26 ديسمبر، 2024 7:36 ص

مع كتابات..عيدروس الدياني: سَموم الحرب لفحتنا بنارها أينما ذهبنا

مع كتابات..عيدروس الدياني: سَموم الحرب لفحتنا بنارها أينما ذهبنا

خاص: حاورته- سماح عادل

“عيدروس الدياني” كاتب وقاص يمني، من مواليد ١٩٨٠، محافظة شبوة شرق اليمن، وهو عضو بنادي السرد الأدبي-عدن، نشر بعض قصصه في صحف ومجلات ومواقع عربية ويمنية.. له مجموعة قصصية قيد الطبع بعنوان “انتقام صغير”، فازت قصته “الوشم” بالمركز الأول لمسابقة مجلة “العربي” الثقافية بالتعاون مع إذاعة مونت كارلو لعدد مارس ٢٠١٧.

إلى الحوار:

(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟

  • بدأ شغفي بالكتابة منذ سنوات فقط، حيث كنت أميل بدايةً لكتابة خواطر بسيطة، أنشرها بوسائل التواصل الاجتماعي، ثم اتجهت بعد ذلك لكتابة القصة القصيرة، لكن ما كنت أكتبه من قصص لم أتجرأ على نشره بالبداية، لعدم ثقتي بجودته، فكنت أعرض ما أكتب على دائرة ضيقة من الأصدقاء والمعارف لم يكن لي أي معرفة بالوسط الأدبي حينها والحقيقة أن تشجيعهم، ودعمهم لي، ولّد لدي حافزا قويا للكتابة، وأخذت بملاحظاتهم، وآرائهم محمل الجد، فالقارئ الجيد متذوق للجمال، عارف بمواطنه.

بعد أن تعززت ثقتي بما أكتب قمت بمراسلة بعض الصحف، لنشر قصصي، وأتذكر أن أول قصة نُشرت لي كانت بصحيفة “القدس العربي”، بعنوان “رائحة الموت” ثم توالى نشري للكثير من القصص. ثم تعرفت على الدكتور “عبد الحكيم باقيس”، وانضممت لنادي السرد، فاستفدت من النادي كثيرا، وتعرفت على الكثير من الكُتّاب والنقاد الذين استفدت من ملاحظاتهم وآرائهم، ونقدهم أيضا.

(كتابات)  لما اتجهت لكتابة القصة القصيرة؟

  • ما أحببتُ قراءته، أحببت كتابته هكذا ببساطة، فالقصة القصيرة ممتعة كما أنها خفيفة الظل على القارئ، فهي تُقرأ بجلسة واحدة. ولذلك فهي لا تحتاج وقت طويل كالرواية، فأنا كقارئ قبل أن أكون كاتبا، أميل لها وأحبّذ قراءتها أكثر من غيرها.

وككاتب أرى أن الفكرة حين ترد إلى ذهن الكاتب، فإنه سيسردها قصة في وقت قصير، دون تكلف أو جهد كبير، فالجهد في القصة قبل أن أُمسك القلم، أما حين تأتي الفكرة، فما علي إلا أن أعيش أجواء كتابة القصة.

(كتابات) أنت عضو بنادي السرد الأدبي بعدن.. متى تأسس وما هي نشاطات هذا النادي؟

  • كان نادي السرد فكرة تراود عدد من أساتذة كلية الآداب في عدن، ثم بالإرادة والإصرار وبجهود ذاتية، تأسس النادي في 27 أكتوبر 2015 كحقيقة على الأرض. يرأس النادي الدكتور “عبد الحكيم باقيس”، وله دور فاعل في النادي وفي جمع شتات الكُتاب حوله.

كان الهدف العام للنادي هو استعادة مكانة عدن الثقافية وريادتها الإبداعية. تمثلت نشاطات النادي في إقامة عدد من الفعاليات الأدبية الصباحية والمسائية، وتشجيع المبدعين من الشباب واحتواؤهم تحت لوائه، بالإضافة إلى النقاد، والمهتمين.. ويحتفي النادي بالإنتاج الورقي للأقلام المبدعة في القصة والشعر والرواية.

.(كتابات) في رأيك هل أثر طغيان الرواية على القصة القصيرة وهل فكرت بكتابة رواية؟

  • عربيا هناك بعض التأثير يتمثل في كون الرواية هي أكثر المطبوع أدبيا ويتميز سوقها برواج واضح ورقيا، ولكن القصة، ظلت تحتفظ بمكانتها في كونها تحجز مكانا لا تنافسها فيه الرواية في المجلات والدوريات والصحف، وفي مواقع التواصل فهي هنا مطلوبة أكثر وإن كان سوق شراءها ورقيا أقل.  وقد بدأت بالفعل في كتابة رواية، ولكن لم تتضح معالمها بعد وتحتاج إلى جهد حتى تكتمل، وتكون بصورة جيدة.

(كتابات) في قصتك (عقل متسخ) فكرة طريفة عن غسل العقل بماء.. حدثنا عنها وعن دلالاتها؟

  • القصة تسلط الضوء عن الأفكار التي غزت عقول بعض الشباب، من تكفير وحث على القتل والإرهاب، رحلة العقل الذي التقط بعض تلك الأفكار المنحرفة، تلك الأفكار التي ظن أنه يستطيع غسل عقله منها بالماء، وظل يبحث عن بركة الماء تلك التي يغسل فيها عقله ليتطهر من تلك الأوساخ العالقة به، وفي تلك الرحلة رأى زيف تلك الأفكار، ومدى الشر الذي تغرق فيه. “بركة الدم” “الذئاب” وغيرها.  فعاد إلى موطنه وقد تناثرت تلك الأفكار بعيدا عن عقله. حينئذ لم يكن بحاجة لغسله بالماء، فعاد ليعانق موطنه بعد أن صار نقيا كالمطر.

(كتابات) في قصتك (عنوان) رصدت كيف أن الإنسان لا قيمة له عند بعض الأغنياء في حين أنهم مرهفو الحس تجاه الحيوانات.. هل هذا يحدث في الواقع؟

  • هناك ولع بتربية بعض الحيوانات والاهتمام الذي يفوق الحد المعقول، والتفاخر بذلك عند بعض أغنياء الطبقة المخملية، وهو أمر واقع بكل تأكيد. وهذا الأمر أقل سوء من نظرة البعض منهم للعامل الفقير، الذي لا يأبهون لألمه، ولا لمعاناته. بل ربما آذوه بكلمة أو تصرف، تجرح إحساسه كإنسان.

كي تبين مساوئ مجتمع ما، عليك أن تنظر له من الأسفل، من قاع المجتمع، فهؤلاء الذين في القاع يعرفون مدى قسوة المجتمع، فهم أكثر الناس معاناة وألما.

 

     (كتابات) ما تقييمك لحال الثقافة في اليمن وكيف تأثر بعد الحرب؟

  • حال الثقافة في اليمن سيء جدا قبل الحرب، فاليمن بلد فقير غارق في الفساد، لا يوجد دعم حكومي لهذا القطاع، إلا ما ندر، وهذا الدعم النادر يبدده الفساد، فلا يصل هذا الدعم لمكانه الصحيح، هذا قبل الحرب.

وبعد الحرب زاد الأمر سوء. هذا بالنسبة للثقافة بشكل عام، أما في مجال الكتابة فأرى هناك طفرة ثقافية للكتاب، ولعل وسائل التواصل ساعدت في ذلك، فهناك أقلام يمنية كثيرة برزت في الشعر والرواية والقصة، كما أنشئت الكثير من الأندية الأدبية، وكل ذلك طبعا بمجهودات فردية، ولكن أثرها كان جيدا ومبشرا بمستقبل أفضل للكتابة الإبداعية.

 (كتابات) هل ساعدتك وسائل التواصل الاجتماعي على الوصول للقراء؟

  • وسائل التواصل ساعدتني كثيرا، فهي النافذة الأهم لنشر ما أكتبه، كما أنها أتاحت لي فرصة التعرف على الكثير من المثقفين والأدباء العرب، وتبادل المعارف والنصائح، وخلقت وعيا لكثير من الأمور التي تهم الكاتب والمثقف.

وسائل التواصل جعلتني أقرأ كثيرا لأدباء كثر لم أكن لأجد ما يكتبون لولاها، كما أن الإنترنت بشكل عام أفادني كثيرا، فعدد الكتب التي قرأتها عن طريق النت وملفات الpdf أضعاف ما قرأته بالكتب الورقية، بغض النظر عن أفضلية القراءة بينهما، لكن الكتب الإلكترونية الوصول إليها أسهل من الكتب الورقية، وأوفر ماديا، فهي ملاذ جيد لنا نحن الفقراء.

(كتابات) في رأيك ما الأسباب التي تجعل الأدب اليمني غير متواجد على ساحة الثقافة العربية؟

  • ضعف الجانب الإعلامي في اليمن والتعريف بالثقافة بشكل عام هو ما أدى لتغييب اليمن، فاليمن شبه معزول ثقافيا، نتيجة لضعف الإعلام اليمني الذي يبرزه عربيا، ولعل ضعف الإعلام سببه قلة الدعم، فالدول الأخرى تمتلك أدوات إعلامية ضخمة تُروج لكتابها ومبدعيها، وتمتلك عناصر فعالة مؤثرة في القنوات الإعلامية الكبرى، وهذا مالا يتوفر للثقافة باليمن، ويقتصر النشاط على الإعلام المحلي الذي لا يتابعه إلا الجمهور في اليمن، بينما في الدول الأخرى اليمن مغيبة تماما، في الجانب الثقافي.

(كتابات) احكي لنا كيف تعيش أجواء الحرب في اليمن وكيف يؤثر ذلك عليك ككاتب وعلى رفاقك من الكتاب؟

  • أنا مغترب بالسعودية منذ مدة، ولكن سَموم الحرب لفحتنا بنارها أينما ذهبنا، فنحن في معاناة دائمة ما بين هموم العمل وما نقاسيه من الغربة من جهة، والقلق على الأهل في ضوء انهيار العملة المتواصل. كما أن القتل وصل لكل مدينة وقرية، والخراب والدمار عم على الجميع وتأثر به الجميع وتأثر الكتاب كغيرهم بتلك الأجواء المحزنة.

ولكن رغم المعاناة التي يقاسيها الكتّاب بالداخل أو الخارج، إلا أنها زادت الهمة لديهم وأعملوا أقلامهم ليعبروا عن آلامهم وعن فضائع الحرب، فسطروها في قصصهم وأشعارهم.. فالألم والمعاناة مولدان للإبداع بالإصرار والتحدي، والتمسك بخيط الأمل مهما كان رهيفا.

(كتابات)  في رأيك هل هناك أفق لحل أزمة اليمن؟

  • نهرب دائما من الكلام في السياسة، وخصوصا حين نتحدث عن اليمن، التي يحكمها جهلة أنانيون، ساهموا في دمار البلد، فكل هذا الصراع والحرب إنما هو صراع على السلطة والنفوذ، غذته تنظيمات مؤدلجة، واستغلتها  بعض الدول لمد نفوذها، فصارت البلد ساحة حرب إقليمية ودولية.

الحل يكمن في تأسيس دولة قوية على الأرض، وليس في المنفى، تعمل جاهدة على إنهاء التمرد، فهذه الجماعة المتمردة كغيرها من الجماعات المؤدلجة، لا تفهم لغة الحوار، وتمارس التُقية بشكل كبير، حين الضعف، ثم ما تلبث أن تكشر أنيابها، وتمارس الجبروت بأبشع صوره، الحل يكمن في انتزاع البلد من يدها، أما غير ذلك من حوارات وتفاهمات، فهو تأجيل للحل،  مما يزيد معاناة الشعب، الذي بلغت معاناته حدا كبيرا، قتل ودمار وجوع، ومن يسلم من واحدة تلحقه الأخرى.

لكن للأسف الدولة هذه هي غير موجودة ولا يبدو أن هناك نية لدى اللاعب الدولي في تأسيسها، فضاعت البلد بين حكومة شرعية مهترئة، وضعيفة وفاسدة متعددة الولاءات، وبين تمرد طائفي سلالي يتبع لنظام الملالي، لا يهمه إلا أن ينفذ مخطط مموليه ويستمر في الحكم مهما بلغ الخراب والدمار.. الآن لا يبدو أن هناك من حل يلوح في الأفق قريبا.

قصص لعيدروس الدياني..

عقــل متـسـخ..

حدّثتُ نفسي بصوتٍ عالٍ: “سأطفو بعقلي في بركة ماء، كي أبدو نظيفاً، قبل أن أذهب لخطبتها مرةً أخرى، ستراني تلك المرأة الناضجة، وستحبني وستتحسس عقلي -ستجده يلامس مسامات وجهي- وستقول لي: ” كم أنت جميل!”، ولا أظنها ستهتم لطول قامتي، ولا لنظارة وجهي “.

أتذكر أنني في المرة السابقة ذهبت إليها، وكنتُ مهندما جدًا، وعطري يسبقني بعدة أمتار، حتى ألتصق بها، ووقفت أمامها، فتأففت مني، وأشاحت بوجهها عني قائلةً:

“إن عقلك متعفنٌ في رأسك، وعفنه لن تزيحه العطور ولن تجمله بهندامك، اذهب فقد أوجعني رأسي من شدة العفن ”

ولكن أي بركة ستغسل عقلي، وستزيل الأوساخ من جبهة مخي ؟!.

حين سألت لم أجد من يدلني، كلهم يستهزئون بي، ولا ألومهم فعقولهم كانت أشدّ عفنًا، فلو عرفوا لكانت عقولهم أولى بالغسل . . .

قبل أن أبدأ مشوار البحث ذهبت لألتمس دعوةً من أبي الذي توقف سمعه عن التقاط الكلمات من مدة طويلة، وترك أدويته مكومة أمامه على طاولته الخشبية، لم يتناول منها حبة واحدة.

لم أتوقع أن أصواتنا مزعجة لهذا الحد، ولم أكن أعلم أن أحاديثنا باهتة ولها طعم يثير الغثيان، أبي قد عاف كل الأصوات وآثر أن يستمع للصمت وطربت به أذناه.

ودّعني بقلب محب دون أن يعلم وجهتي ولا غايتي، وحسبي منه دعوات أرسلها عاليا ويداه تشير إلى السماء.

في جيبي بضعة آلاف من الريالات، أتجول بها في حاضرة البدو، كل شيء يتحرك سريعًا، حتى ينتصف النهار، فتتباطأ حركتها حتى كأنها نصف مشلولة.

هنا ربما أجد من ينظف عقلي، فهذه المدينة صارت ملاذاً لكثير من الأطباء الذين يأتون إليها من أنحاء جمهوريتنا المنحلة، وخصوصا بعد أن صار منفذنا الوحيد إلى العالم يمر عبرها.

طافت بي قدماي النحيلتان أبواب العيادات، وقوبلت بغضب من بعض الأطباء، واتهموني بأنني أستهزئ بهم وأضيع أوقاتهم …أحدهم جلس معي وتفهم حالتي بدايةً، وأتى بمقدمة هادئة فقال، إنه مضطرب ويعاني كثيراً من آلامٍ وهلوسات تنتابه، شكى إليَّ من ضيق شديد يداهمه فيجعله مكتئباً طوال اليوم، أشفقت عليه وهممت بأخذه إلى طبيب نفسي، ثم تذكرت! آه … إنه هو نفسه طبيب نفسي!

– “ما الفرق بيننا وبين جميع الكائنات الحية؟” سأل، ثم أجاب على نفسه: “لا فرق، فنحن نتنفس ونأكل ونشرب ونتألم ونصاب بأمراض كثيرة، وجميعنا أيضا نموت، وقبل أن نموت نتشبث بالحياة حد الموت!  إننا كالحشرات والزواحف والطيور وغيرها”.

أتيته أريده أن يدلني على بركة ماء أضع فيها عقلي كي تزول أوساخه، فجعلني أنا والحشرات والزواحف القذرة سواء!! “هذا ما لُمتُهُ بهِ في سرّي”. لكنني انتبهت… فسألته:

– “وهل لباقي الكائنات الحية عقل؟”

– “بالتأكيد”

– “وعقولنا؟”

– “ما بها؟”

– “هل تتسخُ عقولنا؟ ”

– “نعم تتسخ وتتعفن بالأفكار المنحرفة، إن بداية كل حرب كانت فكرة متعفنة غزت قائداً طمَّاعاً، فاستحال إلى وحشٍ يسحق كل ما يقف في طريقه، وكل إجرام وخطيئة في حياتنا مبدَؤها فكرة خبيثة في رأس أحدهم، استكان لها ولم يطردها”.

قلت لنفسي: “هذا الطبيب يبدو أنه سيدلني على بغيتي، ثم حدثته قائلاً:

– “أريد أن أضع عقلي في بركة ماء، أريد أن تذهب عنه كل الأفكار الهدامة والقذرة، أريد أن أراها تسبح بعيدا عن رأسي!”

تفحص وجهي، ليعرف مدى جدية حديثي، ثم انتابته ثورة غضب عارمة، وقال: “بركة ماء؟ عدت لسخريتك مجددًا، اخرج ولا تعد … الحق علي أن أعطيتك من الوقت مالا تستحق!”

خرجت، وفي طريقي مررتُ بمكتب إدارة المحافظة، كانت أمامه بركة صرف صحي مكشوفة، يتجمع حولها البعوض والصراصير وبعض الحشرات الصغيرة، متخلف يغطس فيها بجسمه، سددت أنفي بطرف عمامتي، واقتربت منه.

كان يتمتم: “ستحترق النجوم يوما ما، ستغوص في بطن الشمس، وتذوب كمكعبات السكر في كوب القهوة!”

وبعد أن قال جملته تلك التي لا أدري من أي لسان التقطها وهو ينظر إلى السماء، عمد إلى صنبور ماء مجاورٍ ليغتسل منه، تجرأت فسألته: “هل تغسل عقلك هنا؟”

فأعاد جملته الأولى: “ستحترق النجوم يومًا ما، ستغوص في بطن الشمس، وتذوب كمكعبات السكر في كوب القهوة”

كان يحرك يديه وكأنه يصب النجوم في قعر الشمس صباً.

أعدتُ سؤالي: “هل تغسل عقلك هنا؟

نظر إليَّ للمرة الأولى فقال وهو يبتسم: “يبدو أنك مجنون”!

سحبت نفسي واتقيت جنونه قبل أن يطفح فيصيب به عقلي المريض.

ركبت باصاً قديما صدئةً أطرافُه، فحملني إلى السوق القديم، وحين أنزلني زمجر وانطلق تاركاً دخانه الأسود خلفه.

تعرجت بأزقة السوق حتى قادني قدري إلى سوق الأغنام، وحينها تذكرت مقولة طبيبنا المسكين المضطرب حين قال: “إن كل الكائنات الحية مثلنا نحن البشر…”

رجل بريء بعيني خروف، كان يجول بالسوق، ثم يدور حولي، ويقف أمامي، فتلتقي عيناه بعيني.

همست له:” هل تغسل عقلك في بركة ماء “؟

هز رأسه، وأجابني أنه قد غسل عقله وصار نظيفًا نقيًا وبريئًا كبراءة عينيه الدائريتين!

أشار إليَّ برأسه، أن اتبعني!

تبعته وجزء مني يستهزئ بي: ” أتمشي خلف رجل بعيني خروف؟! ”

فيجيب جزئي الآخر: ” إن كان سيدلني على بركة ماء العقول فلا بأس”

وصلنا لوجهتنا، فكان شِعباً ضيّقاً، تحيطه الجبال من جهات ثلاث، وتمتد للجبل ذراعان متقابلان تشكلان بوابة طبيعية للشِعْب، وهناك يقف رجلان بملابس سوداء يحرسان المكان، قاما بتفتيشي واستفزاني كثيرًا، فأيديهم القذرة لا تترك مكانًا في جسمي إلا وتتحسسه.

حين دخلت الشعب كان الرجل الوديع قد تركني، فرأيت حيوانات كثيرة، نمورًا وذئابًا وضباعًا قذرة وثعالب ماكرة، وكلها كانت بأعداد قليلة، أما العدد الأكبر فكان للخِراف ذوات العيون البريئة، كل هذه الحيوانات رأيتها في عيون البشر هنا.

مهما كانت الأشياء المثيرة والمخيفة هنا، فلم أهتم إلا لبركة الماء التي سأغسل فيها عقلي. لقد ثَقُلَ حتى بدأ يميل بي إلى الأمام.

دليلي رجل كالكلب يلهث، ينبح بشدة في وجه الخراف المسكينة حين تصادفه في طريقنا يسير بي مسرعاً، حتى وقفنا على باب كهف، فوجدنا حراساً آخرين بأيدي قردة تعبث بجسمي ثم تدفعني إلى الأمام:

– “هل جئت لتنضم إلينا؟”

هذا ما جابهني به قائدهم الذي يحمل بطنَ دُبٍّ، ولساناً فيه لثغة خفيفة.

– “لا يا سيد، أنا أريد أن أضع عقلي في بركة ماء ، إنه متسخ، بل متعفن، أردت الزواج فلم تتقبلني تلك المرأة الراشدة حتى أطهِّر عقلي، وقد أخبرني أحدهم أنكم تغسلون العقول هنا”.

نادى أحد جنوده وكان يبدو كنمس، تقدح من عينيه شرارات، فتهامسوا قليلًا ثم أخذني إلى مكان آخر، كانت هناك بركة كبيرة، لونها أحمر!!

– “هذا دم ؟! الدم نجس، فلا تقل لي إنكم تغسلون العقول هنا؟! إنه سيزيد عقلي  عفنًا…”

حين صمتَ كنتُ قد أدركت أن هذا مراده، مشيت أريد الخروج، فأمسك بيدي: “لا تنظر إلى الأمور بظاهرها، فاللون لون الدم، ولكنه ماء يغسل أوجاع العقول، ويمنح الشفاء لأصحابها”!

لم تنطلِ علي كلماتُه، وأحسست بعقلي قد تحرر من بعض أوساخهِ قبلَ أن يطفو في بركة الماء، لكني تظاهرتُ بأنني سأغرق بعقلي في لونه الأحمر الدامي، وقبل ذلك علي أن آتي بردائي الأبيض، كي أبدو أكثر طهراً.

– “لا بأس اذهب وودع دنياك القبيحة، واستعد لتبدأ مشوار النقاء معنا”.

نظرت عيناي إلى البركة الحمراء واشمأزت نفسي، فرأيت الكثير من العفن يتطاير من جمجمتي فيغطس في البركة!، أفكاري تلك العفنة تسللت إلى بركة الماء خلسةً دون أن تدركها عين النمس الثاقبة.

مشيت بخفة، قدماي تسرع بي، رأسي لم يعد مثقلاً بالعفن، وإن كان مازال يحمل القليل منه، وعدت إلى المدينة الفتية صباحًا، فدخلتها مع أفواج البدو التي تزحف إليها، وكل منهم يحمل أمنية صغيرة سيحققها أو سيدفنها ويعود.

عليَّ أن أنتظر وقت الظهيرة كي أجد سيارة أجرة تقلني، تجولت في سوق الخضار، وأكلت سمكاً في مطعم شعبي، واشتريت حزاماً جديداً، ورميت القديم عند خياط الأحذية فربما سيستفيد منه، كل ذلك ومنظر بركة الدم الأحمر كابوس يطاردني، ولم يهدأ إلا على أبواب قريتي القِبْليّة، التي اكتست سماؤها بقوس قزح، بعد مطر غزير توقف منذ لحظات!

كانت فتاتي تنتظرني، وحين رأيتها ترجَّلتُ من سيارة الأجرة البيضاء، ودفعتُ لسائقها ألف وخمسمائة ريال كانت هي كل ما بقي بجيبي.

اقتربت مني وأنا حذر أترقب، ولا أجرؤ على الاقتراب كيلا تصدني كالمرة السابقة، لا زالت تقترب حتى اختلطت أنفاسها بأنفاسي واحتضنتني، فسكنت جوارحي، وأحسست براحة عميقة، ومسحت بيديها على خصلات شعري المنسابة حتى بداية ظهري، همسَتْ لأذني :”كم أنت جميل ونقي وطاهرٌ كحباتِ المطر”!.

فهمستُ: “وماذا عن عقلي الذي سيطفو في بركة ماء”

رفعتْ رأسها وابتسامة تعجب وفرح ترتسم بوجهها الجميل: ” أأنت تمزح “؟!!

مضينا وضحكاتنا تتبعنا حتى توارينا خلف باب واحد!.

………………….

في حضـرة المـوت..

صيحاتٌ تشقُّ أُذنَ السماء، تخترقُ الجدران، لتِصلَ إِلى أَسماعِ القرية، ثمّ تبدأُ نياحةٌ مضطربة، أصواتٌ تعلو ثم تنخفض تدريجياً.

جلستُ بجوارِ سورٍ طينيٍّ مُتهالك، لبيتِ عجوز ماتت منذ مدة، وهو الآنَ مهجورٌ، أَسندتُ ظهرِي إليه وذراعيّ إلى رُكبتيَّ، تقوّس ظهري، ورأسي يتدلّى منهُ طرفُ العمامة التي وضعتُها بعشوائية على رأسي.

أسمع لتلك البكائية الموسيقية، المستنزلة للدموع، فلفت انتباهي تلك الأوصاف الجميلة التي نعتن بها الميت!

أعرفه، كان بخيلاً -رحمه الله – وجباناً أيضًا، فالجبنُ رديف البخل- لقد تفجّرت الدمامل في قدميه  ولم يذهب إلَى الطبيب، مع أنه يعاني صعوبةً في المشي، كانَ يداوي قدميه بأعشاب يقطفها من الوادي. الدكانُ الذي يملكه كان يكسب منه الكثير، والسّلعة التي لا يملكها غيرهُ كان يضاعفُ ثمنها.

– “البارحة فاجأَهُ ألمٌ في صدره، ازداد شدةً حتى أماته صباحاً”.

هذا ما سمعته حين أتيت بعد سماعي للصراخ المدوي، الذي اهتزت له كل أسماع القرية. دسست يدي في جيبِ قميصي وأخرجتُ علبةَ السجائر: “سأدخنُ سيجارة الموت!”

سمّيتُها سجائرَ الموت لأنني أدخّنُها الآن في حضرة موت جاري البخيل.

عليٌّ ابن عمّي وهو ابن أخت المتوفى، ناديته فأتى، فجلس جواري، أحب مجالسته كثيرًا، لأنه طويل الصمت وأنا كثير الكلام !… بينما كنت أنفخ دخان سجائري، وأهذي بسرد يومياتي المملَّة، وتسكعي في الأسواق، وبطالتَي التي طالَ أمَدُها، كان صامتاً، ويتلقفُ البكائيات التي تأتي من الداخل، ويترجمُ النواحَ إلى مشاعرَ حزنٍ كستْ محيّاه ، وحين بلغ الحزنُ منتهاه، انفجر باكياً !

نظرتُ إليه فابتسمت! فالتفتَ إليّ بتعجب، لم يكن يتوقع أن أضحك، ربما كان يتوقع مني مواساته… لكنني ابتسمت بسخرية:

-“كف عن هذا، أعرف أنك لم تكن تحبه، وتلك النائحات سيتوقفن عن النواح مع أول آنيةِ طعامٍ يلمحن بريقها”.

قدمتُ له شاياً:

– “اشرب واجعل اليوم يمضي فحسب”.

مضت الجنازةُ يهرولون بها إلى المقبرة فقمنا نتبعها، ومضينا في ساقيةٍ صغيرة، على ضفتيها أشجارُ النخيلِ الباسقة، بعضها بلغ من الطول الكثير، بحيث لم يكن لأحد أن  يتسلقها، هي الآن أعشاش للحدأة التي تفتك بالحمامات .

بلغنا المقبرة، فوجدنا الحفَّارين لم ينتهوا بعد، فتفرقنا في المكان، كل منا يقصد ظلاً. أشجارُ السمر تنتشر هناك بكثرة، وقليل من السدر.

جلست تحت سمرة وأنزلتُ عمامتي لأجعلها حبوةً أشد بها ظهري.

جلس بجانبي رجل مُسن، نحيل الجسم، ذو لحية صغيرة بيضاء، لونه يزداد سمرة بسبب الشمس المحرقة.

من هيئته يبدو أنه بدوي، ربما كان ماراً فرأى الناس في المقبرة فأراد أن يحظى بثواب دفن الميت.

– “متى ينتهون من دفن الميت؟”

– “بقي القليل يا شيخ، لِمَ العجلة؟”

– “سأعيدُ هذه قبل أن يقفل المحل، فقد اشتريتها بالأمس!”

كانتْ بيدهِ مضخةٌ صغيرة للماء، أنزلها من ظهر حماره الهزيل، تبدو قديمة، فقلت له: – “ولِمَ تعيدها ؟”

– “إنها لا تعمل، لقد مدحها لي ذاك الأفّاك، كان يملك لساناً حلواً، ولكنه غشّني، أنا الآن متشوقٌ لأخذ حقي منه، أتمنى أن يسرعوا في الدفن حتى ألقاه قبل أن يقفل المحل!”

– “ممن اشتريتها؟”

– “لا أعرف اسم الرجل لكنه يملكُ أولَ دكانٍ على يمينك حين تدخل السوق، له بابٌ صغيرٌ، وشبه مظلم من الداخل، فإنارته خافتة!”

كان هو جاري الذي نحن على وشك مواراته الثرى، لا أعرف ماذا أقول لهذا المسكين، فخصمه قد مات !، فبادرته بسؤال:

– “ما كنت ستفعل لو علمت أن الذي باعك، هو من سنقوم بدفنه الآن ؟”

ظهرتِ الدهشةُ على وجهه:

– “أحقاً مات؟”

– “نعم لقد توفي البارحة بأزمةٍ قلبية.”

تلاشت ملامحُ الغضب التي ارتسمت من قبل على وجهه، وبدأت تتشكلُ ملامح أسىً تختلط بالشفقة:

“يا له من مسكين، كانت الابتسامة لا تفارقه، لقد كان مُهذَّباً معي بالأمس، وعاملني بلطف شديد!، أظنه أعطاني المضخة وهو يظنها تعمل… إنه بريء … أسأل الله أن يغفر له”.

رمى المضخة من يده وذهب ليساهم في الدفن ولسانه يلهج بالدعاء لجاري الميت.

………………….

حلـم العـودة..

دعني أمضي، فروحي في يدي أوشك أن أرمي بها تحت عجلات مركبة، أو من نافذة منزل، أو أصعد بها جبلا كي ترتج وتنطفئ، كشمعة بيضاء انطفأت في عتمة ليل موحش… سأعود بعدها بلا روح، جسد (آلة)، هل هذا ممكن ؟!

–  “إنك تهذي يا عادل، حينها ستذهب بلا عودة، الروح حين تذهب يذهب كلك بلا استثناء… يجب أن تتحلى ببعض الصبر…”

حاول صديقه صلاح أن يسدي إليه تلك الأمثال والنصائح المكررة التي تحث على الإيمان والصبر، ولكن دون جدوى.

عادل يواصل تذمره، وجبينه يتقطب، ويشتد عبوس وجهه، يقعد في وسط الوادي على حجر ملساء، يقابله صلاح الممسك بعصا ينكث بها البطحاء، ويرسم أشياء ثم لا يلبث أن يمحوها…

يتوقف عادل عن الكلام فجأة، ويقف ثم يمشي بثقل، أقدامه تتسحب على الأرض فيناديه صلاح دون أن يجيبه، كما أنه لم يبين له سبب قنوطه، وكرهه لكل ما حوله، بل لروحه التي يحملها بين دفتي صدره.

أثناء مسيره خلف عادل، تساءل صلاح: “ما هو سبب غمه؟” وأخذ يسترجع المواقف دون أن يهتدي لسبب، فيتعجب ويحدث نفسه: “مهما كان قربك من شخص ما، فستظل هناك مساحة مخفية، يداريها عنك”.

كان الجو صافيا، محملا بنسيم رقيق، يحرك الزرع والأشجار على ضفتي الطريق، دون أن يحرك في نفس عادل بارقة أمل، وكلمات صلاح التي تحاول كسر الجمود تتناثر حوله، لم يصغِ لها عادل، ولم تثر اهتمامه.

كانا يسيران، والشمس تتوارى تحت الجبل، وبدأ الظلام يتسلل وينشر خيوطه في المكان، وحين اقتربا من بيتيهما رأى صلاح السيدة العجوز زينب، أم عادل، والوحيدة التي تشاطره بيته بعد أن توفي أبوه عندما كان طفلا، رآها تؤوي أغنامها إلى حظيرتها، أما عادل فكان يمشي ورأسه منكوس ولا يرى إلا مسير قدميه، وكأنه يحمل غم سكان الأرض.

مضت تلك الليلة طويلة على صلاح، وأحس بقلق كبير، وخوف على صديقه وجاره عادل، واسترجع تهديده لـ “روحه” بأنه يوشك أن يقتلها… وما إن بزغ نور الصباح حتى سعى إلى بيت عادل.

كان عادل قد خرج مع أذان الفجر ليسافر إلى المدينة، حَزِن صلاح حين علم بذلك من السيدة العجوز: “تركني وحيدة وسافر”…”الله يوفقه ويسعده حيثما كان”….

حين وصل عادل إلى المدينة رآها تضحك منه، تسخر من هيئته، ومن لباسه ولهجته البدوية، يمشي دون أن يدري بوجهته، سار كثيرا حتى تعبت قدماه، وقتها كان النهار قد انتصف، فتناول الغداء بمطعم متواضع، تدور حوله القطط وتكثر الفتيات المهمشات، اللاتي يسألن الناس بإصرار واستجداء، وحين انتهى من طعامه، عاد يسأل نفسه: “أين أذهب؟” … “بمن ألوذ؟” وهناك تذكر شخصا كان صديقا لوالده، يعمل في مؤسسة حكومية، فبحث عن رقمه وهاتفه، وحين دله على مكانه أسرع في الذهاب إليه.

حين دخل عادل على العم محسن وجده يتناول القات ويسعل بشدة حتى يكاد يختنق، سلّم عليه وأجلسه بجواره، وحين علم أن عادلاً يريد عملا ليستقر في المدينة، تغير وجهه، وبدا مستاءً، رغم تظاهره بأنه سيعمل ما بوسعه لذلك…

تبدد بعض بؤس عادل لكنه مازال خائفًا، وغير واثق من المستقبل، الذي لا يرحم، وحين يوزع الفرص يترك اليتامى والمساكين في آخر الطابور، ليأخذوا الفتات، يبلعون غصتهم ثم يمضون.

كانت الحرب قد اشتعلت في أطراف البلاد، والتزم الكثير من العساكر بيوتهم، وفُتح باب التجنيد، فزج العم محسن بعادل مع المجندين الذين أغلبهم من الشباب الفقراء، الطامحين للعمل… لقنه الكثير من كلمات التشجيع، وأن المستقبل سيكون لحماة الوطن، وأن هذه هي المهنة الأسمى والأرقى على الإطلاق، فارتدى عادل بدلة عسكرية جميلة، أكبر من مقاسه قليلًا، وربما أن جسمه النحيف لم يجد له قياسا يناسبه.

مضت شهور التدريب سريعًا، فالتحق المجندون الجدد بالمعركة، وكانت تمر أيام سكون وهدوء بين الطرفين، حتى لربما ظن المتابع أن المعارك قد انتهت، ثم تعود متقطعة دون تقدم لأحد على الآخر.

اشتد عود عادل، ورافق أصدقاء جبهة أوفياء وظرفاء، ولهم روح خفيفة تبعث على الابتسام رغم غبار الحرب وأصوات المدافع، وأزيز طلقات الرصاص، ورغم الموت الذي خطف الكثير من رفاقهم.

في يوم زاد شوقه لأمه، فقطع مسافة بعيدة كي يلتقط أبراج الهاتف، وكانت أمه على الجهة الأخرى تختلط دموع فرحها بسلامته، مع الخوف من فقده:

– “ولدي متى تعود؟”

– “حين تنتهي الحرب.”

– “ومتى ستنتهي هذه الحرب الملعونة؟ ”

– “لا أدري أمي …لا أدري! ”

لكن أتوقع أن تنتهي قريبا … سكت برهة ليبلع كذبته على أمه.. ثم ودعها وأرسل سلامه لصديقه صلاح بلسانها…

تأثر لبكائها، وقفز لمخيلته منظرها إن فقدته بهذه الحرب، وأي مصيبة ستحل بها؟

لم تعد فكرة قتله لروحه تهاجمه، ولكنه يتوسل الله أن تنتهي الحرب فيحتضن أمه، وفي الوادي يجلس على تلك الحجر الملساء، يقابله صلاح دون أن يتذمر أو يهذي بقتل روحه مرة أخرى.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة