينطق تحكيه القسمات- بستان الليل- شيء عن الغابة).
(كتابات) في كتابك “بستان الليل” لمَ خصصته للكتابة عن الليل فقط، وماذا يمثل لك الليل؟
- “بستان الليل” كتاب خفيف الظل. أحبه، أعتقد الشاعر كائن ليلي، ينزع بطبيعته القلقة الى ذلك الزمن الأخرس لكن ليس لمعناه المجرد، بل لما يمثل من عزلة وسكون، وبما يحتوي من سماء مرصعة بكائنات وأحجار مضيئة، الليل هدأة تدثّر ضجيج النهار، وأغلب قصائد الشعراء تولد في الليل أو تكتمل.. وإذا كان هنالك من ينام الليل ليستعجل النهار فإن الشاعر يبعثر النهار كي ينفذ من خلاله إلى الليل.
بالنسبة لكتاب “بستان الليل” لم يكن في الحسبان ولا التخطيط حتى، حين كتبت أول نصوصه، لكنها النصوص تكاثرت ليلاً بعد ليل، مما دفع إلى فكرة بإكمال مشروع كتاب يحمل ثيمة واحدة هي الليل وشؤونه: رؤية الشاعر لليل، سماء الليل ومافيها من ايحاءات، وثرثرة الليل.
وأظن أن الكتب الشعرية ذات الثيمة الواحدة أو الموضوع المشترك أكثر رصانة وجدوى من تلك التي يغترب فيها القارىء من نص الى آخر. فهي، الثيمة الواحدة، تسير بالقارىء في ممر نفسي محكم الى الأمام فقط من دون الانزلاق في منحدرات جانبية. ولا أنكر أن ثمة قصائد عن الليل كتبتها بعد صدور كتاب (بستان الليل) كانت تستحق أن تدرج ضمنه لو استعجلت المجيء.
(كتابات) في كتابك “شيء عن الغابة” هل تحررت من الموسيقى الداخلية والتفعيلة.. وما رأيك في قصيدة النثر؟
- أولا علينا أن نسلم لحقيقة أن الأذن تتعاطف مع الموسيقى والذائقة العربية سماعية، ويتجلى ذلك بشكل فاضح مع الشعر. والموسيقى عامل مهم في تأثير الخطاب الشفاهي حتى أننا نجد في القرآن “ورتل القرآن ترتيلا”.
في كتاب “شيء عن الغابة” انقسمت النصوص إلى قسمين طويلة وقصيرة ربما استطاعت القصيرة التخلص الى حد ما أو الابتعاد عن الموسيقى لكنها، الموسيقى، قد تكون ظاهرة بنبرة أعلى في النصوص الطويلة. مع العلم أنني لم أتقصد الموسيقى الخارجية في كل كتاباتي وربما الموسيقى الداخلية ضرورية في قصيدة النثر. وعادة لا تكون قصدية بل تعتمد على أسلوب الشاعر وملكته. أما التحرر من التفعيلة فهذا أمر انتهى بالنسبة لي، أعتقد الشعر الآن عمودي وقصيدة نثر، لم يعد لشعر التفعيلة حاجة.
أما قصيدة النثر وهي فرنسية المنشأ أو على الأقل أن أول من تبنى شكلها ونظّر لها هم شعراء فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وربما كان بودلير هو من أطلق عليها قصيدة نثر وقدمها في كتابه (ضجر باريس) ، وإن كان متأثراً بشكل كبير بكتاب بارتران (كاسبار الليل) لكنها كُتبت آنذاك من قبل شعراء مشاهير كانوا يكتبون القصيدة الموزونة المموسقة وفق بحور الشعر، أما اليوم فهي مباحة ومستباحة من كل عاجز كان يقنع ويُرضي غروره بأن يُقال له أنت تكتب خاطرة جميلة. وعن نفسي أرى في قصيدة النثر شكلا جديدا للحكاية الشعرية، هي مكافأة الشاعر للتحرر من قيود العروض والموسيقى الرتيبة، أو لنقل هي فتح شعري على مستوى الشكل والاشتغال.
(كتابات) في كتابك “شيء عن الغابة” سخط على عبثية العالم والصراعات والحروب.. حدثنا عن ذلك؟
- كتاب “شيء عن الغابة” أردت فيه أن أتكلم مع الذات، لم أعبأ للآخر، حاولت أن أحتج فيه وأسخط وأتساءل كمن يخاطب صورته في المرآة كانت أسئلة، لماذا؟، وماذا لو؟، وهل تعلم؟، وهذا أنا ولماذا أنا هكذا؟ وعليك أن تعيرني سمعك أو أستحق أن تصغي لي أكثر، كان رأيا ورؤيا تماما.
أنا عراقي والعراقيون أبناء حرب، صنيعة حرب، ونتاج حرب، لقد أخذت منا الحروب الكثير ملأت أيامنا حزنا وسوادا، أخذت منا وجوهاً كانت لا تفارقنا، ناهيك عن صراعات العالم ومآسي الشعوب التي لا ذنب لها سوى أنها عثرة في طريق وأطماع القوى الكبرى. لوننظر لما يحدث الآن من حروب وصراعات ومأساة هنا وهناك نجدها متمردة على المنطق ومستهترة بشكل سافر، الحرب والدمار تدني للذات الإنسانية، هي الأنانية الكبرى داخل العقل البشري، وإذا كان لابد لذات مرهفة أن ترفض ذلك كله ولا تنسجم معه فالشاعر أولى بها.
(كتابات) كيف هي صورة المرأة في شعرك؟
- المرأة حديث آخر، حديث ذو شجون، لايمكن لشاعر أن يحيا من دون امرأة أو خيال امرأة، الشاعر الذي يمتلك امراة يمكنه أن يقول الشعر كله فمن خلالها باستطاعته أن يلج إلى أي موضوع شعري. أعتقد حب المرأة فطرة والانسياق مع الفطرة أقرب أو أشبه بالعبادة، وهي في كتاباتي المعلنة امرأة وقورة ومحتشمة ومعشوقة متحكمة.
وغالبا ما أجنح معها إلى الحب الهادىء وأتحاشى الغزل الحسي، ربما يرتبط هذا بشكل أوبآخر بنسق التربية والمحيط العائلي الذي درجت فيه، حتى بلغت حد الرهبنة في نص لي أقول:
كلما خلوت بكِ
وقرأنا في كتاب واحد عن الوردة
غادرنا الشيطان وعلى ظهره
آخر ما ابتكر من وساوس.
(كتابات) ما تقييمك لحال الثقافة في العراق وهل يمكن الحديث عن نهضة؟
- الثقافة في العراق بخير فبلد مثله يمتلك كل هذا التاريخ والتراث والحضارة، ويمتلك شعباً عصياً على الفناء لا يمكن أن لا تصنع له ثقافة مهما كانت الظروف.
المشهد الثقافي في العراق الآن مربك وفوضوي لكنه غني بحراك لم يشهد له البلد مثيلا منذ قرون، أعتقد مساحة الحرية بعد 2003 أسهمت وبشكل كبير في صنع هذا المشهد، ومهما تكن المآخذ حوله يبقى مشهدا صحيا لمخاض ثقافي سينتج في يوم ما عصارة نقية يمكن من خلالها أن نعيد لمعان وجه البلاد الثقافي.
أما الحديث عن نهضة فيحتاج إلى تأمل وتريّث في الحكم، ولكن يمكن القول: إذا سلّمْنا بأن غزارة الطباعة والنشر ووفرة المطبوعات في الشارع، وإطراد إصدار الكتب من شعر وسرد ودراسات ونتاج فكري متباين الاتجاهات والايديولوجيا، وإقامة الفعاليات الثقافية من مهرجانات وملتقيات ومؤتمرات، مع تعدد الاتحادات والروابط والجمعيات والمنظمات الثقافية يمثل نهضة ثقافية، فالعراق لا يشهد نهضة فقط، بل ثورة ثقافية لا تعرفها البلدان المجاورة أو حتى بلدان خارج الجوار.
(كتابات) في رأيك هل تراجع الشعر في مواجهة السرد ولماذا؟
- الشعر لم يتراجع كقيمة فنية ومنجز إبداعي يستحق القراءة، بل تقدمَ السرد عليه باعتباره ثقافة العصر، وربما قيل اليوم الرواية ديوان العرب بديلا للمقولة المأثورة عن الشعر.
أعتقد تراجع الشعر أمام السرد سببه توجه القرّاء إلى القصة والرواية باعتبارهما ذائقة العصر، وفقدان الثقة بالشعر كجليس مؤنس وقت الفراغ،عكس الرواية تماما التي تذهب بالقارىء إلى عوالم متعددة وغريبة، حتى كأنه يعيش حياة أخرى. إذن أنا أوافقك الرأي، الشعر تراجع في مواجهة السرد، لكنه أكثر ضرورة من السرد في حياة الإنسان، الحياة شعر والطبيعة شعر.
(كتابات) هل ساعدتك وسائل التواصل الإجتماعي في التواصل مع القراء؟
- هذا مما لاشك فيه ولا يقتصر على أحد، فوسائل التواصل الاجتماعي اختصرت مشاوير التداول، إذا جاز لنا التعبير قربت البعيد وجعلت الصعب سهلا والمستحيل ممكناً، أصبح من في شرق يقرأ من في الغرب والعكس صحيح، أصبح لنا أصدقاء وقرّاء في الدول العربية كافة يمكننا التواصل معهم يوميا، ونتعرف على آرائهم ومدى تفاعلهم مع ما نكتب اذا شئنا ذلك، وربما تصلنا ردود أفعال طيبة. ولا يفوتني أن وسائل التواصل الأجتماعي وخصوصا “الفيس بوك” قد خلط الحابل بالنابل على مستوى الكتابة الرصينة والمتدنية.
(كتابات) في رأيك هل للأدب عموما والشعر خصوصا دور في التعبير عن المجتمع وقضاياه؟
- مع أن الأدب بالدرجة الأولى معنيّ بالجمال لكنه مهما حاول العزلة لا يمكنه أن يحيا خارج هموم المجتمع وقضاياه. كلنا نعرف أن الخيال هو مادة الإبداع المحببة لكن الخيال لا يمكنه أن ينمو أو يتشكل من دون خزين معرفي يسبقه، من الصور والتجارب والوقائع الحياتية.
هذا من جانب ومن جانب آخر الأديب إنسان بالدرجة الأولى، وهو ابن المجتمع ولا يحق له التخلي عن صفته هذه وعدم الانفعال مع هموم مجتمعه وأهله وناسه، لايمكنه عدم الدفاع عن وطنه وذاته وبما أن سلاحه الكلمة وهي كل ما يملك، فمن خلالها هو معنيّ بالدفاع عن الحرية ورفض القيود ونبذ الظلم. والشاعر مُهابة كلمتُه على مر العصور وهناك أمثلة كثيرة بهذا الخصوص استطاع فيها الشاعر أن يكون متبنّيا لقضايا المجتمع. وأعتقد أننا لانتجنّى كثيرا إذا قلنا أن أدب الأمم هو نتاج قضايا وثقافة مجتمع في زمن الكتابة.
(كتابات) هل واجهتك صعوبات ككاتب.. وماهو جديدك؟
- ليس هناك صعوبة تواجه الكاتب أشد من إقناع ذاته بما يكتب ورضاه عنه، ليصل الى قرار أصعب هو عرض ما يكتب على الناس، ويمكن تصنيف هذه بالصعوبات المعنوية أو صعوبات الداخل والتي تمثل أو تخص حوار الكاتب مع منجزه والصراع الداخلي في دهاليز النفس والظنون والاحتمالات.
أما صعوبات الخارج وأعني بها ما بعد القناعة والقرار، فهي الطباعة والترويج وتسويق المنجز، وكلنا نعلم أن دور النشر هدفها الرئيس ربحي ويهمها كثيرا مبدأ العرض والطلب، بغض النظر عن قيمة الكتاب الفنية. واعترف أنني أميل للعيش في الظل ولا أجيد الوصولية لأنها غالبا ما تكون ملوثة بالنفاق والابتذال المقرف، كما أنني أبغض التدافع للظفر بعدسة الكاميرا، وهذه صعوبة.
أما جديدي فلدي نصوص تكفي لإصدار ثلاث مجاميع شعرية: واحدة عن الوطن أو هموم البلد، وأخرى عن المرأة التي هي الحبيبة بلا شك، وثالثة لا تصنف في موضوع محدد، قد أحذف واحدة منها فقط، أو أتجاهل فكرة الثلاث مجاميع وأطبع مجموعة واحدة تضمن نصوصاً مختارة ومنتقاة ثم ألقى ما تبقى في الموقد.
قصيدتين لكاظم مزهر..
تحية الورد
أيتها السيدة
أنت تكبرين في مخيلتي
حتى أصبت بالخيال الواسع
وبما أنك وردة
لا تجيدين الكلام من دون عطر
فقد كانت تحيتك اليوم عطرة
عطرة
بما يكفي لتنمو حدائق الورد
في مسامات جلدي
والياسمين في حدقات عيوني
صار الناس ينادونني سادن الورد
وأنا أشير إليك ملهمتي
وأعلل لهم لماذا أنا مصاب اليوم
بظاهرة الورد
التي لم يألفوها في سيرتي من قبل
(كنت دائما أروج: أن الدنيا شوك ليس إلا).
تحيتك العطرة سيدتي هذا اليوم
اعشوشبت لها شوارع المدينة
مدينتي المتهمة بالتصحر
الأنهار المهملة فيها رقّ ماؤها
وعادت النوارس لشط العرب
المراكب نشرت أشرعتها
وارتعشت أوصال شاعر الموت
حتى كاد يهوي من خرسانته
ونادى: “هل عاودت عشتار نزهتها
في زمن الذبول؟”
يحدث كل هذا في مخيلتي
بعد تحيتك هذا اليوم
حتى أني ألقي على الناس تحية كلما مررت فأقول:
الورد عليكم ورحمة الله
صباح الورد
مساء الورد
تصبحون على ورد.
***
أسهرُ عن غير قصد
لم أنمْ حتى الصباح
حاولتُ مرارا قلّبتُ المخدة ظهرا لبطن
وبطنا لظهر وعلى الجنبين
عقفتُ أحدَ طرفيها وتركتُ الآخرَ كالمنحدر
لم أنمْ..
اتكأتُ على مفصلِ اليد ودخنتُ سيجارة
فعلت ذلك لخمسِ سجائر بقين من علبة عشرينية
الضوء خافت وبالكاد أرى عقاربَ الساعة
أعلى الجدار
أنظرُ للوقتِ فيها بخوفٍ ليليّ
خوف مدرب كرة قدم فريقه يخسر الآن بفارق هدف جاء بنيران صديقة
أستبدل المكان أتخطى صمت البيت إلى حجرة مليئة بالكتب تفاجئني ساعة الصالة
العقارب تقول الساعة الثالثة وثلث
أهوي على سجادة حمراء مزخرفة
افتح شرح ابن عقيل الذي لا تعرف شاعرتي الأثيرة شيئا عنه
هذا يكلفني مراجعة ما تكتب
مع أني في النحو متعلم على سبيل نجاة.
ابن عقيل أكثر صحوا مني
الرابعة إلا دقائق
ركعتان طالما قضيتهما بعد شروق الشمس هما عزائي عن خسارة النوم
أعود أدراجي إلى الوسادة
حنجرتي تطرد غبار التبغ بصوت مريع
السادسة صباحا وأنا من دون استيقاظ مألوف.
أوقظ السيدة لتعد الشاي
وانهمك أنا بخفق البيض
دائخا أتصفّحُ الفيس بوك على غير العادة.
يالهُ من سوق للعرض..
صور نصوص قصائد
شاعرة من المغرب قرب أبي الهول
تفتتح نصها بأغنية عراقية
شاعرٌ آخر
لم استبنْ من أيّ شكلٍ قصيدته
فيها القافية والنثر
شاعر من العراق يكتب عن التماثيل
دكتور شاعر يكتب نثرا ليس قصيدة.
صورة شاعر في المشفى
رسالة متأخرة في الماسنجر
الوجوه قبيحة هذا الصباح
من يدري فأنا لم أنم
ربما علقت عليها أثناء الليل
رأسي إسفنجة مبتلة
وعليّ الآن الذهاب إلى العمل:
أعزّائي البلهاء
هنيئا لكم العيش
النوم سعادة قصوى
أكتب هذا مباشرة على الفضاء الأزرق.
سأخرج من البيت ولن أنظر إلى وجهي في المرآة.
أو أراجع ما كتبت.