خاص: حاورته- سماح عادل
في رواية “دونت سبيك أسطب” تجلت براعة السيرة الذاتية حين تمعن في رصد الذات وكشفها والاقتراب منها ومحاولة فهمها، لكنها مع ذلك تؤثر علي القراء وذواتهم ربما لأنها تعبر عنهم هم أيضا، تلمس جوانبهم الإنسانية الخفية تلمس مشاعر وأحاسيس هامة. أيضا رغم كونها سيرة ذاتية تحتفي بالمشاعر والأحاسيس المختلفة إلا أنها تقدم صورة عن العراق في الفترة ما بين حكم الملك وحتى بعد الاحتلال الأمريكي، صورة حميمية وثرية تقدم شخصيات شائكة ومعقدة وشخصيات بسيطة وجميلة من فرط إنسانيتها.
معكم هذا الحوار الشيق والمثير مع الناقد والكاتب “سلام إبراهيم”:
* لماذا تأجلت خطوة كتابة مرحلة الطفولة كل هذه الأعوام، هل كنت تخشي الانكشاف التام لذاتك؟
– الكتابة الحقيقية غير مصنوعة، بمعنى لا تأتي جاهزة بكل أغراضها وخططها ومبغاها للكاتب، بل تنمو بهدوء مع العمر والوقت ووعي الكاتب فتأخذ أبعاداً أعمق وأوسع كلما تقدم العمر وتراكمت التجارب الحياتية؛ السياسية والاجتماعية والروحية وتمثلاتها في ذاته.
قبل تبلور مشروعي الأدبي، أقصد الكتابة، كنت مهموماً في المجتمع إذ نشأت في عائلة عمالية وطنية ساهمت في النضال السياسي منذ تأسيس الدولة العراقية 1921، وتعرض أفرادها من مختلف الأجيال إلى الاعتقال والسجن والملاحقة، وقدمت أربعة قضوا تحت التعذيب، كنت أسمع في صغري قصصاً وحكايات عن المناضل الناذر نفسه من أجل الآخرين فاشتعلت مخيلتي وتفتّحت عيناي وأتقد ذهني مثيراً المزيد من الأسئلة عن الأسباب المحرضة على فكرة النضال والتي ستنكشف لي باكراً وجوهرها “النضال من أجل وطنٌ حرٌ وشعب سعيد”.
مجتمع يوفر فرص حياة فيها عدالة ومساواة، أي حياة أفضل، فكرة ما تزال حلم الإنسانية غير المتحقق، فانغمرت في خضم ما ظننته الطريق الأسرع لتحقيق العدالة والمساواة، لأذوق باكراً مرارة السجن والتعذيب والإذلال من قبل أجهزة دولة من المفترض أنها وجدت لتحمى مواطنيها، فزاد إصراري لأرى الأهوال والجحيم، وفي هذا الخضم تبلور مشروعي الكتابي، مشروع جذره النقد، فتطور من نقد السلطة السياسية إلى نقد البنية الاجتماعية.
ومن هذا المنظور الفكري والفلسفي عكفت على تفكيك هذه البنية، العادات التقاليد الأعراف التي تصيغ الشخصية وبالتالي وجدت نفسي أغوص في نقد وتعرية المنظومة الأخلاقية للمجتمع العراقي. ومن هذه الزاوية تَدَرّجَ التفكيك من رواية إلى رواية ومن قصة إلى قصة، بدأت في تفكيك الفعل الأخلاقي للسلطة القمعية التي تُعَيّش موطنها في كابوس يقظة دائم فيتنفس ويحيا تحت سيف مسلط قد يهوي على رقبته في أية لحظة كما هوى على رقبة أخي الرسام التشكيلي طالب الجامعة “كفاح عبد إبراهيم” في ظلام الأقبية السرية في روايتيَّ “رؤيا الغائب”، و”إعدام رسام”.
والخطوة الثانية فككت في القسم الأول من “الإرسي” شخصية العراقي المساق قسراً إلى جبهات الحرب وبنيته الداخلية وتحولاته وهو يهرب ويتخفى ويلتحق بالثوار ليحمل السلاح ضدها، معاناته في مخاض الحياة الشرس وفداحة ثمن تمرده على قوانين الدكتاتور، وفي قسمها الثاني خطوتُ أبعد بتفكيك شخصية الثوري والكشف عن بنيته وتناقضاته؛ سموه وَضِعَتِهِ، قوته وضعفه، مروءته وسفالته، في تفاصيل لقطتها من معيشتي بين الثوار، لأخلص بالتالي إلى أن المناضل ابن بيئته العراقية وليس من طينة خاصة كما صوره أدباء الحزب الشيوعي، أما الخطوة الثالثة فكانت أكثر عمقاً.
ففي “الحياة لحظة” خرجت بوضوح وصراخ وصراحة عارية ً على الأيدولوجيات والأحزاب السياسية، إذ تعمقت في تفكيك شخصية الثوري في جلسات مصارحة مؤلمة وفاضحة عقب انهيار الحركة المسلحة في كردستان العراق والتشرد في دول المنافي، هذا التفكيك في البنى الاجتماعية بتركيباتها المختلفة، بنية الجندي، الثوري، الجلاد، الإنسان العادي، قادني إلى تأمل بنية المجتمع العراقي بقيمه وعاداته وتقاليده التي تشكل منظومته الأخلاقية التي تحاشى غالبية الكتّاب العراقيين الاقتراب منها ليس خشية بل أنهم يعتقدون بصلاحيتها للعراقي.
وهذا تبين لي لاحقاً وأنا أفكك هذه البنية القائمة على الزيف والكذب والنفاق والادعاء بالعفة والشرف والطهارة ظاهراً، وممارسة الرذيلة والسفالة والدناءة سراً، ومن قادني إلى هذا الكشف هو صراحتي الشديدة وصدقي في التعامل مع من يحيط بيّ في الحياة وهذا ما سيتجلى في نصوصي القصصية والروائية ومقالاتي الفكرية أيضا، فَوصِفَتْ لغطاً وليس كتابةً كونها نصوص لا أخلاقية، إباحية، لكن لم يجرأ أحدٌ على القول علناً أو الكتابة.
تعمقتُ في “حياة ثقيلة” في فضح تلك البنى المشكلة لكيان المواطن العراقي من خلال تفكيك بنيتي وبينة ثلاث شخصيات من أصدقائي، شكلوا أقسام الرواية الثلاثة، فعدها بعض النقّاد والباحثين خرقاً للأعراف والتقاليد الاجتماعية، وهذه العبارة هي نفس العبارة التي سجلها الرقيب في اتحاد الكتاب والأدباء العرب في سوريا في توصية منعه لروايتي “الإرسي” عام 2000، ونفس مبرر دار الشؤون الثقافية العراقية المنشور في صحيفة “الصباح الحكومية” رداً على تصريحي في أمسية عنها في مقر اتحاد الكتاب والأدباء ببغداد، والذي قلت فيه: حاولت طبع روايتي في بلدي لكن الرقيب العراقي منعها عام 2006، مما اضطرني إلى طباعتها في القاهرة.
أعتبرها الرقيب العراقي رواية تتعارض مع القيم والعادات والتقاليد العراقية لكثرة المشاهد الحميمية فيها، وكما أشرت اكتشفت لاحقاً وأنا أخوض في حوارات حول النص الأدبي والمجتمع مع كتّاب عراقيين مهمين لم يغادروا العراق أن إحجامهم عن فضح هذه البنية التي من نتائجها ذاتياً هذا الخراب، ليس خوفاً أو تقية، لكن لقناعتهم وإيمانهم بتركيبة الشخصية العراقية التي صاغتها تقاليد وأعراف المجتمع.
كل ما كتبته ينقض المجتمع وبنيته والشخصية العراقية وتكوينها بوضوح وصراحة وبوعي نقدي اجتماعي وفلسفي وأدبي ونفسي موسعاً ومعمقاً ما بدأه الروائي الرائد “فؤاد التكرلي” وما واصلته الصديقة الروائية “عالية ممدوح” والاثنان حفرا بنصوصهما بنية المجتمع العراقي، ما ذهبت إليه بنصوصي أبعد وأعمق وأكثر صراحة بسبب طبيعة تكويني الشخصي الذي تعرفتي عليه في “دونت سبيك أسطب” وشدة صراحتي وكشفي لكل ما رأيت وشاهدت وعشت ووعيت حتى أني لم أعد أُرَمْزْ منذ روايتي “في باطن الجحيم” و”حياة ثقيلة” و”دونت سبيك” إذ الشخصية المحورية هو أنا باسمي الصريح.
قبل أن أبين لم تأخرت بكتابة “دونت سبيك” والطفولة لابد أن أشير إلى روايتي “كل شيء ضدي” التي فككت فيها بنية العائلة العراقية وعلاقة الرجل بالمرأة وهو تعميق أوسع وأعقد فيه كشف وتحليل لهذه العلاقة الملتبسة واللابد منها فهي علة الوجود وسبب استمراره، والتي قضيت بكتابتها أكثر من عشرة أعوام.
بعد هذه الرحلة في الحياة والكتابة عبرت الستين ودنا هازم اللذات ومفرق الجماعات، وتعمق التأمل والبحث، تبلورت الأفكار فأنبثق سؤال يقول:
ما سرَّ ومبعث العنف الذي وسم المجتمع والشخصية العراقية؟
فعكفت على تأمل ونبش والبحث في تاريخي الشخصي، متيقناً من أنني دون تحليل بنيتي وبنية من أحاط بيّ في رحلة التكوين والنشأة سوف لا أفهم مجتمعي ولا أقدم له ككاتب ثوري وأشدد ثوري الكلمة التي عادت منبوذة بعد تهاوي مثل الاشتراكية والمساواة، على الأقل نقطة ضوء في الدكنة الغارق فيها عراقي منذ مائة عام. ومن هنا بدأت بكتابة فصول تحليل ظروف نشأتي في العائلة والمجتمع منذ ولادتي حتى بلوغيّ السابعة والستين على شكل مفاصل روائية فنية أردتها مثل عقود على جيد النص باهرة مدهشة لي أولا قبل القارئ.
أما الخشية من انكشاف الذات فلا مكان لها، لأني مشيت عارياً كل العمر، صريحاً وصادقاً في الحياة والكتابة، لذا لم يدعمني ويعضد مشروعي الفكري الأدبي والنقدي لا مؤسسة ولا حزب ولا دولة ولا تجمع أدبي وبالعكس كافحت وقاتلت الجميع في مسيرتي الأدبية والفكرية والحياتية في الوضع العراقي الملتبس، بين أدباء طبلوا لحروب الدكتاتور وقمعه، كتبت عن قصصهم ورواياتهم المسمومة سلسلة من المقالات التحليلية نشرتها في المواقع العديدة.
ولا أدباء التقية الذين لزموا الصمت زمن الدكتاتور لكن نتاجهم الأدبي مهادن لبينية المجتمع العراقي الملتبسة والشخصية العراقية المزدوجة، إذ لَزَمَتْ الصمت التام في مواجهة الفظائع التي ارتكبت بالشعب العراقي، ولا حتى الحزب الذي ناضلت في صفوفه وتجد تاريخه في ثنايا نصوصي كلها، بل غالبية شخوص رواياتي وقصصي هم من الشيوعيين، لكن صراحة الشخوص وعرض تكوينهم الإنساني الملتبس التباس تكوين العراقي جعل صحافتهم تحجم عن إلقاء الضوء على رواياتي ومجاميعي القصصية.
مضاف إلى تناول تجربة الكفاح المسلح في كردستان 1980-1989 بكل ما لها وعليها من شاهد حي، (كتبت رواية تسجيلية عن إصابتي بقصف كيمياوي طبعتها وزارة الثقافة العراقية 2013 وتجاهلها الحزب الشيوعي). كل هذا جعلني أكافح المحيط الثقافي العراقي الموزع حسب ما بينته، لم أخش شيء ولم أهادن أحدٌ لا شخص ولا حزب ولا تكتلات أدبية، كان جواز مروري الوحيد هو النص الذي أكتبه إبداعيا أو نقدياً.
وبهذا وجدت موطئ قدم راسخ في الوسط الأدبي العراقي والعربي، وكي يتوضح مقاصد كل ما ذهبتُ إليه أورد هنا تحليلا أعتبره مهماً لناقد وباحث عراقي الأستاذ “نصير عواد” يقول فيه:
(روايات سلام إبراهيم حملت بين ثناياها عامليّ التدمير والبناء لإعادة إنتاج القيّم والمفاهيم التي عانت الركود طويلا، أخذه ذلك إلى الكتابة بشكل مباشر، كتابة في النور، مشرعة على الشخصيّ والحميم. لم يتخلَ فيها عن أصدقائه ورفاقه بالسلاح، لكنه تخلى عن زيفهم (كتب عنهم ولم يكتب من أجلهم) تَقَاطعَ ذلك وظيفيّا على إنها كتابات تحمل بين طبقاتها نزعات مناوئة للحركة الثورية بالعراق، فيما ذهب آخرون إلى إنها كتابات مشاكسة، مُشبّعة بالخمرِ والجنس وكشف الأسرار، تستهوي موضوعاتها القرّاء الميالين إلى التلصّص والباحثين عن تصفية الحسابات.
في سرده للحوادث تخلّص سلام إبراهيم كثيرا من الضغوط الاجتماعيّة والسياسيّة، ليس فقط لأنه عاش المنفى وتمتع بحرية نسبية، بل ذلك جزء من طبيعته الاجتماعيّة، واستمرار لمغامراته السابقة في السجون وخلف المتاريس. ويمكن رؤية ذلك في مقالاته الأدبيّة والسياسيّة، وفي تغريداته الفيسبوكية التي يستلَ عناصرها من الحياة اليومية وما يحيطها من محرمات وأسرار. المتتبع لتجربة سلام إبراهيم يجده مشاكسا على الأرض وعلى الورق، ولغته “اليسارية” المتكدسة خلف القص مشحونة بالتمرد وفضح الأشياء الحميمة لأبطاله. ففي القسم الأول من رواية “الارسي” شهدنا خروجه المبكر على قوانين الديكتاتور، وفي قسمها الآخر شهدنا بدايات الكشف الموارب. أما في رواية “الحياة لحظة” فقد كان الخروج صائحا على الأيدولوجيّات والأحزاب السياسيّة، ثمّ تصاعد خط رواياته صوب انتهاك الأعراف والتقاليد الاجتماعيّة السائدة، كما في رواية “حياة ثقيلة”.
انتهاك شبه بردةِ فعل على تلك التي عانى منها المؤلّف في شوارع طفولته، في السجون وخلف المتاريس وفي الجبال وفي المنافي الباردة مع تاريخ المؤلّف، ومع تاريخ رفاقه الذين نجوا من حواف الموت، انتهى بَعْضهم إلى التعامل معها) التضمين من دراسة منشورة في موقع الناقد العراقي ومواقع عدة بعنوان “في هيْمنة التجربة الذاتيّة على الرواية عند سلام إبراهيم”.
ولك أن تلاحظي لغة الناقد اليساري الذي شاركني التجربة وهو يعتبر ما كتبته في “حياة ثقيلة” يعد انتهاك لأعراف وقيم وتقاليد المجتمع العراقي.
* في رواية “دونت سبيك سيطب” حديث طويل مع الأم والأب، محاولة لتوثيق مدي كفاحهم ونضالهم في حياة العراق القاسية. ورغم ذلك لم تخف لحظات ضعفهم وعيوبهم بل أظهرتهما في شكلهما الإنساني ما بين العيوب والمميزات وأظهرت المحبة لهما. حدثنا عن ذلك؟
– الرواية تخاطب في فصولها الـ (32) الوالدين؛ الأب في فصل، والأم في آخر، ومبنية على فكرة المكاشفة بلا حدود، وبتعبير أدق الاعتراف المتأخر لأبي وأمي الذين حرمتني سلطة الدكتاتور، وظروف حياتي السياسية، الهروب، التخفي، الالتحاق بالثوار والتشرد في معسكرات الدول المجاورة، الظروف القاهرة التي ألقتني في نهاية المطاف بالدنمارك، فماتا وأنا بالمنفى.
تجربة كتابة “دونت سبيك” كانت مختلفة، مذاق التحضير والبحث وإشادة بناء هيكلها ثم التنفيذ، كانت من أسعد أوقات عمري، فقد خلقتهما على الورق ورسمتهما بالكلمات فعادا حيين يعيشان حولي في غرفة الكتابة، صورت كفاحهم السياسي فكلاهما انخرطا سراً فيه في العهد الملكي، وعلناً في العهد القاسمي، ثم اعتزلا للكفاح من أجل توفير ظروف عيش كريم لعشرة أنفار يتكدسون في غرفة واحدة، ليتركز نضالهم من أجل المحافظة على حياة الأبناء الذين انخرطوا أيضاً في العمل السياسي السري ففقدا واحداً غيبوه وقتلوه في الأقبية والثاني تشرّدَ بين الجبال والمنافي.
عشتُ معهما، عدتُ إلى طفولتي وصباي ونضجي منتقياً الأحداث الأكثر تعبيراً عن فلسفتي وموقفي الاجتماعي والسياسي والأخلاقي، عاشا معي في نزهاتي في الغابة، بين الزحام. كانت سنوات كتابتها (2013-2021) وإعادة خلقهما من ألذ لحظات عمري، إذ رأيتهما يتجسدان لحماً ودماً، شممتُ رائحتهما ووصفتهما بتأمل ومحبة وتفحص حسي وعقلي حتى عدت أراهم في الأحلام.
سردت عنهما ولهما لاقطاُ خلاصة تجاربهما عبر مواقفهما الاجتماعية والسياسية والفكرية وكفاحهما، وأفضيت لهما بأسراري كلها، تلك الأسرار التي يخفيها الرجل العراقي، ويستنكرها علناً لكنهُ يمارسها سراً، كل ما وردَ من تفاصيل أغلبها عشتها وبعضها جمّعتها ووثقتها ممن تبقى من العائلة طوال أكثر من خمسة عشر عاماً.
* في رواية “دونت سبيك سيطب” تناولت شخصيات عديدة وأحداث هامة في تاريخ العراق وركزت علي فكرة التمرد علي السلطة وظلمها.. لماذا يسكنك الوطن لهذه الدرجة؟
– نوهتُ عن نشأتي وسط عائلة وطنية ناضلت في كل العهود وحتى الآن بأجيالها المختلفة فوجدتني مهتما بالسياسة والأدب، ولم أقف جانباً للتفرج على يجري، بل انغمرت في النضال ومحاولة تغيير الحياة ذقت ما ذقت من السلطات، ومجرد التفكير بالكتابة عن عائلتي يقود ذلك بالضرورة إلى الشخصيات والأحداث التي أشرتي إليها، فتدرجتُ في الحفرِ بتأمل وتحليل تاريخ المجتمع العراقي الاجتماعي والسياسي إلى أن توّلد مشروعي الأدبي وهو مشروع فكري ناقد للمجتمع العراقي وبنيته بعاداتها وتقاليدها وأعرافها، أي منظومته الأخلاقية وتجسّدَ بشقين إبداعي (روايات وقصص) وفكري (مقالات ودراسات نقدية وشهادات).
ومن خلال هذا الانغمار في البحث والكتابة خلصتُ إلى أن العّلة في تكوين المجتمع أي في بنيته والنخب التي فرزها فقادت السلطة وحكمت في تاريخه الحديث منذ تأسيس الدولة العراقية 1921، وهو موضوع شغلتني منذ بواكير وعيي، فاندفعت باكراً في العمل السياسي والاجتماعي والثقافي والأدبي، على أمل المساهمة بتغيير الواقع، فعكفت طوال الرحلة على دراسة المجتمع العراقي وتكوين الفرد ومنظومته الأخلاقية، سلوكهُ من كل النواحي، درستُ أشكال نشاطه في الحقل السياسي والاجتماعي والمهني، ثورياً أو شرطياً، مربياً أو مجرماً فتوصلت إلى قناعة تقول:
(أن طهرانية العادات والتقاليد الشكلية الصارمة بلورتْ مجتمع قمع وكبت شطر العراقي ليس نصفين ظاهر وباطن أو ما يدعى ازدواج الشخصية العراقية التي ذهب إليها د. علي الوردي، بل جعلت العراقي مشطوراً بين واحد ظاهر يبدو عفيفاً شريفاً وعدد يصعب عده مخفي يمارس كل شيء في الظلام والسر).
ومن ناصية فكرتي هذه ذهبتُ في مبحث رواياتي وقصصي ومقالاتي النقدية والفكرية إلى الجذر أي منظومة القيم، فبدون المكاشفة والفضح بتسليط الضوء على الحياة السرية المعيبة سيكون من العسير تطور المجتمع إلى حافة المجتمعات الإنسانية وحياة موطنها الكريمة. السؤال جوهري الذي قادني إلى البحث المنظومة يقول:
– لماذا أستشرى العنف ورسخَ في تكوين الشخصية العراقية وَطبّع المجتمع العراقي به؟
بدلاً من تناول الدلالات الخارجية للظاهرة استدرت إلى الداخل باحثاً في تجربة حياتي الضاجة، كتاباتي جميعها ليست قصص وروايات تحكي حكايات، إنها بحوث في ثيم وجواهر الأشياء، عن طريق تفحص تجربتي كإنسان والمحيط مدينتي وبيئتي تجد هذه المباحث في كل قصة ورواية، وأخرها “دونت سبيك أسطب” درستُ فيه ظروف نشأتي وجذور العنف في المجتمع العراقي لأكتشف إي مجتمعٍ مخرّب يصيغ إنسانه مشوهاً مزدوجاً لا شيء صريح في حياته.
العلة إذن في طبيعة المجتمع العراقي وقيمه وعاداته وتقاليده الشكلية الصارمة، وخراب شخصية العراقي من الداخل، مضاف لبنية العشيرة وقيم التعصب الحزبي، الديني، الطائفي، القومي، والعنف اليومي في العائلة والمدرسة والشارع، هذا ما حاولتُ البرهنة عليه في كل ما كتبت.
ومن هذا التكوين الشائه انبثقت النخب السياسية والثقافية والمهنية والعسكرية التي أفرزت بدورها حكامنا الأشرار جميعهم فنوري السعيد عراقي، وعبد الكريم، والعارفين، والبكر وصدام، وحكام ما بعد الاحتلال، الجميع عراقي والجميع متآمر عميل وسارق، عدا عبد الكريم كونه كان ساذجًا طيب القلب. العراق من سيء إلى أسوأ منذ تكوين الدولة العراقية 1921م، وما فترات الهدوء والرخاء إلا جزر صغيرة عابرة، وما عدا ذلك عنف ودماء، ولصوصية.
ولك أن ترى ما فعلته هذه السلطات بتاريخ العراق الحديث بمواطنيها في العلاقة الجدلية بين العراقيين كجمهور ونخب توليد السلطات التي تحط بدورها من أوضاع مواطنيها. لكن سأمر على بعض النتائج باختصار:
-1 رسخت هذه التركيبة المشوهة قيم العشيرة في بنية السلطات وأشاعت الرشوة وما يتبعها من خراب النفوس وتدمير القانون وإضعاف معاييره في الحياة منذ نشوء الدولة الحديثة.
2- السرقة في السلوك العراقي في حديث المقاهي وبين الناس مشروعة ومباحة، لذا تجد في حال ضعف الدولة تهب الجموع إلى سرقة المدارس، والدوائر، والبيوت كما في “فرهود اليهود” في أربعينات القرن الماضي، في انتفاضة 1991، وفي الاحتلال والحرب الطائفية 2005-2007، وكما قلت العلة في طبيعة وتقاليد المجتمع العراقي، لكن ما فعلته الأحزاب الإسلامية والقومية التي أتى بها الاحتلال بعد 2003 هو أنها قامت بسرقة علنية، بدعم من بعض العراقيين الذين ساد بينهم الجهل وعمتهم الشعارات الطائفية، وها نحن نرى خراب كل شيء، النفوس والعمران وضياع الوطن والمواطنة بفضل حكام لصوص وعملاء لا ضمير لهم ولا أخلاق متبرقعين بالدين والقومية، وقعوا على كنز لا ينضب، ومستعدين لقتل أي صوت شريف، وهم النتاج الطبيعي لبنية المجتمع وتقاليده وتاريخه السياسي.
ومن هذا الناصية، (يكون تفسير استقطاب الأحزاب الشمولية القومية والماركسية والإسلامية للعراقيين وتناحرها الدموي مفهوماً وهو ما عمق الخراب وأعاد العراق إلى مربعه الأول بعودة قوانين العشيرة وضعف قوانين الدولة الوضعية التي صاغتها نخبة مدينيه في نضالها المضنى من أجل حياة مدنية يسودها القانون وكانت جزائهم القتل والسجون والتشرد بالمنافي) .
وبذا تكون ثيمة وانشغال “دونت سبيك أسطب” وبقية كتبي واضحاً.
* فضحت أيضا ممارسات غير مقبولة اجتماعيا، وتحدثت عن علاقتك بالخمر ومن قبلها علاقة أبيك بها، هل تفكر في نظرة القراء لك وربما أحكامهم الأخلاقية والقيمية أم لا تهتم كثيرا بكيف يراك القراء؟
– أختلف معك بالتسمية وفي التوصيف الفكري لأحداث السرد. فتوصيف الفضيحة لديك ولدى السياق الثقافي العربي في مجتمعاتنا يعني لدي الكشف والقول الصريح هذا أولاً، ثانياً: أنا أصلاً متمرد، وهذا التمرد نما معي منذ الطفولة ورأيته جلياً في “دونت سبيك أسطب” فتمردت على أصغر وحدة اجتماعية “العائلة” وذروتها الثورة على “عمي الحلاق” مروراً بالأعراف القيم والتقاليد التي نحيتها جانباً، فمثلا أقمت علاقة حب علنية مع رفيقة التجربة والحياة “الكاتبة والشاعرة “ناهده جابر جاسم” كانت وقتها طالبة خامس ثانوي ومتمردة مثلي في مجتمع يعتبر الحب جريمة أخلاقية، فحوربنا من عائلتينا ومن المحيط، لكن لم يثننا أحدٌ، وتوجّنا التمرد بالزواج الرسمي لنواصل تمردنا معاً على أوسع وحدة اجتماعية “السلطة الدكتاتورية” فالتجأنا إلى الجبال وحملنا السلاح ضدها.
وثالثاً: لنتوسع قليلاً في المفهوم الذي وصفتي به المنحى الذي كتبتُ فيه وهو الفضيحة، بالمناسبة الصحفية والشخصية الوطنية المناضلة “د. سلوى زكو” كتبت لي عن لوم صديقتها لإعجابها بما أكتب إذ قالت لها “سلام إبراهيم يكتب بورنو” فمتُ من الضحك، الفضيحة أوصّفها من وجهة نظري قول المخفي والمألوف مع النفس في الخلوات، فما كتبته من قصص وروايات بكل أفكارها وأحداثها أستلته من الحياة ونقيته بمعملي الخاص “معمل الروائي” المختلف حول طريقة عمله بين روائي وآخر.
فالمتفحص العميق لطبيعة الأحداث والحوارات والشخصيات في نصوصي الروائية والقصصية يشعر بألفتها وقربها منه أقصد “القارئ” ولم يقتصر ذلك على القارئ العراقي ابن بيئتي وبيئة النصوص، لا بل حتى القارئ العربي في كل مكان، ولدي أرشيف خاص بانطباعات القراء أنشر منه بين الحين والحين على صفحتي في الفيس بوك، هذه الألفة تأتي من واقعية الشخصيات ورسمها وكأنها حية من لحم ودم بكل ما فيها من ضعف وقوة طيبة وسفالة ظاهر وباطن، رسمتها كما هي وكما خبّرتها بالحياة، رسمتها بفلسفة متمرد أكتشف علة الشخصية العراقية ومنظومة قيمها فجاهر بالثورة عليها، رسمتها ليس بظاهرها وهي تمارس دورها الاجتماعي الذي يفرض عليها النفاق والمجاملة والادعاء بما ليس فيها كما يفعل غالبية الروائيين العراقيين، بل رسمتها فيما تفعله وتقوله بهمس الأذان في المقاهي والبيوت، وفي السر مع نفسه فهبطت إلى ما يبطن من سلوك وما يمارسه بالظلام، فبدت الشخصية حية والصورة كاملة بلا رتوش ولا مكياج يخفي عيوبها.
أما عن الخمرة فلا أعتبره عيباً ولا مثلبة، فشخصية السكير من أطيب وأصدق الشخصيات في الحياة والأدب، تجدين ذلك مجسّداً في شخصيات الأدب الروسي العظيم.
بحثت في تكوين هذه الشخصية طويلاً وعميقاً في نص روائي طويل “كل شيء ضدي” صدر بجزأين 530 صفحة عن دار الدراويش بلغاريا 2021، عكفت على كتابتها طول عشرة أعوام فاكتشفت كنوزها، طيبتها، بؤسها، تكوينها وخصوصيتها، ودائما أقلب في هذه الرواية وأستمتع في قراءة مقاطع منها وحيداً، أتعرفين لماذا؟ لأن الشخصية التي سرت أغوارها ورصدت أبعد وأصغر وأخفى مشاعرها هي شخصية “سلام إبراهيم السكير”الذي هاله الكشف في المخاض العراقي العسير فكانت الخمرة تخفف من ثقل الحياة تجعلها أخف لفترة وجيزة فتتجدد طاقة الإنسان لمواجهة الحياة وعواصفها، وكلما تقدمت بالعمر أفهم بعمق لماذا كانت أسعد أوقات أبي “عبد سوادي” كانت غروب كل يوم وهو يتحضر لتناول كأسه وسماع الأخبار أولاً ثم أم كثلوم كما صورته في الفصل الأول من “دونت سبيك أسطب”.
* في محاولة لتقييم رواياتك قلت أنك تكتب عن ذاتك وعن شخصيات عايشتها بالفعل، لماذا تتمحور معظم رواياتك عن ذاتك وأحداث حياتك الهامة والشخصيات الذين تكن لهم المحبة؟
– فلسفتي في الكتابة والحياة تدلك على علة ذلك، فمشروعي الأدبي والفكري تطور في جوهره إلى نقد لبنية المجتمع العراقي الذي نشأت فيه بكل تجلياتها كما بينت في محور سابق، وهذا حتمّ عليّ دراسة التاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي والنفسي والأدبي، وتفحص ودراسة سلوك العراقي في يومه وحياته والنبش المستمر في حياته السرية التي يظهر فيها على حقيقته، والنتائج التي توصلت إليها من خلال البحث المستمر منذ بواكير وعيي وحتى الآن مخيفة ومرعبة.
فعلي مستوى الحياة الاجتماعية تشكل منظومة القيم والأعراف الطهرانية المدعية شدة البراءة إلى خلق ظروف تتيح للعراقي العيش بشخصية عامة بدت كقناع، سأورد لك مثلاً يوضح الأفكار التي ذهبت إليها، في المجتمع العراقي ومجتمعات الكبت تبنى حياة سرية فيها الكثير من الفظائع التي تبقى طي الكتمان، لنأخذ على سبيل المثال لا الحصر الاغتصاب الجسدي نموذجاً فهو شائع ومنتشر ومستشري في المجتمع العراقي وذكره الدكتور علي الوردي عرضاً في معرض تحليله للشخصية العراقية بكتابة “الشخصية العراقية”، واستنكر ظاهرة التفاخر بفعله في حديث المقاهي.
لكن بحثي في هذي النواحي الخفية جعلني اكتشف فظاعة شيوع هذه العملية التي لا يجرؤ المغتصب البوح بها لا لأهله ولا لأحد، أنا نفسي في هذه الرحلة بحثتُ ودرستُ واقعة حدثت لي في يوم عشرة عاشوراء فهزت وزعزعت ثقتي بالإنسان، وجهدتُ طوال حياتي في محاولة استعادتها دون جدوى، تناولت الواقعة في قصة قصيرة معنونه “رؤيا الحفيد” ظهرت على صفحة كاملة في ملحق السفير الثقافي وفي مجموعتي القصصية الثانية “سرير الرمل” دار حوران دمشق 2000، أتدرين من لامني على خوضي بهذه الأسرار وطلب مني عدم كشفها خوفاً من الأضرار الاجتماعية التي ستلحق بسمعتي، أكثر أديبين ساهما معي في منحى الحفر في البنية الأخلاقية للمجتمع وهما الروائي والشاعر الراحل “حميد العقابي 1956-2017” والزميلة العزيزة الروائية “عالية ممدوح”، فتخيلي سطوة الأعراف والقيم الطهرانية في ثقافة مجتمعنا حتى على النخب المتحررة والتي تظن أنها تمردت عليها وتحاول النبش فيها.
درست أثار ذلك على تكويني النفسي وسلوكي فرأيت أي رعبٍ فظيع عشت فيه مادَ بعالمي وغيّره، فالفعل وقع ووصفته في القصة القصيرة المذكورة لكن دون توسع، لم أصف حجم رعب الطفل من النتائج، فمن المستحيل البوح لأمه أو أبيه إذ سيكون الملام الأول ومن باح لأهله كتمته العائلة خوفاً على الشرف من الفضيحة بمفهوم العرف كما سأتعرف لاحقاً وأنا أبحث في تجارب الآخرين، فازدادت تمرداً على كل شيء، كان موقفي مع زميلي “حميد العقابي” و”عالية ممدوح” واضحاً وصريحا قلت لهما جملة واحدة تكثف التجربة وتضعها في مفهوم مغاير للمفاهيم التي جعلتهما ينصحاني بالكتمان أي مفهوم وقيم المجتمع العراقي الطهرانية:
– أحكي عن اغتصاب لا عن حالة شذوذ!
صحيح أن جهدهما الأدبي يشترك مع جهدي في كشف زيف البنية الأخلاقية لكن شخصيات رواياتهم مقنعة، فكيف بالأطفال الذين ينتهكون داخل العائلة من قبل الأهل والأقرباء، أو في الشوارع والمحلات بالعنف والترهيب، لمن يقول، ولمن يشتكي، حتى من باح لأهله كتم الأهل الحادث خوفاً على السمعة، وتظهر هذه الأيام تلك الفظائع في وسائل التواصل الاجتماعي، وهي غيضٌ من فيض مكتوم.
المجتمع بأعرافه لا يهمه ما يحدث في السر من انتهاك وهتك لأفراده لكن المهم عدم شيوعها لتبقى راية الشرف ترفرف في العلن الطاهر.
وأذهب بك إلى أبعاد أعمق، ليس الطفل والطفلة المغتصبة تخشى البوح، لا نخب النخب الثقافية، السياسي والمثقف والكاتب، كتمت وأخفت ما تعرضت له في فعل استسلام تام لسطوة الأعراف والتقاليد وهنا الطامة الكبرى، فهؤلاء تعرضوا في المعتقل للاغتصاب والسحق في الزنازين زمن الدكتاتور (بالمناسبة ما زال السجّان العراقي زمن حكم الأحزاب الإسلامية يمارس هذا الفعل، وهذا ما فعلوه بالشباب العراقي الثائر في انتفاضة 2019) فانا أعرف ثلاث شخصيات معروفة تعرضت للاغتصاب لكنها لم تعلن عن ذلك مخافة من سيف المنظومة الأخلاقية وقيمها التي ستلوث سمعتهم في وهم ثقافي وفلسفي يكشف على تغلغل قيم التحفظ على عقولهم المفترض أن تكون نائرة ثائرة ناضلت وَضّحتْ من أجل تخليص الشخصية العراقية من ازدواجها بضرب مثل في الصراحة والصدق وكشف ما يجري في الخفاء حتى تجرؤ على تحطيم أقنعتها.
هذا ليس كلاماً فكرياً ونظريا، لا.. أحكي لك عن وقائع، تحدثتُ مع أثنين منهم وحرضتهم على تحرير شهادتهم عن هذه الوقائع لتكون فتحاً عراقياً في ثقافة الاعتراف بتسجيل وسرد حقيقة وبشاعة ما جرى لهم في ظلام الأقبية والزنازين، فتكون تلك الشهادات تحريضاً يكسر خشية من تعرض للانتهاك الجسدي فيكتب شهادته أيضاً فتشيع ثقافة الاعتراف التي هي الخطوة الأولى للخلاص من الأقنعة وتحرير العالم المخفي في النفوس، دخلت حوارات متشعبة معهما، فرفضا رفضاً قاطعاً الفكرة والمشروع، الشخصية المسنة تعللت بما سيقوله أولادها وأحفادها عنها ومدى العار الذي سيلحق بهما من توثيق شهادتها.
أما الروائي الذي أصدر روايات مطولة زادت على العشرة فقلل من أهمية مثل هذه الشهادة بالرغم من أنه قدّمَ وسجل شهادته الموثقة وقتها بعد لجوئه إلى بيروت 1979 لدى منظمة حقوق الإنسان المعنية بتوثيق الانتهاكات، أما الشخصية اليسارية الثالثة فهي باحثة ولديها كتابين تبحث في التنوير والنهضة في تاريخ العراق الحديث، في كتاب سيرتها ذكرت كل ما تعرّضتْ له من تعذيب جسدي لكنها أحجمت عن ذكر واقعة اغتصابها المتكرر الشهيرة حيث أبلغ وقتها حزبها الشيوعي أعضائه وأنصاره كخبر يفضح همجية أساليب السلطة القمعية.
عدم الصراحة والصدق وكشف المستور هي معضلة جوهرية في الثقافة العراقية والعربية عَوّقّتْ وأعطبت نضال المثقف المتنور والمبدع والسياسي والناقد الباحث.
تعطينا مواقف المثقفين والمبدعين صورة وفهماً لمنظورهم الفكري المتسق مع النسق القيمي المعوق لأي خطوة نحو بناء إنسان عراقي جديد، هؤلاء ومن أمثالهم جمّلوا ونزّهوا السلطة من فعلٍ وممارسةٍ تعد سحقاً لكينونة الإنسان إذ تعطبه بقية العمر، وهذا يفسر لنا إحدى عوامل فشل الثوري العراقي والعربي في التثوير الحقيقي لمجتمعه وَسِرِ ثبات المنظومة القيمية الشكلية الصارمة في المجتمع العراقي والعربي.
أعود إلى سؤالك:
لماذا تتمحور معظم رواياتك عن ذاتك وأحداث حياتك الهامة والشخصيات الذين تكن لهم المحبة؟
أولا:
البحث في الذات والتجربة كنز لا ينضب، فكلما توغلت أعمق وأبعد تكشفت لك معاني مختلفة أكثر عمقاً في التجارب غير تلك التي كنت تظنها أول وهلة، يجد القارئ ما أقصده واضحاً في كل ما كتبتُ وساطعاً في “دونت سبيك أسطب” إذ وقعت على كنزٍ وأنا أقلب تجارب الطفولة والصبا والشباب والنضج بعين كهل أوشك الوصول إلى السبعين، فتكشف لي فظاعة الحياة التي عشتها في مجتمع قاسٍ وشرس على أبنائه وقت السلم والحرب.لدى مراجعتي للرواية بعد الفراغ من كتابتها انتابني شعوران متناقضان فزعٌ وغبطةٌ؛ فُزِعٌ من هول ما عشتهُ، وغبطةٌ لنجاتي ونجاحي في تصوير ذلك الهول بالكلمات.
ثانياً:
في تركيبة المجتمع العراقي وبنية قيمه الأخلاقية التي قدمت عنها تحليلي ومنظوري فيما تقدم، لكي أصل إلى النتائج التي حققتها والتي تكشفت بحثاً بعد بحثٍ ورواية بعد أخرى ومقال بعد مقال وجدت أن أبدأ في نفسي وتجاربي، وبالمناسبة طبيعة شخصيتي وسلوكي المتمرد وخوضي كل المغامرات الخطيرة يجعل من تجاربي نموذجاً غير مألوف ولا يمثل المواطن العراقي الخامل، المئات ممن مثلي قُتل في السجون أو في جبهات الحرب، أو فَضّلَ الصمت والسلامة، وكان نجاتي مجرد صدفٍ سردت لوالدي الذين ماتا وأنا في المنفى عدداً منها في الفصل الأخير من “دونت سبيك أسطب” المعنون “أدوس على الخطر”.
هذا من ناحية، ومن أخرى تفاديت إلى حدٍ ما المخاطر الاجتماعية وردود فعل هذه المنظومة على حساسية المواضيع التي كشفتها، تفاديت لأنني بدوت وكأنني أسرد عن نفسي، وحقيقة الأمر أن ما فعلته مدروساً تعرية بنية المنظومة الأخلاقية المزدوجة عن طريق الكشف والاعتراف الذاتي وتحت هذه الذريعة التي كانت الإسفنجة التي مصت ردود الفعل صورت الكثير من الأفعال والحوادث ذات دلالة تخدم ثيمة العمل ونسبتها إلى نفسي وكأني مارستها أو ارتكبتها، وهذا كما ذكرت قادني لعالم غني واسع تجاربه لا تنتهي مع تعدد زوايا النظر.
ومع كل هذا الشغل والحذر أثارت نصوصي الكثير من الريب والغضب لدى عائلتي ومدينتي والسلطات والأحزاب بما فيها الحزب الشيوعي الذي قضيت عمري مناصراً له وعملت في صفوفه، أضف إلى ذلك اضطراب الوضع العراقي والحروب الأهلية وسلطة اللصوص والعملاء والقتلة، والفوضى النسبية ساهمت في عدم التدقيق في رواياتي، أورد لك مثلاً، “دونت سبيك أسطب” راجعها صديق الكاتب والناقد د. علي حاكم صالح أستاذ الفلسفة في جامعة البصرة، وصفها بأنها “تراجيديا عراقية مكتوبة بلحم ودم” وضعت الانطباع على الغلاف الخلفي للرواية، أخبرته بأنني أود طبعها في العراق وسألته المساعدة في إيجاد دار نشر عراقية فهو مستشار في عدة دور، فكتب لي، بأن من المستحيل طبعها في دار نشر عراقية لجرأتها العالية جداً، غير المألوفة في الأدب العراقي، لكنها ظهرت عن مؤسسة أبجد العراقية.
* هل تشعر أن مشروعك الأدبي قد أوشك على الاكتمال وهل تتمني أن تتخلد ذكراك ككاتب روائي وناقد عراقي في بلدك أولا؟
– وصلتُ إلى الدنمارك عام 1992 وأنا بالكاد أتنفس، قادماً من بلدٍ مزقته الحروب، وكنت جندياً في جيش السلطة ومعارضيها، خرجت منها مشرداً إلى معسكرات اللجوء في تركيا وإيران، بعد أن نجوت من ميتاتٍ أكيده سردتُ عدداً منها بكثافة في “دونت سبيك” وصورت واحدة بالتفصيل في روايتي “باطن الجحيم” التي صدرت عن وزارة الثقافة العراقية 2013 حينما أصبت في قصفٍ كيمياوي أعطب أكثر من نصف وظائف رئتي، أعاد الدنماركيين الحياة ليّ بالعناية الطبية والرعاية الاجتماعية، فتفرغت للكتابة منذ وصولي، لكن وضعي الصحي أستمر متأزماً طوال الوقت فكنت وما زلت نزيل المشافي، في العام مرتين ثلاثة بسبب التهاب الرئتين وأمراض البرد وصعوبات التنفس.
فكنت أكتب بهاجس موتٍ يحوم حولي وقد يكون الهاجس هذا سبباً مضافاً لما ذكرته مرة في حوار سابق معك حول الصراحة والجرأة إذ قلت ما نصه:
(لم أتردد لحظة في الكتابة بصراحة وعري كامل عن كل شيء وهذا موقف فكري وفلسفي، وإلى طبيعة بيّ أيضاً فأنا في الحياة كما الكتابة لا أخفي شيئاً، صريح وقد أكون خفيف الملاحظة في التعبير لا ثقيلاً كما هو في النص).
هاجس الموت صحبني في كل نص روائي كتبته تضافر مع العاملين المذكورين الموقف الفلسفي والصراحة التامة، كل رواياتي كتبتها هنا في الدنمارك، ومن يكتب من حافة الموت لا يخشى من شيء، لذا كلما أنجزت رواية وظهرت مطبوعة أبتهج وأسارع في الانتقال إلى مرحلة جديدة من مشروعي الأدبي.
أستطيع القول الآن أن عالمي الروائي والقصصي أخذ حيزه المعقول في عالم الأدب، وكما أوضحت لك بأن مشروعي بالأساس نقدي يتعلق ببنية المجتمع العراقي الحية وببنية أدبه المكتوب وخصوصاً السردي الذي عكفت على دراسته بالتفصيل وبدقة في خضم إعداد أدواتي الكتابية، فتولد مشروع نقدي يخص تجربتي وتطورها، فدرست بنية النص السردي العراقي في علاقته بالتاريخ وبنية المجتمع العراقي وتطوره، ومن هذا المنطلق قمت بتحليل الكثير من الروايات ملقياً الضوء على بنية النصوص القريبة أو الساعية لما سعيت إليه، لكن توقفت عن المشروع مع بداية الألفية الثانية بسبب ضيق الوقت فالعمر وازاني ودفعني للتركيز على تنفيذ نصوصي الأدبية.
أسعي هذه الأيام إلى ترتيب جهدي النقدي للنص السردي العراقي في كتاب يكون مكملاً فكرياً لمشروعي السردي في حفره بالمنظومة الأخلاقية للمجتمع العراقي حيث تكمن كل العلل وكل معوقات التطور الاجتماعي نحو حافة مجتمع إنساني معقول على الأقل.
أما مسألة التخليد فهي لا تتعلق بأمنية الكاتب، هذا ما سوف تقرره الأجيال القادمة وهي تطالع وتدرس أثار كتابها الراحلين.
* هل رواية “دونت سبيك أسطب” تلويحة وداع؟
– حينما أكملتها وراجعت آخر حرف منها، أرعبني فصلها الأخير عن الموت، كنت أخاف الموت دون إكمالها، لكنها تمت، مثل ثوب فُصّلَ على قد الجسد، نهضت من طاولة الكتابة ووجدتني أنشد بصوت عالٍ مقطعا دونته فوراً:
(ما أصعب العيش
ما أصعب الحياة
ما أصعب القصة
ما أصعب الفهم
ما أصعب الغايات
وما أسهل الاستدارة عن كل شيء
ما أسهل الهبوط مثل طائرٍ إلى قاع الوادي
والنسيان
مثل من يسكر
ويسكر ويسكر
يرقص ويرقص ولا يتذكر شيئاً
الآن فهمت لِمَ أسكر وأرقص أرقص وأنام كالميت
الآن فهمت
بعدما أتممت “دونت سبيك أسطب”
ولمست أي كيان معذب عشته).
مع فجاعة هذا الكشف الحسي، “دونت سبيك” ليس تلويحه أخيرة، فتحت يدي الآن كتاب سردي جاهز (أرواح تحيا في غرفتي) وهو صور قلمية عن بشرٍ مروا بحياتي وتلاشوا وبقى طعمهم بالروح أخيلة طائرة تدور حولي فأنزلتها على الورق، لدي رواية “في حضرة شيخي الجليل” مخطوطة كتبتها 1991 وأجلت الاشتغال عليها لحين ترسيم مشروعي السردي الذي رسخت ملامحه وبانت أركانه الآن، وهي تنتظرني بشغف، لدي عدد لا يحصر من مسودات قصص قصيرة تحتاج إلى كتابة، لدي ولدي ولدي الكثير، عدا كتابي عن الرواية العراقية، والقصة القصيرة التي تحتاج إلى تجميع ترتيب.
الحوارات التي أجريت معي طوال الرحلة تحتاج إلى تجميع في كتاب، مقالاتي الفكرية والثقافية مثلا علاقتي الثقافية بالحزب الشيوعي العراقي نشرت العديد من الحلقات تحتاج التجميع في كتاب أيضاً، مضاف إلى أني لم أكتب مذكراتي وعلاقاتي الثقافية طوال حياتي، فما كتبته في رواياتي هي أحداث منتقاة ومدروسة وفيها مخيلة وترتيب وبناء ما جعلها نصوص فنية جمالية وليست مذكرات واقعية توثق لمسيرتي الاجتماعية والسياسية والأدبية إذ لدي كم كبير من الرسائل من شعراء وكتاب وفنانين نشرت بعضها وأعددت بعضها، ووووو مشاريعي لا تنتهي يا عزيزتي ولا ألوح إلا حينما أدلف بوابة العالم الآخر، وقد أطل عليكم من شباك في السماء كما أتخيل أحبابي وأصدقائي بعد رحيلهم.
* هل الرواية العراقية في أحسن حال وماهي والإشكاليّات التي تعاني منها برأيك؟
– أعتقد أن الرواية العراقية في أفضل حالاتها بالرغم عدم استقرار المجتمع العراقي، فالاستقرار يوفر ظروف مناسبة للإبداع.
خريطة الرواية لدينا تختلف عن بقية البلدان لاختلاف الأحوال والتاريخ، فالرواية والقصة في العراق ارتبطت ارتباطاً متيناً وباكراً بأفكار التنوير مع نشوء الدولة العراقية الحديثة 1921 فأول محاولة روائية معقولة البناء بعنوان “جلال خالد” كتبها “محمود أحمد السيد 1903-1937” وهو صحفي يساري كان داعية للفكر الاشتراكي في عشرينيات القرن المنصرم، ومنذ ذلك الحين وحتى ظهور أول رواية عراقية فنية “النخلة والجيران” لغائب طعمة فرمان في نهاية ستينات القرن العشرين، لم تكتب رواية لها قيمة، تبعها فرمان بعدة روايات، “النخلة والجيران” و “المخاض”، خمسة أصوات، رصد فيها التحولات الاجتماعية والسياسية في المجتمع العراقي في الأربعينات والخمسينات والستينات.
ليأتي “فؤاد التكرلي” بـ “الرجع البعيد” وهي نقلة نوعية في الرواية العراقية وأول رواية عراقية مشغولة بالهم الوجودي ومشكلات الإنسان العراقي في مجتمع شديد القسوة. سيشكل المشروع الروائي لكل من “غائب طعمة فرمان” و “فؤاد التكرلي” أساساً لأجيال الكتاب اللاحقة، وكان من الممكن أن تبلور هذه الأجيال أدباً عراقياً وبوقت مبكر، لكن التناحر السياسي الدموي وتوزع المبدعين أيديولوجيا بين الفكر القومي والشيوعي وتركز السلطة بيد الدكتاتور “صدام حسين” وإشعال الحرب مع إيران 1980 التي تناسلت عن حروب مستمرة حتى الآن، أدى إلى تمزق المجتمع العراقي انقسام الأدب العراقي ومن ضمنها الرواية إلى:
أولا: نصوص كتبت تحت ظل الدكتاتور تراوحت بين ثلاثة اتجاهات:
1- نصوص مجدت قيم القتل والحرب أي ما سمي بالأدب التعبوي وهي الغالبة وكتب فيها أغلب الكتاب داخل العراق.
2- نصوص لجأت إلى التاريخ والرمز والتورية خوفاً من السلطات.
3- نصوص تناولت تفاصيل الحياة العراقية بطريقة لا تفهم منها شيئاً إذ تعرض كل ما هو باهت بينما الحياة تحت ظل الحرب مأساوية ومتفجرة،
وثانياً:
نصوص كتبت في ظروف الحرية في المنفى، وهي نصوص عالجت محنة العراقي في ظل الحرب والقمع والمنفى، قدمت دراسة موثقة عنها نشرت في مجلة تبين الأكاديمية المحكمة في عددها الخاص عن “الرواية العربية والتحولات الاجتماعية والسياسية” 2012 حللت فيها نماذج من التقسيمات التي ذكرتها.
مع اكتمال مشروعي السردي المترافق مع مطالعتي لما ينشر من روايات عراقية حيث قمت بتحليل عدد من الروايات التي اشتغلت في الحفر ببنية المجتمع العراقي ومنظومته الأخلاقية، توصلت إلى تقسيم جديد للأدب العراقي بين أدب ثوري بالمفهوم الأدبي، ففي السنوات الأخيرة تبلور تيار روائي حفر في منظومة القيم والأعراف والتقاليد سبب علّة المجتمع العراقي وقام بتعريتها وفضحها وأدب مهادن محافظ راكد قابل بهذه التركيبة، وبذا يكون مساهما في دوام التخلف والعنف الذي يكاد يلاشي العراق كوطن.
نشرت ثلاث دراسات في الصحف المواقع، عن رواية “حميد العقابي” “أصغي إلى رمادي” ورواية “عالية ممدوح” “الأجنبية” وعن رواية “الحلو الهارب إلى مصيره” لـ ”وحيد غانم”، مضاف للعديد من الدراسات عن كتاب عراقيين آخرين نشرتها خلال تسعينيات القرن الماضي في الصحافة العربية والعراقية في الخارج.
هذا توضيحي المكثف لتطور الرواية العراقية وخريطتها والتقسيمات التي ذكرتها ليّ، وستكون مادة كتابي الذي سأنجزه قريباً عن الرواية العراقية.
أما إشكالاتها فاستطيع القول بأن العديد من الروائيين الموهوبين الشباب ينقصهم:
1- ترسيم وخطة مشروع روائي، والنماذج متوفرة في الأدب العالمي والعربي والعراقي، ذكرت فرمان والتكرلي، ومجايلهم الذي تأخر نتاجه الروائي كثيراً “مهدي عيسى الصكر” فلو درست روايتهم لوجدتها مترابطة من حيث الفكر والغرض والعالم واللغة والأداء في علاقتها العميقة والمتواشجة مع التطور والنكوص في بيئة المجتمع العراقي وبنيته، وممكن الإشارة هنا إلى المشاريع المماثلة لدى الأجيال اللاحقة، أذكر منهم على سبيل المثال؛ فاضل العزاوي، محمود سعيد، جنان جاسم حلاوي، عالية ممدوح، هيفاء زنكنة، لطفية الدليمي، زهير الجزائري، حميد العقابي، شاكر الأنباري، نجم والي، سلام عبود، برهان شاوي، إبراهيم أحمد، ومن جيل الشباب الذين لم أطلع على جهد الكثير منهم حتى الآن، أذكر أبرز الأسماء التي لاحظت بأن لديهم مشروعاً وخطة واضحة الملامح ؛ علي بدر، سنان أنطوان، عمار الثويني، صلاح عيال.
أما عن مدى قيمة الكاتب فأؤمن بأن الكتّاب طبقات أولى وثانية وثالثة والتحديد ليس صعباً عليَّ لكني أحجم عن ذكر ذلك، لضيق صدر الكاتب العراقي بالنقد، ولا أود إضافة أعداء جدد لأعداد من عاداني ليس لشيء أو مشكلة بل بسبب مقالاتي النقدية وتقييماتي المنشورة فالكثير من الأدباء قطع علاقته بي بعد مقالة فيها ملاحظات عن كتابه.
2- من علل الروائيين العراقيين ممن ليس لديهم خطة ومشروع يتعلق ببنية المجتمع العراقي، وهذه الملاحظة تشمل الجميع هي: تباين مستوى الأداء الفني بين رواية وأخرى، إذ لاحظت أنهم يقدمون رواية مكتملة البناء ثم يقدم رواية غير ناجحة بعد سنوات مضاف إلى تنقلهم بين مواضيع هامشية وخير مثال على ذلك الروائي الموهوب “وحيد غانم” الذي قدم رواية مهمة حلل فيها بنية الجريمة والسياسي في قاع المجتمع العراقي، كتبت مقالة تحليلية عنها بعد أن تجاهلها جميع النقاد العراقيين في الداخل والخارج لسنوات، لكن في الأعمال التالية ترك هذا الكنز الذي لا ينضب وقدم عملين أطلعت عليهما، واحد عن رفات قتلى الحرب العراقية الإيرانية “أعياد الخفاش” في فضاء محصور وغير حيوي دار به السرد، والثاني “حفلة الصيد الأخيرة” عن خيول العائلة المالكة في محيط وفضاء روائي محصور ومحدود أيضا بالرغم من ملامسته لأحداث مهمة في التاريخ العراقي المعاصر، وهذه الملاحظة تسري على الروائي “أحمد السعداوي” في روايته ما بعد الفوز بالبوكر.
ومن الضروري أخر المطاف الإشارة إلى أن متابعتي قد خفت بعد هذا العمر إزاء زخم الروايات والمجاميع القصصية التي تصدر كل عام في العراق.
* تحرص علي زيارة العراق والتواصل مع بعض الكتاب وعمل فاعليات، كيف يستقبلك الوسط الثقافي في العراق؟
– منذ الاحتلال الأمريكي2003 أزور العراق بانتظام وتقام لي ندوات أدبية تناقش فيها كتبي الصادرة في تلك السنين، ولأن غالبية روايتي مطبوعة خارج العراق، بيروت، دمشق، القاهرة، بلغاريا، كنت أحمل نسخاً منها أوزعها على المكتبات في مدينتي، وللأصدقاء المهتمين، عدا رواية واحدة “في باطن الجحيم” صدرت عن وزارة الثقافة العراقية 2013.
قدمت أماسي في بغداد، اتحاد الأدباء، الثقافة للجميع، وفي الحلة، القصر الثقافي، وفي مدينتي الديوانية بشكل ثابت تقام لي أمسية أو أكثر في كل زيارة، ويقدم نقّاد المدينة وأساتذتها الأكاديميين أوراقاً نقديةً عن الكتاب الصادر ويجري نقاش حولها، وكانت تلك الندوات من أسعد الندوات وأقربها إلى قلبي، لأن ما كتبته في كل نصوصي هو عن مدينتي وتاريخها وشخوصها بشكل جوهري، والعديد من شخصيات قصصي ورواياتي أحياء وبعضهم يحضرون تلك الأماسي، وأشير لهم في خضم الحوار، في ندوة من الندوات حضر نائب رئيس مجلس المحافظة مع حمايته حاملاً معه درعاً تقديرياً، لكني رفضت الدرع، كانت الأمسية في كازينو مفتوحة على النهر، وخاطبت المسئول قائلا:
– أثمن هدية تقدمها لي لو وفرت الخدمات الأساسية لأبناء مدينتي!
فانسحب من الأمسية مخذولا وسط عاصفة تصفيق من شبابها المهتمين، والأمسية مسجلة وموثقة على اليوتيوب.
لتعلمي أن مدينتي من أفقر مدن العراق وتعتبر مدينة منكوبة لفساد من يديرها طوال عشرين عاما بعد زوال حكم الدكتاتور.
انقطعت عن زيارة العراق من 2018 إلى 2024 بسبب هشاشة وضعي الصحي، لكن غامرت في هذا العام لسبب اجتماعي يتعلق بشقيقاتي الثلاث اللواتي يكبرنني فكانت الزيارة لرؤيتهن وقد تكون للمرة الأخيرة، ومع ذلك أقيمت لي أمسيتان واحدة في القصر الثقافي بالديوانية، والثانية في مركز الدراسات بالنجف والأخيرة موثقة أيضاً في اليوتيوب، خلال سنوات الانقطاع الست صدرت لي أربعة كتب، مجموعتان قصصيتان وروايتان، فكانت الأمسيتان عن مسيرتي الأدبية في السرد والنقد فيها العديد من المواضيع التي وردت في حوارنا الآن.
العراق في حالة ركود ثقافي، إذ سعت سلطات الطوائف إلى إشاعة ثقافة الخرافة والتجهيل بين عامة الناس إذ ساهم المعممون في تضخيم حكايات الموروث الطائفي والتفنن في عرضها لإثارة النعرات الطائفية سواء سنة وشيعة وبقية الطوائف والأديان والملل الكثيرة في العراق. أما الوسط الثقافي فلا يزال تتقاسمه النوازع الايدلوجية وتقسيماتها بين قومية وبعثية نزعوا ثوب العروبة ولبسوا ثوب الطائفة يسيطرون على مفاصل وزارة الثقافة ويتحكمون في سياسة النشر ومديات الحرية، وشيوعيين ما زالوا على نفس الجمود العقائدي الذي لا يتيح ولا يطيق فكرة النقد والمراجعة.
أضيف إلى ذلك، بلورت السلطات الطائفية جيلا من المثقفين والمهتمين والكتّاب يحاولون إشاعة المنطق الطائفي في النظر إلى التراث الأدبي، حتى أن أحدهم نوه أمامي بكون كتاب شيعة الجنوب العراقي هم الأفضل من كتاب المناطق الغربية والشمالية إي السنة وضرب مثلا روايتي “إعدام رسام” التي وظفت فيها طقوس الجنوب العراقي وحاول أن يحط من قدر أستاذي الذي علمني واقتفيت أثره” فؤاد التكرلي”. لم أفض معه بالحديث بل قلت باختصار:
– التكرلي كتب أدباً إنسانياً بشخوص وفضاء عراقي، وعددت له أسماء من اقتفى أثره من كتاب الجنوب كجنان جاسم حلاوي ونجم والي وأنا وآخرين.
لست متفائلا لا بمستقبل العراق السياسي في ظل هذه السلطات الطائفية التي نهبته ولا بمستقبل الأجيال الأدبية التي يديرها هذا الوسط المستقطب طائفياً وسياسياً الذي لا يختلف كثيراً عن الوسط الثقافي زمن الدكتاتور الذي عوّق الأدب المكتوب داخل العراق طوال سنوات حكمه فكتبت نصوص باهتة، عسيرة القراءة، تخشى الإفصاح، وأخرى لاذت برموز التاريخ واغتربت عن محنة العراقي في زمنها، وأخرى طبلت لثقافة القمع والقتل كما هو الحال بسلسلة روايات وقصص قادسية صدام حسين.