10 أبريل، 2024 7:10 م
Search
Close this search box.

مع كتابات.. خالد شاطي: أسعى إلى التأثير في القارئ و إحداث صدمة ودهشة له

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص: حاورته- سماح عادل

“خالد شاطي” كاتب عراقي، صدرت له المجموعة القصصية الأولى “الديك الأعرج” عن سلسلة الإبداع العربي، التابعة للهيئة المصرية العامة للكتاب.

إلى الحوار:

(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟

  • شغفي بالكتابة بدأ في عمر مبكر. استهوتني عوالم القصص والحكايات التي كان أبي يرويها لي ولإخوتي قبل النوم وعمدتُ إلى تدوينها، كنتُ منصرفاً للرسم وقراءة قصص الأطفال في المجلات والكتب وأفضلهما على اللهو واللعب، في الرابعة عشرة كتبت رواية مغامرات للفتيان، متأثراً بسلسلة أدبية كانت تصدر آنذاك. انتقالي إلى أدب البالغين جاء بطيئاً ومتأخراً في عمر السابعة عشرة تقريباً لم أحظ بموجهٍ أو مرشد.بيئتي وعائلتي كانت لامبالية و غير مشجعة، وقد سجلتُ جانباً من ذلك في قصة (سرديات قارئ)، نشرتُ أول قصة لي عام 1993 في الملحق الأدبي لجريدة بابل البغدادية وكنت قبلها كتبت قصصاً وقصائداً كثيرة لم أجرؤ على نشرها.

(كتابات) في مجموعة “الديك الأعرج” ترصد معاناة الناس مع الحروب والصراعات والموت.. هل الأدب مرآة المجتمع في رأيك؟

  • من الطبيعي بل من الضروري أن يتناول الكاتب واقع مجتمعه على أن لا تكون معالجته لهذا الواقع برؤية محلية ضيقة، العراق لم يعرف في العقود الأربع الأخيرة سوى الكوارث، بالنسبة لي، أكتب عن ما أعرفه، ما رأيته وما عايشته واختبرته شخصياً: الحرب وتداعياتها الرهيبة، الاستبداد والديكتاتورية، الحصار والعوز والجوع، العنف والإرهاب، السجن الذي طالني لستة أشهر لأسباب سياسية في مراهقتي، لا أعرف شيئاً آخر للكتابة عنه.

نعم، الأدب في رأيي مرآة للمجتمع، لكن ليس بمعنى أن الكاتب يحمل مرآة تعكس مجتمعه بصورة آلية، إذ لابد أن يتضمن العمل تعبير عن وجهة نظر الكاتب الخاصة بطريقة فنية، الجانب الأجود في العمل القصصي هو الذي يفصح فيه القاص عن نفسه، السؤال يحيلنا إلى مفهوم (الالتزام) وعدم الالتزام، أرى أن واقعنا الحالي يدعو إلى العودة للتعامل مع هذا المفهوم. من الغريب بالنسبة لي إصرار البعض على الكتابة الشكلية والمغالاة في التجريب، مبتعداً عن هموم بيئته ومشاكلها الملحة.

(كتابات) في مجموعة “الديك الأعرج” هل طريقة عرضك للفواجع التي عاني منها العراقيون صادمة وموجعة للقارئ؟

  • أسعى إلى التأثير في القارئ، إلى إحداث صدمة ودهشة فيه، أحياناً يتكفل الحدث المأساوي ذاته بذلك، وكل ما أقوم به هو إضفاء بعض اللمسات على العرض الموضوعي للمشهد القصصي، لو كان بإمكاني أخذ القارئ من يده ليشهد بكل حواسه ما أعرضه لفعلت، في هذه الجزئية ينجح المسرح والسينما بدرجة أكبر، الأعمال الأدبية والفنية الناجحة هي الناجحة في صدم المتلقي وحمله على مراجعة ما استقر في ذهنه من معارف وتصورات عن نفسه والعالم.

(كتابات) في مجموعة “الديك الأعرج” الشخصيات مقهورة ومستلبة لما؟

  • أغلب الشخصيات الرئيسية في قصصي ضحايا، ولئن كانوا عاجزين عن الفعل والمواجهة فلأن قوى أكبر تتسلط على حياتهم، إنهم أفراد مغمورون، يقفون عراة في وسط عدائي، الفرد مقابل النظام السياسي الاستبدادي، الفرد مقابل النظام الاجتماعي، الفرد مقابل النوازع الداخلية: النفسية والأخلاقية والفلسفية القاهرة، والشخصيات عالقة في هذا الوسط الخانق والمعادي يرتبكون، يهربون أو ينتحرون أو يستكينون مستسلمين، ربما أنا متشائم في نظرتي لمستقبل الإنسان ونظرتي للعالم مأساوية.

(كتابات) حدثنا عن الفن التشكيلي وانجازك فيه؟

  • احترفتُ الفن التشكيلي منذ بداية الحصار الاقتصادي، كنت أبيع لوحاتي – أغلبها نسخ للوحات شهيرة – لقاعات تجارية في بغداد حتى التغيير في عام 2003، شاركت في بعض المعارض وافتتحت مشغلاً وسط المدينة لازلت أعمل فيه، السرد أخذ جل وقتي وطاقتي. أفكر في قصصي كصور بصرية وأكتب كما أرسم، أرى أن هناك وشائج وثيقة على مستوى التقنيات والرؤية الفكرية بين السرد والفن التشكيلي، العملية التي يتم فيها تمثل الواقع الداخلي والخارجي أراها متشابهة في كلا الحقلين، اللون موجود في اللفظ مثله مثل الصوت.

(كتابات) هل واجهتك صعوبات في النشر وما تقييمك لحال النشر في العراق؟

  • لم أواجه صعوبة في نشر نتاجي، وليست لديّ تجربة شخصية مع أي دار نشر ولا أظنني أجيد التعامل مع دور النشر، من المؤسف اضطرار الكاتب دفع مبالغ نقدية لنشر نتاجه، من خلال ما ينشر وما أطلع عليه من مشاكل أصدقائي الكتاب أعرف أن هناك مشاكل بين الطرفين، وأحاول تفهم وجهة نظرهما. الحل قد يكون في استحداث (الوكيل الأدبي) الذي نفتقده في حياتنا الثقافية مثلما نفتقد (المحرر الأدبي) المحترف، إن وجوده  سيضمن حقوق الطرفين ويسهم  في تحسين نوعية ما ينشر، لو كان لدينا (الوكيل الأدبي) فإن ثلاثة أرباع من يكتبون الآن سينصرفون لأعمال أخرى.

(كتابات) في رأيك هل هناك نهضة ثقافية في العراق في الوقت الحالي ولما؟

  • كنتُ أعتقد أننا في العراق مقبلون على (انفجار ثقافي) بعد حقبة الديكتاتورية، لكن ذلك لم يحدث، ربما بسبب أننا لم تتح لنا الفرصة لالتقاط أنفاسنا، إذ دخلنا في دوامات جديدة مهلكة. كلمة (ثقافية) لا تعني في رأيي نتاجات الفن والأدب حصراً بل ترتبط بمختلف نواحي الحياة في المجتمع، ولذا فالنهضة الثقافية لا تتطلب- كما يردد كثيرون- وجود مؤسسات وبنى تحتية فقط، فثمة دول غنية بمؤسساتها وبناها التحتية لا تتميز بانتاجاتها الثقافية. النهضة الثقافية تتم عبر تخطيط  وبناء محكم تسهم الدولة بجانب كبير فيه ويشمل نواحي عديدة كالتشريعات والنظام التعليمي، من الواضح أن هناك نشاطاً ونجاحاً ملحوظين في السرد والشعر، لكننا نتحدث عن (نهضة ثقافية) وليس عن نجاحات فردية لبعض الأسماء هنا أو هناك.

ما يزال الفنان والكاتب غريباً في مجتمعه والدين والعادات الاجتماعية تمارس سطوتها، بل أننا نشهد تراجعاً في حقول المسرح والسينما والرقص، إن مدينة كبيرة وعريقة مثل بابل لا يوجد فيها الآن دور سينما أو بناية مسرح أو قاعة عرض أو مؤسسة ثقافية رصينة، والمبدعون الحقيقيون الذين يعملون في العراق الآن يستحقون أن ترفع لهم القبعة، لذا أنفي وبشدة وجود نهضة ثقافية في العراق.

(كتابات)هل في رأيك تراجعت القصة أمام طغيان الرواية في الوقت الحالي؟

  • أظن أن للرواية حضور ملفت منذ نشأتها منتصف القرن التاسع عشر في أوربا وحتى الآن، ولها قراؤها المتجددين مع التحولات التي مرت بها. إمكانيات الرواية في التحليل والاستطراد وبناء العوالم المتكاملة ومعالجة القضايا والمشكلات الآنية بتوسع وشمولية يبوأها تصدر المشهد الثقافي الآن، وبالإضافة إلى هذا الجانب الفني لا يمكننا التغاضي عن طلب دور النشر المتنامي للرواية والجوائز المغرية المخصصة لها، وأظن أن السرد بنوعيه الأساسيين (الرواية والقصة) معاً يتصدران حالياً المشهد الثقافي وأن الرواية تميل- بصورة عامة- إلى أن تصبح أقصر وهذا يصب في صالح القصة القصيرة التي كثيراً ما يبدو لي أن اختلافها عن الرواية يكاد ينحصر في الطول، فالقصة القصيرة كالتي كتبتها- أليس مونرو- مثلاً ما هي إلا روايات صغيرة، القصة القصيرة قادرة على أن تحقق أفضل ما تستطيعه الرواية وأن تتفوق عليها أحياناً.

(كتابات) هل فكرت في كتابة رواية؟

  • كتابة الرواية تتطلب وعياً وتجربة اجتماعية ونضجاً فنياً ومطاولة (الجهد البدني لا يمكن تجاهله أيضاً) ، محاولاتي كتابة الرواية بدأت منتصف التسعينيات، أتممت واحدة عام 2009 لكنني رأيت فيها أصداءً واضحة لكتّاب وروايات شهيرة، أخطط بصبر لمشاريع روائية وأكتب أجزاءً منها وأركنها جانباً، بعض قصصي في (الديك الأعرج) والمنشورة في أماكن أخرى هي في الأصل مشاريع روائية، آمل أنني سأنشر روايتي الأولى في العام القادم.

(كتابات) ما هي الصعوبات التي واجهتك ككاتب وما هو جديدك؟

  • أغلب الصعوبات التي واجهتني شخصية: عدم التفرغ للكتابة، المزاجية وعدم التزام منهج محدد وصارم في القراءة والكتابة، عدم الرضا عما أكتبه مع شعور أن بإمكاني الكتابة بصورة أفضل وهذا ما يجعلني أحجم عن نشر الكتب.

أعمل الآن على مجموعة قصصية من 15 نصاً طويلاً نسبياً، تمثل تجربة قصصية مختلفة عن مجموعتي الأولى، كما أعمل على نوفيلا لا تتجاوز المائة صفحة، فيها جانب تجريبي على مستوى البناء والزمن الروائي.

نصوص ل”خالد الشاطي”..

قصة أعيدوا لي ولدي..

“أخرجُ للشارع عارية.. كفَّ زوجي عن منعي وصار مَن في الشارع لا يهتم أو يغض بصره. لقد سَقطتْ قذيفة هاون على الخيمة التي كان فيها ولدي. أقضي وقتي في فراشه متلفعة ببطانيته أو أخرج حين أشعر بالحر عارية إلى الشارع. لا يزال فراشه وبطانيته ووسادته محتفظة برائحته أو هذا ما يُخيل إلي. ربما لم أذرف ما يكفي من الدموع، لم أتوسل له أكثر مما يجب. أبوه حاول أيضاً لكنه لم يجبره. ذهبتُ إلى الأولاد: أبناء أعمامه وأصدقائه:

– يا شباب، لماذا تصحبون ابني معكم؟.

قلتُ لهم أيضاً إن الحرب ليست نزهة؛ إن أكبركم لم يبلغ الثامنة عشرة؛ إنكم على الأقل لا تعرفون إطلاق النار ولا تفهمون طبيعة هذا الصراع.

يقولون ويقول ولدي والأب أيضاً إنّ لا خطر عليهم، إنهم في مكان آمن بعيد عن المواجهات، وإنهم يؤدون مهاماً غير قتالية. ويضيف الأب:

– هذه تجربة ستنفعه، ستصنع منه رجلاً، ثم أن أولاد عمه وأصدقاءه معه.

عندما يكون في البيت تكون الأشياء كلها في مكانها الطبيعي، لكن دقات قلبي تظل غير مستقرة. أظل خائفة من أنني حين أذهب لإيقاظه في الصباح سأصدمُ بالخدعة السينمائية التي يلجأ إليها عادةً: وسائد تحت البطانية. وسأظل أنتظر ساعاتٍ اتصاله الذي يخبرنا فيه إنه في تكريت أو الرمادي أو الموصل، وأن فلاناً وفلاناً من أولاد عمه وأصدقاءه معه. ولكي أتوقف عن البكاء يظل يؤكد ويقسم أنهم في مكان آمن بعيد…..الخ ويكتفي الأب بالقول :

– حسناً.. كن على حذر يا رجل.

قد يؤسر وهو في طريقه. مثل هذه الأمور تحصل. إنهم في كل مكان وسيقطعون رأسه أو يحرقونه أو يغرقونه. هل شاهدتم فيديوهات القتل؟ أنا شاهدتها. هل سمعتم حشرجات وصرخات المقتولين؟ إنها لا تغادرني حتى يعود ؟…

لا أخفيكم؛ لسبب ما شعرت بالفرح. حين اشترى من السوق بدلة عسكرية وبسطالاً، أو حين علمتُ أنه يقضي فترة ما بعد الظهر لا في لعب الكرة بل في التدريب في مركز للمتطوعين خارج المدينة. انتابني الفرح أكثر حين قال إنه لا يفكر بأبعد من التدريب. حسناً، في هذا البلد يمكن أن نتفهم أن يكون التدريب على القتال هواية مثل القراءة أو الرسم.

جعلني أقسم أن لا أُخفي حاجياته العسكرية. وذات يوم تلقينا اتصاله الأول. بهتنا جميعا. عاد بعد أيام وشيء ما فيه مختلف. بدا أكثر حيوية ومرحاً وتغيرت لهجته. أظن أنهم يكذبون؛ ابني وأبناء أعمامه وأصدقائه والأب، كلهم يكذبون، إنهم يشتركون في القتال. ذعري من أن يُقتل ابني أضيف له ذعر آخر: أن يكون صغيري قد قَتل.. رجلاً. تسلّلاته الأخرى جعلت الأمر في نظري أشبه بهروب الأولاد من المدرسة للقيام بمغامرة. وكلما يعود أقول له إنني غير راضية عنه، وإن رضى الله من رضى الوالدين. وعندما يتصل يلحّ في أن أقول له إنني راضية عنه، فأقولها لأن ذلك يريحه.

يقولون إن القذيفة التي سقطت على الخيمة قتلت أحد أصدقائه أيضاً.

عندما خرجتُ للشارع عارية أول مرة وأخذتُ أصرخ؛ ظنّ الناس أنني جننت. رأيتُ هذا في عيونهم فعرفتُ أنني لم أجن.

أعيدوا لي ولدي… كنتُ أصرخ…. أعيدوا لي صغيري.. وأسبُّ الناس كلهم والأديان والسنة والشيعة والله والحرب والرجال والعالم.. أعيدوا لي ولدي…

***

قصة تلك الليلة..

“ليلة زواج حميها؛ رقصتْ جارتنا أم رشا في الحفل.. آنذاك، كانت الحفلات تقام في الشارع؛ تحييها فرقة شعبية. وكنت وأصدقائي نحرص على الحضور لنستمتع بالغناء ومشاهدة الراقصات الغجريات والمعارك التي ستحدث حتماً بين السكارى أثناء الحفل أو بعده… ظهرتْ أم رشا فجأة وسط الساحة الدائرية، وعلى وقع الموسيقى الشعبية الصاخبة راح جسدها الجميل المكتنز يتلوى ويتمايل برشاقة وغنج. خجلها الذي توارى – وإن لم يختفِ كلياً – إزاء واجب اظهار فرحها أمام عائلة زوجها؛ أضفى على رقصها وابتسامتها سحراً وجمالاً آسراً. ولبضعة ثوان؛ راقصها زوجها الثمل؛ الذي عاد من الأسر منذ شهرين. ولم يجرؤ أحد آخرعلى الإقتراب منها… لم يدم رقصها أكثر من دقيقة؛ خيم على الجميع خلالها صمت وسكون مطبقين إلا من تأففات وتنهدات حارة كنت أسمعها تنطلق على استحياء من بينهم. رأيت الذين كانوا يكثرون المرور في شارعنا ليحضوا برؤيتها يعضون شفاههم بقوة. كان ما يجري أكثر بكثير مما يأملون. كل العيون كانت تحدق فيها وبدا أن لا أحد يصدق ما يرى.

سبعة شجارات عنيفة حدثت بعد ذلك؛ افتعلها السكارى فيما بينهم. شُجَّت رؤوس وطعنت أجساد. كُسِّرتْ قنانٍ وتطايرت كراسٍ… كنتُ أعي بشكل غامض ما حدث لهم؛ لأنني شعرت بما شعروا به؛ لكنني لم أعرف كيف أبينه لأصدقائي.. ترى: ماذا كانوا سيفعلون لو أنهم رأوها عارية؛ عارية تماماً كما رأيتها أنا؟!

كانت أم رشا نذرت إن عاد زوجها من الأسر أن تمشي في الشارع عارية تماماً، ولما عاد بعد انتهاء الحرب ترددتْ في إيفاء نذرها فحذرتها إحدى العجائز من اللعنة، ولما كان لبيتها بابان يطل كل واحد على شارع؛ اقترحت العجوز عليها أن تخرج عارية تحت جنح الظلام من أحد البابين لتدخل في الآخر فاستحسنتْ أم رشا اقتراحها ووعدت بتنفيذه تلك الليلة.

كانت ليلة باردة مقمرة. كمنتُ بعد العشاء خلف سياج سطح بيتنا، ومن شق فيه يتيح لي رؤية بابي البيت رحت أرقب البابين دون أن أشيح بصري عنهما. بعد ساعة أقفرّ الشارعين تماماً لكن أم رشا لم تظهر. مرت ساعة أخرى ظننتُ بعدها أنها ربما أقلعت عن تنفيذ نذرها الليلة أو ستظهر قبيل الفجر. خشيتُ أن يداهمني النعاس بيد أنني لم أكن أشعر إلا بالخدر وبقليل من التعب.. وقبيل منتصف الليل أطلّ رأس من أحد البابين لكنه لم يكن رأس أم رشا بل رأس عمتها! حين تأكدتْ أن لا أحد في الشارع مضتْ حتى زاوية الشارع وألقتْ نظرة على الشارع الآخر قبل أن تهمس بكلمات لم أسمعها. عندئذ خرجت أم رشا عارية تماماً. تسللتْ على أطراف أصابعها بخطوات صغيرة سريعة وتوقفت لحظة عند الزاوية قبل أن تواصل خطواتها نفسها وتدخل الباب الآخر.

ذهبتُ إلى الفراش واندسستُ فيه. كان قلبي ينبض بعنف وذهني يعيد مشهد العري الهارب والمبهر مرة تلو أخرى. كنت أتخيلها تدخل فراشي، حتى أنني كنت أفسح لها مجالاً فيه؛ فنتبادل العناق والقبل الطويلة بلهفة عاشقيَن، أدسُّ رأسي في ثنايا الجسد الفاتن؛ أقبّل صدرها؛ خصرها؛ رقبتها البديعة بنهم حتى أصابني الإعياء والصداع وراح جسدي ينتفض كمقرور.. حين صحوت كنت محموماً ومنهكاً. تقيأت عدة مرات وأخذني أهلي إلى المشفى… دام مرضي ثلاثة أيام.

قبيل حفل العرس بأيام؛ أستغل شبان في شارعنا خلو بيت أحدهم؛ فأحضروا عاهرة. لم يسمحوا لي ولأصدقائي بالدخول رغم إلحاحنا لأننا مازلنا في نظرهم أطفالاً. بدل ذلك ورغبة في العبث أدخلوا هاشماً المجنون وهو شاب في الثلاثين وطلبوا من العاهرة أن تتودد له. راحت تداعبه وتلاطفه حتى تهيج فانتابه الذعر وهرب من البيت وراح يركض في الشارع جيئة وذهاباً لا يلوي على شيء وهو يصرخ بأعلى صوته كأن النار تلتهمه. وحين كانوا يقهقهون كنت أنا واجماً مضطرباً.

حين رأيت أم رشا ترقص بدأت أشعر ببوادر أعراض غريبة. كان جسدي يضغط على روحي ليتنفس. لم أكن أعرف ما الذي يحدث فيّ ولا كيفية الخلاص منه. كان السكارى المجروحين والمرضوضين قد استكانوا وبدأوا ينصرفون بهدوء. كنتُ خائفاً. ولكي لا أمرض ثانية؛ ولكي لا أشرع بالركض والصراخ كالمخبول مثل هاشم؛ أخذتُ قطعة زجاج مما تهشم من قناني السكارى وابتعدت عن رفاقي… وعندما راح الدم يسيل من الجرح الذي أحدثته في ربلة ساقي؛ بدأت أشعر بتحسن.. هكذا إذن!….. لكن، كم جرحاً عليً إحداثه في جسدي، فيما بعد؟”

 

 

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب