14 مارس، 2024 2:47 ص
Search
Close this search box.

مع كتابات.. عامر الفرحان: الكاتب يأمل في إيصال أهوال الحروب إلى نفوس أخرى تتأثر

Facebook
Twitter
LinkedIn

 

خاص: حاورته- سماح عادل

“عامر الفرحان” كاتب عراقي، الاسم الكامل “عامر وهاب خلف العاني” مواليد 1968 العراق- صلاح الدين، حاصل على بكالوريوس علوم عسكرية 1993، بكالوريوس إعلام- صحافة- كلية الآداب- جامعة بغداد 2000-2001. حاصل على ماجستير إعلام الجامعة الحرة- هولندا- فرع بغداد- 2008. وهو عضو نقابة الصحفيين العراقيين، وعضو الجمعية العراقية للدفاع عن حقوق الصحفيين، وعضو مؤسس ومسئول اللجنة الإعلامية في رابطة مثقفي الرافدين إحدى منظمات المجتمع المدني، وعضو مؤسسة النور للثقافة والإعلام، وعضو الاتحاد العالمي للثقافة والأدب، وعضو الرابطة العربية للآداب والثقافة. قام بإعداد برنامج “النزاهة والمجتمع” فضائية صلاح الدين 2011- 2013، وهو معد برنامج مبدعون- إذاعة القيثارة F-M.

أعماله:

– مجموعة قصصية “انتظار”- العراق2013.

– كتاب “الإعلام ودوره في معالجة وظاهرة الإرهاب والموقف من المقاومة”- عمان 2013.

– كتاب “الإرهاب والعنف في الإعلام المرئي بين المعالجة والتسويق”-عمان 2014.

–  كتاب “انطباعات نقدية” بالاشتراك مع الدكتور أسامة محمد صادق- 2016.

–  مجموعة قصصية “على غير موعد”-العراق 2016.

– رواية “بريد رجل مطارد” 2016.

– ديوان قصائد نثر “رصيد من الذاكرة” 2017.

– كتاب “التطرف في ميزان الاعتدال.. الأسباب والنتائج والحلول رؤية معاصرة”- ألمانيا- مشترك مع القاضي “حسين مجباس حسين” 2017.

– شعر “عروس على الضفاف”- 2019.

– رواية “جحيم الوطن”- 2015.

– “قوافل الوجع”- شعر شعبي- غير منشور.

– له ثلاث مسرحيات: (جمعة البواب- الصفقة- أسود وأبيض).. وقد عرضت على المسرح لأكثر من مرة.

إلى الحوار:

(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة ومتى تطورت؟

  • الفطرة هي الأساس لفتح آفاق الاهتمام بالكتابة بأجناسها المختلفة، واستطيع القول أن المرحلة المتوسطة هي بداية الاهتمام بالكتابة وكانت في مطلع الثمانينيات، كما أن الأجواء الريفية المنفتحة النقية في قريتي البسيطة وبعض أصدقاء الأدب قد منحوني فرصة لتلقي الدروس الأولى باتجاه الأدب، ولعل ابن عمي المحامي المرحوم “مزهر رحمان” قد أشعل القدحة الأولي للكتابة لدي عبر قراءتي لبعض كتاباته التي غادرها والتزم المحاماة، وأنا بدأت منه لاستمر.

كما أن المخرج “كاظم صفصاف” الرجل الجاد والكاتب المميز قد ساعدني في صقل موهبتي، من خلال إطلاعه على بعض النصوص مع مراسلاتي لبعض الصحف في ذلك الوقت، والمتابعة الإذاعية والتلفزيونية لها دور في التعرف على هذا العالم الكبير، تلا كل ذلك تشجيع من قبل الأساتذة في الإعدادية ومن بينهم الأم المربية الكبيرة مدرسة اللغة العربية الست “نوال عبد الصاحب” أطال الله في عمرها.

بعد ذلك بدأت كتابة النثر والقصص القصيرة على مدار عشر سنوات، وظهرت بشكل جلي بعد عام 2003، وخاصة بعد اللقاء بالكتاب والأدباء في صلاح الدين الذين كان لهم الفضل في صقل موهبتي، من خلال المتابعة، وقد كتبت عدد من البحوث والمجاميع القصصية والشعر وكتاب في النقد وسط مجموعة من الكتاب الكبار، الذين رعوا المشهد الثقافي من بينهم القاص الكبير الأستاذ الدكتور “فرح ياسين” والقاص المتميز “جمال نوري” والقاص “أسامة محمد صادق” والشاعر الكبير “مصطفى إبراهيم الحمد” والناقد الدكتور “باسل مولود” والدكتور “سفانه الصافي” والقاصة الروائية “رشا فاضل” وأسماء كثر لهم أثر واضح.

(كتابات) كتبت قصيدة النثر والقصة القصيرة والرواية ما سر هذا التنوع في الإبداع؟

  • ليس هناك فرض في الالتزام بجنس أدبي محدد، أو دستور قانوني ملزم، فمراحل حياة الإنسان متنوعة فيجد فيها ما يشغل اهتمامه، فقصيدة النثر تعني أنك تكتب للحياة تكتب لنفسك ومن حولك، والقصة القصيرة أحداث مهمة تمر بك والآخرين فتأطيرها في نص قصصي يعني مشاركة إنسانية زمان، مكان، أشخاص، حبكة …إلخ

(كتابات) هل يمكن تصنيف رواية “بريد رجل مطارد” ضمن أدب الحرب ولما؟

  • ممكن تصنيفها بهذا الاتجاه كونها ولدت ضمن مشروع وتداعيات الاحتلال الأمريكي للعراق، أي قبل وبعد الاحتلال، فيمكن تصنيفها ضمن أدب الحرب لأنها حكت بكل تفاصيلها عن معاناة ضابط عراقي حمل أعباء الحرب، وتعرض إلى الكثير من الضغوطات الأمريكية من الاعتقالات والضرب والإهانة ومسخ شخصيته. ثم الحديث عن المقاومة المسلحة وكيف انضم إليها وهو ملتزم بحفظ دماء العراقيين دون الاعتداء عليها كونها محرمة، وانتهى الأمر باستشهاده.

لا يخلو السرد الروائي من الحب والعواطف الجياشة التي أثر بها من أجل وطنه، وضم النص المقارنات والوصف والتشبيه الخاص بمشاعر العراقي الأصيل الذي غادر الحياة محزونا دون بلوغ ما يحلم به.. إذن “بريد رجل مطارد” رواية إنسانية تحكي عن الحرب والمقاومة في آن واحد، مع وصف تفصيلي عن السجون الأمريكية وطريقة التعامل المجحف بعد جريمة الاحتلال فيها أو خارجها.

(كتابات) هل اتجاه معظم الروايات العراقية للحكي عن الحروب التي دارت في البلاد أمر إيجابي أم سلبي؟

  • إن الأدب سمي أدبا لأنه يتحدث عن الإنسانية ووجودها، واهتم بالتعبير عن أهمية الإنسان في صنع الحياة الكريمة، فاتجاه الرواية تمثيل حي لروح الواقع الإنساني لظرف مشدد، وإلا ما قيمة الأدب إذا كان يغرد خارج السرب؟، فمن الإيجابية أن يتحدث الأدب عن مشكلة الناس، فالأديب يطلق حروفه بالمشاركة الفاعلة أملا في إيصال تلك الأهوال والحروب وبث تأثيرها إلى نفوس أخرى تتأثر وتؤثر، بل أملا أن تتحرك الدراما لتلقف ذلك الواقع وإيصاله إلى المجتمع الإنساني، إذ أن ملايين الأخبار الروائية قابعة لم يطلع عليها أحد بسبب تغييب الشهود الذين يهربوا من الواقع خوفا ممن يمسكون عدة الموت والسلطنة..

(كتابات) في رأيك هل ما زال هناك المزيد ليقال عن الحروب في العراق مما يسمح بظهور روايات أخرى؟

  • هناك الكثير الكثير تحت التمحيص، ولو حصل الدعم الحقيقي محلي أو عربي أو عالمي لظهر أدبا يغطي مساحة الأرض شكوى.. وأقصد الدعم للحرية في أن يقول الكاتب ما يريد دون قيود والثاني دعم دون مطالبة المؤلف بمبالغ.

(كتابات) في رواية “بريد رجل مطارد” البطل يعمل في حقوق الإنسان ويسعى لكشف الانتهاكات التي حدثت في الحرب للعالم.. هل منظومة حقوق الإنسان هي الخلاص من الظلم واللامساواة السائدة في العالم في رأيك؟

  • في الحقيقة أن منظمة حقوق الإنسان عامل مساعد في كشف بعض الحقائق التي ربما تقف خلفها جهات مستفيدة، تقتات على دماء الأبرياء ولن تكون المنقذ أبدا. ونتذكر هنا بيت الشعر الشهير( إذا الشعب يوما أراد الحياة/ فلابد أن يستجيب القدر)، وقول أبو تمام (السيف أصدق أنباء من الكتب/ في حده الحد بين الجد واللعبِ).

فقد اكتشف في “بريد رجل مطارد” أنها مجرد حبر على ورق وكثيرا ما نجد أن المنظمات لها شعارات يغلب عليها الطابع الدعائي.

(كتابات) ما تقييمك لحال الثقافة في العراق وهل يمكن الحديث عن نهضة ثقافية؟

  • الثقافة في العراق لها شكل خاص وآثار الحرب مفجعة على العراق، وأدت النزاعات إلى الخلل الذي أحدثته على صعيد الذاكرة الثقافية المشتركة كما سببت التشويه الذي لحق بالهوية والخصائص الحضارية. فقد قام المخربون بحرق المكتبات ومراكز التوثيق، وبسرقة المباني التاريخية والمؤسسات الثقافية، بينما استولى المهربون على قطع ثقافية من المتاحف والمواقع الأثرية. وبذلك، أصبح من الصعب التقليل من حجم المأساة التي يعاني منها الإرث الثقافي في العراق.

أما فيما يخص الأشخاص الذي يعملون في المجال الثقافي والأدبي هم أكثر شريحة متضررة في الواقع الفعلي، كونهم مجبرون على العيش في نزاع كبير يمنعهم من أداء الرسالة الثقافية بالوجه التام، لخلو الساحة من الحالة المثالية التي تتمكن أن تستوعب تلك الطاقات والتفاعل معها بشكل إيجابي، لذا تجد العشرات بل المئات اضطروا إلى مغادرة البلد والعيش بالكفاف عند دول الجوار، حفاظا على إرثهم الفكري والأخلاقي بل، والحفاظ على أنفسهم من القصاص بطريقة مفاجئة وظالمة.. ونستطيع القول أن هناك خطوات أفضل بالوقت الحالي للحالة الثقافية في البلد للاستقرار النسبي، فمثلا في محافظة صلاح الدين هناك حراك ثقافي مشهود من خلال تأسيس دار الإبداع للطباعة والنشر التي طبعت قرابة 400 عنوانا للكتب بتخصصات مختلفة بجهود صاحب الامتياز الدكتور القاص والروائي “أسامة محمد صادق” الذي فتح عدد من الفروع داخل وخارج البلاد وهذه إشارة إيجابية.

(كتابات) عملت في الصحافة طويلا.. في رأيك هل اختلفت الصحافة في العراق بعد 2003؟

  • مؤكد هناك اختلاف كبير بعد أن انفكت القيود التي تمنع الأشخاص من أداء المهام الصحافية، وحل وزارة الإعلام وظهور فوضى الإعلام على مصراعيها، وقد ركزت في ذلك من خلال بحث واقع الإعلام في محافظة صلاح الدين الذي حصلت به على المركز الثالث في مسابقة النور للثقافة والإعلام/السويد.

كما أن ظهور صحافة الطوارئ وبأشخاص الطوارئ والفضائيات حد الشخصنة والحزبية والطائفية أدى إلى نزع الثوب عن المهنية والحرفية مما اضطر الكثير من العاملين في حقل الإعلام والصحافة إلى التقاعد الإجباري إذ لا مكان لهم في الثورة الإعلامية العارمة.. مع التأكيد على أن هناك إعلام وصحافة لها الحق في أن تذكر ايجابياتها ودورها الهام.

(كتابات)  لك دراسة عن الإرهاب في الإعلام المرئي حدثنا عنها؟

  • في الحقيقة أنه بحث (بعنوان الإرهاب والعنف في الإعلام المرئي بين المعالجة والتسويق) وقد حصلت به على المركز الثاني في مسابقة مؤسسة النور للثقافة والإعلام /السويد، وتم طباعته ككتاب في دار الحامد للطباعة والنشر- عمان وقد ركز على تعريف الإرهاب والعنف والفرق بينهما ودور الإعلام المرئي في معالجة ظاهرة الإرهاب، وكيف أنه يسوقها بالوقت ذاته ولعل العراق وما أصابه من الإرهاب قد كان ساحة مواتية للدراسة.

(كتابات) هل واجهتك صعوبات ككاتب.. وما هو جديدك؟

  • إن الوضع العام الذي نعيشه في المجتمع العراقي فيه صعوبات كثيرة أولها فقدان بيئة مستقرة مشجعة وفقدان الدعم المالي للنتاج الأدبي والثقافي، وتأثير الصراع السياسي على البيئة الثقافية وأسباب أخرى يضيق الوقت عن ذكرها.

وجديدي في العمل الأدبي صدور ديوان شعري باسم “عروس على الضفاف”، وصدور كتاب (التطرف في ميزان الاعتدال الأسباب والنتائج والحلول رؤية معاصرة) في ألمانيا- نور نشر بالاشتراك مع الباحث القاضي “حسين مجباس العزاوي”. وكذلك بصدد إكمال مؤلف مشترك مع القاص والروائي الدكتور “أسامة محمد صادق” بعنوان (المشهد الروائي في محافظة صلاح الدين) ويعد هذا الكتاب الثاني المشترك بعد كتاب انطباعات نقدية، ورواية تحت الطبع بعنوان (جحيم الوطن).. ومجموعة قصصية تحت التمحيص.

قصة لعامر الفرحان..

امرأة في لعنة الحرب..

الفضاء المحيط يمتد بالأفق الملون بالهموم  حول المنزل الطيني الذي يتوسط القرية، لامرأة فقدت زوجها مبكرا وخلف لها خمسة أفواه، تجلس صامته وكلامها تفضحه الدموع المتناثرة بين الفينة والأخرى. اعتادت “أم حسن” أن تخرج من بيتها إلى التل القريب الذي تحتضنهُ خضرةٌ كثيفة من الحشائش والبقل وغير ذلك، هناك تشكو البؤس والشقاء، عيشها المرير ورغيف الخبز الهارب التي تستدينه مرارا من الجيران.

لقد كان ذلك التل الصغير هو أنسها لوحشتها إذ يجيب عن جميع أسئلتها المتكررة، عندما تقطف “الخبّار” منه فوق نغمات دموعها النازلة كقطرات الندى في بكارة الصباح متناغمة مع حركات يدها المستظلة بالخواء وأوردتها الزرقاء التي تطل بوضوح تحت جلدها الشاحب بالعناء، امرأة خمسينية أكلتها الحكايات القديمة حين فقدت زوجها الحبيب “أبو حسن” ليحيلها ركاما في ملتقى روافد الحزن العاصفة من كل جانب.

 

لقد عاشت هذه المرأة تلعن أيامها السوداء فلا أحد يعيل أبناءها الخمس، ولا قريب ينظر في أروقة بيتها الكئيب، تعاني الحرمان بالكد والعمل غير المثمر، ولطالما كانت تحدث الأرض:

– يا أرض هل تعرفي قدر مأساتي؟

– هل فقدتي النصيب من الدنيا في مهر الشباب؟

– هل تشربين وتأكلين وتتناسلين؟

– هل تعرفي متى انعتاقي من وحشتي في الحصاد المر؟

وبينما هي كذلك مستمرة في جنيها للخبّاز لوجبة الغداء والعشاء المتكررة التي أعدمت بطونهم بزرقتها يقف شابا وسيما نظيفا مناديا ماذا تفعلين يا أم حسن؟

أجابت:

– لا شيء أريح نفسي وأجني الطعام لأبنائي ولي موعد هام، فبادر:

– وكل يوم أراك هنا…

أجابته بعين دامعة وقلب مجروح.

– كل يوم نحتاج إلى الطعام يا ولدي.

– ولكنها وجبة مكررة.

– بلى كل يوم لأنه عزيز علينا وليس بإرادتنا…

ابتسم قائلا:

– ولكن أي موعد تقصدين وقد فني العمر؟

– مع هذا التل، وحبيبي ورفيقي فلا أحد يعطف عليّ غيره..  تركها ذلك الشاب مجافيا الحقيقة المرة التي تعيشها وهو يعرف فقرها ويتم عيالها  ثم نظرت خلفه قائلة متى يصبح حسن كهذا الشاب ليكشف عناء الزمن الظالم  ثم واصلت عملها..

 

نظر الشاب صامتا إلى هذه الكتلة البشرية السوداء التي تأن لوحدها، وهز رأسه وشرع إلى ملاعب الشباب، وتمتمت قائلة:

– سبحان الله خلقتهم للترف ونحن للعناء- استغفر الله.

وعادت إلى دارها وتلقف الأطفال أذيال ثوبها المتهرئ، وهم يسألون عن الخبز وكان جوابها على الدوام:

– يا أحبابي غدا سآتي بالخبر.. وتبكِ خلسة عن أنظارهم، وتلج إلى باحة المطبخ وهم يتبعونها فيسألها “حسن”:

– وأين والدي يا أمي.. واستدارت إليه:

– سيعود يا بني أن شاء الله فهو في سفر ميمون.. كانت الكلمات تشق طريقها كالرصاص في الجسد.. جسدها الذي يمشي واقفا وهو ميتا ثَمَّ شبه كبير بينها وبين جذوع النخل السابحة بوجه الرياح بلا حياة.. امرأة فقدت مكونات الحياة والمشاركة مع الآخرين، فترى خوار عزيمتها ونكوصها بعينين غائرتين في كهف من الجفون التي خط السواد محلا للإقامة الدائمة..

انصرف الأطفال يلعبون بالرمل عراة إلا من بعض الخرق التي تغطي أجسادهم الضعيفة وهم حفاة دون أدنى شك.. إلى أن أتمت وجبة الغداء المعتادة.. وهكذا قضت “أم حسن” يومها كعادتها حتى أسدل المساء جفونه  فوق حزنها فكان طويلا قاهرا يستثير رحلتها الدامية.. وراحت تحدق في غرفتها وهي مضطجعة على ظهرها، تلك الغرفة التي ملئت بالجحور والفئران وقليل من الجرذان الكبيرة، ثم يستدير نظرها الضعيف إلى الجدران التي تعرت وتهالكت من سنين البطش الطويلة، وترمق السقف الأسود من الدخان الذي يرتفع من الموقد المحاذي لفراشها حين تطهي وجبتها المكررة في كل يوم.

استأنفت ذكريات ليلة زفافها وسجلات ذاكرتها القديمة حين كانت فتاة جميلة وهي تحلم بحياة سعيدة وهي مازالت في كنف والديها، وكيف تقدم لها “أبو حسن” وفرحت بذلك اليوم فرحاً شديدا، وتقول ربما لا يحق لي أن أفكر بذلك ولكن لم يبق لي شيئا سوى تلك الخواطر التي تعطيني فسحة الأمل أمام سقر الحياة، ومردة الشياطين الذين قتلوا ما استعد له، لقد رحلت في تفاصيل ليلة عرسها وهي ترتدي البياض وحولها نسوة القرية ودبكات الحلم المذبوح وكيف عاشا خمسة أعوام بأجمل لحظات، لقد غرقت في زحام تاريخها لتصلب نفسها على شجر الذكريات الذي يبس فجأة وتعرت جذورها حتى من الرمل الذي يغطيها وشهقت باكية من الوجع لتقول أنها “لعنة الحرب”.

لم تنته رحلتها فهي تسأل “أبو حسن” تموت وتتركني في زحمة الطريق إنها أمريكا اللعينة، الغطرسة، التهكم، فهل تعرف أمريكا والحكومة حجم أوجاعي وعنائي، نهضت من فراشها الذي أبلاه الزمن قائلة لابد لي أن انصاع لحكمة الأقدار والحصار فلربما ذلك يرضي الجميع؟؟؟ لتحل أزمة العالم.. توكأت على ضياء غرفتها المعتم ونظرها الفاتر للغاية في ليلة شتاء باردة لتصمت تارة وتبكي أخرى وتمسح دموعها بمنديل تركه زوجها في كفها ليلة الزفاف حرزا من الأشباح والشياطين في وقت الغياب.. وهي تنظر إلى أطفالها فتحدث الليل:

– هل لك أن تنقضي لأذهب إلى موعدي مع الحبيب؟

– هل تعرف قصتي وهمّي كما يعرف التل القريب؟

– هل تعرف الجوع أيها المساء، لا بالتأكيد، أنت لست جائعا مثلي لأنك تأكلنا كل يوم بهمومك وفراشي البارد الذي ينز له جسدي من برودته..

–  أيها الليل أنا لم أهنأ بالحرارة والعناق دون نساء الأرض، لم أشم العطور أو أقرأ جميل السطور، فقدت الليالي الحالمة مبكرا وتطأطأ رأسها إلى الأسفل، إلهي كم عصفت بي السنين فهذه العظام قد تعبت من المسافات الوعرة وأمراضي قد شلت مفاصلي وشح دمعي على نار هادئة.. رحماك فيّ أنا امرأة موجوعة بلعنة الحرب.. كما أن عش حياتي خرب والسنين عجاف وأنا في وكر الحزن الذي لم يطلع عليه بشر ولكني اشكر ماء دجله فهو الوحيد الذي  يعطي شربة الماء لنا وللكلاب بلا مقابل؟؟.

دلفت نفسها إلى مجموعة من الصناديق القديمة تبحث عن بعض قطع الخبز اليابسة التي ألقتها يوما إلى القطط فوقعت يدها على صرة رمادية فحملتها ودست أصبعها من الخارج ففرحت حين تذكرت أنه الشعير الذي فقدته منذ زمن غابر، فوضعته عند وسادتها وقطع الخبز التي أثرت أن لا تأكل منه وعيالها نائمون.. وفي الصباح المبكر حملت صرتها متوجهة إلى طاحونة “أبو حميد” لتطحن الشعير.. وحال وصولها رأت جموع غفيرة يحملون أكياس الحبوب والطحين من الرجال الأشداء.. كم أنها وجوه كالحة مغبرة وتحفها علامات جشع وضوضاء وخوف من القادم.. انطلقت إليه قائلة:

– ارجوا أن تطحن لي هذا الشعير “كغم” واحد.

نظر باستعلاء إليها ولأطفالها  كسرب قطاة خلفها، وأجابها وكيف بالإمكان أن أطحن كغم واحد سيضيع في فكوك الطاحونة ولن تحصلي على شيء..

– أرجوك أطفالي جياع وفي أنفسهم أن يذوقوا لقمة الخبز، فحدّق إليها وقد سربت دموعها بشهقة وزفرة متتالية أثناء الكلام..

– وهل لديك مبلغا للطحن.

– وفي مسكنة أرملة عاجزة- لا أملك منه شيئاً.

أبو حميد يعرض عنها:

– لا وقت لدينا نضيعه في العمل التافة اذهبي الله يعطيكِ.

أخذت أطفالها الخمس وعلى مقربة من الطاحونة وحضنتهم باكية وهم يتحسسون أوجاع أمهم الأرملة المفجوعة..

 

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب