خاص : حاورته – سماح عادل :
“سفيان رجب”؛ شاعر وكاتب تونسي، من مواليد عام 1979، ديوانه الأول، (مؤثرات شعرية)، صدر عام 2003، ثم ديوان (كالبرتقالة على مائدة الفقير) عام 2012، وديوان (الحدائق المسيّجة) سنة 2013، وصدر له أيضاً؛ (شبّاك جارتنا الغريبة) 2016، ويعد أحد الأصوات الشعرية المتميزة في تونس، كما أنه تميز في النثر، وصدرت له مؤخراً رواية (القرد الليبرالي)؛ التي نالت الإعجاب بسبب طرافة أفكارها ولغتها الساخرة.
إلى الحوار:
(كتابات) : كيف بدأ شغفك بالكتابة.. وكيف تطوّر ؟
- منذ طفولتي؛ كنت أكتب قصصاً وخواطر واحتفظ بها لنفسي، في العاشرة من عمري تقريباً أواخر المرحلة الابتدائية من التعليم، أستطيع القول إنها الخميرة الأولى للكتابة رغم سذاجتها وعفويتها. لكن البدايات الواعية الأولى كانت في بداية الألفية الثالثة، حيث بدأت أنشر نصوصاً في مجلة (الحياة الثقافية) أثارت جدلاً بين الكتاب والمثقفين التونسيين الكبار مثل “الطاهر الهمامي” و”أولاد أحمد” و”المنصف الوهايبي”.. كانت نصوصاً ممسوسة بنار السوريالية، لكنها تنحت أصالتها بعيداً عن المألوف، وهذا بشهادة أغلب النقاد الذين أطلعوا على التجربة، خاصة في كتاب (الحدائق المسيجة)؛ الذي صدر في نسخ محدودة عن “بيت الشعر التونسي”، والذي أعتبره أساس تجربتي الشعرية.
(كتابات) : هل للرواية إغواء ما جذبك لكتابتها بعد أن كنت شاعراً ؟
- هذا السؤال جنديّ منضبط من جيش النقد التقليديّ، الذي يحرس الحدود بين الأجناس الأدبية، ويطلق النار على كلّ من يحاول محو تلك الحدود. الحقّ أنا لا أحمل إجابات واضحة في ما يخصّ هذه الإشكاليات الأجناسية تحديداً، يحدث أن نظلّ شعراء في الرواية، ويحدث أن يموت الشاعر فينا ونحن لم نفارق القصيدة. في قصائدي ثمة سرد كثيف أيضاً، وروايتي لم تنج من الإستعارات ومن هندسة قصيدة النثر التي ترفض المجانية. شخصياً أفكّر داخل الكتابة بالمعنى “الدولوزي” الذي ينظر إلى الفنّ كبيت للفيلسوف.
(كتابات) : في رواية (القرد الليبرالي) هل اللغة الساخرة وسيلة للتعبير عن إغتراب البطل ؟
- السخرية في منطلقها هي ملاذ من إكراهات الواقع ومن حرّاسه المنضبطين ومن اليقينيات البليدة، لكنها في عمقها هي غابة من الإستعارات المخاتلة والمرحة التي تمجّد الطفوليّ فينا والمشاغب، وهذا ما نجده في (القرد الليبرالي)، فالبطل هنا هذا الفتى الريفيّ من الجنوب التونسيّ في العاصمة تونس، في البداية يلوذ بالسخرية من كلّ ما يحيط به، لكنه يتحوّل إلى كائن مثير للسخريّة. شخصياً تمثّل السخرية أسلوباً خاصاً بي، وربما يتعلّق الأمر بشخصيتي وطريقة تفكيري أيضاً.
(كتابات) : في رواية (القرد الليبرالي) انتقدت المجتمع الاستهلاكي الطبقي الظالم للإنسان والذي أبعده عن طبيعته الفطرية.. حدثنا عن ذلك ؟
- هذا جوهر الرواية حقاً. السخرية من البراغماتية المقيتة للنظام العالمي الرأسمالي، وفضح منظوماته وهتكها، بل إنّ الرواية تحفر في التاريخ الإنساني المليء بالخدع والمغالطات، وتنتصر للفكر الهامشي الذي يضحك من المنطق. ربما تفعل ما فعله “ديوغين” حين نتف ريش دجاجة وقال لهم: هذا إنسان أفلاطون الذي عرّف الإنسان على أنه حيوان أملط وذو ساقين، تفكك الرواية تاريخ التدجين البشري، وتلعب على الخيط الفاصل بين الإنسان والحيوان، أستعيد هنا رأي الكاتب العراقي “زهير كريم” في رواية (القرد الليبرالي)؛ حين يقول: “حين تقرأ هذه الرواية وتنام لتصحو مبكراً، حين تخرج كعادتك إلى العمل، لن تر الآخرين مثلما تعودت أن تراهم طوال حياتك، سوف تشاهد الحيوانات كلها تتحرك في المدينة :الثعالب والذئاب وحتى الخنازير، تراهم يجلسون بتهذيب عال في الباصات، محطات المترو، وفي المحلات يتبضعون، وفي المقاهي يشربون القهوة ويتصفحون الجرائد أيضاً، حيوانات بربطات عنق وتنورات وبناطيل غينز.. وسوف تحتاج بشكل ضروري في هذه الحالة، لمرآة لكي تتأكد أن وجهك هو نفسه أم تحول هو الآخر لوجه حيوان، إنها رواية عن الأقنعة، الزيف والمدينة، وغربة الكائن عن نفسه”. هي أيضاً عن التشويه الذي ألحقته حضارة الاستهلاك بنا جميعاً، وأنا أتبنى كلّ ما قاله “زهير كريم”، لأنّ الحديث عما نكتبه محفوف بالإحراج دائماً.
(كتابات) : لم كان نقدك لمجتمعك قاسياً في روايتك، فاستخدمت نقداً لاذعاً وتوصيفات ساخطة ؟
- إذا كان المجتمع ساقطاً في الحضيض فمن الغباء أن نتحدث عنه بلغة نيرفانية، ثمّ إنّ الرواية لم تكن مهمّتها نقد المجتمع بقدر ما حاولت التّعبير عنه وإشعال نيرانها من شرارات الفنتازيا التي تحدثها التّناقظات داخل هذا المجتمع المتمزّق بين تقليد سلفه ومجاراة التحوّلات التي يشهدها العالم.
(كتابات) : ما تقييمك لحال الثقافة في تونس ؟
- ربما يكون الحال أفضل لو قارناه بالثقافة في بعض البلدان العربية، التي تشهد تراجعاً مرعباً، لكن الحال ليس جيداً إلى الحدّ الذي يخلق مشروعاً حضارياّ حداثياّ، فالثقافة التي تقوم على الواجهات والتّرفيه ولا تمسّ الفكر والروح، تظلّ عقيمة لا جدوى منها أبداً. أغلب المهرجانات والملتقيات الثقافية الآن في تونس لا تنتصر للإبداع الفني؛ وإنما هي غارقة في النمطي والجاهز، متعكزة على إستقدام بعض نجوم الشبابيك.
(كتابات) : كانت هناك إشارات عن “ابن خلدون” و”إخوان الصفا” في روايتك.. هل ترى أنّ العودة للتّراث أفضل من التأثر بالإنتاج الثقافي الغربي ؟
- ما يهمني هو التراث الإنساني؛ بعيداً عن إسطوانة الشرق والغرب، في روايتي أشرت لـ”إخوان الصفا” و”ابن خلدون” و”أوفيد” و”نيتشه” و”ديوغين”.. وغيرهم. وإذا كنت تتحدثين عن الجذور والقلق التأصيلي، فالمسألة عندي عفوية هنا، الأصالة عندي هي أن أكون أنا، وما يكوّن هذه الأنا من أصوات وألوان ودماء وملامح وروائح.. هو ما يميّز أفكارها ويمنحها خصوصيّتها وتفرّدها. فالمسألة هنا لا تحتاج عملاً في مختبر بقدر ما تحتاج العفوية والصدق.
(كتابات) : تعمل بالصحافة وتكتب الشعر والرواية.. علام يكشف هذا التنوّع ؟
- أنا لا أعمل بالصحافة، علاقتي بها لا تتجاوز نشر بعض مقالات الرأي وقراءات الكتب. عملي في التنشيط الثقافي، وهو يشبه حياتي وطريقة تفكيري؛ لذلك لم أغادره إلى الآن. في ما يخص انتقالي من الشعر إلى الرواية، فالمسألة ربما تتعلق بالعمر، أي إننا انتقلنا من عمر إشعال الحرائق إلى عمر إطفائها. فالشعر بما يحمله من تشنج وجنون يميل إلى لغة الإشارات والرموز، بينما الرواية تحتاج حفراً عميقاً في التفاصيل والأفكار. لكنني الآن أقف في منطقة بينهما. تستطيع القول أنّ (القرد الليبرالي) هي رواية شاعر. أحياناً أمزح مع أصدقائي الروائيين، أقول لهم بقدر ما تكون رواية الشاعر لذيذة يكون شعر الروائي بلا مذاق. هو مجرد استفزاز لدفعهم للمحاولة في القصيدة والعبث بقيود الأجناس.
(كتابات) : هل واجهتك صعوبات ككاتب ؟
- لو لم تواجهني صعوبات لما كنت كاتبا، هذه خلاصة سؤالك. لكن لو أردت معرفة هذه الصعوبات، أقول إن أقساها كان إقناع نفسي بجدوى أن تنحني على ورقة بيضاء وتسوّدها تماما كما تفعل معنا الحياة، أما الصعوبات الأخرى المادية منها والاجتماعية فهي تصلح أن تكون سمادا لسيرة ذاتية خصبة، ولا فائدة من ذكرها الآن مقشرة من تفاصيلها.
(كتابات) : ما رأيك في كتابات جيلك.. وهل هناك اختلاف نوعي عن إنتاج الأجيال السابقة ؟
- في الشعر مثلا في تونس ظهرت في الألفية الثالثة أصوات جديدة لها فرادتها مثل صبري الرحموني وأنور اليزيدي ومنى الرزقي والناصر المولهي وزياد عبد القادر وأشرف القرقني… وغيرهم. استفادوا كثيرا من ثقافتهم ومن عمق اطلاعهم على التجارب الشعرية والأدبية العالمية، وهم يكتبون بمعادلة موفقة جدا بين ثقافتهم وخصوصيّة بيئتهم وهذا ما يخلق تميزهم، وأمامهم الآن رهان تراكم تجربتهم. ثمة نصوص روائية مغامرة في تونس كذلك، أماّ عربيا فالحق تشدّني التجربة السردية العراقيّة كثيرا.
(كتابات) : هل ساعد التطور التكنولوجي ووسائل التواصل الاجتماعي على تطوير الأدب في البلدان العربية أم أثّر عليه سلباً؟
- من ناحية التّأثير هو حاصل لا محالة، لكن أتصوّر أنه أعطى للأدب أجنحة أخرى خاصة على مستوى المقروئيّة وانتشاره. تظلّ إشكاليات أخرى تتعلّق بالانتحال والسرقات التي تكثر في المحامل الالكترونية أتصوّر أنّ غربال الزمن والنقد كفيل بها.
(كتابات) : ما هي أحلامك وطموحاتك ككاتب ؟
- لو ألقيت عليّ هذا السؤال قبل عشر سنوات، لقلت لك: أريد أن أغيّر العالم. أمّا الآن فأجيبك بكلّ حماس، أريد أن أغيّر نفسي، وقد نجحت نسبيّا في هذه المسألة، أريد أن أكون بالكتابة إنساناً حرّا، أعرف أنّ الرهان صعب، لذلك أجتهد يوميّا أمام الأوراق البيضاء والحاسوب، وأخصص لهذا الحلم حصصا يومية أتفرّغ فيها للعزلة والتّأمّل والقراءة وتعديل المزاج للكتابة.
قصيدة مسافر بلا تذكرة:
سفيان رجب
ما أملكه الآن من وقتي
ضياع في تفاصيل رحلتي،
وهباءات كدخان قاطرة قديمة
تعبر جسرا عند الغروب
بينما أولاد يلوحون في الأسفل
لمسافرين ناعسين
يطبخهم الوقت
ويقطرهم… أرقا…أرقا…
على المسافات.
تتفاعل الأشجار والبيوت
مع أغنية رحيلي الصامتة
وترتطم غمامات بخيالاتي
فأمطر عرقا باردا
تترشفني القاطرة القديمة على مهل
وتبصقني في محطة مهجورة
تشوه بي مقعدا ما،
أمسحه مني
بآخر ما بقي في الجيب
من مناديل حياء
وأمشي متثاقلا
أبحث عن ظل
في مدينة عارية.