خاص: حاورتها- سماح عادل
“سلوى البنا ” كاتبة وروائية فلسطينية، ولدت في نابلس، أتمت دراستها المتوسطة في نابلس، وحصلت على الإجازة بالآداب من جامعة بيروت. إضافة لعملها الصحفي صدر لها: (عروس خلف النهر، رواية، بيروت 1972 – الآتي من المسافات، رواية، بيروت، 1977- مطر في صباح دافئ، رواية، بيروت، 1979- الوجه الآخر، مجموعة قصص، نشرتها في الصحف الأردنية، ثم طبعت في بيروت 1974- العامورة عروس الليل، رواية، بيروت، 1986- حذاء صاحب السعادة، مجموعة قصص، بيروت، 2010- امرأة خارج الزمن، رواية، بيروت، 2011- ست الحسن في ليلتها الأخيرة، رواية).
إلى الحوار:
(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟
- شغف الكتابة ولد معي بولادة أول الحروف بين أصابعي، ربما هو خيالي الواسع سبق الكلمة والحرف ليجسد هذا العشق ويكرسه.
البداية كانت مع الشعر، والمفارقة أنه كان مقفى وموزونا رغم أنني حينها لم أكن قد تجاوزت الثانية عشر من العمر، لكن شغفي بالقصة والرواية كان أكبر فخطفني من الشعر، أول قصة قصيرة نشرت لي في مجلة اسمها “قافلة الزيت” في مسابقة للقصة، ونالت الجائزة الأولى كنت حينها طالبة في كلية “راهبات مار يوسف” في مدينة نابلس.
وبعد التخرج من المدرسة عملت في الصحافة والتي خطفتني طويلا من الأدب، لكنها منحتني تجارب إنسانية وصقلت قلمي ومكنتني لاحقا من القبض على الصور والمشاعر والحروف، وليبدأ مشواري الأدبي بولادة أول رواية قصيرة لي بعنوان “عروس خلف النهر”.
ولتتوالى أعمالي لاحقا وتتنوع ما بين القصة والرواية، وصولا إلى “ست الحسن” الرواية التي بقدر ما أتعبتني ولادتها بقدر ما اعتز بها كعمل أدبي جديد بكل المقاييس.
(كتابات) في رواية “ست الحسن في ليلتها الأخيرة” اعتمدت الرواية على التجديد في طريقة السرد.. إلى أي مدى يشغلك التجديد والتجريب في بناء الرواية وأشكال السرد؟
- جمعت “ست الحسن” في أسلوبها السرد الروائي والنص المسرحي والى حد ما الشعر.
نصي الأدبي غالبا هو أقرب إلى الشعر، وإن كان يحتشد بالصور والمشاعر الإنسانية، وفي “ست الحسن” لم أتعمد التجديد لكن الفكرة كانت تقتضي الخروج عن المألوف، وهذا يتطلب جرأة وتحدٍ للذات، الأمر الذي جعلني أتخطى الخطوط الحمراء التي كنت أضعها لنفسي أثناء الكتابة، ولأول مرة تركت قلمي يقودني إلى حيث تقتضي المشاهد والأحداث ليضع هو لها النصوص والتعابير والأوصاف المناسبة. التجديد هنا لم يتناف مع بنية الرواية، أنا لست مع التجديد بالمطلق فثمة مواصفات للعمل الروائي كجنس أدبي تميزه عن أشكال السرد الأخرى.
(كتابات) في رواية “ست الحسن في ليلتها الأخيرة” هل هناك إشارة للتآمر على وردة الشام “فلسطين”؟
- رواية “ست الحسن في ليلتها الأخيرة” تجسد الهجمة الشرسة التي يتعرض لها وطننا وتحديدا بلاد الشام بهدف تدميره وتفتيته وتغيير هويته ومقوماته الحضارية، وتغييب فلسطين تماما من على خريطته وبالتالي “وردة الشام” أو “فلسطين” هي المستهدفة.
(كتابات) رواية “ست الحسن في ليلتها الأخيرة” حافلة بالرموز “وردة الشام” “الشيخ مقبل” و”الشيخ فواز” و”القاضي”.. حدثينا عن ذلك؟
- تجسد رواية “ست الحسن” الصراع بين الخير والشر، بين القبح والجمال، ثمة قيم وتاريخ وحضارة عريقة تجسدها بلاد الشام بكل أبعادها الإنسانية ورموزها الجمالية.
“وردة” هنا هي نفسها “ست الحسن” التي تكرس عنوان الجمال والحضارة والعراقة المستهدفة من قبل رموز الشر والجهل والقبح المتمثلة بالغربان، أما القاضي والقضاة فهي رمز للعدالة الدولية المفقودة وسخرية من محاكمها الصورية، الرمزية هنا أضافت للنص ولم تقتله.
(كتابات) في رواية “عشاق نجمة” هل كان تناول المكان رغبة في التأكيد على عراقة فلسطين وتاريخها البعيد؟
- في رواية “عشاق نجمة” كانت فلسطين هي الحدث والقضية الأساس، وبالتالي كان الانطلاق من حضن التاريخ واستحضار الزمن والأمكنة والأسماء للتأكيد على هوية الأرض وعروبتها.
و”نجمة” هنا هي فلسطين وعشاقها هم المناضلون بالبندقية والفكر والكلمة لتحريرها. في “عشاق نجمة” مساحة مفتوحة على كل أشكال التآمر التي تعرضت لها قضية فلسطين، وصولا إلى ما انتهى إليه المشهد اليوم من حروب واقتتال وتدمير.
(كتابات) هل قضية فلسطين هي الدافع والمحرك وراء نصوصك الأدبية وكيف ذلك؟
- كانت قضية فلسطين ولا تزال حاضرة بقوة في كل أعمالي الأدبية حتى في “ست الحسن” التي خرجت بها إلى قضية أشمل وأوسع هي في أساسها فلسطين.
الالتزام بقضية لا يقيّد المبدع ولا يحدّ من النصوص، فالرواية أو القصة هي انعكاس لواقع اجتماعي وتصوير لشرائح وطبقات اجتماعية وحركتها اليومية، وبدقة أكثر الأدب هو تأريخ لواقع وحضارة المجتمعات.
(كتابات) تظل فلسطين الوطن الحلم الذي يسكن في قلوب المغتربين والمهجرين من الفلسطينيين هل هذا صحيح؟
- فلسطين كانت وستبقى هي الوطن الذي يسكن كل فلسطيني أينما كان، في الغربة يشتعل الحنين إليها أكثر، وهموم المنفى برأيي تعمده بها أكثر، ومن يراهن على الزمن لقتل هذا الحلم هو خاسر بالتأكيد.
(كتابات) في رأيك لما اختفت القضية الفلسطينية عن الأدب العربي في الوقت الحالي؟
- ليست قضية فلسطين وحدها من غُيّبَت عن الأدب العربي ولكن مفهوم الالتزام أيضا غيب تماما، ولم يحدث هذا بالصدفة وإنما ضمن حركة استهدفت ضرب قيمنا الثقافية وتفريغها من خصوصيتها وتهمشيها، وتسطيح الفكر وضرب الوعي من خلال استهداف الكلمة الملتزمة سواء بالفن أو الأدب، وهذا ما يجسده المشهد الأدبي اليوم بامتياز.
(كتابات) كتابة مشاهد تحتوي على الجنس داخل الرواية بجرأة، فيما يعرف بالنص الأيروتيكي، يواجه هجوم من البعض بدعوى أنه ينافي تقاليد وأخلاق المجتمع، ما رأيك في ذلك؟
- الهدف الأساسي من الجنس في رواية “ست الحسن” كان لخدمة الفكرة والتي تعكس مفهومين متناقضين له، المفهوم الحضاري الذي يرتقي به من غريزة همجية إلى سلوك إنساني نابض بالحب والجمال، والمفهوم البدائي أو الهمجي المتمثل بغريزة حيوانية شهوانية منفرة وقبيحة.
(كتابات) هل واجهتك صعوبات ككاتبة وما هو جديدك؟
- الصعوبة الحقيقية أمام الإبداع هي غياب النقد المتجرد والبناء، للأسف غاب جيل النقاد الكبار الذين يعود إليهم الفضل في خلق أدباء تركوا لنا رصيدا راقيا من الإبداع.
كل ما استطيع أن أقوله عن عملي الجديد أنه مختلف وجديد.
الشايب مش عايب..
قصة لسلوى البنا
“أكثر من مرة، استوقفها ذلك العجوز بقامته النحيلة، وشعره الفضّي المنكوش على جوانب وجهه. وأكثر من مرة، تفرّست في ملامحه بينما هو مستغرق تماماً، في تأمّلاته الصباحية من على شرفة منزله المطلّ على الشارع الرئيسي الذي تعبره يومياً في طريقها للعمل.
كان هذا الصباح، يبدو أكثر حزناً وشروداً، حتى أنها لم تلحظ تلك الابتسامة الخفيّة المتواطئة والتي تشي باستمتاعه بمراقبتها له. لم يقف على الشرفة ويطلق عينيه في المجهول، ولم يقرأ خطوط فنجان القهوة التي ارتشفها متمهلاً على عناوين صحيفته اليومية، والتي تكاد تميّزها من حجمها الصغير، وخطوط عناوين صفحتها الأول. ارتاحت لاكتشاف هويته السياسية. لكنها في المقابل أحسّت بفضول كبير يدفعها لمعرفة المزيد.. فقد يكون هذا العجوز صاحب سجل نضالي عريق. أزاحت خصلة الشعر المتمردة عن جبينها، وتركت لعينيها حريّة التقاط التفاصيل، عبر جولة متأنية بدأت من قمة رأسه حتى أخمص قدميه. ربما هي فرصة لن تتكرر ثانية أن يقف فجأة، ويتّكئ بيديه على حافة الشرفة، متجاهلاً تلك العينين العسليتين الواسعتين اللتين تكاد تبتلعانه تماماً. أراحها جداً هذا التجاهل. حتى وإن كان متعمداً كما تشي ابتسامته اللطيفة والخبيثة والتي تتلألأ في عينيه من حين لآخر. خاصة حين تنهمك في عراكها الخفي مع تلك الخصلة من الشعر التي يحلو لها معاندتها في أدقّ اللحظات فلا تعود تميّز إن كان رفع لها يده بالتحية. أو أشار بها إلى بائع الكعك على الطريق. “الأرجح أنه يتقصّدها هي”. تستطيع من موقعها هذا، محادثته حتى همساً. “ماذا لو ألقت عليه التحية؟”.
اشتعلت وجنتاها خجلاً وهي تتكهن ردّة فعله. ربما هو يعاني من الوحدة، بل أكيد هو كذلك. فمنذ اللحظة التي استوقفها بجريدته اليومية وفنجان قهوته الصباحية، لم يحدث أن ضبطته برفقة كائن ما! ولا حتى قطة صغيرة، يبدد غنجها بعض الصمت الثقيل من حوله. “هو بالتأكيد يشتاق لحضن امرأة.. بل ربما أكثر من امرأة يفتقدها اللحظة. فهذا العجوز الوسيم والمثقف على ما يبدو، ما كانت حياته لتخلو من النساء”.
اتسعت ابتسامتها، وتدفق الدم في عروقها، حين تلاحقت المشاهد أمام عينيها في شريط سريع، لشاب يضجّ بالحياة، يطوّق بذراعه خصر صبية. يراقصها، يشدها إلى صدره، تشعل أنفاسه وجهها، تتألق عيناها بوهج يثير جنونه. يضمها أكثر، تلتصق به، تنصهر في عروقه. فيحلّق بها بعيداً ويختفي معها بين النجوم. “ولكن لا… فهو لا يبدو من هذا النوع من الرجال”. عنوان صحيفته يشي بهويّة مختلفة تماماً.
غافلتها ابتسامة ساخرة. “ثمة زاوية هادئة في ركن منعزل من مقهى تتوزعه مقاعد خشبية عتيقة، ومفارش مزركشة بوجوه لرموز سياسية وفنية من عوالم متباينة ومتناقضة اختلطت ملامحها وتمازجت ببقع القهوة ورماد السجائر، ووحّدها صدى طقطقات مفاتيح أجهزة اللاب توب وصوت فيروز الضائع في متاهات نقاشات حضارية يعلو وينخفض تبعاً لحدّة مساراتها الودّية أو العدائية، المتباينة والمتقاربة، والتي لا تخرج في كل الأحوال عن إطارها الحضاري والمنفتح.
في تلك الزاوية التي يخيل إليها أنها هادئة ومختلفة، يجلس الثنائي العاشق. يتهامسان حول قضية شائكة جداً تمتد جذورها من الأزل، لكنها لا تزال طريّة العود نديّة صاخبة حارقة ومدمرة. يطوي أصابع يده. يضرب بها الطاولة بحركات متلاحقة، فتتسلل أصابعها وتقبض على يده. تحتويها بين كفيها الصغيرتين. فتستكين يده وتهدأ، وتستسلم لموجات من الدفء تدغدغ قلبه، فتتألق عيناه بذلك الوهج الذي طالما شدّها إليه كالمغناطيس. تضع رأسها على كتفه وتتنفس بارتياح. بينما تواصل أصابعه البحث عن جذور المشكلة في أطراف خصلات شعرها المتماوج الطويل.
أعجبها المشهد فابتسمت “لرومانسية ثوار السبعينات مذاقها الفريد”
غمرها إحساس طاغ بشفافية غريبة، اعتقدت أنها لفظت أنفاسها مع آخر ورقة سقطت من رزنامة القرن الماضي. رفعت رأسها وتأملت العجوز. خفق قلبها بشدة. لا تعرف لماذا تمنّت اللحظة لو فتحت ذراعيها على وسعها واحتضنته!
ماذا لو فعلت؟
هل يعود الزمن إلى الوراء؟
تساءلت وهي تعيد قراءة ملامح العجوز من جديد. ثمة نظرة ماكرة تطل من عينيه. بل هي دعوة صريحة ومباشرة. “لا شك أنها أخطأت تقدير هذا العجوز”.
رفعت حاجبها اليسار مستنكرة “شايب وعايب”. تابعت بفضول تلك الإشارات التي يحاول إيصالها لها. “يريدها أن تصعد إلى شقته” هذا ما تقوله حركة يده بوضوح. ولكن ماذا عن تلك الابتسامة الغامضة والمتوارية في زوايا فمه وكأنها شبح يترصّد طريدته. هاجمتها مشاعر متناقضة. وحين غلبها الخوف، انهزم فضولها وتلاشى. رددت وهي تبتعد مسرعة “عجوز منحرف”. لم تحاول الالتفات خلفها وإن راودها ذلك لفضول! وحين وصلت مكتبها في آخر الشارع تنفست بارتياح كمن تحرر من حمل ثقيل. ومع هذا بقي في داخلها مساحة صغيرة لذلك الوجه الذي ظلّ يغافلها من حين لآخر ويطلق لخيالها العنان. فإذا ما التقطت عيناها تلك الإشارات الغريبة انطفأ المشهد وغاب الوجه وامتلأ صدرها بالغضب. تنهض مسرعة. تحمل حقيبة يدها وتغادر إلى أقرب مقهى وتحتل زاويتها المعتادة، لتمارس هوايتها في تأمل الوجوه بعيداً عن أعين المتطفلين. وحينها فقط يضيع وجهه بين عشرات الوجوه التي تعبر عينيها. لكنه اليوم ظلّ يطاردها بإصرار غريب، حتى أنه ابتلع كل الوجوه من حولها، واحتلّ ملامحها وراح يحاصرها من كل الزوايا. وحين أوشكت على الاختناق، أغمضت عينيها لتفاجأ به يخترق العتمة ويرتسم داخلها شعاعاً أبيض شفافاً بملامح هادئة تظللها ابتسامة طيبة. أطبقت جفنيها بإحكام وحاولت أن تقارن ما بين هذه الملامح وتلك التي علقت في ذاكرتها آخر مرة. “فرق شاسع ما بين هذه وتلك”.
داهمها إحساس بالحنين “لعلّي ظلمت العجوز” ردّدت وابتسامة غريبة تضيء شفتيها. تساءلت بلهفة إن كان ما يزال يمارس الطقوس ذاتها. من يدري؟ ربما يفتقدها أيضاً كما تفتقده هي اللحظة!
رفعت خصلة شعرها المتمردة بحركة سريعة كعادتها تماماً حين تتخذ قراراً مفاجئاً، وربما غريباً أيضاً. لن تمارس هوايتها بالمشي الآن. بدت لها تلك الهواية نوعاً من الترف المحظور. اعترضت أقرب سيارة للأجرة، واندفعت إلى داخلها وحبست أنفاسها في سباق مع الوقت. وحين صافحت عيناها تلك الشرفة التي لا تخطئها من بين ملايين الشرفات تنفست الصعداء. وبدأت كالعادة عملية مسح شاملة لكل الزاويا. أثار قلقها ذلك الصمت الموحش والكئيب الذي يخيّم على المكان. وأرعبها عُرْيُ الشرفة ويباسها. وكأنما اجتاحتها ريح عاصفة، لم تبق في جنباتها أثراً للحياة. لا مقعد هنا، ولا طاولة هناك، ولا فنجان قهوة منسيّ على الترابيزة الخشبية، ولا صحيفة يومية تحتضنها أصابع طويلة ونحيلة. والمرعب أكثر، انسدال الستائر الداكنة على نوافذ المنزل.
ساعة من الزمن، أمضتها تترصد حركة ما.. ضوءاً ما، من خلف تلك الستائر. ولم تتعب عيناها أو تملّ من انتظار يد تفتح باب الشرفة، ليطل صاحبها محتضناً تحت إبطه تلك الصحيفة. بينما تقبض أصابعه على فنجان القوة. وقبل أن يحتلّ زاويته المعهودة، تطيّر لها عيناه تلك التحية التي يخفق لها صدرها. وتحرك في داخلها ألف سؤال وسؤال.
لسعت وجنتيها قطرة من الدمع واستسلمت للهزيمة. “أيعقل أن يكون الأمر مجرد أوهام صنعها خيالها الواسع؟”. طأطأت رأسها بخجل وهمّت بالانسحاب. لكن يداً طريّة ربتت على كتفها فجأة. فتجمدت في مكانها بلا حراك.
أنت إذن هي تلك الصبية التي أعادت الحياة إلى أصابع أبي. لتبدع أجمل لوحاته في أيامه الأخيرة.
التمعت عيناها ببريق خاطف وكأنها عثرت فجأة على كنزها الضائع. تأملتها بحنان، قبل أن تضمها بين ذراعيها. وتتابع
“أنت هي تغريدته الأخيرة”.
استدركت وهي تهمس بأُذنها “لكنها التغريدة الأجمل”
تسمرت في مكانها وكأنها لوحة مرسومة على جدار. بدت بعينيها الشاخصتين والمحدقتين في الفراغ. أشبه بجثة خطف الرعب منها الحياة وشلّ حواسّها تماماً.
اعتقدت لثوان قليلة أنها فقدت القدرة على النطق. حرّكت شفتيها لكن صوتها لم يخرج. فاستسلمت لتلك اليد التي سحبتها بسرعة وصعدت بها إلى شقة العجوز لتجد نفسها في مواجهة مكشوفة. مع كل الزوايا التي لا تزال تحتضن نبض العجوز. هذه جريدته اليومية يأكلها الغبار. وهذا فنجان قهوته مرصّع ببقع بيضاء تشقها خطوط سوداء هشة وجافة. لكنه لا يزال يعبق برائحة القهوة.. وربما أنفاسه أيضاً! وقبل أن ترفع فنجان القهوة لتتأمله. سحبتها ابنته إلى غرفة جانبية واسعة ومستطيلة قالت بمرح “هذا مرسم أبي ومملكته الجميلة”.
صافحت عيناها عشرات اللوحات المركونة في الزوايا والمعلقة على الجدران. تاهت عيناها خلف الخطوط والألوان، فأحسّت وكأنها فراشة صغيرة ملونة تتنقل من لوحة إلى أخرى. استوقفتها فجأة تلك اللوحة التي تشبهها كثيراً. ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تتأمل العينين والأنف وذلك الحاجب المرتفع بدهشة وفضول “هذه أنا”.
ردّت ابنته بحب “نعم أنت آخر لوحاته وأجملها”
تابعت وهي تسحب من درج مكتبه مفكرة صغيرة
هذه من حقك أنت.. فقد كتبها لك
قرأت ولم تصدق “كان يرى فيها صغيرته أمل والتي تناثر جسدها الطري أشلاء أمام عينيه. لحظة سقطت تلك القذيفة المشؤومة في باحة منزله. في ليلة سوداء من ليالي حرب تموز سنة 2006. ومنذ تلك اللحظة تمردت أصابعه على الرسم وخاصمت الألوان.
غسل الدمع وجهها وحروف الرسالة. اشتعل الندم في عروقها. فردت ابنته ذراعيها واحتضنتها.
قال لنا عبر الهاتف وصوته يرقص فرحاً أن أمل عادت إليه من جديد وأعادت معها الحياة إلى أصابعه. وأنه لم يعد وحيداً بانتظار النهاية.
رفعت حاجبها بدهشة. فابتسمت ابنته “كان مرض السرطان قد نهش روحه قبل جسده. وحين لم يتبق له من الحياة سوى أسابيع قليلة اختار أن يعيشها بمفرده وينتهي معها بهدوء وسلام.
فكانت تلك الأسابيع هي الأجمل والأكثر إبداعاً وعطاء في حياته. “شكراً لك يا صغيرتي”.
تابعت وهي تحتضن يدها بين كفيها
“ثمة رجاء أخير، أن توافقي على حضور افتتاح معرض رسومه الجديدة والذي سيحمل اسم الأمل”
رفعت اللوحة عن الجدار وتأملتها بإمعان. قرأت التوقيع الذي يحمل اسم ذلك الرسّام الشهير فأحسّت بالخجل، وهي تستعيد ذلك المشهد الأخير. والذي كان يحاول خلاله أن يوصل إليها الرسالة. تمتمت من بين شفتها “سامحني إذ أخطأت فهم الرسالة. لكني أعدك بأن أكون الأمل الذي اخترت”.
أطلّ وجه العجوز فجأة. غمرتها عيناه بموجة دفء عارمة. خفق قلبها بشدة. علّقت اللوحة مكانها على الجدار وغادرت بهدوء.