خاص: حاورته – سماح عادل :
“فهمي الصالح” شاعر وأكاديمي عراقي.. وُلد في مدينة “الرمادي” – مركز محافظة الأنبار – العراقية عام 1958، حصل على شهاداتهِ الأكاديمية، (البكالوريوس والماجستير والدكتوراه)، في المجال التخصصي العلمي، (الإدارة العامة – كلية الإدارة والاقتصاد – جامعة بغداد)، ويعمل حالياً أستاذاً جامعياً، وهو عضو اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين واتحاد الأدباء والكتاب العرب.
مارس كتابة الشعر منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، ومارس أيضاً كتابة القصة القصيرة والنًّصوص المسرحية والشعرية والمقالات الصحافية والنقدية، ونشرت له الصحف الثقافية والمجلات الأدبية العراقية والعربية العديد من إنتاجه الشعري والقصصي، وصدرت له مؤلفات عدة، أكاديمية وأدبية، وآخرها ديوانه: (أَكْثَر منْ عكَّازة للقلبِ الوَحيد – 2016)، وعكس هذا الديوان تجربة الشاعر في حياته الأدبية ومسيرته الشعرية.. ويستعد الشاعر حالياً للتواصل مع تجربة الكتابة الشعرية بإصدار ديوانه الجديد هذه الأيام، وهو بعنوان: (أُرَتِّقُ أَضْوَائِي بِغُيُومٍ نَادِرَة).. وحظيت نصوصه الشعرية بدراسات نقدية عديدة مهتمة، من لدن عدد من النقاد المعنيين بفن الشعر، كالناقد الأستاذ “داود الشويلي”، والناقد الأستاذ “علاء الحامد”، وهما من العراق، فضلاً عن بعض النقاد العرب.
إلى الحوار:
(كتابات) : كيف بدأ شغفك بالكتابة .. وكيف تطور ؟
- بدأ شغف الكتابة عندي حين انتقلت اهتماماتي من صدفة القراءة إلى القراءة المُمنهجة حيال الأدب والفنون عموماً، كالروايات والقصص والمسرح والتشكيل والموسيقى والنقدي الأدبي، والشعر بشكل خاص لمختلف أنماطه – التقليدية والحديثة، وكانت مرحلة دراستي الإعدادية نهاية السبعينيات ودخولي إلى الجامعة، قد رسخت في نفسي وقدراتي خيارات الأدب طريقا يستوعب ملكاتي الذاتية، ويعبّر عن شخصيتي في الحضور والتفاعل الثقافي.
وقد أنبثق شغفي بالكتابة من الإعتداد بتلك القراءات، التي قرأتها وحفظتها بنهم بدءاً من المعلقات حتى “المعري”، وصولاً إلى “أحمد شوقي” و”الرصافي”، ثم “السياب والبياتي وأمل دنقل وصلاح عبدالصبور ونزار قباني ومحمود درويش”، وغير ذلك من الشعراء المعروفين والمرموقين كـ”جماعة المهجر” و”أبولو” و”الديوان”، بالإضافة إلى الأدب المترجم في الشعر والروية والقصة والمسرح العالمي.
فبعد رحلة مكثفة في قراءات نوعية متعددة، جاءت الثمرات في كتابات عديدة ومتنوعة، شعرية وقصصية ومسرحية، لاقت حضورها أولاً في الأوساط الجامعية وعند البعض المعنيين من أساتذتها، ونالت إستحسان بعض النخب الأَدبية، وحظيت بالنشر ضمن الصحف والمجلات الثقافية العراقية والعربية وبالذات المصرية منها، كمجلة (إبداع) ومجلة (القاهرة)، حتى تكلل الجهد المتواصل لي، فيما بعد بالعمل في الصحف الثقافية، وإصدارات في القصة وقصيدة النثر، إضافة إلى إصدارات أخرى تخص المجال الأكاديمي الجامعي.
(كتابات) : كتبت الشعر والقصيدة النثرية والقصة القصيرة والمقال الصحافي النقدي .. عن ماذا يكشف هذا التنوع ؟
- الكاتب لا يمنع طاقاته المتوفرة في ذاته.. من مباشرة الكتابة تحت أي مسمّى من مسمّيات الأجناس الأدبية، خاصة ومساحات العقل الأدبي لا حدَّ لها، حينما تتوفر الرغبة الإبداعية والإصرار على تجريب أنماط الكتابة المتعددة، التي يستحسنها الكاتب ويجد فيها لذة وجذوة وإندفاع، وتحليلياً ممكن أن يكون ذلك في إطار التعدُّديّة مع المحافظة على الوحدة في نمط الكتابة بذات الوقت، بمعنى أن تكون شاعراً، وبذات الوقت كاتب رواية أو قصصاً أو كاتب مقالات نقدية أو صحافية.
وأيُّ تنوعٍ على هذا الغرار من الكتابة، يعدُّ مصدر اِغتناءٍ في التجربة والسلوك وفي زيادة المعلومات الحقلية والتخصصيّة بتنفيذ الإجراءات الكتابية لأيّ نمط كتابي من تلك الأنماط، (الشعر والقصيدة النثرية والقصة القصيرة والمقال الصحافي النقدي)، تأكيداً على القدرة الإبداعية من منظورها الشمولي الهادف.
وهناك نقطة أساسية وجوهرية، وهي أن التّنوعيّة والتعدُّديّة في ممارسة كتابة الأنماط الأدبية عند الكاتب، تتأتى من خلال كونه قد يعمل ضمن مؤسسات الثقافة والإعلام، أو حين يكون متابعاً وقريباً من أنشطتها اليومية العامة، فمن الطبيعي أن يكون قد أستوعب العمل الصحافي وكتابة المقال أو العمود الصحافي، وعبّر عن رؤيته النقدية، ووقف من خلال ذلك على حوارات وقراءات متعددة لفنون وأدوات الكتابة الإبداعية في القصة والرواية ومناهج النقد الأدبي، وهذا قد يدفعهُ حين يتبلور عمق التَّذوق وتنضج الخبرة والممارسة لديه، نحو الشروع بالكتابة ضمن تلك المجالات الحيوية الرحبة، عندما يتطلب الأمر ذلك .
وهذا كلَّه بدوره قد يعكس إتجاهاً حيوياً نحو ممارسة الكتابة النوعية للأنماط الأدبية المتاحة، ومواكبة نهج الحداثة، والرؤية النقدية حول تطور الأدب وفنون العملية الكتابية، بشكل تجيز للكاتب الولوج فيما يكتب لأي نمط ضمن إطار الإبداع وجودة الكتابة.
ودون شك، سيُعبّر هذا عن استمرارية التجربة في الكتابة وعن الفرصة المؤكد لإختبار قدرات الذات الكتابية لدى الكاتب أو الأديب، وقد جاءت مرحلة كتابة قصيدة النثر بقدر تعلق الأمر بتجربتي الكتابية، وعدد لا بأس به من الجيل الأدبي المواكب لي كذلك، لتمثل مرحلة التخصص المؤكد والإستقرار المكثف نحو الإتجاه في كتابتها، إنطلاقاً من ممارسة تلك الأنماط الكتابية والصحافية الأخرى، مروراً في تأكيدات الحرص على كتابة هذا النمط الأدبي المتمثل بقصيدة النثر على وجه التحديد، مما فسح المجال واسعاً – وأعطى حرية مدهشة للكاتب ليعبّر من خلال ذلك النمط على إخراج إبداعه دون ضيق ودون اِنغلاقات.
(كتابات) : ما رأيك في حال الصحافة الثقافية في العراق ؟
- عكست الصحافة الثقافية في العراق بطبيعة الحال تحولاتها شبيهاً بحركة الموجة المُتحركة صعوداً وهبوطاً، طبقاً للأحوال العامة التي عاشها المجتمع العراقي، وطبقاً للأوضاع السياسية التي مرَّ بها العراق، حتى صار هناك مَنْ يقدّم مقارنات بين زمنين بخصوص واقع حال الصحافة الثقافية في العراق، وهما زمن ما قبل الإحتلال وزمن ما بعده، حيت إنتقلت الصحافة الثقافية من إطارها المركزي المحدد لمرحلة ما قبل عام 2003، إلى مرحلة أفقية ولا مركزية تعدّديّة، بعد مرحلة عام 2003، منغمسة في إتجاهات شتى، لكن دون بلورة شخصية معتمدة للثقافة ودون الإستفادة من حالة الإنفتاحية التفاعلية، في إطارها الوطني العام، بقدر ما كانت تعكس حالات التخندق التحزبي، والمنحى السياسي المتعدد – والمتناقض أحياناً، حيث غلب على هذه المرحلة الثقافية طابعها الكمي غير الممنهج وغير المحدد بمزايا فاعلة، وإذا كانت الصحافة الثقافية بالمرحلة السابقة محدودة في مساراتها، لكنها كانت ذات معطيات معلومة ونتاجات نوعية شملت كتاب وأدباء مرموقين ومؤثرين في جسد الثقافة العراقية والعربية، وهو ما عجزت عنه المرحلة اللاحقة أو المعاصرة للصحافة الثقافية عن تحقيقه لأسباب كثيرة؛ في مقدمتها تداعيات الإحتلال، وإضطراب البيئة والأزمات الأمنية للمجتمع والوطن، التي استمر العراق يواجهها سنيناً طوالاً، وأسهمت في تراجع دورها، ناهيك عن دور الصحافة الإلكترونية الذي هو الآخر شكل تداخلاً غير واضح المعالم في مسيرة الصحافة العراقية.
(كتابات) : في ديوان (أكثر من عكازة للقلب الوحيد) تكتب عن الحب والحزن والوحدة .. حدثنا عنه ؟
- في الحقيقة جاء ديوان (أكثر من عكازة للقلب الوحيد) ليمثل التعبير المُمكن إدراكه لتلك القيم التي ذكرتِها، وهي: (الحبَ والحزن والوحدة)، وهذه متلازمات ممكن تعميمها على الأمة أو الوطن أو على العائلة والإنسان، وهذه المتلازمات إن كانت مرتبطة جذرياً ببيئتنا العربية أو العراقية الراهنة المأزومة دائماً والقلقة دائماً، لكنها بذات الوقت هي متلازمات مهمة وجوهرية، يقوم على بعض معطيتها المنجز الإبداعي ضمن البيئات الهادئة والمرفهة أو تلك التي لم تعش أجواء القلق والحروب. والشعر كعادته يستوعب مثل هذه المفاهيم أو القيم، بوصفها ركائز مهمة في تداولية الحركة الشعرية وفي تحثّيث تعبيرها عن الواقع وعن ما يريد الشاعر طرحه ضمن كتاباته الشعرية.
وقد كان ديوان (أكثر من عكازة للقلب الوحيد) حريصاً على إبراز تلك القيم وغيرها مما يتماشى معها – لصالح الإنسانية التي من المفترض أن تكون حركيتها منسابة ضمن نسق متواتر من تلك القيم النبيلة، التي تتعرض للخدش والإنتهاك في أكثر من مناسبة، وأكثر من حقبة زمنية وواقع حال، وهي بذلك دوماً بحاجة إلى دعم مضاعف وردم متواصل للحفر المعيقة التي تعترضها بذات الوقت.
- فالحبّ حين يغدو كراهية، فهو بحاجة إلى عكازة تقيه من التداعي ومن الإنحراف.
- والحزن حين لا يكون معبّراً عن حجم الخسارات المكلفة التي تعشعش في الواقع، فالأمر بحاجة إلى عكازة لتقويم المشاعر نحو الإتجاه الصحيح للتعبير عن التفاؤل والنهوض من الكبوة.
- والوحدة، حين لا تكون تعبيراً عن رفض الخطأ وتقدم إدانة صريحة وعاجلة للإعوجاج والفساد الحاصل في الحياة العامة للمواطنين، فهي بحاجة إلى عكازة تلهمها نبض الحركة وأعتلاء الصوت الإصلاحي الكبير في يوميات المجتمع.
والشعر إزاء كلِّ ذلك الحالات الإنسانية الحيوية – المؤثرة، مدعو أكثر من غيره، بتنظيم العلاقات المعرفية والسلوكية بين تلك الأبعاد المهمة، وما يماثلها من قيم أخرى، ولا بُدَّ أن يعبّر عن موقفه الجلِي المتميز إزاء القيم الشريرة والهادمة، ويعمل على إدانتها ورفضها بوضوح، طالما هي ذات إنعكاسات مخيبة لأمال الحياة والبلاد والناس عموماً، وقد حرص ديوان (أكثر من عكازة للقلب الوحيد) من جانبه على أهمية الكشف والإبراز لهذه الرؤية التشخيصية، وربما نصّ: (دم حار .. شاي بارد) منه، يصور هذه الحالات بدقة واضحة:
***********
كُلُّهُمْ كَانُوَا كَمَا مَاتُوا فِي مَنَافٍ وَزَوَارِقٍ وَتَدَاعِيَاتٍ
ينْشِدُوُنَ الحُلمَ تِلْوَ الحُلْمِ تِلْوَ الوَهْمِ تِلْوَ المَوُتِ
فِي ذِكْرَىِ وَطَنٍ هَزِيلٍ يَنَامُ على رَصِيفِ قَهْرْ ..
كُلُّهُمْ نَشَرُوُا خِيَامَ الحُبِّ تَشْرِيدَاً فِي عُوَاءَاتٍ
وَاِسْتَأْنَسُوُا جُنُوُنَ النَّارِ فِي وَدَاعِ العَازِفِينَ
الغَارِقِينَ بِنَشْوَةِ الخَطِيئَةِ وَالاِمْتِحَانْ
كُلُّهُمْ كَانُوُا قُسَاةً على دَمْعِيَ اليَابِسِ :
فِي تَارِيِخِ الفِتْنَةِ وَحَدَائِقِ المَوتِ الجَمِيلْ
فِي صُحُفِ السَّلاَطِينِ وَالعَاشِقَاتِ المُشِعَّاتْ
كُلُّهُمْ مَضَغُوَا عَارَ النَّحسِ المُقدَّسِ وَالنَّبِيذَ المُرّ
وَأَكَاذِيبَ قَوسِ الطِينِ وَبَلاَهَةَ العَتَادِّ المُغَمَّسِ
بِالطَّحَالبِ وَالخِيَانَاتِ وَمَتَاهَاتِ الفَرَاغِ
أَوَّلُّهُم قَلْبِي الَّذِي خَانَنِي مِنْ أَوَّلِ العًمْرِ
وَتِلْكَ المَرَايَا التِي خَطَفَتْ وَجْهِي مِنَ التَّقَاسِيمِ
وَالبِئْرُ التِي أَصْبَحَتْ حُوتَاً لِتَأْخُذَنِي بِشَغَفٍ إِلَيهَا
كُلُّهُمْ كَذَبُوا على خُبْزِيَ الحَارّ وَدَمْعِيَ الفَقِيرِ
وَرَائِحَتِي التِي تُشْبِهُ عُزْلَتِي البَارِدَةَ
عِنْدَ لَقَالِقِ الهِجْرَاتِ وَدَمْعِ القُبَّرَاتْ
كُلُّهُمْ كَذَبُوا على لَحْمِيَ المُسَجّى وَسَطَ أَخْتَامِ المَدَائِنْ
أَخَذُوَا مِنْ عَينِي تَصَاوِيرَ الجَمِيلاَتِ البَعِيدَاتِ
وَمَا قَدْ تَخَبَّأَ فِي رِئَتِي مِنْ فَرَاشَاتٍ يُهَنْدِسْنَّ القِيَامَةَ
وَيَنْقُشْنَّ بَدِيهَةَ الحَيَوَاتِ فِي رَسْمَةِ المَاءِ على :
– وَطَنٍ بِلاَ مَلِكٍ ضَلِيعْ
– وَقَلَمٍ بِلاَ أَصَابِعَ أَوْ تَوَاقِيعْ
– وَسَيفٍ بِلاَ دِمَاءٍ أَوْ رَبِيعْ
لَمْ تَكُنِ المُعَادَلَةُ سَهْلَةً فِي حَرْبِ جُثَّتِنَا الجَدِيدَة
فَالضَحَايَا المَقْتُوُلُوُنَ لَيْسُوُا مَألُوُفِينَ هَذِهِ المَرَّة .!
إِنَّهُمْ آخِرُ مَا تَبَقَّىَ مِنْ دَمِ الطَّبِيعَةِ وَالسَّمَاوَاتْ
إِنَّهُم آخِرُ النَّايَّاتِ الشَجِيَّةِ التِي تَذْرِفُ نَارَ الحُبِّ
على لَحْمِيَ الحَزِينْ .!
*************
(كتابات) : في ديوان (أكثر من عكازة للقلب الوحيد) يخفي تأثراً بالتراث وراء الكلمات .. ماذا يمثل لك التراث ونصوصه ؟
- لا أعتقد أن ديوان (أكثر من عكازة للقلب الوحيد ) يخفي تأثراً بالتراث بأي صيغة من الصيغ، لا من قريب ولا من بعيد، وجميع الكلمات المتضمنة في النصوص والقصائد، هي لبنات وبناءات لتعبر عن خصائصها الإستيعابية السلوكية والمعنوية الدالة على مواقف عصرية إستدعتها التفاعلات مع مجريات الحياة الراهنة ومشكلاتها، دون تأويلات مغلفة أو منغلقة على وقائع ضيقة وبعيدة عن الواقع، بل هي واضحة المعنى والدلالة في الإطار الذي وجدت فيه كلمات الديوان وجمله الشعرية في معالجة موضوعاتها المطروحة، ولا خلل في ذلك البتة، وربما إختيار المفردات غير المألوفة أو الشائعة في الديوان يجعل المُطَّلعَ على نصوصه، يتصور لأول وهلة أن التراث حاضر وراء المفردات والمعاني. وهنا أحب أن أبينَ: بأنّ تجربتي الشعرية، لها نظرة معمقة حيال فهم التراث وملابساته وتحولاته المختزنة في المساحات الفكرية والمنظورات التحليلية، وبالتالي فانَّ هذه التجربة الشعرية تعي جيداً وتعرف أين تتحرك منهاجيتها الكتابية، عند كتابة النص الشعري، خاصة وأنَّ ديوان (أكثر من عكازة للقلب الوحيد) جاءت قصائده لتحاكي الواقع الشاسع بمختلف عللهِ الكبيرة، وجمالياته المأمولة، وبرؤية حديثة وأفكار تجريبية مُعمقة ذاتيًا وفلسفياً، كما ينزع إليها العقل الإبداعي في الكتابة والتعبير عن مثل تلك الظروف التي عليها حياتنا المعاصرة، دون إغفال الرؤية التقييمية لذلك التراث الفكري ومعطياته السلوكية الممكنة.
(كتابات) : هل تراجع الشعر أمام السرد من قصة قصيرة ورواية في رأيك .. ولما ؟
- يبقى الشعر هو المرآة ويبقى في المقدمة، لأنّ الشعرَ ضمير المجتمع اليقظ، وسيبقى محافظاً على وزنه في المقدار والأهمية القصوى من جسد الثقافة والتنوير بأي مجتمع كان، فهو بمثابة الماء للجسد، ولكن إنهماكات المجتمع جرّاء تبدلات الأحوال المعاشية نحو حاجاته الأولية والأساسية، وعدم إستتباب الظروف الحياتية والأمنية، أحدثت إنحساراً ما في العطاء الشعري أو في تقليص دوره المؤثر على ذائقة الناس والاِهتمام به، وخاصة وأن جُلَّ مجتمعاتنا وأوطاننا اليوم تعيش في خضم حالات الحروب والتهجير والنزوح ومرارات العيش، والشعر أمام هذه الحالات يلوذ إلى بذر العطاء بشكله الهادئ – المؤلم دون دعايات ولا أضواء لأنه منهمك بتلك الأزمات بشكل جاد وليس إعتباطياً أو إنفعالياً.
ومهما يكن من إعتراف حقيقي على صعيد الواقع الملموس، من أنّ الرواية تشكل محطَّ إهتمام الذائقة القرائية بشكل ملحوظ وواسع يتجاوز ما عليه حال الشعر حالياً، فينبغي أن نشخص دلالتين مهمتين بخصوص إنتشار الإهتمام بكتابة الرواية والسرد هنا:
- أولهما أنَّ البعض من كتاب الرواية والسرد الحاليين هم في حقيقة الأمر من الشعراء.
- وثانيهما أنَّ الأهداف التجارية باتت تتحكم بنوعية المنتوج الأدبي، والرواية دخلت في بورصة هذه الأهداف.مع ضرورة تأكيداتنا على أن معيار الحكم يبقى هو الجودة الإبداعية لأيّ نمط من الكتابة.
(كتابات) : أيهما تفضل القصة القصيرة أم الشعر في الكتابة .. ولما ؟
- من الحيف أن نقيم تفضيلاً مطلقاً بين الأجناس الأدبية، فلكلّ ميزاته وجمالياته وجدواه، ولكلّ جنس أدبي من ناحية الذوق النقدي له دوره في العطاء والتراكم الإبداعي، وأنا أكتب القصيدة بشكل دائم خلال الوقت، ولا أمنع ذاتي أيضاً من كتابة القصة القصيرة ولا الرواية أحياناً حين يستوجبني أمر كتابتها، لأن أجواء كتابتها أيضاً تشعرني بالمتعة والتفكير العقلاني بإتجاه هندسة المواقف وتبريراتها المنطقية، وكيفية المضي بالتعامل مع المشكلات الفكرية والحياتية التي تعترض تصوراتنا وحياتنا العامة.
وبرغم نظرتي الإيجابية للتفاعل مع القصة القصيرة أو الرواية أيضاً، لكنني أنظر إلى الشعر بوصفه ثائراً متحرراً من قيود التكبيل والإرتهان، ودائماً في الشعر تتجسد الإرادة النادرة للتعبير عما أُريد التعبير عنه، لكون الشعر يمنح العقل إنطلاقة مبهرة – وقدرة مطواعة على إستيعاب أي حدث أو صورة ضمن الكينونة الشعرية للقصيدة الحيّة. فالشعر هو إقتلاع خلاق مبهر في نفسي، وينتابني مع أي هاجسٍ يحيط بي وبعوالمي وبيئتي.
صحيح أنَّ الإبداعية أو جودة المنجز، تبقى هي المعيار الفاعل إزاء فكرة التفضيل، بمعنى أنّ الرواية أو القصة الجيدة، هي أفضل من القصيدة الرديئة، أو بالعكس، ولكنَّ للشعر من وجهة نظري ملكات وإستعدادات وقدرات لا يمكن إمتلاكها أو ترويضها عند الكاتب ما لم يكن شاعراً في أول الأمر وفي نهايته.
(كتابات) : ما رأيك في حال الثقافة في العراق وباقي البلدان العربية ؟
- حال الثقافة ينعكس طبقاً لحال الأوطان ودرجة تطورها ورفاهيتها المنعكسة في تفكير المواطن وسلوكيات التفاعل الاجتماعي والنظرة إزاء الحياة وطرائق العيش، وواقع الثقافة في العراق، يعاني ركوداً وتراجعاً بسب ما مرّ به العراق من أزمات وحروب وحصارات وإحتلال ثم حروب ومشكلات عديدة، مما جعل الأداء الثقافي في حالة انحسار مؤسسي – واجتماعي، عدا ما يرشح عن بعض النشاطات المتجمهرة أسبوعيا فما يعرف بجمعة شارع المتنبي، ويغلب عليها الطابع الفردي أو الجماعي الخاص بنخب المبدعين والناشطين المعنيين، الذي يؤكد غياب الدعم المؤسسي الثقافي بشكله العام والفاعل .
كما ينحسر بشكل أوسع ذلك الجانب الثقافي في عموم المحافظات التي تعاني من اختلالات في تقديم المبادرات والعروض الثقافية، إلا في حالات نادرة ، في إقامة بعض المهرجانات واللقاءات، على غرار ما يحصل بالبصرة وبعض المحافظات من جنوب العراق أحيانا .
ولا يختلف الحال هذا عما يجري في بعض البلدان العربية الأخرى التي تواجه اليوم قلاقل وحروب ومشاحنات كثيرة، وربما حال دول المغرب العربي بفارق نوعي أو نسبي يبدو أفضل، ولكن يبقى وضع الثقافة العربية بشكل عام، وضعا لا يرتقي إلى طموح المواطن العربي المثقف أو عموم المثقفين الذين ينزعون إلى تجاوز معضلات الحياة اليومية وانشغالاتهم الضرورية بلقمة العيش، لكي يشعروا باستقرار البال والتفكير حيال ممارسة أدوارهم الثقافية وتفاعلاتهم الجادة مع المبادرات الثقافية العامة، التي تمنحهم الثقة والقوة والحصانة.
وربما هذا التقصير المعهود، ناجم عن تراكمات تقصيرية قديمة، أخذت تتبلور كواقع في مسيرة المجال أو الجانب الثقافي العربي، الذي بات هشاً ورتيبا بذات الوقت.
(كتابات) : هل يعد النشر مشكلة تواجه الأدب العراقي وتعوق انتشاره ؟
- نعم يعدّ ذلك مشكلة عملية وواقعية، وكلنا يعلم بأن فرص النشر الورقي لها دور كبير في انتشار الكتاب والتعرف على أسماء الكُتّاب والمؤلفين، خاصة بعد أن تخلت الحكومات بنسبة كبيرة عن إمكانية طبع المؤلفات وتقوضت فرص دعم الكُتّاب والأدباء في هذا المجال ، فأصبح هذا الأمر يضيق ، مما جعل الأديب يخوض غمار طبع نتاجاته بمفرده، وغالبا ما يؤثر ذلك على انتشار الإبداع، وفي جانب مزر أيضا فقد صار بعض الكتاب والمؤلفين واجهات دعاية وإعلان لبعض الناشرين مقابل نشر كتاباتهم، ونظرا لمحدودية إمكانيات الكُتّاب في توليهم ذاتيا وشخصيا وعلى نفقتهم الخاصة في طبع مؤلفاتهم، فقد صار هذا الأمر وغالبا ما يعرضهم للغبن أمام شراسة الهدف التجاري الذي يلزمهم به أصحاب المطابع الأهلية والناشرون.
ولهذا بات النشر الالكتروني – ملاذا مرحليا يعمد إليه الكُتَّاب لنشر نتاجاتهم مرحليا، عوضا عن الطباعة الورقية، التي مازالت محطَّ رغبة وثقة عندهم، ولكنها ليست متاحة أمامهم دائما أو في اغلب الأحيان، بسبب أعباء التكلفة.
(كتابات) : هل واجهتك صعوبات طوال طريق الكتابة لديك ؟
- الكتابة الصعبة بمعنى العُمق والغموض الجميل، هي الحقيقة التي يتجلَّى من خلالها إبداع الكاتب فيما يكتب، والكتابة أساسا ليست عملا سهلا ، فهي بمثابة تشييد خلاق لعالم فكري افتراضي أو مستوحى من الواقع، ممتلئ بكل مقومات الحياة المادية والمعنوية، وللكتابة كما هو معروف أهدافها المُنادية بجعل الحياة أكثر سمواً وسلاما وإنسانية، وتسعى نحو إزاحة العقبات النفسية التي تعترض الناس .!
ولكنَّ الصعوبات تكمن في مستويات الفهم والتفاعل بين المتلقي وما يكتبه الكاتب، وهنا تبدأ نظرية الإحالات التي تتجاذب بين الطرفين، فحين يتعمق الكاتب فيما يكتب مفترضا بأنَّ المتلقي سيستوعب ما كتبه، يتفاجأ الكاتب بأنَّ ذلك المتلقي يصفه بالغموض وتشتيت الأفكار خلافا للتوقعات.! وهنا تتواجد الصعوبات – وتبدأ معها سلسلة التكهنات والمراجعات، ثم لا يتوقف الأمر عند تشخيص مكامن الصعوبات، وإنما تتغير المواقف حين يدخل النقد الأدبي طرفا موازيا لتلك القناعات سلبا أم إيجابا أو يظل على الحياد أو لا يبالي بما قدَّم الكاتب من نصّ أو ديوان، ويظل الأمر مُلتبساً في هذه الحالة، ويعود موضوع الصعوبة برمته في نهاية الأمر للسؤال الكبير الذي يعبّر عن نظريات الأدب واتجاهاته، والدوران حوله في دائرة التعاليل والتبريرات، وهو : لمن يكتب الأديب أو الشاعر أو الكاتب.؟ أيكتب للقراء من الناس أم يكتب لذات الأدب أم يكتب لذاته فحسب.؟ لكن مهما يكن من أمر تلك الصعوبة ، فإنَّ مهمة الشعر تبقى قائمة على انتشال الذائقة من البقاء في دائرة التقوقع ومضائقها المحدودة، لكي تخرج إلى الفضاء الطبيعي الأرحب فكريا وتصوريا، وما يمكن من خلاله أن ينعكس سلوكيا وإجرائيا، ليتمكن القارئ من إعادة اكتشاف كنه الأشياء بطريقة مدهشة، وفهم الحياة فهما إنسانيا كبير المغزى، يجعله في نهاية الحالة عنصرا ثقافيا فاعلاً ومؤثراً متحرّكا في وسطه البيئي.
حتما سيغرق العالم بالسواد طالما لا قصيدة شعرية تتجلَّى ببياضها في الآفاق .! وهذا ما يجعلني دائما في حالة تصالح مع الحياة من خلال الشعر، وهو ما أؤمن به دون شك .!