24 ديسمبر، 2024 7:27 م

مع كتابات.. عبد الرّزّاق بوكبّة: الكتابة عناق خاصّ بين نسيج الوجدان ونسيج الأفكار

مع كتابات.. عبد الرّزّاق بوكبّة: الكتابة عناق خاصّ بين نسيج الوجدان ونسيج الأفكار

خاص: حاورته- سماح عادل

“عبد الرّزّاق بوكبّة” كاتب جزائري متعدّد المواهب، وإعلامي من مواليد “أولاد جحيش” في الشرق الجزائري عام 1977، أصدر 11 كتابا في الشعر والقصة والرواية والسيرة والإعلام الثقافي، منها مجموعته القصصية “كفن للموت” الصادرة عن دار “العين” المصرية عام 2016 وترجمها للإنجليزية المصري آدم طالب عن مجلة “ذي كومون” التي تصدرها جامعة “آمهيريست الأمريكية. واختير من بين أهمّ 40 كاتبا عربيا شابا عام 2010، من طرف مؤسسة “هاي فيستفال” البريطانية عن كتابه “أجنحة لمزاج الذئب الأبيض”.وقد ترجمت بعض نصوصه للفرنسية والأمازيغية والكردية والألمانية والانجليزية والإسبانية. ويعد ويقدم فضاء “صدى الأقلام” المسرحي منذ 2005 ويشغل منصب مدير نشر دار “الجزائر تقرأ” واسعة الانتشار في أوساط الشباب الجزائريين، كما كانت له تجربة في إعداد وتقديم البرامج الثقافية الإذاعية والتلفزيونية إذ تحصل عام 2010 على درع الريادة العربية في التنشيط التلفزيوني.

إلى الحوار:

(كتابات) الكتابة ليست نصوصا فقط، بل هي مشروع يقوم على مكابدات واجتهادات أيضا. ويظهر من خلال سيرتك في الكتابة أن اجتهادك يومي من أجل تطوير نصّك. ألا تملّ من ذلك؟

  • كان أبي بنّاءً، وكان على مدار عقود يصحو صباحًا ليكمل إنجاز البيت، الذي هو بصدد إنجازه في قريتنا أو في إحدى القرى المجاورة، فلا يؤخّره إلا طارئ يملك القدرة على التّعطيل. طرحت عليه يومًا السّؤال نفسه: ألا تملّ؟ فقال لي: “حين تكبر، وترى أن معظم البيوت أنجزت على يدي، ستدرك لماذا لم يستطع الملل أن يتسرّب إلي. إننا لا نملّ من شغلة نحبّها”. لقد تعلّمت منه أن أحبّ شغلي أي الكتابة، كما تعلّمت منه روح البناء. ثمّ إنّ كلّ واحد منّا يعرف في حياته بشرًا من هذا النّوع. فنحن في زمن تنتشر فيه ثقافة التقاعد، وهو ثمرة للصّبر على الشغل عقودًا من الزّمن.

لكن لا تقاعد في الكتابة لأنها مرتبطة بالحياة. فهي مرآتها. والمرآة لا تستقيل من أن تعكس الأشياء والوجوه، حتى تتلف نهائيًا. وهي لا تُؤمر بذلك بل تفعله عفويًا. وإنّ الكاتب الرّديء، في نظري، هو الذي يتمثّل حالات الكاتب وصفاته وطقوسه، من غير أن تكون نابعة من داخله، لأنه لا يجد الصّبر على ما تفرضه الكتابة عليه من مكابدات يومية، من قراءات وتأمّلات وأسفار واحتكاكات وتجارب معمّقة، وهي كلّها تستهلك من العقل والقلب والجسد والجيب والوقت ما يتطلّب إيمانًا خاصًّا. لقد أبدع الشّاعر والرّوائي الجزائري “مالك حدّاد” حين لخّص هذا بقوله: “لقد نتفت الكتابة منّي كثيرًا من الرّيش”.

(كتابات) لمسنا بعضا من المكابدات التي خضتها من أجل الكتابة في كتابك الجديد “يدان لثلاث بنات، ويليه: بوصلة التّيه” الصادر نهاية عام 2017. حتى أنّك كدت تفقد حياتك في بعض المفاصل. هل تتفهّم قارئا لا يصدّق ما حدث لك؟

  • لقد روّضت نفسي على أن أحتكم إلى إيماني الشّخصيّ بصدقي. أي يهمّني كيف أراني لا كيف يراني النّاس. كنت صغيرًا في القرية، وكنت أقطع مسافة تُقدّر بـ 06 كيلومترات ما بين البيت والمدرسة، فأعيش تجارب مخيفة بالنّسبة لطفل في سنّي، خاصّة في رحلة الذّهاب قبل أن تشرق الشّمس، كأن أواجه ثعبانًا أو ضبعًا أو ذئبًا أو خنزيرًا أو واديًا فائضًا أو مقبرةً أتخيّل أنّ مدفونيها راحوا يُلوّحون لي، وكنت أحكي ذلك لزملائي في المدرسة أو لأسرتي، فألمس عدم التّصديق لديهم، وهو ما جعلني أفصل مبكّرًا في هذا السّؤال: هل أصدّق نفسي، التي عاشت التّجربة فعلًا إلى درجة الخوف، أم أصدّق غيري الذين كانوا غائبين عن اللّحظة/ التّجربة. ثمّ إنّ ما ورد في الكتاب سيرة ذاتية ومعايشات ذكرتُ الشّهود الأحياء عليها، من أسرتي في القسم الأوّل منه، ومن الكتّاب والإعلاميين والفاعلين في قسمه الثّاني، ولم يحدث أن أنكر أحدهم عليّ شيئًا من ذلك، سواء حين نشرته فيسبوكيًا أو ورقيًا عن دار “الجزائر تقرأ”.

(كتابات) هل يحقّ لكاتب السّيرة أن يستعمل الخيال؟

  • يصبح الخيال في نصّ السّيرة حقّا للقارئ وحده، إذ يمكنه أن يحذف أو يزيد. ذلك أن نصّ السّيرة أكثر الأجناس الأدبية قدرةً على توريط المتلقّي في عوالمه، إلى درجة أنه يتمثّل الذّات الكاتبة في بعض حالاتها أو في كلّها، إذا كانت ذات سطوة إبداعية وإنسانية، خاصّة إذا كان هذا المتلقّي ذاتًا في طور تكوين شخصيته. أمّا كاتب السّيرة نفسه، فلا حقّ له في الخيال إلا من زاوية الكنايات والاستعارات والتّشبيهات، التي تتيحها البلاغة القديمة.

(كتابات) في كتاب “يدان لثلاث بنات”، الذي هو سيرة ذاتية، شخوص الرواية التي كنت بصدد كتابتها يتحركون أمام الكاتب ويتفاعلون معه ويهربون منه أو يراوغون.. لما؟

  • أنت تقصدين القسم الأوّل من الكتاب، حيث رصدت يومياتي مع بناتي في ثلاثة مواسم من رمضان، 2015 ـ 2016 ـ 2017. وشهر رمضان هو الفترة، التي باتت أحبَّ الفترات إليّ منذ عام 2012 لمباشرة كتابة رواية جديدة أو إكمال رواية عالقة. وقد وجدتني عالقًا بين عالمين اثنين، واقعيّ هو عالم البيت، وتخييلي هو عالم الرّواية، التي كنتُ بصدد كتابتها. فرحت أتحدّث في يومياتي عن هذا وذاك، بطريقة خلقت نوعًا من التّداخل جعل بعض القرّاء لا يفرّقون بينهما، كما جعل البعض يتعلّق بشخوص الرّواية، من خلال حديثي عنهم، كما لو كانوا شخوصًا حقيقيين. هذه هي الكتابة الأدبية يا عزيزتي، تشبه العادة السّرية تمامًا! حيث ينتفي فيها الحدّ الفاصل بين الواقع والخيال، وإلا كيف نفسّر أن الاستحضار الخياليّ لجسد ما، ينتج قذفًا واقعيًا.

(كتابات) عادة ما تلجأ إلى تشبيه فعل الكتابة بفعل الجنس، ألا تخشى ردود الأفعال؟

  • إنهما فعلان يرتبطان بفعل الخلق ارتباطًا مباشرًا. والكتابة التي لا ترتبط بفعل الخلق يحقّ لصاحبها أن يطلب بطاقة عضوية في الهيئات الدّينية، لأنه يفقد صلته حينها بحقل الكتابة، التي هي إعادة لتأثيث عناصر العالم وتسميتها من جديد. إن الكاتب الحقيقيّ يرث عن أبيه آدم روح الاستعداد للخسارة، فقدان الجنّة من أجل الرّغبة/ الفضول/ الأكل من شجرة المعرفة، ولا يرث عنه الاستعداد لتلقّي الأسماء كلّها من الذّات الإلهية العليا. فآدم تلقّى الأسماء بصفته نبيًّا، وأكل من الشّجرة بصفته إنسانًا، وأنا معنيّ بصفتي إنسانًا وكاتبًا بأن أرث ما هو إنساني فيه. لست نبيًّا مثله حتى أنتظر تلقّي الأسماء من ذات خارج ذاتي. لذلك أنا مطالب، وفق المفهوم الإنسانيّ للكتابة، بأن أخلقها.

(كتابات) في “يدان لثلاث بنات” تحكي عن جنّتك الخاصّة، قرية “أولاد جحيش” في الشّرق الجزائري، بكل تفاصيلها الثرية وخصوصيتها الإنسانية والمكانية. لماذا هذا الوفاء في ظلّ واقع عربي يقول إنّ عدد الكتّاب الذي استثمروا إبداعيا في قراهم يعدّون على أصابع اليدين؟

  • لقد كنت وفيًّا لذاتي قبل أن أكون وفيًّا للقرية. فأنا عشت فيها إلى غاية سنّ العشرين، ثمّ انخرطت في المدينة، التّي لم يحدث أن كتبت تبرّمي منها انسجامًا منّي مع خطابي الحداثي. كوني حداثيًا يُلزمني، ضرورةً، بأن أنتصر للمدينة. من هنا، فحضور قريتي في متوني المختلفة، هو وفاء للحظاتي الأولي التي واجهت فيها الحياة بصفتها وجودًا/ خطابًا مقدّسًا، في مقابل تقديس المنظومة الدّينية لخطاب الموت. الكتابة عناق خاصّ بين نسيج الوجدان ونسيج الأفكار، وأرى أنّه من الوهم أن نكتب عن أماكن طارئة عنّا.

رغم أنها ستصبح شطرًا من هوّيتنا بمجرّد أن ندخلها ونحتكّ بها، ونغفل مكانًا مارسنا فيه أفعالنا الأولى، حيث رأينا أول عصفور وأول شجرة وأول خنفساء وأول قمر وأول بشر، ومارسنا فيه أول صلاة وأول شربة حليب وأول اكتشاف للجسد، وعشنا فيها المفارقات الأولى. فقد كنت، مثلًا، أعتقد في سنواتي الثلاث الأولى، في قرية أولاد جحيش، أن العنزة هي أمّي، ذلك أن أمّي تنازلت عنّي لزوجة عمّي، التي كانت بلا أولاد، وقد لجأت هذه الأخيرة إلى ثديي العنزة لتعويض ثدييها النّاشفين. استحضاري للقرية إبداعيًا أملته نزعتي الإنسانية لا الرّوح النّكوصية.

 (كتابات) هل هذا ما جعلك شغوفا بالحكي عن ذاتك في أعمالك الأدبية؟

  • لا أكتب ذاتي من باب انتفاخي بكونها مهمّة، فما أنا إلا واحد من سبعة ملايير من البشر. كم يجعلني الانتباه إلى هذه الحقيقة صغيرًا! بل من باب كوني عشت لحظاتٍ وتجاربَ إنسانيةً عميقة أرى أنه من الوفاء لها أن تصل إلى غيري عن طريق قلمي. أومن بحقّ الشّخوص، الذين أكتبهم في نصوصي السّردية بأن يكونوا أحرارًا، لذلك فأنا أتقزّز من التخفّي خلفهم لأمرّر ملامحي وهواجسي الخاصّة، وأهرب من ذلك بجعل ذاتي ضمن شخوصي. فعلت ذلك خاصّة في روايتي “ندبة الهلالي” الصّادرة في الجزائر عام 2013.

(كتابات) في هذه الرواية استخدمت تقنية تعدد الأصوات. هل هذا إعلان لرفض الراوي العليم؟

  • هيمنت بنية الرّاوي العليم، الذي يروي كلّ ما يحدث للشخوص حتى في الأماكن الحميمة، التي لا تقبل بدخوله في الواقع مثل المرحاض والسّرير، في المجتمعات التي تحكمها الدّيكتاتوريات الاجتماعية والسياسية المختلفة، حيث يكون الأب والأخ الأكبر والجدّ والزعيم ضميرًا مطلقًا. وإنّ النصّ السّرديّ الذي لا يجعل للرّاوي العليم ضوابط تنقله من مقام الهيمنة إلى مقام الشّهادة فقط، هو نصّ نصير للبنى القامعة. من هنا، أتجنّب بنية الرّاوي العليم قدر المستطاع، وأحاول تقزيمه بتعدّد الأصوات.

(كتابات) تكتب المقال بأنواعه والقصّة القصيرة بأنواعها والشعر بأنواعه والرّواية والنصّ المسرحي والسّيرة والرّحلة واليوميات، وتشرف على عدّة منابر في المسرح والنّشر والإعلام. علام يكشف هذا التنوّع وتعدّد الأنشطة؟

  • لا أدري بالضّبط. ما أدريه أنني مطالب بأن أكون عميقًا وجيّدًا في كلّ حقل من هذه الحقول. وأنني أملك الشّجاعة في التخلّي عن كلّ تجربة أراها غير ناضجة إبداعيًا، أو الاستقالة من المنبر، الذي يتأكّد لي أنّ بقائي فيه مخلّ بحرّيتي أو نزاهتي أو مصداقيتي. فعدد مخطوطاتي التي أحرقتها يفوق عدد ما نشرت، وعدد المناصب والمهام الثقافية والإعلامية التي استقلت منها يفوق ما أتولّاه الآن.

(كتابات) هل الأدب الجزائري مقروء في باقي البلدان العربية؟

  • هو موجود، لكن ليس بالشّكل الكافي واللائق بتعدّد وجوهه واتجاهاته. مرّة بتقصير من المشهد العربي، ومرّة بتقصير من المشهد الجزائري، الذي لا يتوفّر، باستثناء بعض المبادرات، على واجهات حكومية ومدنية يهمّها أن يصل الكتاب الجزائري، عبر التّرجمة والتّوزيع، إلى حيث يجب أن يصل داخل الحدود وخارجها. غير أن نبلي يحتّم علي الاعتراف بحقيقة باتت واضحة هي أن الخدمات التي يحظى بها الكاتب الجزائري من المشهد العربي إذا كان كاتبًا باللغة العربية، والمشهد الفرنسي إذا كان كاتبًا باللغة الفرنسية، أكبر بكثير من الخدمات التي يحظى بها من وزارة الثّقافة ولواحقها، رغم الأموال المرصودة لهذا الغرض بالذّات، ورغم وجود مادّة منسية في الدّستور تقرّ بحق الشّباب في الإبداع.

(كتابات) أنت واحد ممّن يواظبون على إضاءة التّجارب الإبداعية في المنابر العربية المختلفة. ألا تغار من غيرك؟

  • أنا أضيء بالضّرورة التّجارب التي أومن بأنها حقيقية. وأنا بهذا أتبادل معها مصلحة رائعة: أنا أساهم بشكل ما في التّسويق لها، وهي تنفخ في داخلي روح المنافسة، وهذا وقود نادر جدًّا، وحاجة الكاتب إليه أكيدة. ذلك أنني آمنت مبكّرًا بأنه من أراد أن يحمي حضوره، عليه بالاجتهاد والتّكوين والإضافة والتّجاوز، لا بالإقصاء والتّهميش والتّعتيم والتّشويه والاحتكار، فلا أحد يستطيع الوقوف في وجه النّهر المؤمن بمجراه. ثمّ إنني أستحي من مواجهة البياض بمفهوميه الورقي والالكتروني، حين أبخل موهبة حقيقية بمساعدة أنا قادر عليها. خدمة الفنّ والفنّانين والاستمتاع بذلك شطر من الانتماء إلى هذا الحقل العظيم.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة