حاورته – سماح عادل :
“عز الدين بوركة” شاعر وناقد مغربي، نائب رئيس تحرير مجلة “الربيع الثقافي”، ومساهم في عمود الفن التشكيلي بجريدة “القدس العربي”، كما نشر مقالات في مختلف المجلات العربية والمواقع الثقافية.. له دواوين شعرية، منها “بعيداً عن العالم”، و”حزين بسعادة”.. تحاورت معه (كتابات) حول ديوانه الأخير “ولاعة ديوجين” وحول النقد العربي..
(كتابات): قلت مرة أن الكتابة لابد أن تؤدي للجنون أو الانتحار.. ماذا تعني الكتابة بالنسبة لك ؟
- أولاً لابد من توضيح بسيط.. مفاده أن الانتحار أو الجنون هنا ليسا بالمعنى الفعلي/المادي فقط، بل إنه أيضاً رمزي، وهذا الأخير هو الأشمل والأصعب.. فاستيعاب الكتابة يؤدي بالكاتب “الحقيقي” إلى حالات من الجنون الرمزي، أي عدم الانصياع إلى الواقعي والمألوف، أي بمعنى أدق الولوج إلى عوالم خفية تُحدثها الكتابة النابعة من حرقة واشتعال داخلين وليس اصطناع وتَقَنُّع.
الكتابة ليست شئ أو معنى محدد، أو فعل يُمارس بسهولة، إنها وجود مواز للوجود الجسدي، فالكاتب المحكوم بالكتابة هو محكوم بهمها ونارها التي لا تُخمد.. أن تكتب يعني بالنسبة لي، أنك ملزم على قطف الوردة من أشواكها، غير آبه بالألم، ناظراً إلى جمالها فقط، وأن تكتب يعني أن تخوض غمار صحراء لا ماء فيها، متابعاً سرابات عدة، باحثاً عن بئر كأنك نبي يبحث عن خلاص.. وهذا هو الانتحار.. فأنت تخرج من جسدك، تقتله، تنساه، تعلقه وترحل إلى عوالم الاحتراق.. الكتابة ليست ترتيب الكلمات قرب بعضها البعض في منطق نحوي، بل إنها أكثر من ذلك، إنه تجديد مستمر، فالكاتب الذي لا يستطيع أن يأتي بجديد، ما هو إلا صدى لماض زائل، إنه صوت سابقيه، يعشون داخله، يقتاتون على دمه، وغير قادر على التحرر منهم، وكم هذا صعب، لهذا فالكتابة انتحار وجنون، وإن أذهب إلى الرمزي، فلا كتابة دون حياة، ولا حياة دون كتابة.
(كتابات): الوحدة.. العزلة.. الموت.. العبث.. معاني يطفح بها شعرك.. لماذا ؟
- إني مسكون بهذه الثلاثية بالتحديد.. وأحييك على استنباطك هذا لثيمات الاشتغال داخل نصوصي، العالم كما تعتبره الوجودية، خاصة مع الكاتب الفرنسي “ألبير كامو”، هي عبثية، أو فوضوية كما تعتبرها الفيزياء في بعدها الذري، وأما الموت فهو الشئ الحقيقي الوحيد في هذا العالم، إننا نولد حاملين جينات الموت.. أما العزلة فهي هم كل كاتب، هم كل مبدع، الانعزال ليس بمعنى الوحدة، فلا وجود للوحدة، ونحن غير قادرين على الوجود وحيدين، ولكن نحتاج للعزلة كما نحتاج للماء، أن تكون معزولاً أي أنك مع ذاتك ودواخلك، فأنت لست وحدك، فأنت معك، تحاول عبور دواخلك والتجدد بقدر المستطاع.
إن أجدني دائماً معتقداً أن الكاتب، الشاعر أو السارد أو المفكر أو حتى الفنان، ملزم على الإجابة عن هذه الأسئلة الثلاث، باعتباره الوحيد القادر على الخوض فيها، لاعتبارات عدة أهمها أنه يمتلك مفاتيح هذا السؤال.
(كتابات): لما يميل شعرك إلى التجريد.. ويدور بشكل ما حول نهاية العالم.. واستنفاذ العالم لجماله ولذته ؟
- أقف أمام هذا السؤال شاعراً وليس ناقداً.. إذ كم يصعب نقد ما نكتبه بأيادينا !.. حينما كتبت ديوان “ولاعة ديوجين” كنتُ مسكوناً بهذا السؤال/الموضوع، إنه سؤال أنطلوجي، فكل الحضارات حاولت أن تجيب عن هذا السؤال، إذ إنه متأصل في اللاوعي الحضاري والاجتماعي للبشرية جمعاء، مثله مثل سؤال “الخلق” و”العدم” والأسئلة الميتافيزيقية الأخرى..
ويأتي التجريد كأسلوب كتابي، لمحو كل العلامات المباشرة “للقول”، فالشعر المعاصر يميل إلى الغموض والتشفير والترميز والقول الخفي، وكما هو أكثر ميلاناً إلى الصورة الشعرية المكتوبة عبر لغة خالية من البلاغة العاجزة على التعبير عن اليومي والهش (الإنساني)، فالشعر اليوم ينتصر للذاتي والأشياء البسيطة مُبتعداً عن أية “محكيات كبرى” خالية من “التجريد” ومحاكاة الواقع، فدور الشاعر أن “يقول وألا يقول”، أي هو ليس ملزم بخلق معنى ما، فالشعر في حد ذاته معنى..
(كتابات): ما رأيك في حال النقد العربي.. وهل يمكن الحديث عن حركة نشطة للنقد المغاربي ؟
- يعرف النقد العربي حركية واضحة المعالم وتعددية بارزة، إذ صار هناك تواجد لأسماء “شابة” صاعدة تمتلك جمرة النقد، غير مسكونة بنفس الأسئلة التي لم يستطع مجموعة غير صغيرة من “السابقين” – الذين نصطلح عليهم بالرواد – أن يمتلكوا القدرة والشجاعة على طرحها.
إلا أن هذا لا يمنعنا من التأكيد على وجود تعثرات وشوائب يعرفها النقد العربي الحالي، إذ إنه رغم كل المواضيع الجديدة والفتوحات التي استطاع أن ينجزها، فهو غير قادر على أن يكون مدرسة أو اتجاهاً أو تياراً عربياً خاصاً – محلياً على الأقل، فالخلفيات التي يستند عليها نقادنا اليوم كلها غربية محضة، فإن كان “الرواد” قد أخذوا مراجعهم من الكتب العربية والنحو القديمين، فالنقاد الجدد غير قادرين على تجاوز “الخطاب النقدي الغربي”، والعيب لا يقف عند النقاد فقط، بل إن المبدعين أنفسهم يكتبون نصوصهم انطلاقاً من ما آلت له الكتابة الغربية أو الترجمات للنصوص الأجنبية، إلا أننا نتحسس أملاً خفيفاً، وضوءً في الأفق.
(كتابات): لما اعتمد النقد العربي على نظريات النقد الغربي بشكل أساسي وفي رأيك لما لم تظهر نظرية عربية للنقد ؟
- لقد حاول النقاد في بداية القرن العشرين أن يكتبوا انطلاقاً من القراءات والنقد العربي المحض، لكن ما عرفه النص العربي من تطور ملحوظ، متأثراً بما وصله من ترجمات ونصوص غربية، بعد الانفتاح الواسع على جل التيارات الغربية، ولو بتفاوت وتباين وتباعد زمني، يرجع لضعف الترجمات إلى العربية لما آل له النقد الغربي، كما الإبداع منه، فمثلاً إن كانت قصيدة النثر قد ولجت إلى النص الإبداعي العربي مع منتصف القرن الماضي، وإن كانت بوادرها في العقود الثلاثة الأولى، فإن المبدع العربي قد نظر إلى هذه القصيدة من القرن 18 وقد تفشت في الغرب منذ القرن 19 واستكانت مع “بودلير” وغيره، فالبطء في التعامل مع المتجدد العالمي، جعل النقد العربي يبقى حبيس التنظير القديم، والتباين الزمني في التعامل مع النقد الغربي جعل هناك نوع من التبعية، سواء أردنا الاعتراف أو أبينا.
ويأتي النص الإبداعي كعامل أساسي، لهذه التبعية، فالنقد هو دائماً تابع للنص، وهذا الأخير مادام غير قادر على أن يتمرد على القوالب الغربية فالنقد سيبقى حبيسها أيضاً، فتاريخ النقد هو تاريخ المنقود، بالضرورة.
(كتابات): هل هناك غزارة في إنتاج الشعر والأدب بشكل عام في الوقت الحالي.. خاصة بالنسبة للشباب وما تفسيرك لذلك ؟
- يعرف الإبداع العربي زخماً، غير ذي سبق، في عدد “الكتاب والشعراء”، العدد الذي يتزايد يوماً على يوم، لما بات يتمتع به الشاعر العربي من حرية واسعة من مساحة النشر، يلعب الفضاء الأزرق، الأنترنت، العامل الرئيس فيها، إن لم نقل العامل الأهم والأكبر، فكل يوم تصادف اسماً جديداً يكتب في جنس أدبي معين، من شعر وقصة ورواية ونقد وغيرها.. وهذا ما يضعنا أمام “بارادوكس” من حيث أننا أمام وجهتي نظر، الأولى رائية بكون هذا الزخم يفتح الكتابة أمام نوع من “الميوعة” لا تخدم الأدب والإبداع، إذ أن هذه الغزارة تخلق متلقياً غير قادر على التمييز بين ما هو “صالح” للقراءة وما هو غير صالح “للهضم”، بينما يرى آخرون، أن هذا الكم من الكتاب هو في حد ذاته مفيد، ويعد نوعاً من مواجهة التراجع والتخلف و”التدعش”، إذ أن دور النقاد هو غربلة النصوص الجيدة وغير الجيدة، وليس لأحد حق منع الآخر من حق الكتابة والإبداع.
(كتابات): في رأيك هل ظهور الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي دعم الثقافة العربية وسهل ظهور الكتاب ووصولهم إلى القراء أم لا ؟
- كما سبق وأجبت في السؤال السابق.. فالانترنت لعب دوره الأهم في دمقرطة الإبداع ومساحة النشر، بعدما كانت المنابر الإعلامية حكراً على أسماء معينة، تكرس اسمها وتكرس بعضها البعض، أسماء ممن نحسبهم رواداً كانوا يحاربون كل من يحاول أن يظهر إلى السطح، وأن “يزاحمهم” في الكتابة، خوفاً من الكشف على ضعفهم وعدم القدرة على التطور والخروج من عباءة ماضيهم، وأيضاً الكشف عن مصادرهم التي أوردوا منها.
ونفس الوقت فالانترنت لعب دور دمقرطة القراءة وجعلها فعلاً متاحاً للكل، غير مقتصرة على نخبة معينة، احتكرت النشر والقراءة، وهذا في حد ذاته تبشير بأفق تنويري يمكن بلوغه في المستقبل القريب، ومواجهة التطرف بكل أشكاله.