خاص: حاورتها- سماح عادل
في روايتها “لعنة ميت رهينة” استطاعت د. “سهير المصادفة” أن ترسم صورة مصغرة لمصر، من خلال قرية “ميت رهينة” التي تمتلئ بكنوز الأجداد وثرواتهم، لكن نتيجة لفقدان الأبناء لتواصلهم مع حضارة الأجداد، وانقطاع ذلك الخيط ما بين الأجداد والأبناء حدث السقوط، وتفشت الفوضى والفساد، وكل تلك الظواهر السيئة، فأصبح الأبناء لا يتورعون عن بيع كنوز أجدادهم وهم أساسا لا يعتبرونهم أجدادا، وإنما كائنات غريبة لا تمت لهم بصلة.
د.”سهير المصادفة” شاعرة وروائية وباحثة ومترجمة، حاصلة على الدكتوراة في الفلسفة، كما تكتب للأطفال، وتساهم أحيانًا بكتابات نقدية وأدب رحلات، إضافة إلى الترجمة. عملت رئيسًا لتحرير سلسلة كتابات جديدة بالهيئة المصرية العامة للكتاب، وكانت مشرفًا عامًا على سلسلة الجوائز بالهيئة. كانت عضو اللجنة التنفيذية في مشروع مكتبة الأسرة، وكانت عضو اللجنة التحضيرية للنشاط الثقافي في معرض القاهرة الدولي للكتاب. نظمت العديد من الندوات والمحاور الثقافية للنشاط الثقافي المصاحب لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، وأسست أيضًا جناحًا لمناقشة المبدعين الجدد بعنوان إبداعات جديدة، كما أنها شاركت في هيئة تحرير وترجمة بعض القواميس والموسوعات في مصر مثل: «قاموس المسرح»، و«موسوعة المرأة عبر العصور»، و«دائرة المعارف الإسلامية». تولت منصب رئيس الإدارة المركزية للنشر بالهيئة العامة للكتاب.
صدرت لها عدة روايات مميزة وكتب في مجالات متنوعة.
كان لي معها هذا الحوار الشيق:
* في البداية، منذ الطفولة، هل كنت تحلمين أن تصبحي كاتبة، وكيف كانت تأثيرات الطفولة على ذات الكاتبة لديك؟
- فتحت عينيّ على كتب أبي، أو ما نطلق عليه متون المكتبة العربية التراثية، وجدت نفسي أقرأ في سنٍّ صغيرة كل ما يقع بين يديّ، حتى الورق الذي كانوا يضعون فيه أقراص الفلافل. لم يسعفني الوقت لأحلم أن أكون كاتبة، وإنما أصبحت بالفعل كاتبة في أوّل عام من المرحلة الإعدادية، نبّهني لذلك مدرس اللغة العربية عندما كان يقرأ مواضيع التعبير التي أكتبها بصوته، ثم يتبعها بابتسامة مرددًا: “في مدرستنا كاتبة”، يسألني عمَّا أقرأ ويشير إلى كتبٍ جديدة، كنت مهووسة بالقراءة إلى درجة أن المغامرين الخمسة والمجلات تنتهي بسرعة لأجد نفسي من جديد أمام كتب أبي، فأفتح “بدائع الزهور في وقائع الدهور” أو “الجبرتي”، ولا أفهم الكثير، ولكنني أشعر أنني أمام قلاع سحرية خلفها ممالك وحياة زاهية… حياتي أنا.
* قلت في أحد الحوارات “أغضب من كل شيء حتى من شخوصي وعنادهم وهم يسيرون بثبات إلى مصائرهم المتباينة”، هل الشخصيات تتمتع بحرية ما حين تعملين على رسم ملامحها، ألا تحاولين فرض سلطة الكاتبة عليهم، من أين أتت حرية الحركة لديهم، هل من كونهم شخصيات لها أصول من الواقع؟
- في البداية أضع خرائط المكان والزمان وملامح الشخوص، تقريبًا أكون على قدر من معرفتهم، رغم أنهم من خيالٍ، بالطبع لهم جذور من الواقع، ولكنهم في النهاية شخوص لم يوجدوا قطُّ. أستمر في الكتابة وتتصاعد الأحداث، ثمة لحظات تباغتني أنا نفسي؛ أجدها مسيطرة عليّ ولا تستسلم إلا بعد كتابتها؛ ذكرى رائحة ما أو صوت خافت أو حركة رجل يمشي وحيدًا على حافة حقلٍ في فجرٍ وردي.
لا أعرف بعدها كيف تتقدم الأحداث وتنهمر مثل شلالات عاتية وحتى اكتمال الرواية. فليكن إحساسي وأنا غائبة مع شخوصي هو إجابة السؤال؛ أشعر أنني أرفع ستائر ضبابية لأرى ما يفعلون وأتابع تحركاتهم، وكلما رفعت ستارًا أرى ما خلفه.
* قلت أن “الشعر بتوهج المشاعر وعنفوانها يليق بمرحلة الشباب” كيف كان إحساسك بالشعر حينما كنت تكتبينه وتعايشينه، وهل كان يشبع ذاتك؟
- ما زلت أكتب الشِّعر حين يباغتني، ولكنه قليل، كلما كبرنا خفت صخب العالم في آذاننا، كنت وأنا شابة أستطيع وضع الكرة الأرضية في جيبي، أحلم كثيرًا وأمامي مستقبل مفتوح الآفاق، لا أرى إلا ذاتي ومشاعرها ورؤاها، كان لدي يقين بأن الغد سيكون أفضل وأن هذا هو عمله؛ أن يكون أفضل. ولكننا عشنا خيبات مستمرة، العالم بأسره عاش خيبات لا مثيل لها في أي قرنٍ من الزمان، أظن أن هزيمة الجميع بما فيها الدول القوية والضعيفة على حدّ سواء، ووقوف الإنسان أمام طبيعته وإحساسه أنه ربما كان هو سبب بلاء العالم، جعلني أتأمل نفسي والوجود من جديد وأخلق شخوصًا وعالمًا موازٍ لأسأل هذه الأسئلة التي لا تستوعبها قصيدة، مثلما حدث في روايتي الأخيرة “الحديقة المحرّمة”.
* في رواية “بياض ساخن” هل تقمص شخصية امرأة لديها مرض عقلي وهو الفصام كان صعبا، هل أتعبتك شخصية “عبلة”؟
- ربما في البداية فحسب، ولكن ما أن تقدمت أحداث الرواية حتى كتبتْ “عبلة” نفسها مثل بقية شخوصي. بالتأكيد فعلتُ كلَّ شيء من أجل “عبلة”، عرّفتها على طبيعة مرضها، ورسمت لها ملامحها، ومنحتها صوتها، وكنت حريصة ألَّا أقع في محبتها حتى أكون محايدة أمامها فتتقدم الرواية، ولكن وكالعادة وما إن اقتربت من شفائها أخذت أغضب منها وأبكي لبكائها وأشعر بالمرارة لهزيمتها.
* في رواية “بياض ساخن” قلت إنك حاولت رصد جنون كان يدور في مصر لمدة عام كامل، هل جذور تلك الحالة من الجنون ممتدة لزمن أبعد؟
- نعم، مع الأسف الشديد، هي مستمرة، هذا الجنون مستمر، ليس في مصر فحسب، وإنما في العالم كله. الأقطاب المتصارعة، الانقسام السافر، وكأن اليد اليمنى في الجسد الواحد لا تعرف ماذا تفعل اليد اليسرى. هم يسألونكِ بفظاظة وطوال الوقت: “إلى جانب أي الطرفين أنتِ.”، تخجلين حتى من إجابتك المقنعة الوحيدة: “وهل أستطيع أن أكون مع جانبٍ لم يوجد بعدُ.”، تصوري في الألفية الثالثة يُطرح على الإنسان هذا السؤال: “مع مَن أنتَ؟”، والمدهش أكثر أن الإنسان يخجل أن يجيب: “لي رؤاي المختلفة عن الطرفين المتصارعين.”.
* في رواية “لعنة ميت رهينة” فكرة انقطاع التواصل مع الحضارة المصرية العظيمة متعددة الروافد هي ما أوصلت الأمور إلى فوضى وخراب، هل في رأيك ما زال في الإمكان استعادة الهوية المصرية بكل ثرائها وتميزها، وكيف يتحقق ذلك؟
- بالتأكيد يمكن لمصر استعادة هويتها بالإرادة، ليست الإرادة السياسية فحسب، وإنما إرادة الشعب نفسه، ولكن مع الأسف، الشعب مكبلٌ بهمومٍ كثيرة وتكاد تكون سيزيفية، مثل رداءة التعليم والصحة والثقافة التي لم تستطع بناء جسر يصل حاضره بماضيه، ليتطلع إلى مستقبله بأمل وتفاؤل ورغبة في الحلم. ولكن بالتأكيد يمكنه الانتصار على كل ذلك بتوفير مناخ يأخذ بيده.
* قلت “من القيود على الإبداع أيضا وجود ما يسمى بمصطلح «الإبداع النسوي»” هل ترفضين ذلك المصطلح بسبب كونه غربيا ويخص بيئة مخالفة عن مجتمعنا، أم لأنه تمت مهاجمته خاصة من نقاد وكتاب ذكور، ووصموه ومنهم من ابتكر منه سجنا لحبس إبداع المرأة فيه. وهل تكريس الكاتبة أدبها للدفاع عن قضايا المرأة وكشف التمييز ضدها أمر ينطوي على قصور؟
- أنا أكتب بلغة يكتب بها الرجل، وبتقنيات سردية يستخدمها، وبرؤى قد يتناولها أيضًا، مثلما تناول “إحسان عبد القدوس” أو “نزار قباني” قضايا المرأة. فلماذا يصنفون ما تكتبه المرأة بـ “الأدب النسوي”، دون أن يكون على الجهة الأخرى: “الأدب الذكوري”. أظن أن هذا المصطلح وُلد – فلسفيًّا – أعرج، ولذلك لم يعد مستخدمًا بكثرة الآن. ولكن ربما كان سببه أيضًا بعض أعمال الكاتبات، فبعضها ولا أقول كلها انكفأت على أزمة المرأة، وواصلت الشكوى من قضايا التمييز ضدها، دون أن ترى اللوحة كاملة؛ أي خرائط الزمان والمكان والرجل أيضًا ككفة ميزان مقابلة لها. ممَّا جعل هذه الروايات أشبه بمنشورات صالحة لوزارة الشئون الاجتماعية، وأبعدتها كثيرًا عن الأدب. بينما الرواية فن أكثر تعقيدًا وأهمية من الشكوى.
* بعد كل ما حققت من نجاح على مستوى كتابة الرواية وفي العمل في مجال الثقافة وفي مجالات أخرى، هل واجهتك صعوبات وعوائق فقط لكونك امرأة؟
- نعم، مع الأسف، وكثيرًا، نعرف أننا خرجنا من القمقم منذ قرن من الزمان تقريبًا، وهذا وقت قليل في عمر البشرية. توقعت كلّ شيء منذ البداية، توقعت كلّ الصعوبات التي سأواجهها، وكنت أتعامل معها بالصبر والتجاهل لكي أستمر. بالتأكيد ليس سهلًا الاقتراب من عروشٍ شيدها الرجال طوال قرون- ولكي أكون عادلة- بعرقهم وحروبهم وجهدهم، ومن البديهي ألّا يفرشون الآن الطريق بالورد لكي أمر وأجلس على عرشٍ ما، دون مقاومة، ولكن هذه المقاومة تخفت يومًا بعد يومٍ كلما رأوا إصراري وكفاحي ومثابرتي، بل الأهم؛ فهمي لما يحدث بالضبط.
* تفضلين عدم التكرار في مجال كتابة الرواية خاصة، لذا تنوعين ليس فقط على مستوى رسم الشخصيات واختيار الأحداث وإنما حتى على مستوى البناء الخاص بالرواية وطريقة السرد ولغتها، حتى أنك تؤمنين بتداخل المدارس الأدبية وعدم وجود حدود فاصلة بينها.. حدثينا عن ذلك؟
- أخرج بصعوبة من أجواء رواياتي، أتنفس لأيامٍ طويلة الهواء الذي تنفسته شخوصي، وأظل عالقة في المكان والزمان هناك. أحاول بعد تسليم الرواية للنشر أن أحافظ على إيقاع الكتابة، فأكتب في الوقت نفسه، كلَّ فجرٍ، وربما لمدة ثلاثة أشهر، أيّ شيء يخطر على بالي، حتى أستطيع الانسلاخ عنهم. أطلق على هذه الأوراق: “جلسات علاج.”، أحيانًا تخرج منها مقالات مهمة وتعجبني فأجدها صالحة للنشر، وفي معظم الأحيان أمزقها كلها، بعد أن أكتب عليها: “انتهى، وكُتب… انتهى”. فأجد نفسي بعدها في أجواء جديدة وأمامي جبلًا من طين الصلصال وعليّ العمل على تشكيله من جديد.
وبالفعل، أصبحت المدارس الأدبية في ذمة التاريخ. فكثير من الروايات لا تخضع لها الآن، مثل “اسم الوردة” لإمبرتو إيكو، و”سرد أحداث موت معلن” لـ “ماركيز”، و”اللص والكلاب” لـ “نجيب محفوظ”، و”لعنة ميت رهينة”. فهذه الروايات من المستحيل تصنيفها أنها سياسية أو بوليسية أو اجتماعية أو تاريخية، وإنما هي كل ذلك وأكثر.
* هل لديك مشروع أدبي خططت مسبقا لانجازه وما الذي يحكم اختيار موضوع الرواية والرسائل الأدبية التي تتضمنها؟
- أجد فجأة عالمًا روائيًّا مزدحمًا في صدري، أحاول دائمًا الهروب من البدء في كتابة جديدة، حتى يسيطر عليّ تمامًا ولا أستطيع فعل شيء آخر سوى الكتابة مثل ممسوسة دون توقف. إذا بدأتُ فكل الأشياء تأتي بعدها بسهولة مثل شلالٍ ينحدر من علٍ. أحيانًا يجرف هذا الشلال ما أردت كتابته أوّلًا، فأرى ما وراء حجبه وأواصل، وأحيانًا أتوقف بسبب ما يطلقون عليه “قفلة مبدع”، لوقت قد يقصر أو يطول، فأعود لأقرأ آخر ما وصلت إليه وأعرف سبب “القفلة”، وأواصل، وكأن كل عنصر من عناصر البناء الروائي يختار مكانه.
* الكتابة عن الجسد وإشكالياته، والتي قد تشغل عدد لا بأس به من الكاتبات، وتعتبر إحدى التهم الجاهزة التي يوجهها بعض الكتاب والنقاد من الرجال إلى كتابات النساء في العموم . هل سعيت إلى الهروب من فخ الكتابة عن الجسد بل والكتابة عن نفسك وحياتك الشخصية بشكل عام؟
- قلت ذات مرّة إنني أوافق الشاعر الروسي العظيم “رسول حمزاتوف”، حين قال: (إذا لم نر المؤلف في أثره الأدبي فكأننا نرى حصانًا يعدو دون فارس.)، ولكنه كان يقصد روح المؤلف التي تحلق في سماء العمل وليس المؤلف نفسه بتفاصيله الحياتية وتجاربه التي قد تكون فقيرة جدًّا وغير صالحة للسرد. الرواية وفقًا لتعريفها هي سرد تخييلي، يخلق فيها الروائي عالمًا لم يوجد قطُّ، لنكتشف بعد قراءتها أنه موجود وقد يكون من فرط روعة الكاتب أكثر حقيقية من الواقع نفسه، أمّا الكتابة عن نفسي فهي تقع تحت أنواع أدبية أخرى، فقد تكون سيرة ذاتية، أو سيرة روائية، وبالفعل أنا أحلم أن أستكمل كتابًا بدأته تحت تصنيف: سيرة روائية. إذا طال العمر قليلًا.
* هل تراهنين على الخلود بنصوص تحفرين فيها بروحك لتصبح علامات فارقة فيما بعد؟
- في أحد حواراتي القديمة، صرّحت بشيء عن الكتابة من أجل الخلود، ولكن مرَّت في النهر مياه كثيرة، وارتبك هذا اليقين. هذا العام كنت أتابع بشغف كلَّ أخبار الاكتشافات العلمية الحديثة وخصوصًا الفلكية منها، بدأت أثناء عزلة كورونا، بقراءة كتب فلسفية وأعدت قراءة كتب “أينشتين” عن نظرية النسبية، وعندما شاهدت الصور التي التقطها مسبار “جيمس ويب”، اجتاحني الأسى وأنا أتساءل عن معنى الخلود نفسه، ونحن مجرد هباءة في الفضاء اللامحدود. المدهش أن حالة الحزن التي انتابتني لم تجعلني أتوقف عن كتابة روايتي الجديدة، بل واصلت الكتابة مثل محمومة حتى انتهيت منها.
أعرف الآن أنني أكتب لأنني لا أجد نفسي إلا عندما أكتب، أكتب لأنني لا أستطيع فعل شيءٍ آخر إلا الكتابة، أريد بالفعل أن أتوقف عن كتابة رواية جديدة، فآليات ما بعد عملية الكتابة في عالمنا الثقافي المصري مؤلمة ومتعبة جدًّا وغير عادلة، وتنافسية وعدوانية، وأنا بطبيعتي لي شخصية غير تنافسية ولا محاربة وأنفر من الصراعات فأبتعد، أبتعد عن أيّ صراع تاركة “الجمل بما حمل”. فعلًا أريد أن أتوقف، ولكنني أجد نفسي غارقة في أحداث رواية جديدة، يبدو أنني غير صالحة لشيءٍ سوى الكتابة.