خاص : حاورته – سماح عادل :
“سعدي عوض الزيدي” كاتب عراقي.. من مواليد 1962، الشطرة قرية بني زيد، بكالوريوس أدب، لغة عربية، الجامعة المستنصرية 1987، وهو عضو اتحاد الأدباء والكتاب العرب، دورة عمان ـ 1994، وعضو اتحاد الأدباء والكتاب في العراق منذ منتصف الثمانينيات، وقد عمل في الدائرة الإعلامية لاتحاد المؤرخين العرب عام 1983، وأعد دليل مراكز أحياء التراث العربي الفكري.
من أعماله: في مجال الرواية (طوفان صدفي) بغداد 2008، و(رياح قابيل)، وفي مجال المجاميع القصصية (رغوة المسافات) بغداد ـ 1996، و(أيتها السنة القادمة وداعاً) بغداد 2000، (قصص بلاد مابين رماد ورصاص) 2013، و(طائر الرصاص)، و(الموسم الخامس).
إلى الحوار:
(كتابات) : كتبت القصة والرواية والمسرحية والمقالة .. علام يكشف هذا التنوع ؟
- أي كاتب يخوض غمار التنوع دليل وعيه فيما أكتب وبفهم عميق للأجناس الأدبية ولا أجده دليل تشتت. فما يتطلبه النص المسرحي غير ما يتطلبه نص القصة القصيرة أو الرواية.. هناك نوازع نفسية متعددة ولكل نزوع يبحث عن أيقونته، والكاتب البارع المتنوع هو من يفصل بين الأنواع.. الموضوع وحيثياته يفرض النوع.. فالمقالة متطلب صحافي إعلامي موضوعه محدد وزمانها كذلك، وفي الغالب تعالج المقالة قضايا آنية. فعملي في التعليم والصحافة إلى 2003، حتمَّ علي كتابة مقالات صحافية تعالج مشاكل التربية ومتابعات صحافية مختلفة في الشأن الثقافي أيضاً.. والعمل في هذين المجالين وسعا من تجربتي الخاصة وأغنياها، ودفعني عامل تقسيم الوقت لأن أحدد الأوقات الخاصة لممارسة شغفي في السرد، وهو هدفي الأول، لذلك صارت متابعتي للكتابة السردية لا تنقطع كمنهاج يومي إلا في الحالات الاستثنائية.
وإن سر هذه الغزارة في أنني لا أمارس كتابة القصة أو أي عمل إبداعي، (رواية، قصة، مسرحية)، نهاراً.. فالليل هو فضائي بالمثول في عوالم السرد، أجد في الإنقطاع عن الحركة المحيطة فرصة الصيد الثمين، أحياناً لا أكتب سوى أسطر، ولكنني أشعر أني أعيش بعالم أتمنى العودة إليه في كل لحظة..
(كتابات) : كيف بدأ شغف الكتابة لديك وكيف تطور ؟
- في يفاعتي، أحتشدت في رأسي الصغير أفكاراً عديدة، ولربما نمت عندي بفعل القراءات وأنا ما زلت صغيراً وعند المرحلة ما بعد الابتدائية، كنت أشعر بحاجة غامضة لأن أكتب في دفاتري بعض الأجوبة التي لم أستطع الرد عليها جهراً، فكثير من الأحيان يجتاحني الخجل الشديد في ملاسنة الآخرين.. وكانت تلك الدفاتر حافلة بما أحسبه شعراً، فكانت قصائد شعرية غير مستقيمة الوزن وتشعرني القوافي بالتكلف والعجز أحياناً، فما ألبث بتمزيقها، تارة، وتارة أخرى أسردها سرداً تقليدياً، المهم أشبع رغبتي في تفريغ شيئاً ما.. جربت في تلك الأيام بتدوين ما كانت تحكيه لي أمي من حكايات شتى، ووجدت في إعادة كتابتي لها تخريب لتلك الحكايات، وفقدان واضح لحلاوتها، ولكن حدث وطلبت من أمي إعادة إحدى الحكايات وما صدمني أنها أعادت الروي بطريقة مختلفة تماماً عن سابقتها؛ ولكن بطريقة أحلى وأجمل من الأولى.. مع إحتفاظها بذات الشخصيات والموضوع..
يبدو أن لعبة الحكاية بدأت تستهويني وتزيد من شغفي بها، وفي كل مرة أطلب منها إعادة قصة أو حكاية كنت قد سمعتها سابقاً، وهكذا تيقنت في أنها تحذف أو تضيف وكأنها تسرد حكاية مختلفة.. وهنا تيقنت في أن الموضوع الواحد له أكثر من وجهة لتداوله وأن الحكاية الشفاهية تظل أكثر إمتاعاً من تدوينها وفي التدوين تفتقد إلى سحر ما.. فكنت أبحث في القصص والروايات والأساطير التي أطلع عليها عن ذلك السحر الغامض. فكان السؤال لماذا لا أكتشف أنا ذلك السحر ؟.
(كتابات) : هل واجهتك صعوبات في طريق الكتابة ؟
- الكتابة شغلة لا تغني ولا تسمن ولا تعيل عائلة، لا أدري هل هذا هو واقع عراقي فقط أم عربي.. ولكن الذي أعرفه وعشته وعاشه أساتذتنا أن الكتابة واحترافها أمر ليس بالسهل بمكان، هذا الإطار العام، ولكن الخاص هو ولوجها رغم التحذيرات.. وعيش الكتاب والشعراء ليس من حرفة الكتابة وإنما من وظائفهم ومصادر عمل مختلفة.. والصعوبة التي كانت ومازالت هي صعوبات النشر والطباعة والتوزيع؛ إضافة إلى الصعوبات الأخرى الخاصة بالواقع العراقي المرير.. ولاسيما الصراع الخفي للقوى الحاكمة أو الحزبية والعشائرية التي لا تريد الريادة في المجتمع للثقافة والمثقفين ولا المبدعين.. وهنا لابد من القول ليست الصعوبة في الكتابة ومزاولة الإبداع بقدر ما هي كامنة في عملية مواجهة كل ما أشرت إليه من عوائق..
(كتابات) : لك كتابات نقدية .. ما رأيك في حال النقد العراقي والعربي بشكل عام ؟
- الإبداع العراقي في كل فنونه يتطور ويشق مجاله بثقة كبيرة مع إعتداد بالتجربة الخاصة والمحلية، ولكن للأسف الشديد ليس هناك نقداً حقيقياً يستقي رؤاه من الواقع المحلي الذي أفرز منجزه الإبداعي، والناقد العراقي على وجه الخصوص غير مواكب لما يعتمل في مرجل الإبداع ولا يتابع مستجدات المكتبة العراقية أو المطابع، وإنما يعتمد على ما يصل إلى مكتبه في بيته أو عمله، وهناك إستعلائية فارغة من بعضهم ويسعون إلى تكريس أسماء أو واجهات، وعلاوة على ذلك وفي الغالبية العظمى منهم تابع أو ناقل أمين للمناهج الغربية كما هي ويجعلها مختبراً له لفحص وتقييم المنجز العراق..
إنهم يطبقون تطبيقاً تعسفياً.. قاتلاً.. فهل من الضروري إطلاع الروائي أو القاص على المناهج النقدية وترسم خطاها قبل كتابة النص ؟.. أنا ككاتب غير معني بذلك.. لماذا أتمسك بالموجهات ؟.. من خلال تجربتي الخاصة ومعرفتي بجل كتاب القصة والرواية في العراق وجدت أنهم اطلعوا اطلاعاً جيداً على المنجز الإبداعي العالمي والعربي في القصة والرواية مثلاً.. فهم يكتبون ولا يحاكون تلك النصوص وإنما تزيدهم وعياً بالعمل السردي.. لذا أنا أو الكتاب غير معنيين بالتوصلات النقدية الخارجة عن تجربتنا، فالإبداع أولاً والنقد ثانياً.. والنقد العربي في غالبه يتناغم مع معطيات النقد العربي وقنوات الاتصال الحديثة كشفت لنا الهوة العميقة بين الإبداع والنقد.. ويتضح لي أن الكاتب أكثر حميمية من الناقد الإنتقائي أو غير المطلع اطلاعاً كاملاً على المشهد.. ولكن ميدان النقد العراقي شهد في السنوات الأخيرة بروز عدد من النقاد أولجوا في العمق كرسوا جهودهم لعموم المشهد الإبداعي بالدرس والفحص والتناول بلا إنتقائية أو توصيات، أمثال: “ناجح المعموري، وجاسم عاصي وعلوان السلمان وإسماعيل إبراهيم عبد وبشير حاجم ومحمد يونس ومحمد جبير وجميل الشبيب وأمجد نجم الزيدي ود. حسين السرمك وعلي حسن الفواز”.. وأسماء أخرى جميلة.
(كتابات) : هل أختلف حال الثقافة في العراق بعد 2003 .. وكيف ؟
- من الطبيعي جداً حدوث مثل هذا الإختلاف بعد احتلال العراق والغزو الأميركي للعراق سنة 2003.. تلك السنة الكارثية أسميها “سنة الأوغاد” في احتفائهم الهمجي على جسد البلاد، تمزق كل شيء من النسيج الاجتماعي إلى الإمتداد الجغرافي، كل شيء صار نهباً.. إن الوعاء الثقافي الجامع قد تهشم.. فلا مؤسسة ثقافية تستطيع جمع الشتات النفسي والتشرذم المخيب للآمال.. إن الثقافة والحياة الثقافية هي العلامة الفارقة للشعوب.. عن أي ثقافة نحكي لبلاد تغلق دور السينما وفيها الفنون حرام والمتاحف نهبت قبل “داعش”، والسياحة تردت قبل “داعش” بسنوات حدث هذا، حدث هذا منذ حط الجندي الأميركي قدمه على أرض البلاد، وانهيار الرصيف تحت سرف الدبابات.. صار السلوك المجتمعي سلوكاً عدائياً غير حضاري، عاد إلى عصور البداوة والعشائرية، ولا ندري بأي عرف تدار الأمور والإفتراق سيد اللحظة.. هذه هي الثقافة وجدان راقٍ يوجه الصحف والإعلام والكتاب والقرطاس والقلم إلى نافذ النور لا كوة الظلام.. هل السنوات القادمة تسفر عن وهج يمثلنا، هذا أكيد ولكن يحتاج إلى مسيرة من الفهم الجديد للواقع والوقائع، فالثقافة مظهر من مظاهر الرقي الحضاري وليس سجلاً باهتاً، إنها مسيرة تأصيل القيم من جديد..
(كتابات) : في مجموعة (بلاد بين رماد ورصاص) عبرت عن الصراعات في الوطن .. حدثنا عنها ؟
- الصراع في العراق متعدد الأوجه، وهو صراع دخيل وليس أصيلاً، وأهم هذه الأوجه ما يتعلق بتثبيت القيم الإنسانية والشعور الوطني ليس كهوية فقط أو شعار؛ بل هو فعل يتجلى في المحبة الحقيقية بين البشر، ولكن ما يخذل رؤانا هو الإنزواء في أيقونات لا توحد الوطن أو الإنسان في الوطن.. ولكن الجديد في تهديد الإنسان على الهوية أو الطائفة أو الديانة والقومية أو اللون وهو مدعاة للتصدي.. الميليشيا ليست المشكلة في إستئصالها كوجود مسلح، ولكن وجودها الفكري هو المعضلة الكبرى، وأعني ما يصيب البنية الاجتماعية من تخريب وجداني أخلاقي فادح، وفي ضوء هذا الفهم فإن هذه المجموعة تضمنت قصصاً كُتِبت قبل الاحتلال بكثير، الاحتلال قتل كل شيء منسجم، وأعظم مهمة فعلها نافعة له أنه جزأ البلاد فكرياً ووجدانياً وشعورياً، بحيث صارت الهوية الوطنية في مهب مزاجات كارثية لا يمكن إصلاحها بوحي إلهي إلا بتغير ما بأنفس القوم (حسب القرآن الكريم)..
سبقت الدمار العراقي الشامل بسنوات في التنويه إلى القحط الروحي والوباء النفسي الذي سيصيبنا، وكان أولى إرهاصات هذا الفهم في بعض قصص (رغوة المسافات) صدرت عام 1996، ولكن هذه المجموعة جعلتها مكرسة لهذه الرؤية الفكرية؛ فتضمنت قصصاً قديمة وأخرى في أثناء الأحداث.. تعالج هذا الصراع صراع الإنسان العراقي في مواجهة الموت المتعدد والمحق والامحاء.. ولكن ما يجعلني أفخر بها أنها لم تكن بكائيات ولا شعارات، إنها أبرزت جماليات الوطن في صحوه وروحه النقية، حتى في خرابه، فأنا لا أناصر الوطن في الهتاف أو الشعر ــ كما أسلفت ــ وإنما أناصره في تصديق الأماني التي تسمو به ومعه، ليكون لائقاً لعيش الإنسان وصناعة حبوره المرتجى، والذي يسمو فوق الكيانات الحزبية الضيقة ومشاعر التعصب المقيت وأفكار الموت والظلام.
(كتابات) : هل تشعر أنك نلت التقدير الذي تستحقه ؟
- في الوسط الأدبي والثقافي نعم نلت كامل الاحترام والتقدير والحفاوة الدائمة، وأخذت مكانتي في الوسط، وتتناولني الدراسات كثيراً، رغم أن سوء التوزيع رافق جميع منتجي وانجازي، وأما من الكيانات الرسمية والتي تشرف على بعض المؤسسات الثقافية وخاصة ما يتبع وزارة الثقافة أو الفعاليات المشتركة فلا مكان لي فيها، ولا يضيرني ذلك مطلقاً.. ولكن يمكن القول أن الدولة لم تمنح المبدع حقه ولا التقدير الذي يستحقه، وباختصار مؤسف ليس هناك أحد من أدباء العراق نال ما يستحقه.. فكثير منهم مات إما بالغربة أو في نقص بالعلاج. فالكاتب العراقي الآن يعيش بقلق مرير، حيث لا أحد يحميه وبإمكان أي مجموعة أو فرد مستهتر أن يقلق حياته والشواهد كثيرة.
(كتابات) : هل لابد أن يكون الأدب ملتزماً بقضايا المجتمع ؟
- الأدب هو رسالة سامية؛ لا يكون لها الألق هذا من دون الإلتزام بقضايا المجتمع العليا والإرتقاء بالإنسان فيه.. ليكون خلاقاً مبدعاً ناعماً مرناً يحب العيش له وللآخر الذي يقاسمه الوجود..
(كتابات) : هل يمكن القول أن معظم الأدب العراقي يعد تأريخاً للصراعات والحروب التي جرت في العراق ؟
- أجد أن الأمر ليس هكذا، لم يكن الأدب العراقي محصوراً بزاوية واحدة من ذاتيته؛ بل كان ومازال يتطلع إلى الأفق الأرحب والأجمل، وقد تناول الأدب العراقي، بل عايش كل هموم الأمة العربية ولم يكن بمعزل عن هواجس الشعب العربي.. قد يكون حيز منه أرخ أو وثق هذا الصراع والصراعات في المجتمع العراقي مستحدثة عمقها الاحتلال وعزف على وترها النشاز.. تجدين في الأدب العراقي كل الجماليات التي تؤرخ للتطلع للأمل والتوق إلى صناعة غد متطور.
(كتابات) : ما هي العقبات في رأيك التي تمنع وصول الأدب العراقي إلى باقي البلدان العربية ؟
- العراق في عزلة تامة منذ تسعينيات القرن الماضي إلى اليوم، وأسبابه وعقباته كثيرة سياسية وفنية واقتصادية تحد من إنتشار الكتاب العراقي وكذلك الكاتب العراقي، فهو غير مدعوم من قبل الدولة بأي شكل من الأشكال، فالمؤتمرات والمهرجانات الخارجية هي بمجهودات ذاتية؛ فليس هناك تسهيلات للسفر مثلاً وهذه مقتصرة على شلة محددة.. كذلك غياب مؤسسة توزيع الكتاب العراقي فمازالت قوانين الحصار الاقتصادي سارية المفعول لليوم.. وهناك عوامل كثيرة لا يمكنني الخوض فيها الآن.