23 ديسمبر، 2024 8:53 م

مع كتابات.. صبا مطر:  كتابتي صرخة في وجه العالم وكشف عقود سوداء مليئة بقيح حروب لا تشفى ولا تنسى

مع كتابات.. صبا مطر:  كتابتي صرخة في وجه العالم وكشف عقود سوداء مليئة بقيح حروب لا تشفى ولا تنسى

 

خاص: حاورتها- سماح عادل

“صبا مطر” كاتبة عراقية صدر لها رواية “العين الثالثة”، ومجموعة قصصية “صانعة الأحلام” ورواية “من ذاكرة الصور”.

وقد كان لنا معها الحوار التالي:

** كيف بدأ شغفكِ بالكتابة وكيف تطور؟

– ابتدأت علاقتي بالكتابة منذ الصغر. أحببتُ اللغة وطالما اعتقدتُ، ومنذ وقت الطفولة، بأن للغة وظائف ساحرة لا يمكن حصرها بالثرثرة والحديث اليومي العام فقط. كثيرون من رسخوا هذا الاعتقاد لدي وأولهم والدتي التي كانت تقرأ لي ما تكتبه من قصص قصيرة وأشعار جميلة وأنا لما أزل بعمر صغير جداً.

حقيقية لم أكن افهم كل ما كانت تقرأه لي بصوتها الرخيم، لكنني كنتُ أشعر بشاعرية الكلمات التي تتفوه بها وبغنج الحروف المترتبة على شكل كلمات تصطف مع بعضها لتكوين المعنى. وساهمت جدتي أيضا ببناء جسورٍ إلى الشعور عن طريق اللغة، حيث كانت تقّصُ عليّ حكاياتها الأسطورية والملحمية بلهجتنا العراقية المحببة، وهي تعرف بأنها كانت تحفر في داخلي انهاراً ستتدفق فيها اللغة وسيجري في حضنها الخيال جنباً إلى جنب في مواجهة حياتي اللاحقة. أحببتُ اللغة المكتوبة بخط اليد، وكنتُ لأجل ذلك ألون الحروف المكتوبة في كتب أخوتي بالألوان. لم أكنُ وقتها واعية بأن هذا الفعل سيقودني إلى توطيد علاقة صداقة عميقة مع هذا الاختراع العظيم الذي يسمونه” الكتابة”.

كانت مشاعري تتدفق على الورق الأبيض، حيث كتبتُ قصائدي الأولى بعمر العشر سنوات. لا أعرف كيف أو لماذا كنتُ أكتب، لكنني غالباً ما أجد نفسي أتفتح على الورق. عينُ ما ترى عالماً تفور فيه المفردات، ثم تنزل برفق على صفحات بيضاء ما تلبث أن تمتلئ بما تخطه يداي بالقلم. وقتها كانت تجربتي تدور حول لغة بسيطة لطفلة ترى وتلتهم الأحداث حولها بتأنٍ شديد ودون ردود فعل عملية وواضحة، لكنني كنتُ أعُبر عن ردود فعلي بالكتابة.. أصرخ وأبكي وأضحك وأفرح بالكتابة التي بدأت تضيق شيئاً فشيئاً عليّ، مما دفعني إلى رفدها بالقراءة، فأصبحت للكلمات فجأة وظائف جديدة وآفاق أوسع من تلك التي كنتُ أعرفها من قبل.

كانت اللغة وما زالت أداتي السحرية التي استعين بها دونما عناء على مواجهة الواقع وعلى معرفة نفسي وحلّ المعضلات التي تواجهني في الحياة. وسيلة للتعبير عن ذاتي بكل حالاتها، وأداة لتقييم التجارب وتدوينها على الورق. كانت الأيام في تسارع والخبرات والتجارب الحياتية تتوالى متراكمة فوق بعضها والوعي في رحلة اتساع دائم وفرته الأيام المتداولة والقراءات المتعددة، ولأجل هذا كله كنتُ بحاجة لأن أكتب لكي أفهم هذا كله، ولأفهم الحياة التي أخذتني في رحلة مثيرة لاكتشافات منوعة، فلم يكن في جعبتي غير الكتابة لفهم غرائبية الرحلة ومتعتها وألمها في ذات الوقت.

** في رواية ” العين الثالثة” حكيت عن حرب إيران وحرب الكويت والحصار الاقتصادي ثم الغزو الأمريكي وما يتخلل تلك الأحداث من مآسي وخراب موت.. هل الكتابة عن الحروب والصراعات والمجازر محاولة لتوثيق ما حدث، أو محاولة لكشف خبايا ما حدث للعالم الخارجي أم صرخة اعتراض على وحشية الحروب أم ماذا؟

– هي كل ما ذكرته أعلاه…

في البداية لم أكن أعرف بأنني مقدمة على مشروع كتابة رواية. كتبتُ أول الأمر قصة قصيرة بعنوان “العين الثالثة”، تناولتُ فيها ما خبرته في طفولتي من أحداث صعبة، وللمفاجئة شعرتُ بأنني لم اكتفِ بصفحتين أو حتى ثلاث! وهكذا بدأتُ أكتب عن فترات مميزة من حياتي كان يفترض أن تُعاش بكل جمال وأمان ومتعة، لكنني اكتشفتُ بأنني أهدرتها رغماً عني في حروب وصراعات لم يُكتب لها الانتهاء.

فكانت رواية “العين الثالثة” بمثابة صرخة في وجه الوجع الذي خبرته أجيالنا المنخورة بالحروب والحصار والاحتلال. وهي أيضا محاولة حقيقية لتوثيق مراحل صعبة مرّ بها العراق وشهادة لكل من لم يكن يعلم عن أوجاعنا المتأصلة بسبب حروب سُقنا إليها دون إرادة أو اختيار منا.

كانت طفولتي معجونة بمشاهد وأجواء حربنا الأولى مع إيران، حيث علقت في الذاكرة مشاهد لا يمكن محوها بسهولة ولا يسعني سوى حملها كإرث ثقيل يهيمن على كل حياتي كلعنة غير قابلة للانطفاء. أما فترة الشباب والتفتح فكانت تتنفس أجواء حرب كابوسية مرعبة استمرت تبعاتها إلى حصار اقتصادي استمر لسبع سنوات عجاف أكلت الناس والوطن.

وفترة النضج كانت تغلي تحت وطأة دبابات وهمرات احتلال لا يرحم. وهكذا كانت “العين الثالثة”، صرخة في وجه العالم للتعبير عن كل ما شهدناه خلال عقود سوداء مليئة بقيح حروب لا تقبل الشفاء ولا تستجيب مطلقاً للنسيان.

** في رواية “من ذاكرة الصور” ربطت الكاتبة ما بين الحرب التي تدور في العراق والحرب العالمية التي دارت في ألمانيا وبلدان أوروبا، وتأثير هذه الحروب على النفسية البشرية… حدثينا عن ذلك؟.

– للبشر مشتركات هائلة تربط فيما بينهم وتعزز وحدتهم الإنسانية المذهلة. حسناً للنظر بعيداً عن كل العوامل الوضعية والدخيلة التي تصب في صالح التفرقة ولنركز فقط على حقيقية كوننا بشر بخواص إنسانية وأخلاقية وفكرية متشابهة مهما اختلفت الأزمنة وتباعدت الأمكنة. نتشارك الأفكار نفسها، ندور في مدارتها العظيمة ونشكل منها ما نشاء لبناء الشخصية وتعزيز المدركات الإنسانية. تحركنا المسرات عينها وتبهجنا الأفراح ذاتها، نتألم ونحزن لنفس الأسباب.

ومن هذا المبدأ أحببت تسليط الضوء على تجربة إنسانية هائلة تعّرض لها بشر من ثقافتين وبلدين مختلفين وبفارق زمني معين لرصد نوع المعاناة وأثر الضياع الذي يعانون منه، وما إذا ستتولد لديهم الرغبة ذاتها في السعي وراء حياة جديدة. والكيفية التي يستقبل بها الناجين حياتهم الجديدة إذ ما سعوا أصلاً لحياة جديدة. إنها عملية رصد لكمية التشابه في المعاناة التي يتعرض لها الناس بعض النظر عن اختلاف المكان والزمان. ومن هنا أدركت بأن تجربة بأبعاد نفسية وإنسانية عظيمة كتجربة الحرب لابد أن تكون مفتاحاً لعمل جديد أود الكتابة عنه. لكن التفاصيل لم تكن حاضرة وقتها وهذا ما كان يقلقني في البداية. حدث وإن سافرت مع العائلة ذات يوم إلى برلين لقضاء إجازة الخريف. وكم تفاجأت يومها لأن برلين كانت تبث وقتها استذكارات حربية بامتياز متمثلة بإضاءات ليزرية عملاقة على جدران البنايات العالية مصحوبة بأصوات طائرات حربية وانفجارات قوية، وكأنها تستحضر روح الحرب القديمة من جديد كي لا ينسَ الناس!

هذا الحدث كان احتفالاً بذكرى اتحاد الألمانيتين الشرقية والغربية في الثالث من أكتوبر من سنة ١٩٩٠. كنتُ مشدوهة بالمناظر والأصوات الحربية الصاخبة، ولا أخفي بأنني كنتُ متفاجئة أيضا من طريقة إحياؤهم للذكرى والتي استدرجتني على الفور إلى كل الحروب التي عشتها في بلدي العراق. صوت الغارات المرعبة، أزيز الطائرات المعادية، أصوات الانفجارات العالية وصراخ الضحايا والمنكوبين من البشر العاديين.

كانت الأجواء مرعبة إلى الحد الذي جعلني أشعر بوجع كل من مرّ بهذه التجارب المريعة وما أفرزته من تبعات اجتماعية وأخلاقية ونفسية لاحقة. وعلى الفور قارنتُ بين الإنسان العراقي والإنسان الألماني، مستحضرة أوجه الشبه بيننا من ناحية المعاناة التي خلفتها الحروب حتى من بعد انتهائها بعقود. رأيتُ الانكسار في نفوس المارة الذين كانوا يستمعون قسراً إلى أصواتٍ تحيي تجربة الحرب وكأنها لم تنتهِ يوماً. وجع لا يدركه إلا الذين خبروه وعاشوا رعب التفاصيل.

وهكذا فكرتُ في الكتابة عن تجربة مشتركة تعرض لها كلا البلدين. كنتُ أفكر بأننا الهاربين من حروبنا المتعددة لا نجد سلامنا النفسي حتى وإن غيرنا الأوطان واللغة. وبأن أي زعزعة لاستقرار الإنسان الأول من شأنها أن تترك أثارها النفسية العميقة عليه لاحقاً حتى وإن توالت الأجيال واختلف مكانها. لم يكن أمر الكتابة عن هذا الموضوع سهلاً في البداية، واستغرق مني التحضير للأمر وقتاً طويلاً. تحضيراً للقصة وللشخصيات التي ستحمل على أكتافها الحكاية وكيفية الربط ما بين ماضٍ وحاضر يتشاركان بثيمة حربية مؤلمة التفاصيل. وأخيرا بدأتُ في مشروع الكتابة الذي استغرق ثلاث سنوات لتبصر رواية “من ذاكرة الصور” النور سنة ٢٠٢٠.

** في رواية “من ذاكرة الصور” لم تكتف الكاتبة بالحكي عن البلد الذي هربت منه ومآسيه وإنما حكت عن البلدان التي سافرت إليها وعن الناس فيها، فجمعت ما بين الحنين إلى الوطن وذكريات الطفولة الآمنة وما بين الشعور بالغربة في الوطن الجديد وصعوبة عمل بداية جديدة احكي لنا؟

– أنا أعتبر رواية “من ذاكرة الصور” ملحمة ملهمة تؤرخ عمق الصدع الإنساني الذي يكتنف الروح بمجرد الهجرة من بلد إلى آخر. نحن نعرف بأن أسباب الهجرة متعددة، لكن في حالتنا نحن، أبناء وبنات الحرب، المسألة مختلفة. إذ إننا نحمل فوق معاناة الغربة وتغيير الأرض واللغة والمكان معاناة مضافة، هي طبعاً ذكريات حروب عصية على النسيان مع صدوع وشروخ في هيكلنا الإنساني الترف، نحملها أينما حللنا.

تنزّ أوجاعها وتسيح على أية لغة نتعلمها وفوق أي أرض نسكنها، وما ننفك دوماً عن المقارنة بين ما عشناه وسط جبهات الألم في الوطن الذي هربنا منه وبين ما عاشوه أو يعيشه أقراننا في بلدانهم الآمنة. نحاول جاهدين التأقلم مع الوضع الجديد عن طريق إنشاء علاقات متينة بالأرض والناس واللغة الجديدة، وهنا أعترف بأن هذا التأقلم ليس سهلاً أبداً، إذ غالباً ما يسود الحنين ويطفح إلى ما تشكل فينا في بلداننا الأم وإلى كل ما تركناه فيها. الحنين إلى اللغة، العائلة، الأصدقاء والبيت. الحنين هو بمثابة حياة كاملة تتدفق في دواخلنا بموازاة حياتنا الجديدة.

الإنسان بطبعه كائن محكوم بالماضي وأيّ جهد للتخلص من هذا عبء وهذه التركة له نصيب معين من الفشل. فالماضي قيد وإطار في نفس الوقت، ومهما بلغت قوة الإرادة للتخلص من هذه القيود تبقى جذورها راسخة وضاربة في مكان ما من اللاوعي، ولا شيء يمكننا فعله حيال ذلك.

أما أمر البدايات الجديدة، فهي في الغالب صعبة. إذ يتطلب الأمر قوة روحية مذهلة لاستيعاب وهضم التجربة الجديدة، ومن ثم الانصهار في تفاصيلها ببطء العارف بأنه مقبل على حياة بمعايير إنسانية واجتماعية وثقافية جديدة. إنها عملية تحتاج إلى وقت ليس بالقليل للخروج من إطار الماضي المهيمن والتقدم نحو الحاضر والمستقبل بخطى يثقلها في الغالب الحنين وثقل العارف بأن البقاء صعب وفكرة العودة شبه مستحيلة!

** في راوية “من ذاكرة الصور” الناس في البلدان الأوربية التي توفر حياة كريمة لمواطنيها، يعانون أيضا من أزمات نفسية ومن الشعور بالاغتراب عن الذات. لما كان التركيز على تلك الشخصيات الضائعة في مواجهة الشخصيات العراقية التي تشعر بالاغتراب والضياع أيضا؟

– هي إحدى محاولات الغوص في ثغر إنساني مشترك لدى البشر على اختلاف حجم ونوعية المعاناة التي يكابدونها واختلاف أسبابها. من خلال استقراري في أوروبا تعرفت على الكثير من الأصدقاء والصديقات من بلدان شتى، ولا أخفى بأن الغالبية منهم يكابدون معاناة وأزمات نفسية من نوع آخر تختلف نوعاً ما عن أشكال وتيم أوجاع المهاجرين. لنعد إلى الإنسان الأوربي المستقر والمؤمن مادياً واجتماعياً من قبل حكومته، وهذا النوع من التأمين نفتقده نحن حتماً في مجتمعاتنا التي أتينا منها. لكن هل يخلق هذا النوع من الأمان درعاً نفسياً كافياً للإنسان هنا؟

قد يكون في صورة من الصور سبباً لنوع من الإرهاق النفسي والعبء الذي لا يمكن إزاحته. فالأمان الزائد قد يسبب نوعاً من القلق النفسي. قلق الأشياء المتاحة على الدوم. فكرة من شأنها قتل الشغف ودفع شعورٍ من اللاجدوى إلى التدفق الخفي في جوانب الروح المحاصرة بمتعة الحصول على كل شيء من دون جهود تُذكر. هذا الأمر يخلق شعوراً من عدم الاتزان النفسي وحالة ما فوق الاكتفاء المسببة لفقدان طعم متعة الحصول على الأشياء مهما كَبُرَ أو صَغُرَ حجمها أو شأنها.

وهذا يخلق أزمات نفسية من نوع مختلف عن تلك التي يعرفها شخصيات الرواية، لكنها بالتالي تصبُ في مصاب الألم وعدم الرضى وشعور واضح بنقص المباهج وقد يسبب أيضا في ضياع البوصلة الإنسانية المجبولة بمتعة شغف البحث والحصول على الأهداف، كبيرها وصغيرها. أما بالنسبة للشخصيات العراقية في الرواية فهمومهم من نوع مختلف. هموم الذاكرة الحربية الممتلئة بالخوف المستمر وأجواء عدم الأمان الكامل، هموم البحث عن الهوية الضائعة وهموم التأقلم مع واقع جديد من بعد الهجرة لا يتناسب في الغالب مع ما نشئوا عليه. هموم التشذيب الواعي لكل ما لا يتناسب مع المجتمع الجديد واستبداله ببدائل قد تكون مرضية أو غير مرضية، وهذه الأنواع من الهموم من شأنها خلق صدع نفسي رهيب بين الإنسان وذاته فينشأ الألم وعدم الرضى وضياع للبوصلة الأولى.

ولأجل هذه المشتركات وجهتُ شخصيات الراوية المختلفة وباختلاف أسباب معاناتها إلى مواجهة بعضها للبعض الآخر. نوع من الكشف الواعي للثغرات المشتركة التي تصيب النفس الإنسانية والتي من شأنها أن تسبب في لون واحد للألم وإن اختلفت وتباينت أسبابه.

** هل واجهتك صعوبات في النشر؟ وما رأيك في عملية النشر في العراق  وباقي بلدان المشرق؟

– كانت تجربة النشر الأولى رائعة ومثمرة بالنسبة لي. في البداية لم تكن لدى خبرة كافية عن مسألة النشر، وهذا ما دفعني طبعاً لسؤال الأصدقاء وكذلك إلى التقصي عِبرَ الانترنيت عن وجهات وطرق النشر في العالم العربي. ثم اخترتُ بعد ذلك دار فضاءات بناءً على توصية من صديقة شاعرة، وقمتُ بمراسلة الدار التي أجابتني مشكورة بعد مرور أسبوعين فقط من تاريخ إرسال العمل لهم. ومن هنا بدأ التعاون المثمر بيننا، والذي قادني إلى نشر أعمالي اللاحقة عند نفس الدار التي افتخر بها وبصداقة مديرها الشاعر “جهاد أبو حشيش”.

اليوم صدرت لي راويتين ومجموعة قصصية بعنوان “صانعة الأحلام” كما إن هناك مجموعة قصصية جديدة قيد الطبع في نفس الدار. أما بالنسبة للنشر في العراق فلم أقم حقيقية بإرسال أي عمل لأي دار نشر عراقية، لكنني أتطلع وبشدة لتعاون جاد بيني وبين دور النشر هناك، وربما في المستقبل القريب سأنشر في العراق.

** انطلق الأدب العراقي وخاصة الرواية بعد ٢٠٠٣ وتميز بالغزارة في الإنتاج، في رأيكِ هل يمكن وصف ذلك بالنهضة الثقافية؟

– المنجز الأدبي العراقي من بعد سنة ٢٠٠٣ يمكن أن نقول بأنه مرّ بمرحلة مهمة جداً وهي مرحلة الأرشفة والتوثيق. في الحقيقة كنا بحاجة للحديث أكثر من أي وقت مضى عن كل شيء. قبل هذا التاريخ كان المثقف العراقي يعيش صراعاً مراّ تحت ظل نظام دكتاتوري مستبد، تخضع فيه الكلمة الحرة لألف رقيب وسيف، وهذا ما جعل الأدب العراقي يبتعد عن الواقع المعاش بسنين ضوئية مخيفة، بالإضافة إلى ذلك كانت النتاجات الأدبية تدور حول مواضيع محددة؛ نظراً لقوة الضغط ورهاب الرقابة الفكرية.

لكن وبعد انتهاء حقبة الخوف وانفتاح البلد على عصر حرية من نوع جديد بدأت الأقلام تكتب وتؤرخ لحقبة مظلمة كانت تُعاش دون أن تُكتب! وهكذا شرعنا نكتب ونكتب عن كل المآسي والأهوال التي مرّ بها البلد، وللمفاجأة بأننا أدركنا وبشكل كبير فداحة ما مررنا به عن طريق الأدب، إذ مع كل رواية مقروءة بدأت تتكشف حقائق وأهوال مروعة تعرض لها الناس هناك، ومع كل كلمة تُكتب في أرشفة ما حدث أدركنا اتساع الجحيم الذي كان يحرقنا جميعاً دون السماح لنا بإطلاق صرخة وجع واحدة على أقل تقدير.

ولهذا لا يمكننا القول بأن عصر ما بعد ٢٠٠٣ هو عصر النهضة الثقافية، بل عصر الحرية الثقافية التي تاق  إليها أدباءنا لعهودٍ طويلة. عصر كسر القيود والخروج من الصمت إلى فضاء الكلمة الحرة لأرشفة وجعنا العراقي الكبير.

** هل تحاولين التواجد ككاتبة في البلد الذي تعيشين فيه وما مدى تفاعلكِ على المستوى الثقافي؟

– في الحقيقة أنا أكتب بلغتي الأم وهذا أمر يحتاج إلى معالجات من نوع آخر من أجل الوصول إلى سكان البلد الذي أعيش فيه. حركة الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الدنماركية محدودة للغاية، بالإضافة إلى وجود صعوبات جمة في تحقيق هذا الأمر. حاولتُ لمرات عديدة التواصل مع النخبة المثقفة الدنماركية لكن الأمر ليس بالسهولة المتوقعة، كما أن التفاعل على المستوى الثقافي يتطلب على الأقل منجز واحد مقروء بلغة البلد الذي أعيش فيه ليتم التعرف علي ككاتبة هنا. وأنا لم اجتهد حقيقة كثيراً من أجل هذا الأمر، بل اكتفيتُ بالكتابة باللغة العربية فقط لأنها الأقرب إلى نفسي من اللغات التي اكتسبتها لاحقاً.

** هل هناك روايات عراقية كثيرة كتبت عن الحروب التي مرت على العراق وهل تطلعين عليها وما رأيكِ في طريقة التناول؟

-نعم.. هناك الكثير من الروايات العراقية الرائعة التي تناولت مواضيع الحروب العراقية والتهجير والحصار والاحتلال والطائفية وما إلى ذلك. لا يسعني هنا أن أذكر اسماً محدداً لأنني أخشى أن أبخس جهود بقية الكتاب. لكنني سأكتفي بالقول بأن هناك الكثير من الأعمال الرائعة التي تناولت الحقب المظلمة، ومنها ما حصد جوائز دولية مهمة كالبوكر العربي  وكتارا وغيرها.

** هل تختلف كتابات النساء عن كتابات الرجال في رأيكِ؟

– بالرغم من عصر الانفتاح الحضاري الذي نعيشه، وبرغم زيادة الوعي بأدوارنا الإنسانية الكبيرة وليس أدوارنا النوعية فحسب لكن الفروقات ما تزال قائمة في مجتمعاتنا العربية. مؤرقة ومتعبة إلى الحد الذي نشعر معه بتداعيات الاختلافات والعوائق المتعمدة والموضوعة أمام الإبداع النسوي بشكل عام، وهذا يؤثر حتماً على نوعية منجزهن الأدبي وكميته وعلى عطاؤهن الإنساني بل وحتى على كثافة حضورهن الاجتماعي في الساحات والمحافل الأدبية.

الرجل أكثر جرأة في السرد بينما تختفي المرأة وراء حواجز يضعها لها المجتمع، محجّماً أفق الحرية المسموح لها بالتحرك ضمنها، وغالباً ما تُلصق صلاحية المنتج الأدبي وجرأته بصفة النوع الإنساني!

بل حتى الوقت بالنسبة للمرأة مثقل بأعباء اجتماعية وبيتية هائلة مقارنة بتلك الملقاة على أكتاف الرجل، وهذا بدوره يقلل فرص المرأة بالتفرغ لأجل الكتابة. وكما نعرف جميعاً بأن الفكرة هي ضوء يشرق في عقل الكاتب والكاتبة على حد سواء ولا يمكن قمعها بحجة المسموح والممنوع تناوله اعتماداً على جنس الكاتب، كما لا يمكن قتل الفكرة بحجج ضيق الوقت وكثرة الالتزامات العائلية والمجتمعية الملقاة على عاتق المرأة مقارنة بتلك الملقاة عاتق الرجل. ومتى ما وصلنا إلى مرحلة التساوي في إعطاء الفرص ومنح الحريات لكلا الجنسين عند الكتابة ستزول الاختلافات عن نوعية وجرأة وكمية العطاء الأدبي بالنسبة للمرأة مقارنة بالرجل.

** إلى أي مدى تتم ترجمة الأدب العراقي خاصة مع استقرار عدد كبير من الكتاب العراقيين في البلدان الغربية؟

– ليس هناك الكثير من الأعمال العراقية المترجمة. حسناً لنتحدث عن المشكلة بشكل عام. اعتقد بأن مسألة ترجمة الأعمال الأدبية من اللغة العربية إلى لغات أجنبية أخرى ما زالت تواجه مشاكل وصعوبات جمة، وهذا لا يرجع سببه إلى تكاسل الكاتب وعدم سعيه إلى ذلك، ولا يرجع سببه أيضاً إلى قلّة أعداد المترجمين وازدحام جداولهم على الدوام. بل يرجع سببه إلى سوء تبني الحكومات لمثل هذه المشاريع.

دور النشر تنظر دوماً إلى تكاليف الترجمة والنشر، وترى ما إذا كان بمقدورها الصمود بمفردها أمام هذه الأعباء المادية المرهقة، ولهذا لا تحبذ أغلب دور النشر المواجهة مع هكذا تحديات. ولأجل إيجاد حلّ للمشكلة أصبح التدخل الحكومي واجباً من أجل إتاحة دعما ماديا حقيقيا لمشاريع ترجمة ونشر وتبادل ثقافي جاد بين المجتمعات.

** كيف أفادتكِ وسائل التواصل الاجتماعي في الوصول إلى القراء؟

اعتقد بأن لهذه الوسائل دوراً لا يُستهان به في تحقيق الانتشار بالنسبة لأولئك الذين يجيدون استخدامها لأجل هذا الغرض. أنا لستُ ضليعة في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في تحقيق هذه الغاية، لكنني استخدم الفيس بوك مثلاً كنافذة للكتابة وأيضا للحصول على الأصدقاء والتواصل معهم. ولم اسعَ يوماً في جعل هذه المنفذ وسيلة انتشار عن عمد، بل جعلته نافذتي المحببة إلى الآخر الصديق.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة