خاص: حاورتها- سماح عادل
“سلامة الصالحي” شاعرة وروائية وطبيبة بيطرية عراقية، صدر لها الكثير من المجاميع الشعرية، وانتقلت إلى كتابة الرواية ولها روايات تحت الطبع.
كان لي معها هذا الحوار الشيق:
* ما سر تلك البداية المبكرة في كتابة الشعر. وهل وجدت دعم من الأسرة؟
– البدايات هي المؤسس الأول لكل شخصية وربما البيئة المائية الخضراء والجينات لعبت لعبتها في تكويني الشعري، فالمنشأ كان من أب قومي ناصري وبدوي أو لنقل ريفي ولكن الطباع كانت بدوية لأبي وأخوتي وأعمامي الذين كنت أنصت لهم وهم يتواردون الشعر، والأم من عائلة يسارية مدنية إضافة إلى أن الطفولة والصبا والشباب كانت في الفرات الأوسط القادسية تحديدا، المدينة التي تتبادل فيها العوائل الكتب وتتبارى فيمن يقرأ أكثر.
قرأت مبكرا الشعر والقصة لان أخي أيضا كان شاعرا وفاز بالجائزة الأولى للشعر في العراق مطلع السبعينات فكنت ملازمة له، وربما حدثت عدوى الشعر من كل هذا الفيض الذي حولي. نشرت منتصف الثمانينات وتعرضت المساءلة والتحقيق في الجامعة وانقطعت بعدها عن أي نشر أو تواصل مع الوسط الثقافي حتى أن العائلة كانت تعارض ذلك وبمرور سنين الجمر والحروب والحصارات كانت القراءة لا تفارقني واكتفيت بالكتابة لنفسي ولم اطلع أحد إلا على قريب لي كان يعيد كتابة ما أكتب على ورق نظيف ويحتفظ به. بعد الاحتلال والقصف الجائر الذي هز بيتي تعرضت لانتكاسة نفسية وإحباط شديد جعل من الكتابة هي العلاج الوحيد لما عانيت وبالصدفة ولغرض إنساني قمت بطباعة ونشر أول دواويني وكان اعتراض العائلة شديد ورفضوا أي ظهور إعلامي أو تواجد في المناسبات، لكنني تجاوزت الأمر وأطعت نداءي الداخلي أن أكتب وأحكي ما حصل لنا وهذا كان الترياق الذي انتزعني من أحزاني وقلقي.
* ماذا يعني الشعر بالنسبة لك وهل يعبر عن ذاتك؟
– الشعر هو ملاذي السري، بيتي الذي أدخل له بكامل إحباطي وقلقي ويأسي أدخل له عاشقة بلا عشيق سواه، حزينة مما يجري حولي باكية مما عانيت كامرأة وإنسان. أشعر أن لديه حضن ويدين تضماني إليه وتسربان كل ماعلق بي كأنني أدخل إلى محفل تطهير من كل اليقينيات الزائفة التي خدعتنا. أمارس جنوني اللذيذ معه أشبع رغباتي التي قمعتها الحروب والذل والصفعات التي واجهتها .أعوض فيه كل ماعطشت إليه من حب وحنان وطمأنينة رغم أنه لا يمنحني سوى كلمات، هذه البضاعة الأثيرية التي تكسيني من وحشة الوجود وقسوة الغابة التي نعيش فيها.
* حصلت على لقب سفيرة النوايا الحسنة للسلام والمصالحة بين الشعوب 2016 حدثينا عنه؟
– اشتغلت كمستشار ثقافي في رئاسة الوزراء مكتب المصالحة الوطنية، وعملت على أن تكون الثقافة والحوار هي لغة التفاهم بدل السلاح والفكر المتطرف وما أزال أعمل لنزع السلاح الجائر الذي يختبأ بيننا ويجعلنا كلنا في خطر. السلاح حين يكون خارج سيطرة الدولة لا يعطي إجابة للمستقبل إلا أنه مخيف وهناك الكثير من الهلع ينتظرنا. هذا ما أسخر له حياتي القادمة أيضا وهو نزع السلاح خارج قبضة الدولة والقانون.
* اخترت كأفضل شاعرة عراقية باستفتاء مؤسسة عيون في بغداد 2012 هل أسعدك ذلك؟
– نعم أسعدني كثيرا لشحة الفرح في حياتنا فنحن نفرح بأبسط الأشياء، والمتلقي العراقي صعب جدا ولا يختار بسهولة لذلك فإن هذا الفوز علامة فارقة في حياتي.
* في رواية “قيامة الرغبات” تصوير للظروف السياسية التي مرت بالبلاد والتي حولت من قيم وأخلاق الناس وأثرت في حيواتهم وخاصة النساء اللاتي تجرعهن المأساة بشكل مضاعف.. هل يمكن القول أن الصراعات والحروب أثرت على المجتمع الراقي والشخصية العراقية بشكل عميق وكيف ذلك؟
– ما سجلته في رواية “قيامة الرغبات” هو وقائع مررنا بها جميعا، فقد كنا في بداية تفجرنا الجميل للحياة فداهمتنا الحرب واستبداد السلطات، أخذت الحرب أنقى وأجمل الأجيال العراقية، سرقت أقراننا، تركتنا على قارعة الطريق بيد واحدة، أخذت كل أحلامنا وصادرتها إلى المقابر الفردية والجماعيةـ لقد حدث لنا مالم يحتمل لكننا رغم ذلك نمتاز بعناد شديد ورغبة هائلة في الحياة. نعم لقد أثرت الحرب على طبائع الناس وجعلتهم أكثر قسوة وتطرفا وحزنا وشراهة للمال وتخليا عن قيم كثيرة، ولذا فنحن أمام حطام بشري نقاومه بالكتابة وصناعة الوعي الجميل والصرخة بوجه القبح حتى وإن كان ذلك يعدو خطيرا ومهددا للحياة فقد ندفع ثمن الكلمة حياتنا لأننا نسير في طريق رمت به الحروب ألغامها وقنابلها الصامتة.
* في رواية “قيامة الرغبات” إدانة لاضطهاد المرأة والتي رغم تحملها للوضع المأساوي الذي تعيش فيه البلاد إلا أنها أيضا تعيش تحت رحمة التسلط الذكوري رغم الفوضى والخراب الذي يعيشه المجتمع. حدثينا عن تلك المعضلة؟
– المرأة في العراق مقيدة بألف قيد، القيود العشائرية والقيود المجتمعية العصابية التي أنتجتها الحرب والقيود الدينية والتطرف المذهبي كل حرب تكون ضحيتها النساء، فالحرب تأخذ أجمل الرجال، أولئك الشجعان والغيارى والذين يخافون ويحترمون النساء، لذا فإن الفراغ شاسع وكبير والذي ستملئه كل ما يمكن أن يجعل من النساء تحت مطرقة الذبح والاضطهاد والتسقيط والتهميش. وهذا تاريخ البشرية التي اضطهدت المرأة سواء من قبل الرجل أو المرأة ذاتها فتخلفت المجتمعات لأنها همشت دور المرأة وسجنتها بقيود فرضها الذكر ليهيمن على كل شيء.
الرجل النازع للحروب والموت عكس المرأة التي تميل إلى السلام والعدالة والحفاظ على الحياة، كل المجتمعات نهضت لأنها أعطت للمرأة مساحة من الاحترام والحرية والحقوق. وأحد أسباب تراجع مجتمعاتنا العربية هو هذه الهيمنة الذكورية الباطلة على النساء وكبح دورهن العظيم في الحياة.
* في رواية “قيامة الرغبات” إشارات إلى فساد كثير من الناس ونهب ثروات البلاد، وظهور رأسمالية طفيلية اغتنت من الحروب والصراعات والاقتتال الطائفي احكي لنا عن ذلك؟
– نعم ظهرت فيما بعد الاحتلال طبقات ذات ثراء مستفز نتج عن نهب البنوك ومؤسسات الدولة والسيطرة على مقدراتها الإستراتيجية، إضافة إلى التشريعات الانتقالية التي مضى عليها عقدين من الزمن وماتزال تعمل وهذه أحدثت خلل كبير في المجتمع. فالبعض يتسلم من الدولة رواتب متعددة ثمنا لهجرته أو اعتقاله أو إعدام أحد أفراد أسرته، هذا جانب إضافة إلى تكون ونشوء تجمعات مريبة تحت غطاء الأحزاب والكتل والسيطرة على المناصب، التي من خلالها تقوم هذه الفئات بتحويل المقاولات والرشى والسرقات الكبيرة لحساباتها في البنوك المجاورة أو العالمية، وهذا عطل التنمية في البلد ونخر بنية الدولة وأسس لخلل كبيرا لا نعرف كيف نتخلص منه.
* رغم أنك كتبت الشعر في سن صغيرة إلا أن النشر في كتب قد تأخر طويلا، وما رأيك في حال النشر في العراق؟
– أشرت إلى تأخر النشر بسبب الوضع السياسي الذي كان يفرض أن تتملق المسئول وتكتب وتمجد من يضطهد أبناء وطنك ويسوقهم للحروب، وعندما كتبت ضد هذا الأمر تعرضت للمسائلة التي كانت تعني الذهاب وراء الشمس ولا أدري أية عناية إلهية رعتني في تلك السنين الدامية .إضافة إلى اعتراض العائلة عن أي نشر أو ظهور لأنهم يعرفون أن هذا طريق وعر وأن الأمور ملتبسة في هذا المجال، فالثقافة لم تعد سلوك وارتقاء لدى الكثيرين وقد نجد في هذا الوسط الثقافي من هم ألعن وأشرس من السياسي والمستبد.
إضافة إلى أن النشر صار على حسابنا الشخصي ولم تكن مؤسسة ثقافية حكومية بعيدة عن اعتبارات كثير تهتم إلا فقط بمن هم قبل الاحتلال، أما نحن من ظهر بعد الاحتلال فقد كنا مثل فلاح يحرث أرضه وينتج ويعيش بعيدا عن آي رعاية أو سند حكومي أو مؤسساتي، ولذا فالنشر يخضع لاعتبارات شخصية وحرية منفلتة بعيدا عن الرقابة على المطبوعات وفي كل الأحوال فالجيد يطرد الرديء دائما والإبداع يفرض أجنحته الطويلة ويجلس بهيبة واضحة.
* ما تقييمك لحال الثقافة في العراق وهل يدعم الكاتبات؟
– الثقافة في العراق على مدى العقود الأخيرة خضعت لأيدلوجيات عالمية وقومية ودينية وكانت كثير من الأسماء قد استظلت تحت خيمة الحزب الشيوعي العراقي أو حزب البعث أو ما تلاها من أحزاب دينية، وعندما حدث السقوط المدوي لهذه الأيدلوجيات بقي من كان ضمن محتواه الإنساني والوطني والذي ينتمي إلى معاناة وقيم الإنسان العظيمة في الحرية والعدالة والخير .
أغلب الرموز الثقافية تعيش في المنافي بحثا عن الحرية والأوطان البديلة وربما الحياة الجميلة في دول الغرب فنحن بلد مايزال يئن من سخام الحروب وهيمنة القوى المتطرفة. هناك فراغ كبير في العراق من عودة هذه الرموز العظيمة التي لم تجد في ما حصل بعد الاحتلال وسقوط النظام المستبد ما يجعل الحياة أفضل وأنقى، لذلك نحن نعيش كمن وجد نفسه في هاوية ويحاول جاهدا الخروج منها، هاوية اسمها هذا اللاستقرار واللاعدالة وهيمنة الجهلاء واللصوص على البلاد .أما وضع الكاتبات في العراق فإن وجودهن صار يستفز كثير من هم من الكتبة الذين يحاربون وجود المرأة ويسحقون حضورها، مما جعل الكثيرات يركن للعزلة والبقاء بعيدا عن هؤلاء والاكتفاء بالحضور الالكتروني الذي جاء نعمة للكثيرات.
* هل توجد اختلافات بين الكتابة لدى النساء و لدى الرجال، وما هي ملامح هذه الاختلافات؟
– بالتأكيد هناك اختلافات بين كتابة الرجل والمرأة فالرجل لديه كل الحرية في البوح وتناول التابوهات المحرمة دون أن يحاسبه أحد بل يشيدون به أما المرأة فلابد أن تختفي تحت مسميات كثيرة وترتدي عباءة اللغة جيدا ومفرداتها حتى لا تقع في المحظور الذي يشدها من ضفائرها ويدفنها في حفرة موانع المجتمع واعتراضاته.
* ماهو رأيك في مصطلح “الأدب النسوي” وهل تسعين في أدبك إلى الدفاع عن قضايا المرأة وحقوقها وكشف التمييز الواقع على المرأة في المجتمع؟
– أكيد هناك ميزة للكتابة النسوية لكنني لا اعترف بوجود أدب نسوي لأنه إنتاج إنساني لا يحق لنا أن ندجنه تحت مصطلح أدب رجالي وأدب نسوي بالنتيجة هو كله ميراث بشري سواء أنتجته امرأة أو رجل.
* هل تخافين من الكتابة بجرأة، وتشعرين أن هناك رقيب داخلي يمنعك من تجاوز القيود التي يضعها المجتمع والتقاليد؟
– نعم أخاف من الكتابة بجرأة فهناك رقابة العائلة والمجتمع الذي يجعلني اختبئ وراء اللغة واحتمي بها.