خاص: حاورته- سماح عادل
“خضير اللامي” مترجم وناقد عراقي معروف وبارع، له مترجمات فارقة مثل رواية “مقبرة براغ” للكاتب والسيميائي الإيطالي “إمبرتو إيكو”، وكتاب “اعترافات الحاج باولو كويليو” للكاتب “خوان أرياس”، ورواية “حب الزواج” للكاتب الإيطالي “ألبرتوا مورافيا” وله انجازات مميزة في مجال الترجمة والنقد الأدبي. وهو مستقر حاليا في السويد. وكان لنا حظ التحاور معه.
إلى الحوار..
(كتابات) لماذا اخترت العمل في الترجمة.. ومتى بدأت في هذا العمل؟
- من المفارقات التي تحدث لتغيير مسار الإنسان في الحياة، وتحدد حلمه في المستقبل، هي تلك المصادفات التي تلعب دورا في انحراف ذلك المسار باتجاه الآخر، فحين أنهيت دراستي الثانوية، وقدمت أوراقي للجامعة، بما فيها شهادة معدّل الدرجات. كانت اللغة الانجليزية تأتي بالدرجة الثانية واللغة العربية الأولى.
وقد قبلتني الجامعة في كلية اللغات، وخصصت اللغة الانجليزية كاختيار أول لي حددته الجامعة. وقد أثار هذا الفعل استغرابي، فقدمت اعتراضا إليها شرحت فيه أنّ طموحي هو دراسة اللغة العربية، وليس الانجليزية، ودرجاتي تؤهلني بذلك أفضل من اللغة الانجليزية. إلا أن الجامعة أصرت على قرارها، لغرض في قلب يعقوب. وهكذا تقرر مصيري الذي لم اختره. لكنني قبلت القرار، ورحت أدرس اللغة الانجليزية متأسفا على اختياري الشخصي للغة العربية..
وعلى كل حال، ومع تقادم الأيام رأيتني منغمرا في دراسة اللغة الانجليزية، ومتطلعا إلى الأدب الانجليزي، وطموحي في هذا، أن أترجم هذا الأدب إلى لغتي العربية، والعكس صحيح، فرحت أقرأ الأدب الانجليزي، والأدب العالمي باللغة الانجليزية بنهم وبموازاة الأدب العربي أيضا، وشرعت بالعمل الترجمي ونشرت بعض المقالات المترجمة، في الصحف والمجلات، ومن ثم بدأت بترجمة بعض الروايات العالمية.. وأهمها رواية “مقبرة براغ” للسيميائي الايطالي “إمبرتو إيكو”.
وقد كتبت مقدمة لهذه الرواية المعقدة، والمتشابكة في أحداثها الجسام، وغرابة شخصياتها، لتسهيل قراءتها للقارئ “عنوانها مقبرة براغ بوصفها عملا إبداعيا ” كما ألقيت محاضرة في اتحاد الأدباء ببغداد أثناء زيارتي لها بهذا الصدد.
(كتابات) هل الترجمة بالنسبة لك عملية إبداعية وهل تنتقد “الترجمة الحرفية” للنص.. ولماذا ؟
- إنّ من يصر على الترجمة الحرفية بوصفها الأسلوب الصحيح، ويناهض الترجمة الإبداعية قد ولى زمنه، وحلّت الترجمة الإبداعية محلّها، بعد انتشار تعدد النصوص أو اجتراحها من النص الواحد، بما فيها النصوص الدينية التي تُعد نصوصا مفتوحة للمتلقي هي الأخرى، بعكس ما يقوله رجال الدين. وهنا يحضرني قول الإمام على حين قال: “إن القران حمّال أوجه”. وتخيلي أنّ مْثِل هذا الًمثًل الذي قيل قبل زمن طويل وتحّول الآن إلى نظريات في السرد الإبداعي. ومن يحاجج عكس ذلك سيظل يراوح في مكانه أبدا.
(كتابات) هل وجدت صعوبة في ترجمة رواية “مقبرة براغ” للسيميائي والروائي الشهير “إمبرتو إيكو”؟
- نعم، كانت مغامرة حقيقية، وجدتني فيها أتصارع مع أسلوب “إيكو” المعقد، وسيميائياته التي كثفها في النص الملحمي هذا، والذي يُعد رائعته الروائية السيميائية، حيث حول نظريته السيميائية التي نظّر فيها كثيرا في كتاباته، وفي محاضراته في الجامعة وخارجها إلى عمل إبداعي سيميائي، وهنا، لابد للمتلقي أن يجترح نصه إياه، إذ أنّ “مقبرة براغ” نص مفتوح رغم تعقيداته. وعلى وفق هذا، فليس ثمة نص مغلق، في العمل الإبداعي، فهناك اجتراح نصوص على وفق تعدد العمل الإبداعي؛ باستثناء الكتب العلمية وبعض الكتب الدينية، والذي يصر على الترجمة الحرفية هو إما متخلف أو يخادع نفسه.
ولا أكتمكم أنّ إقدامي على مثل هذا العمل العظيم يُعدّ مغامرة حقيقية كما قلت، أمام قامة كاتب عظيم مثل “إمبرتو إيكو”؛ لكنني شعرت بعد أن قرأت نصها الانجليزي أن ثمة نداءً داخليا يدعوني إلى الانسجام مع مثل هذا العمل الشائك وانجازه. وهنا، أنقل لكم مقطعا من مقدمة رواية “مقبرة براغ” التي تصدرت الرواية لتسهيل مهمة قراءتها للقارئ قلت فيها: “إنّ التعامل مع هذه الرواية رواية “مقبرة براغ ” لمؤلفها الإيطالي “إمبرتو إيكو” حفيد “دانتي”، ذو العقل المركب، والأسلوب المعقد، والفيلسوف، والسيميائي، والناقد الأدبي، والمؤرخ، والأكاديمي، والموسوعي المعرفي بامتياز، هو تعامل مع عمل إبداعي لرواية تنطوي على أحداث جسام متداخلة ومتشابكة، حدثت في القرن التاسع عشر، ومستهل القرن العشرين، وتحتاج إلى قارئ نوعي متمرس، والرواية قد تبدو سلسلة ومرنة ومفهومة، وقد ينطلي هذا على القارئ العادي؛ لكن القارئ المحترف النموذجي كما يقول “إيكو”، قادر على التعامل مع أسلوب الرواية. أما القارئ الهاوي فإنه يسهم في انهيار هيكلية الرواية بأكملها نظرا لعدم تمكنه من استيعاب اللغة المحبوكة بدقة متناهية”.
وقبل المباشرة بالترجمة، أعدت قراءة بعض أعمال “إيكو” لأكون تماما في أجوائها، كما ساحر يحرق بخوره قبل عمل السحر، وتمضي الأيام والليالي والأسابيع والأشهر ثم تجاوزت السنة ونيف. وها هي الرواية ترى النور بنصها العربي.
(كتابات) كيف تختار النصوص التي تترجمها.. وما هي معايير اختيارك لها؟
- أنا قارئ نهم، وأزعم لنفسي أنني ناقد، كما مترجم، حين أتذوق النص وأجد ما فيه من ملامح إبداعية متميزة أشرع بترجمته دون تردد، بالمقابل، يُشترط في النص الذي أقْدم على ترجمته أنْ يُقدِّم للمتلقي عملا إبداعيا قد يضيف إلى ما هو مطروح من أعمال إبداعية تمتاز بالجودة والنوعية في المضامين والعملية الإبداعية، كما أن الساحة الأدبية العربية بحاجة إلى الأعمال النوعية التي تضع لبنات أساسية في بنية المجتمع الثقافي العربي.. ولذا فإنني، أرى أنًّما يُطرح الآن في أسواق المكتبات من كتب فيها الغث والسمين، هدفها منافع تجارية، ومخاطبة عقلية المتلقي البسيط، وقد لا تُقدّم زادا حقيقيا للمتلقي العربي الواعي.. كما أرى، أنًّ من الضروري، والنافع جدا، أنْ ينظم الناشرون العرب، ومعارض الكتب العربية خططا لاستيراد الكتاب النافع، والابتعاد عن الأساليب التجارية النفعية على حساب المادة الحقيقية التي تخلق إنسانا واعيا، ومتطلعا لمستقبله وثقافته، وبالتالي بناء حركة ثقافية فكرية صاعدة تسهم في بناء إنسان قاعدته الأساس الفكر السليم البنّاء..
(كتابات) ألا تخشى مِن ترجمة نص تمت ترجمته من قَبل إلى اللغة العربية.. وهل تزعجك المقارنة بينك وبين نص مترجم آخر؟
- أبدا، فالترجمة الإبداعية هي نص آخر للنص الأصلي، ولذا، فإنًّ تعدد النصوص يعني حيوية النص الأصلي وقابليته للانشطار إلى نصوص أخر. إنْ صح التعبير. ومن الطبيعي أنًّ النص حين يكون متحركا أعني قابليته لاستيلاد نص آخر، يعني أنًّ النص الأصلي هو عملية إبداعية يستولد نصوصا أخر. وعلى سبيل المثال لا الحصر، أن رواية “مقبرة براغ” سواء بنصها الانجليزي أو الإيطالي أو العربي هي نصوص قابلة لتعددية نصوص أخرى.
(كتابات) رغم اغترابك مازلت مرتبطا بالوطن.. وربما تكون ترجمتك لنصوص إلى العربية إحدى وسائل ارتباط بالوطن.. هل هذا صحيح ؟
- نعم، مَنْ يقول غير هذا، فهو عاق لوطنه. فأنا لا أزعم لنفسي أنَّ ما أكتبه وما أترجمه هو بمعزل عن ثقافتي العربية. أبدا، فأنا ترعرعت في وطن، ونشأت في تربته منذ نعومة أظافري. وما يحدث في وطني وفي أوطان عربية أخرى من دكتاتوريات، وأنظمة شمولية لم يكن المواطن له يد بكل ما يحدث، إنما الحكّام الذين تربّوا على جَلْد مواطنيهم بمختلف الأساليب اللاأخلاقية؛ واللاوطنية في تجويع وتشريد أبناء جلدتهم ليحلو لهم الجو كما يشاؤون، لكن كما يقول الشاعر الجواهري “إن عمر الطغاة قصار”.. وسيأتي اليوم الذي تنهض فيه الأوطان العربية بأبنائها وترمي الجلادين إلى مزبلة التاريخ.
(كتابات) ما تقييمك للأدب العراقي في الوقت الحالي باعتبارك ناقدا أدبيا؟
- رغم ما مر به العراق من أحداث جسام، وتولى السلطة حكام شموليون وثيوقراطيون؛ لا يعني لهم الأدب والثقافة والفكر بشيء، فضلا عن تحجيم الجامعات ومؤسسات الدولة الأخرى وزجها لخدمتهم، بل اعتبر أولاء الحكام أنًّ الوعي الثقافي والفكري يعني الإطاحة بأنظمتهم. أقول، رغم ذلك كله، فإنًّ الحركة الثقافية في العراق التي ينهض بها أدباء ومثقفون ومفكرون حقيقيون بمعزل عن دور السلطة الحاكمة، والتي تحجم عن مساعدتهم، أقول، رغم ذلك، فثمة مؤسسات أدبية وثقافية في العراق مازالت ومنذ زمن طويل تقوم بدورها الثقافي، وبتمويل ذاتي مثل اتحاد الأدباء في العراق وبعض المؤسسات الثقافية والفكرية الأخرى، تقوم بإنهاض الدور الثقافي والفكري بقدر ما استطاعت تلك المؤسسات المهنية من إمكانات ذاتية.. كما أنًّ المثقف العراقي مثقف نهم لإشباع ذاته الثقافية والفكرية والأدبية عموما..
(كتابات) لم ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى ضئيلة بالمقارنة بترجمة النصوص الغربية إلى العربية؟
- هذا السؤال يحيلنا إلى تاريخ نهضة الدول الغربية لاستعمار الدول الآسيوية والإفريقية، مما تطلب حركة ترجمية في الغرب لاستخدام لغة تلك الدول المستعمرة للإفادة من إدارة أنظمة تلك الدول، وبقيت حركة الترجمة تستولد مترجمين من الدول الغربية، والإفادة منهم في الحركة الاستعمارية في تلك الدول. لكن، لا يعني هذا، انتفاء ترجمة عربية إلى لغات أجنبية، فلدينا في العراق على سبيل المثال لا الحصر، مؤسسات، تُعنى بهذه الترجمة. تقوم بترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى..
(كتابات) هل الأدب العربي له قراء في الخارج من غير القراء العرب وكيف ينظر إليه الغربيون في رأيك؟
- إذا استثنينا العاملين في الاستشراق، فإن عدد الغربيين الذين ينطقون بالعربية يكاد ينعدم تقريبا، إلا من توفرت له الفرصة للعمل في الدول العربية كخبراء مثلا أو عاملون في مؤسسات غربية، وأنا هنا أتكلم عن عدد الناطقين بالعربية في دولة السويد. وما عدا ذلك، فإنني لا استطيع أن أعطي رقما للناطقين بالعربية.
(كتابات) هل الترجمة عملية ممتعة بالنسبة لك.. وما هي أحلامك وأمنياتك كمترجم؟
- الترجمة هي اجتراح نص إبداعي عن نص إبداعي آخر، يعني هذا أن الترجمة لا تقل أهمية عن عملية التأليف الإبداعي. وبذا، حين أنجز نصا مترجما من اللغة الانجليزية إلى العربية أشعر أنني قد ألّفت كتابا إبداعيا أو أنجزت وليدا، ولا فرق لديّ بين اجتراح نص مترجم ونص تأليف. ومن يزعم غير هذا، فإنه يجني بحق العملية الإبداعية سواء في التأليف أو الترجمة. وما أطمح إليه من أمنيات، هو أن تكون للترجمة مؤسسات أدبية وفكرية تُعنى بعملية الترجمة وتقوم بطبع وتوزيع الكتاب المترجم كما هو المؤلف وان لايغمط حق المترجم وزميله المؤلف، وان لا يستهان بهما فهما ثنائيان باحتراف العملية الإبداعية ومكابداتها..