25 ديسمبر، 2024 4:04 م

مع كتابات.. سالم حميد: القارئ العربي كسول تعتمد بوصلته على الدعاية والإشاعة

مع كتابات.. سالم حميد: القارئ العربي كسول تعتمد بوصلته على الدعاية والإشاعة

خاص: حاورته- سماح عادل

“سالم حميد” كاتب عراقي، روائي وقاص، ولد في محافظة ميسان جنوب العراق عام 1967.. من أعماله: (رواية “تل الرؤوس”،  بيروت 2008- رواية “بنادق النبي”، بغداد 2017- “صلاة الغائب”، قصص- “غياب لا مرئي”، قصص- “قارئ الوجوه”، قصص)..

إلى الحوار:

(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟

  • تطورت رغبتي بالكتابة مع تطور مستوى القراءة.. ففي أيام طفولتي قرأت القصص المصورة، وفي أيام صباي قرأت القصص وروايات المغامرة ولكن حين قرأت ل”كافكا” و”همنكواي” و”تشيخوف” وغيرهم اكتشفت أن هناك أدبا آخر هو الأدب الجاد وكل ما قرأته في صباي كان مجرد مرحلة يجب مغادرتها وشعرت برغبة الكتابة تجتاح كل كياني.

(كتابات) في رواية (تل الرؤوس) كتبت عن البسطاء الذين أرهقهم الحصار.. حدثنا عن ذلك؟

  • كان الحصار الاقتصادي من أقسى ما مر به العراق، وكان المريض لا يجد الدواء وكانت الأم تراقب أبنائها الجوعى كيف يذبلون كما تذبل الورود ولا تملك سوى دموعها، وكان المواطن ضحية من كل الجوانب فتارة يُزج به بالحروب وتارة أخرى يُزج به بالسجن، فكان على الأدب أن ينتقد الواقع الذي يعيشه هذا المواطن، ولهذا حاولت أن أصور الأحداث التي حدثت وحاولت نقل مشاعر هذا المواطن وخلجات نفسه ومعاناته كذلك.

 (كتابات) كيف لنا أن نقيم القارئ العربي وهل أن هذا المتلقي بمستوى المنجز الكتابي؟

 

  • صار معروفا هذا القارئ للأوساط المختصة، ولن أتردد بقولي: أن القارئ العربي قارئ كسول تعتمد بوصلته القرائية على الدعاية والإشاعة، ولا يستطيع أن يكتشف النص الجيد من الرديء. فهو ينتظر إعلان الجوائز ليبدأ بقراءة هذا الكتاب أو ذاك بمعنى آخر يحتاج المتلقي العربي إلى جرعة منشطة لتوقظ مداركه وتحرك مجساته.. ويحتاج هذا الأمر إلى دراسة الحالة الثقافية التي يمر بها المتلقي العربي.. ومشكلة هذا المتلقي أنه لا يقرأ الدراسات الثقافية ولا يقرأ المدارس الفنية أيضا فإذا قرأ فإنه سيقرأ النصوص الأدبية سردا وشعرا فقط .

(كتابات) في رواية (بنادق النبي) هل كان اختيارك لـ (ماني) بسبب أنه حاول التقريب بين الأديان؟

  • الرواية الجيدة في رأيي هي تلك التي تخترق الأنساق كالتاريخ والأديان والمجتمع، ورواية (بنادق النبي) اخترقت التاريخ والدين والمجتمع والنبي (ماني) هو الوحيد الذي فكر بتقريب الأديان من بعضها وهو الوحيد الذي حاول أن يمزج جميع الأديان في بوتقة واحدة، وحاول أن يزيل جميع الأحكام المتطرفة من هذه الأديان، وقد تناولته بروايتي لأُقارن أفكاره مع الأفكار المتطرفة التي تحتل الشارع العربي تحديدا والتي سببت كل الدمار والتشنج الطائفي والديني .

(كتابات) في رواية (بنادق النبي ) هل قصدت أن تقول أن تعصب الأديان والمعتقدات هو سبب الحروب والصراعات أم ماذا؟

  • بلا شك.. ورجال الدين أنفسهم لا ينكرون هذا الأمر وهذه الحروب (الدينية- الدينية) ناتجة عن عدم قبول الآخر، فكل أتباع دين لا يقتنعون بتعاليم وطقوس الدين الآخر، وهذه الفكرة وردت حرفيا في (بنادق النبي) ، والمشكلة الأخرى التي تطرقت إليها في روايتي هي (الهوية) لأن الدين أو الطائفة هي هوية المجتمعات وكل هوية تحاول أن تطمس الهوية الأخرى فلو إن الهوية الدينية تقبل التجاور مع مثيلاتها لما حدثت هذه الحروب بين الأديان وبين طوائف الدين الواحد.

(كتابات) تناولت في (بنادق النبي) الحرب الإيرانية، وانتفاضة 1991، وهروب البعض إلى إيران، والتفجيرات بعد الغزو الأمريكي، لماذا تاريخ العراق المعاصر حاضر بقوة؟

  • لقد أثرت الحرب العراقية الإيرانية كثيرا على المجتمع العراقي، ولم تمر سنينها الطويلة إلا بعد أن تركت خلفها قائمة طويلة من الضحايا وقائمة أخرى من الأرامل والأيتام، وحتما تركت أثرها على الأدب والفن، فحين نكتب أي رواية لابد أن نقرأ بصمات هذه الحروب من خلال شخوصها، ولابد لي إذن أن أجعل بطل رواية (بنادق النبي) يمر بمحن الحرب ومأساة الهجرة والإرهاب مثلما مر المواطن العراقي.

(كتابات) في رأيك هل الرواية العراقية تحاول توثيق الأحداث المعاصرة التي ضربت المجتمع العراقي وتؤرخ لها ؟

  • نعم إن الفن والأدب يؤرخ ولكن كل على طريقته الخاصة، وصار للرواية أكثر من هدف ووظيفة وربما هذا ما جعلها تتسيد على وسائل الأدب الأخرى.. وكان الواقع العراقي غنيا بالأحداث ما بين حرب وبين حصار اقتصادي وحرب أهلية ومفخخات وغيرها.. وهذا كله غذى مخيلة الروائي وجعل الرواية العراقية غنية بأحداثها وبطرق السرد التي استخدمتها.

(كتابات) ما تقييمك لحال الثقافة في العراق وهل يمكن الحديث عن نهضة؟

  • إن من يتابع أخبار شارع المتنبي، شارع الثقافة في بغداد، وظهور شوارع مشابهة له في معظم المدن العراقية سيتأكد أن هناك بوادر نهضة ثقافية، كان الدكتاتور قد منع ظهورها لسنين خلت وهاهي تنهض من رماد الحروب كما تنهض العنقاء من رمادها في الأساطير.

(كتابات) في رأيك هل هناك تعتيم متعمد على الأدب العراقي في باقي بلدان منطقة الشرق، أم أن صعوبة وصول الكتاب العراقي سبب غياب له في تلك البلدان؟

  • في أيام الحكم الشمولي كان الدكتاتور يمنع تصدير الكتاب العراقي والمشكلة أن هذا القرار لم يرفع مباشرة بعد سقوط صدام وظل الكتاب محكوم عليه بالسجن ولم يتم الإفراج عنه إلا في هذه الأيام.. وهذا أثر كثيرا على رواج الكتاب العراقي، وهناك شي آخر أعزوه إلى غياب وتكاسل دور النشر العراقية بتوزيع الكتاب خارج العراق بل حتى داخل العراق.

(كتابات) هل نعيش زمن الرواية، وما سر توجهك لكتابة الرواية؟

  • الرواية تحتل المنطقة المهملة بين الفكر والتاريخ، وربما لأن الرواية تقدم خلطة من الفن ومن التاريخ ومن الواقع ومن الميثولوجيا والأديان، وفوق هذا وذاك استوعبت الرواية الفلسفة وذوبتها وكان يصعب تدجينها ومناقشتها.. كانت الفلسفة عصية على الفهم إلا إنها صارت إحدى المغذيات المهمة لفن الرواية.. وبإمكان الرواية أن تقدم الناس ومعاناتهم وهذا الأمر ليس هينا بل الأجمل، أنها تقدم ثقافات وعادات الأمم وتجاوزت الرواية دورها الذي عرفت به في القرن العشرين وما قبله.

أصبحت الرواية الآن مثل الأسفنجية الضخمة قادرة على امتصاص الكثير من العلوم الإنسانية، وقد استوعبت الشعر وعلم النفس وقرأت التاريخ بعيون جديدة..  وربما ستعود لتؤرخ للحوادث كما هي أسلافها من الأساطير والملاحم.

(كتابات) هل واجهت صعوبة ككاتب وما هو جديدك؟

  • الصعوبة الأولى التي تعترض الكاتب هو نشر ما يكتبه وأحيانا تتكدس مخطوطات كتبه دون نشر، وهذا ما يجعله يشعر بالضجر ومعظم دور النشر لا تتعامل مع الكاتب المبتدأ لأن أغلبها لا تفكر بإنتاج ثقافة بقدر همها التجاري، وربما ينظر بعضها للكتاب كسلعة لا غير، ولكن الصعوبة الأكبر هي أن بعض دور النشر لديها أجندة معينة حيث ترفض الكتب التي تطرح الأفكار التي ربما تتقاطع مع الإستراتيجية التي تعمل وفقها، وكأنما هناك رقيب أيدولوجي أو ديني يتوسط مابين الكاتب ودر النشر.

والحمد لله هذه القضية قد تجاوزتها بعد نجاح رواياتي ورواجها بين القراء وهناك رواية جديدة ربما ستظهر خلال هذا العام .

 قصة صــلاةٌ للغائــب..

لسالم حميد

رافقتني عروسي بحفيف ثوبها، وكانت نجمة الصباح لا تزال تلمع فوق قبة المرقد، الذي بدا مثل كتلة ظلامية، نمت وتضخمت من حشائش هذه الحقول ونباتاتها، ولم يفلح مصباح المرقد الوحيد، من إضاءة ذلك الحيز الضخم، وأبعاد ضباب الصباح المتكاثف. كانت أطراف نباتات الرز باردة ولذيذة، من رطوبةٍ بدأت تبلل أيدينا وأطراف أثوابنا، طاردة أشباح نعاس كانت تحوم حول هيأتنا، ولحسن الحظ، فإن رطوبة الأرض ليست كافية، لمنع طقس الهروب الأسطوري الذي نؤديه، فكان علينا أن نهرب إلى الحقول القريبة، ونعود وبقبضاتنـا نباتات سوف ننشرها في باحة البيت، لتمنحنا السعادة والنماء.

صار المزار قريباً علينا، حتى كان بإمكاني رؤية حزام الحناء الملتف حول خاصرة المرقد، الذي رسمته أيادي النساء اللائي كنّ يضمخنّ الحناء في أيام الجُمع، تاركات بصمات أصابعهن تجف على جدرانه، وكنت قد رأيت عروسي لأول مرة مع نساء أخريات، وكانت تلتف معهن وتدور ببطء شديد حول المرقد، وترنو أليّ بأنظارها حيث أقف مع رجال يبالغون في تقديري، بعد أن صرت طالباً في هندسة البناء، واكتشفت بأول سفرة أعود بها إلى قريتي أساطيرا  كثيرة وغريبة، نسجوها حولي، وعن اكتشافاتي في تصاميم الصروح العالية.

دخلنا المرقد، وغمرنا باللون الأخضر الداكن، وقد طغت على عطور عروسي، روائح البخور البائتة في المباخر الموجودة في واحدة من زوايا الضريح. قرأنا الأدعية ثم صلينا الفجر، وأعلن الشيخ وصوله بالصلاة على النبي بصوت عالٍ، صلّى هو الآخر، ثم باركنا، وبدا وجهه أكثر نضارة وترفاً من ذي قبل، بعدما ترك مهنة الزراعة، وتفرغ لملاقاة الزوار في الضريح. واذكر أني: عندما عدتُ في إحدى العطل من الجامعة، أخبرتني أمي حينها: بأن الشيخ جاءه في المنام رجلٌ يرتدي ثياباً خضراء، وله جبين أبيض عريض ينفث نوراً اخضرا يبهر العيون، وأمره أن يتوسط حقله، في منتصف الليل، وفي غياب القمر، ويحفر، حتى يستخرج حجراً اخضر مدفوناً هناك. ففعل الشيخ ما أمر به سراً، واستخرج حجراً محفوراً عليه علامات ورموز.

وفي الصباح زف البشرى لأهل القرية، ونحروا في المكان الذبائح والقرابين، وعفرت النسوة اللائي لم يلدن أطفالا بعد، ثيابهنّ بتراب الحفر. وبدأ البناء.

توجهت، بعدما أخبرتني أمي إلى مكان الضريح، يدفعني توقي ورغبتي لمشاهدة الحجر الأخضر، وفك طلاسمه الغريبة.. بعد أن اكتظت خيالاتي بماضٍ سحيق القدم، لم تترك لنا دهوره سوى شواهدٌ لقبورٍ غامضة، وأساطيرا صارت تنمو في الحقول. وجدت الناس الذين تبرعوا للبناء، والنساء اللائي يضمخنّ الحناء، وكانت عروسي واحدة منهنّ، وتجمّع حولي بعض الرجال الذين راحوا يسألونني عن تشييد الأضرحة، وسألتهم حينها عن الصخرة، وهل رآها أحدهم؟ فقالوا: إن الشيخ وضعها في صندوق أخضر داكن تفوح منه روائح غريبة، ويتهم كل من يطلب رؤية الصخرة بالكفر ويطرده، فاستغفر الله! ففعلت، وقال أحد الرجال: أنه شاهد ذات ليلة، عندما كان عائداً من سقي زرعه، شمعة مشتعلة في هذا المكان، وظنها للصوصٍ كانوا يتآمرون لسرقة مواشي أهل القرية.

وقال رجل آخر: أن ابنته حلمت بهذا المكان أيضا، وقالت أنها: غرقت في الهور وأنقذها رجلٌ يرتدي ثياباً خضراء، ساحباً إياها فوق نباتـات الرز الطرية، إلى هذا المكان، ثم جفف جسدها بيديه الدافئتين، ولما أفاقت من حلمها، كانت السماء تمطر بشدة !

فكرتُ أن أسأل الشيخ قبل أن نعود من هروبنا عن الصخرة، وماذا كتب عليها!؟ إلا أنني ترددت وسط هالة حضوره الطاغي، وكان الصندوق الذي وضعت فيه الصخرة، يجثم هناك.. داخل شباك الضريح، وكان مغطى بقماش أخضر بلون طحالب الاهوار. ويبدو أنه فهم ما يجول بخاطري، فحدثني عن عملي، بعدما تخرجت، ونصحني بأن أغادر القرية إلى المدينة، حيث استطيع العمل هناك.

ولما عدنا إلى البيت، حيث نثرت عروسي قبضات الحشيش وسط زغاريد أمي، فانزويت في الفراش، لأن ثمة خمول ونعاس عادا إلى جسدي، بعدما طردهما نسيم الصباح البارد.

جثمت الصخرة فوق صدري بعلاماتها المسمارية وأحاجيها الغريبة، وقد تربع عليها الشيخ بكامل جسده الضخم ضاغطاً بها على أنفاسي، وهو يحدق بعيوني الجاحظة، وكدت اختنق، لولا أني أفقت فزعاً أطارد بشهيقي الهواء… سألت أمي بعدما أفقت من أحلامي المزعجة، إن كانت هنا صخور، فضحكت مني  قائلة: (أجدادنا يقولون إن الاهوار كانت تغطي كل هذه الأرض).  وأشارت إلى القرية والمزارع والمزار .

ومرت شهور وسنون، مات الشيخ بعدها، بعد أن ازداد شيخوخةً ووقاراً وازداد المزار هيبة واخضراراً، وزواراً كانوا يأتون من القرى البعيدة محملين بالهدايا والقرابين، وكثرت الإشاعات عن أشخاص شفاهم صاحب الضريح من أمراض مستعصية، وجنون سكن في رؤوسهم لسنين كثيرة .

وبعد إن مات الشيخ، قالوا: أن الرياح عصفت بشدة، وفاض ماء الهور.. ولكن الريح ولم تعصف ولم يفض الماء!

حضر في تشييعه خلق كثير، داست بأقدامها الحافية نباتات الرز الفتية فانطمرت تحت الطين، وتكسرت سيقان البردي وحلّقت طيور الماء، وكادت أن تتقاتل القبائل على تبني جثة الشيخ ودفنها، فصرخت بهم أن يكفوا عن مجادلاتهم، لأن ذلك يغضب الشيخ، فهدأ صخبهم فجأة خلا نحيب النساء، ثم صليت بهم صلاة الغائب مغمضاً عيوني ناشداً التوحد معهم، ومغيباً الجثمان الأخضر عن خيالي، فشعرت بخوف غامض، كأنه يتسلل إلينا من مجاهل الاهوار. وبعد ذلك تسابق الشبان لرفع الجثمان بأذرعتهم القوية، كاشفين عن صدورهم المشعرة أمام فتيات القرية. وفي هذا الموكب الضخم، كنت سائراً بينهم لا يهمني شئ سوى فتح صندوق الصخرة أمام الناس.

وفي أول صباح لقريتنا الحزينة، في المأتم الذي أقيم في المرقد، حيث يتسابق أهل القرية بذبح مواشيهم، أعلنت لهم بأني رأيتُ حلماً، فتوقفوا عن اللغط، قلتُ لهم: رأيتُ الشيخ المبجل في المنام، وهو يرتدي ثيابا بيضاء ووجهه ناصع البياض. قال لي: اقترب، فاقتربتُ منه، حتى دخلت هالة النور. قال لي بصوت رائق: عليك أن تفتح الصندوق في يوم الجمعة، أمام زوار المرقد وأهل قريتي، وفي وضح النهار.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة