خاص: حاورته- سماح عادل
“سمية علي الأسدي” كاتبة عراقية شابة، مواليد 1992 محافظة النجف الأشرف، العراق، خريجة معهد إعداد المعلمات، تعمل حالياً معلمة، صدر لها كتاب (حكايات البلبل الفتان).
إلى الحوار:
(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟
- في الحادية عشر من عمري, بدأتُ أدرك أن ألعاب الصغار لم تعد تستهويني، فرحت أبحث عن تسلية أعمق وذات أثر أطول في النفس . وخلال بحثي الفضولي بين مقتنيات والدي من الكتب استخرجت من عملية التنقيب في أكياس (الجنفاص) بعض الكتب القيمة، فقرأت أولها وهو (البدائع والطرائف) ل(جبران خليل جبران) فسلبَ نمقُ الكلمات وتزيينها بهذا النسق الإبداعي لباب عقلي, حتى أذكر أني حفظت مقاطعاً من نصوصه, ومن عندها استمر شغفي بالقراءة والاهتمام بالمطالعة بغية تعلم الكتابة، فقرأت الكثير من الجرائد والمجلات. وفي الثانية عشر من عمري بدأتُ أقلد نصوصاً وقصصاً وبعض المقالات, حيث أكتب في نفس عناوينها ولكن بأسلوبي الخاص .
وفي عمر السادسة عشر تعلمت أساليب الكتابة وتعرفت على تصنيفاتها وتجنيسها، وقرأت الرواية والكتب العربية والعالمية بمعدل كتاب كل أسبوعين, كنت أستعيرها من المكتبة المركزية لمعهد المعلمات الصباحي الذي درست فيه وتخرجت منه.
(كتابات) في كتابك (حكايات البلبل الفتان) أنسنة للأشياء والحيوانات.. حدثينا عن ذلك؟
- كل ما حولنا يهمس ويتحدث, وأحيانا ينادي ويصرخ ويستغيث, ليس في (حكايات البلبل الفتان) وحسب بل في أغلب قصصي حاولت ترجمة بعض من تلك الهمسات والصرخات على الورق, تلبية لشغف طفولي طالما مارسته في صغري, أن أصمت للحظات وأرهف السمع للجمادات والحيوانات القريبة وأترك العنان لعقلي في المغامرة معها. رغم أن الفكرة ليست بجديدة فقد طرقت من قبل في عدّة كتب ومنها كتاب (كليلة ودمنة) المشهور, ولكنها تبقى ممتعة وشائقة للقراء ومناسبة تقريباً لكل الأعمار متى ما استعملت.
(كتابات) في كتابك (حكايات البلبل الفتان) تناولت السحر واقتناع البعض به واستغلال الدين.. احكي لنا؟
- الكاتب يستقي مادة كتاباته من إرهاصات الواقع ومن أفكار الناس وأحاديثهم, وفي الفترة التي قررت فيها أن أكتب (حكايات البلبل الفتان), طرق مسامعي الكثير من الأحاديث عن السحر وإيمان الناس به, كما صادفتني الكثير من المنشورات في مواقع التواصل الاجتماعي تطرق هذا الباب, لذا قررت أن أجول في بعض مضامير هذا الموضوع المترامي الأطراف وأطرح بعضاً من أفكاره على لسان بلبلي الفتان, مع تضمين كلامه شيئاً، ليس بمستوى الحكمة لكنه، من التلميحات حول الصواب والخطأ في هذه الممارسات.
(كتابات) لما لم يتم وصف (حكايات البلبل الفتان) كرواية .. هل تعتبريها رواية ؟
- (حكايات البلبل الفتان) قبل أن أربطها بقصة عائلة بيت أبو علاوي كان عبارة عن قصص متفرقة, كانت الفكرة أن يكون الكتاب قصصاً قصيرة, لكن صباح أحد الأيام استيقظت وقد غرد البلبل في رأسي أن اجمعي قصصك على لساني, وحين جمعتها وجدت أن أسلوب الخيال فيها كان كافياً لتجنس كحكايات، وعلى هذا الأساس جاء التجنيس الأدبي رغم أن تجنيس الرواية صالح لها أيضاً لاجتماع شروط الرواية بها .
(كتابات) هل يجد الكتاب الشباب الدعم من كتاب قدامى وهل حدث ذلك معك؟
- في عام 2017 بعد أن بدأت النشر على مواقع التواصل الاجتماعي تعرفت على بعض الكتاب المتميزين الشباب منهم والقدامى ولكن الدعم الأكبر حصلت عليه بعد نشر كتابي (حكايات البلبل الفتان), وتجلى ذلك في معرض بغداد الدولي حين تعرفت على الكاتب “عامر حميو”, وقبل أن أتعرف عليه كنت أخجل بشدة أن أقف أمام كاتب قدير لأعرفه بشخصي أو أعرض عليه كتابي، لم أكن أملك الثقة الكافية لذلك, لكن موقف “عامر حميو” كان أشبه بمن يسحبك من بين الجمهور ليضعك على المنصة، ويعلمك أن تعلن عن إبداعك وتثق بنفسك وقدراتك, وهذا أعظم ما حصلت عليه من دعم حينها.
بعدها توالت أسماء الكتاب الذين تعرفت عليهم ولاقيت منهم آيات الاستحسان على كتاباتي، وكل كلمة منهم تعتبر رصيداً قيماً أضيفه لثقتي بنفسي وإصراري على مواصلة الكتابة.
(كتابات) في رأيك هل تختلف كتابات النساء عن كتابات الرجال وكيف؟
- الإبداع لا يعرف رجلاً أو امرأة, الساحة الثقافية من كلا الجنسين تعرف مبدعين في كل مجالات الأدب, لكن بحكم قراءاتي العديدة للأدباء والكتاب الرجال والنساء لاحظت أن الرجال بارعين في وصف الأماكن والطرق والمدن والبلدان وبالطبع يرجع ذلك إلى إمكانية تجول الرجال وسفرهم أكثر من النساء, بالطبع هذا لا يعدم وجود كاتبات قادرات على وصف مماثل, لكن نسبة الرجال في هذا الجانب أظنها فاقت النساء.
(كتابات) ما تقييمك لحال الثقافة في العراق؟
- على المستوى الفردي هناك تطور ملحوظ للثقافة مادام الفرد يملك أجور الطباعة والتوزيع وله فرص الظهور بالإعلام ومواقع التواصل, فلا خوف عليه ولا هو من الذين يحزنون, فالذين يحزنون هم الشباب الذين ينتظرون من المؤسسات الثقافية الدعم والتنمية والاحتضان والطباعة وإقامة المنافسات والمسابقات وكل هذا قليل جدا،ً ومتذبذب ويواجه صعوبات بعدم التنظيم والإدارة.
(كتابات) في رأيك هل يمر العراق بنهضة ثقافية؟
- تحاول الثقافة في العراق أن تنهض على قدميها وتسير مواكبة العالم وهذه المحاولات تتمثل في سعي الكتاب والأدباء والشعراء إلى المشاركة في المهرجانات والمسابقات الأدبية العربية والعالمية, كما يحاول بعض الكتاب الشباب واتحادات الأدباء إقامة مهرجانات القراءة ومعارض الكتب حتى المجانية منها من أجل حث الشباب على المطالعة والاستزادة من العلم, وكل هذا من أجل الارتقاء بمستوى عقول الناس أولا ومستوى البلد من الناحية الثقافية ثانياً.
(كتابات) قبل إصدار كتابك الأول كيف كانت الاستعدادات للكتابة وهل قمت بقراءة كتب معينة؟
- قلت سابقاً أن القراءة بدأت معي من عمر الحادية عشر, كما أن (حكايات البلبل الفتان) لا يعد كتابي الأول, فقد كتبت قبله رواية ومجموعة قصص متفرقة إلا إنها لم تلقَ مني تلك القناعة لأطرحها على القراء فبقيت حبيسة أدراج مكتبتي, إلا أن البلبل الفتان لم يعجبه قفص الورق وقرر، بعد تشجيع من أحد الأصدقاء، أن أطلق جناحيه وأدعه يحلق بين أيدي القراء علَّ تغريده يكون أول نغمة في معزوفة مستقبلي الأدبي .
(كتابات) هل تواجه الكاتبة صعوبات في مجتمعات الشرق تختلف عن تلك التي تواجه الكاتب الرجل؟
- في مجتمعي وضعتْ الأغلال مكبلةً المرأة, واحد يمثل الأعراف وثاني يمثل الأخلاق وثالث يمثل الدين وآخر يختلقه الأهل أو المحيطين،عفواً المحبطين، وتجد الكاتبة تصارع جاهدةً أن تفك هذا القيد أو تتحرر من ذاك أو تتجاهل أثر ثالث في نفسها. ونتيجة لكل ذلك نجد أن من بين عشر مبدعات تصمد واحدة أو اثنتان وتقاوم وتتحدى لتثبت ذاتها. أما الرجال فهم بعيدون عن أغلالنا يمارسون حريات الكتابة بشتى أنواعها.
(كتابات) احكي لنا عن كتابك الجديد؟
- أما عن الجديد في مجال القصة القصيرة جمعت عدةَّ قصص في كتاب سيكون مكتملاً خلال الأشهر القريبة القادمة.
أما ما تمَّ إنجازه واكتمل تمثل في ثلاث كتب تشرح كتاب القواعد للمرحلة الدراسية الابتدائية بطريقة القصة واستراتيجيات التعلم النشط, وهذا العمل هو من أحب الأعمال إلى قلبي لأنه يمس عملي بحكم كوني معلمة ابتدائية, وسيتم نشر الكتب ورقياً إن شاء الله بداية العام الدراسي الجديد. كما أكملت كتابة رواية جديدة, وهي في طور المراجعة والتدقيق.
قصة لعنةُ الظهيرةِ..
ل”سمية علي الأسدي”
“اندلع لسانُ الصباحِ بدويٍّ مرعب. قالَ والدي إنه انفجار. ولكني أُسميهِ (فَقدْ), فأنا أعرفُ أن أمثالَ هذهِ الأصوات,لا تُخَلِّفُ بعدها سوى الدموعِ والأسى على المفقودينَ. إلاَّ أنا فقد خَلَّفَ لديَّ رغبة بالكتابةِ, حينَ صارحتُ والدي قهقهَ ضاحكاً وهو يقول: لا أظن إنَّ لسانَ الأقلامِ التي تُحركُها يدٌّ ترفةٌ ناعمةٌ لامست الغالي والنفيس, قادرةٌ على أن تندلعَ لتروي قصةَ يدٍ أخرى لم تألف لمساتُها سوى الخشونة والعدم. أشكُ بقدرتكِ على الكتابةِ عن مأساةٍ لم تشهديها.
إلاَّ إنني لم أنثني, ففي اللحظةِ التي عزمتُ فيها على سبرِ أغوارِ الكتابةِ راودني الفقرُ عن أفكاري, فإذا بي أجدُها حبلى منه بقصةِ فتاةٍ مراهقةٍ, أكلَتْ من صحنِ الفقرِ حتى التخمةِ.
كان لعائلتِها قدرةٌ عجيبةٌ على التكيُّفِ مع الفقرِ وقلَّةِ الحال, يضحكونَ رغمَ خواءِ جيوبهم من المالِ, وينامونَ رغمَ اعتصارِ بطونهم من الجوعِ. وذاتَ صباحٍ هبوا مع نسيمِ الفجرِ كعادتِهم كلَّ يومٍ, باحثينَ عن أسبابٍ للعيشِ. تخلَّفتْ عنهم البنتُ, لا لعارضٍ ما, بل إنها اعتادت أن تظلَّ في صومعتهم المسماةِ بالبيتِ. تُعِدُّ لهم لقمةً يقتاتونَ بها عندَ الظهيرةِ وترتبُ المكانَ لتجعلهُ صالحاً للعيشِ رغمَ افتقارهِ لأبسطِ مقوماتهِ.
لكنَّ الفجرَ الذي خرجوا معهُ لم يسلِّمهُم للظهيرةِ لكي تُعيدهَم للبيتِ. بل جاءَ بدلاً منهم نذيرَ شؤمٍ, يخبرُها أن لا عودةَ لهم فقد خطفَهم انفجارٌ ضحى اليوم.وهم الآنَ يرقدونَ في كومةٍ من أكوام الجثثِ في المستشفى.
دقيقة الانفجارِ ولدَت معها زمنُ التيه, الذي خطفَ عائلةَ البنتِ, وشرَّدها في الطرقاتِ. أمست ذلكَ اليوم بلا مأوى فالصومعةُ كانت للإيجار. كفَلَّها خالُها الأكبر. لكن بقيدٍ وشرطٍ, القيدُ أن تعملَ بالعملِ الذي يأمرُها بهِ, والشرطُ أن تَهبَّهُ كلَّ ما تكسب مقابلاً لسكنِها عندهُ. فحتى بعضُ الأقاربِ يحتاجونَ للرشوةِ كنوعٍ من أنواعِ الإيجارِ ليدعونا نسكنُ في قلوبهِم إلى وقتِ انتهاءِ أجلِ ما وهبناهُ لهم.
بعضُ الحقارةِ تؤلم فما بالُكَ بالكثيرِ منها ومن أقربِ الناسِ إليك, ومن بينِ الكمِّ الهائلِ من الأعمال التي يمكن للبنتِ مزاولتها, أختارَ خالُها اللعين أن يُتاجرَ بجسدِها فالبنتُ جميلةٌ وما زالت غضة.
وتحتَ كسوةِ سوادِ الليلِ, هربَتْ تبحثُ عن خارطةِ طريقِ الحريةِ, تركضُ لاهثةً علَّ دهاليزَ الضياعِ المليئةِ بالحجارةِ وشظايا الزجاجِ التي أدمَت قدميها توصلها إلى ذلكَ الشيءِ الذي يُدعى, الحياةُ بشرفٍ.
ومن على قارعةِ الطريقِ تلَّقفتها امرأةٌ تعهدَّت لها بالسكنِ والمأكلِ مقابلَ خدمتِها لهم في البيتِ, أول الأيامِ كانت مريحةً فما زالت الوجوهُ ترتدي ثوبَ العطفِ والشفقةِ, وما أن انسلخَ نهارُ أحدِ الأيامِ, وجنَّ ليلهُ حتى خلعَ أبنهُم ثوبَ وجههِ الرقيق, وظهرَ بملامحِ الوحشِ الجائعِ الذي راحَ يحومُ حولَ فريستهِ يراودُها عن نفسها تارةً بالترويضِ وأخرى بالتهديدِ, استمرَت حالةُ المطاردةِ ليالٍ عدَّة, حتى نالَّ نصيبهُ من فريستهِ ذاتَ ليلةٍ. لملَّمَت ما بقيَّ من أشلاءِ إنسانة فيها, وخرجت إلى الشارعِ. اتخذَتْ من حافةِ الرصيفِ موطناً وسبيلاً لكسبِ الرغيفِ, لا يهم أيُّ نوعٍ من الأرغفة بيضاءُ أم سمراءُ. لينةً أم يابسة فكلُّها تدخلُ المعدةَ وتُسكِتُ فورتها. مرَّت الأيامُ سراعاً وما زالت البنتُ تتكلُّ على حميِّةِ البعضِ, وما زالت بعضُ الأرصفةِ تتكفَّلُ من يستوطنُها بفتاتٍ من الأرغفة.
عامٌ مرَّ على الضحى الغادرِ الذي خطفَ عائلتها, وهي ما زالت كلَّ يومٍ تنتظرٍ وقتَ الظهيرةِ عودتُهم, لم تحتمل الأخيرةُ كسر خاطر البنتِ أكثر من ذلكِ فأعدَّت لها انفجاراً آخر وألحقتها بعائلتِها.
ماتت وهي حافيةَ القدمينِ, حافيةَ الأهل. ودُفنَتْ دونَ أن يحملَ شاهدُها ورقة اسمٍ ترجعُها إلى شجرةِ العائلةِ التي انكسرَ غصنُها في انفجارِ الضحى. وكأنَّ لعنةَ الظهيرةِ أصابتني قبلَ عامينِ من اليومِ, كان لعابُ قلمي يخطُ كلماتِ هذهِ القصةِ. واليومَ أنا أتوسدُ الشارعَ حافيةَ الأمل بعدَ أن جرى عليَّ ما كتبتُ. وكأنَّ ساعةَ الظهيرةِ أوحت إلي بمستقبلي”.