10 أبريل، 2024 8:56 م
Search
Close this search box.

مع كتابات..”حميد بن عمره”: الكاميرا سلاح ودرع وصاحب وذاكرة، إنها الحامي والمبصر والقارئ

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص: حاورته- سماح عادل

في فيلمه “حزام” تستطيع أن ترى وجوه النساء وهن يعبرن عن علاقتهن بالرقص وكيف قربهن من ذواتهن، وجعلهن يتواصلن مع جسدهن بشكل أجمل، ترى ملامحهن وهي تصبح أكثر صفاء، حين يتحدثن عنه. أما في فيلم “هواجس الممثل المنفرد بنفسه” تبهرك مشاعر الممثل وهو يتنقل ما بين ما قد مضى وما هو آت، وهو يتحسر على العملة الجزائرية التي كانت تشتري الكثير، وهو يحاول إعادة قلبه إلى صدره، بعد أن خرج محملا بالوجع ليرقد جواره.

“حميد بن عمرة” مخرج ومؤلف جزائري.صدر أول شريط روائي له عام ١٩٨١ بالجزائر، بين عامي 1981 و1985، أخرج ستة أفلام روائية قصيرة وطويلة عرضت بمتاحف السينما بالجزائر وبروكسل إلى جانب مهرجان فسباكو. رأس لجنة تحكيم الطبعة الثامنة عشر 2021للمهرجان الإفريقي بمدينة “كان”،عرض فيلمه “زمن الحياة” بمهرجان موسكو السينمائي عام 2019. وعرض في التلفزيون الروسي يوم 16 أبريل 2021. في 2019 ترأس أيضا لجنة تحكيم فئة الأفلام الوثائقية بمهرجان يالطا بروسيا. ومن أبرز أعماله فيلم “شيء من الحلم، شيء من الحياة”، “زمن الحياة”، “هواجس الممثل المنفرد بنفسه”، “حزام”.

كان لي معه هذا الحوار الشيق:

* وصفت فيلم “تايم لايف” بأنه فيلم روائي يستعمل الواقع لصقله في قالب روائي بحت، هل كنت تصنع الفيلم وأنت متورط فيه على مستوى الإحساس والمشاعر؟

السينما بذاتها تعامل مع الوجوه وحميمية مستمرة مع مشاعرهم ومنه تورط في أسرارهم ومخاوفهم وهواجسهم. لم أصف أفلامي بشكل معين وانما أرد على من يصف ويقنن ويعزل ويرتب دون علم.

بفيلم “تايم لايف” المشاهد الواقعية الوحيدة كانت تلك التي خصصت للحظات الإنجاب. كان العقد بيني وبين ستيفاني كان أن نخاطب بعض. إنها المشاهد الوحيدة التي لم أتدخل في “ميزانسينيتها” اطلاقا. فالألم كان كبيرا ولم تتعاط أي مخدر أو دواء عازل للألم. لقد جعلت مني القابلة والمصور والأب والزوج والحامي لروحها. أنها أكبر من أي مسؤولية إخراج لأن تدخل عالم المرأة بقلبك وجوارحك وتنسى من أنت لتصير جزأ من الآخر.

إنه الفيلم الوحيد الذي لم أشعر أني أخرجته بل الفيلم الذي أدخلني إلى عالم الأنوثة المطلق. الفيلم تكملة لفيلم “حزام”. البطن هنا يظهر ويفصح عن باطنه فنخرج من الرقص للدخول إلى الحياة.

لكن شخصية الحامل ترمز لحمل شخصيات تحيطها والتي كانت تتمخض بمشروع فيلم أو هجرة للغرب.

مرة أخرى يتبلور دور محمد ملص ليكبر بهذا الفيلم وليأخذ من فضاءه أكبر جانب وليفرض حضورا “أيزن شتانيا” ملهما.

لذا نجد شخصيته بفيلم “هواجس الممثل المنفرد بنفسه” حيث أذكره في لقاء بمهرجان قرطاج لعام 1992 ومنه استحوذ على شاشتي بفيلم “حزام” حيث تفرد بكونه الذكر الوحيد الذي منحته الكاميرا حق التنظير والتعليق وإفشاء بعض الأسرار. لكن عندما عاد بفيلم “تايم لايف” كان عملاقا ينحدر من جبل شامخ ليروض العدسة حسب مقامه.

“تايم لايف” النجم فيه هو “الحب”. حبي لستيفاني التي ألقبها بفريقي الوطني وحبي لمحمد ملص الذي ألقبه بأخي الأكبر وحبي للسينما، موطني وجنسيتي.

أنها سينما الحب التي يخاف منها أقزام “نكاد” العرب. الحب لا يمكن أن يدخل القلوب التي بها علة.

* ترفض تصنيف أفلامك بأنها أفلاما وثائقية، وتعتبر ذلك التصنيف تضييق لأفق السينما الرحب الذي تتحرك فيه، كيف يمكن أن تصف أفلامك وتصنفها؟

– ليس هناك رفض و لا رضا بل هناك قراءة عاتمة وضيقة ومحدودة البصر لعملي من طرف الإعلام العربي العام والشرقي خاصة.  السؤال البسيط هو: لماذا هناك ترحيب بأفلامي بروسيا وكازاخستان وبلغاريا؟ هل الناس هناك مصابون بالعمى حتى يحتفلون بسينما مصنفة عربيا بالتجريبية تارة وبالمتعالية مرات كثر؟

العنصري يحتاج لاتهام جروه بالكلب حتى يقتله والفاشي يتهم المغترب بمستهلك لخيراته حتى يطرده والأناني يتهم الآخرين بالتآمر عليه.

إنهم لا يرحبون بأفلامي لأنها قد تخفي الكثير من أفلام عشيرتهم وفقط.

بمهرجان موسكو الأخير عندما قدمت فيلمي الأخير “كيوكو، موسم حصاد الأحلام” قلت للجمهور: “الكثير لا يحبون موزارت لكن لا أحد يمكن أن يقول أن ما قدمه ليس بالموسيقى” لم يخالفن ولن يخالفني أحد بهذه المسلمة.

أعرف أن ما أقدمه سينما جيدة. لهم الحق في كرهها لكنهم لا ولن يقدروا أبدا أن يصنفونها بالرديئة.

“من هندامه من التبن يخشى النار” لذا تجد الشخص الذي يصنف وفي التصنيف عزل ومنع، يقوم بهذا لأغراض نفعية عنصرية.

السينما لا تعترف بالحدود بين الوثيقة والأرشيف والميزانسين واللقطة المختلسة إذا كان السرد متماسكا ويصب في مصدر واحد ومن وعاء واحد.

السينما لا تحب البخل لذا تجدها عندي كريمة واسعة ترحب بالوجوه العميقة الأبعاد.

الجمهور ذكي حتما ولايقرأ الفيلم بأدوات الفيزياء أو الرياضيات وإنما بحدسه وقلبه وجسده. الجمهور لا يتفنن في عد كم لقطة مرة وكم أخري باقية. الجمهور لا يتساءل عن ضرورة وجود اسم ما أو غيره بالفيلم؟ الجمهور هو أصدق ناقد منذ وجود السينما. لكن هل المتعود على أكل الهامبرغر والشاورمة يمكن أن يتذوق الطهي الرفيع في مطابخ العالم ذات الثلاث نجوم؟ وهل الأمي نحويا قادر على تذوق قافية المتنبي أو محمد درويش؟ الجمهور ذكي لكنه يحتاج أن تحترم ذكاؤه المختلف في مدينة إلى أخرى ومن ثقافة إلى أخرى.

لذا تجدني لا أبسط ولا أطرح الأمور بسذاجة حتى أتأكد أنه سيفهم. ليس هناك فهم بالسينما أبدا لأنها ليست كيمياء وبيولوجيا. الفن يحاكى ويواكب يتغزل به ويعشق وكل بحرفه وذوقه وحدقته ولمسته يدرك ما بدى هاما أو ضروريا أو مجديا لحياته ولروحه.

* الكاميرا تصاحبك خلال يومك، تصور من خلالها لقطات وصور تعرف أنها مخزون ثري لأفلام قادمة وأفكار.. منذ متى بدأت تعيش أيامك بصحبة الكاميرا؟

الكاميرا سلاح ودرع وصاحب وذاكرة. أنها الحامي والمبصر والقارئ. من خلالها أفصل بين اللامع والمشرق وبين المظلم والداكن وبين الرشيق والمختال وبين النرجسي والمتمكن وبين المثير والجميل وبين المتين والصلب وبين الحاضر والمتباهي بذاته. أنها القلم والحبروالمحبرة. الكاميرا مخدعي ووطني.

أنا لا أخزن المواد مثلما يفعل موظف البنك بالأوراق النقدية وانما أخمر من الحياة موشحاتها وأقطرها في إطار يحدد بشفرة حادة لا ترحم.

أن تصاحب البندقية الجندي أمر عادي وأن تصاحب السماعة الطبيب أمر مماثل فلماذا مصاحبة الكاميرا للمخرج أمر غريب؟ فالميكانيكي لا يفارق أدواته ورجل المطافئ قريب للماء أكثر من غيره. فلماذا السينمائي يستغرب أن يكون حاملا لعدسته حتى في يومياته العادية؟ هل يسأل الناقد عن مصاحبته القلم في تنقلاته؟

* السينما بالنسبة لك سرد، ترتبط بهواجس الذات وتخيلاتها ورغبتها في التعبير، هل يمكن القول إن أفلامك يتم استقبالها بشكل جيد ولها جمهور واعي بسحرها وتفاصيلها؟

– السرد عندي يتعدى الأبجدية والنوتة ويحاول بلوغ متاهات بصرية مرصوصة الاطار والبنية. السرد ليس حكاية أو قصة. القصص للأطفال لجرهم إلى النوم. كنت أدرك هذا منذ الصغر حين كانت جدتي تقودني للنوم وكنت أتحايل عليها وأبدي نعاسا للتخلص منها وبعدها افتح كتابا حول السينما أو موضوعا يفتح شهية الحلم. السرد نسيج مجهري يخاط بالحرير وإبرة يدوية ماهرة في دقة الطرز. إنه بناء متماسك من الحلفاء أو الحجر أو الأسمنت أو الجريد. البناء هندسة وتنفيذ محكم قبل أن يكون زخرفة وفسيفساء. البناء ذهني قبل أن توضع الأسس على الأرض. كلما كان الشكل جلي بقلبك ومخيلتك كلما كان التنفيذ سريعا ودقيقا.

* الأم كان لها دور كبير في تكوين شخصيتك، احكي لنا عن تأثيرها عليك؟

– ليست الأم المنجبة فقط بل النساء جميعهن انجبنني ومازلن يعدن إنجابي كلما تعثرت أو أخفقت. إنهن المعلمات الأبديات لشخصي. أنوثتي جعلت من الرجولة أيقونة ومن العضلات قامة ومن الشنب رمزا ومن الصوت خطابا ومن الأعضاء راية ترفع لهن دوما أينما كن.

الأنوثة هي نغمة السينما التي أرتوي منها و”البورتريه” الذي أستلهم منه الرحيق السري الذي يتنقل من لقطة إلى أخرى. الأنوثة طعم يلامس الروح فتتذوقه كل أعضاء الجسد. أنها البريق الذي يفاجأ أفقك ويعلق بصرك لزمن لا تحدده عقارب ساعتك.

*السيناريو والحوار تصنعه بنفسك الفيلم هو صناعتك الكاملة دون تدخل من أحد هل هذا صحيح، وهل فكرت يوما بالاستعانة بكاتب سيناريو أو شركاء آخرين؟

– ستانلي كوبريك لا أحد يسأله أن كان القاضي والخصم والمحامي والنائب العام في آن واحد و هذا في كل أعماله. “تيرانس مالك” و”غودار” و”كريس ماركر” و”برغمان” وكثيرون بالغرب لم يسألهم أحد عن مهاراتهم المتعددة.

كوبريك يصور ويكتب ويركب ويتدخل في كل رمشة عين بالفيلم.

طرح هذا السؤال مرارا وكان الرد نفسه حتى وإن كانت النية فضولية دون أي خبايا مجهولة. أن المتبختر بسيارة “فيراري” أو “لامبورغيني” بجزيرة ثرية عربية يجهل كل شيء عن مكابس المحرك، و”قاطف الزهور في نزهة ليس حتما مصمما للعطور” كما يقول الراوي بفيلمي الأخير. التمكن من المهنة يرغمك أن تفقه في الكرة والطهي والرسم والموسيقى والزندقة والفلك والدين والخياطة والعدو الريفي والحواسيب والأخلاق والسياسة والخبث والطيبة.

أن تكون قادرا على استيعاب مهنة المركب والمصور ومهندس الصوت يزيد فقط من احترام الآخرين لك لأنك تقدر جهودهم وتعرف إلى أي مدى يمكن اقتناء الأشياء منهم.

لماذا لا يطلب من الموسيقي أن يعزف في مكانه شخص آخر يوم الحفل وأن يكتفي هو بوضع اسمه بالملصق حتى يصفق له الناس دون أن يعزف شخصيا نوتة واحدة؟ هذا لن يحدث مثله مثل الرسام والكاتب والنحات ومهن أخرى، عدا بالسينما فإن ما أشاهده على الشاشة غالبا ما يكون المنفذ للصورة ليس من يدعي أنه فيلمه وأن ما أسمعه تم تسجيله من طرف شخص يظهر اسمه بنهاية الفيلم لكنه لا يدعي أن ما سمعناه من فيلمه الشخصي. أن يعطي شخص أوامر لعدد من التقنيين كي ينفذوا مهمة معينة ويوضع بعدها اسمه في أول ونهاية الفيلم وأن يبقى هذا الاسم مرتبطا بعنوان الفيلم وهويته أمر لا استسيغه بسينما المؤلف.

طبعا أقبل هذه المسلمة بالفيلم التجاري البحت ولا أجادلها لكن أن تخاطب جمهورا بقيمة فنية شاعرية وألا تنفذ حتى الصورة التي هي أساس السينما فلا أفهم ولا أتفهم هذا المبدأ.

“أم تزيغا فيرتوف” الروسي عندما أنجز فيلمه “رجل الكاميرا” كان فيه السيناريست والمصور والمركب. الفيلم يدرس بكل جامعات العالم ولا أحد يسأل عن تعدد الخبرات عنده.

* في فيلم “حزام” تصوير للأنثى وهي في حالة الرقص والحمل وانتظار حياة أخرى تنبض بين أحشائها، وأيضا فيلم “تايم لايف” كانت البطلة والشريكة تنتظر مولودا، هل تحتفي بالحياة التي تتشكل في أحشاء الأنثى بطريقتك الخاصة؟

-فيلم “حزام” الذي عرض بمهرجان القاهرة عام 2016 والذي ترك أثرا جميلا على المشاهد المصري تم تصوير في خلال 16 عاما كاملة. أي أنى عاشرت الراقصات في حركاتهن كل هذا الزمن وتعلمت كل تقنيات الرقص جسديا ومازال جسدي قادرا على تنفيذ جلها. قمت بهذا التدريب خلسة كلما رجعت إلى البيت وكلما شاهدت المادة الخام حتى أعرف تدقيقا تفاعل كل مفصل وكل عضلة كي يتسنى لي تصوير الأنوثة بعين لا ترغب ولا تغازل الراقصات وحتى لا يرهقهن الاحتراس من رجل بعين القناص يترقب كل اختيال مهن.

فيلم “حزام” ليس أساسا حول الرقص كما يظن الكثير بل موضوعه الأساسي هو الفارق بين الحياة والموت. أنه فيلم حول الحب الباطن والسرة التي تمثل الأنا العميق وفكرة الحمل السرية.

بفيلم “حزام” هناك رجل واحد من بين ثلاثين جنسية لنساء من كل بقاع العالم يعبر عن علاقته بالأم والأرض والحب، هو أخي الأكبر محمد ملص.

حسدني على علاقتي به الكثير من الأعراب والكثير من “نكاد” السينما وأكثرهم من المخرجين الذين تفننوا بعزل الفيلم من النتائج التي كانوا بها أعضاء تحكيم.

محمد ملص أيقونة من السينما العربية يقلق عددا أكبر من الجهلة والكافرين بالسينما الجيدة التنفيذ.

الفكرة الجوهرية الكامنة ببطني بفيلم “حزام” هي أني مثلهن في تعاملي مع جوهر الحركة لكوني آت من الكاراتيه ومن هذا الفن القتالي المعتمد على قوة البطن المعروفة يابانيا بال “هارة”. لذا حزام الراقصة مرتبط بحزام الكاراتيه ولأن هذا الحزام أقوى من الحزام الناسف.

فيلم “حزام” ليس نسويا بل أنثويا. أنه الفيلم الذي أظهر فيه علاقتي بالجسد الباطن والجسد الظاهر وعلاقتي بالغزل والحب.

* عليك مآخذ على المهرجانات السينمائية خاصة المهرجانات العربية، وتشير دوما إلى وجود اتفاق ما حول نوعية الأفلام التي تقبلها تلك المهرجانات وعلى تكريس أنماط معينة من الأفلام التجارية ورفض ما هو مختلف وجديد.. حدثنا عن ذلك؟

– مهرجانات العرب ليس بها لجان مشاهدة حرفيون وموضوعيون وإنما يتصرف بمعظمها أشخاص لا يفقهون بالمادة الفيلمية. أتحداهم أغلبهم في مناظرة علنية أن يمكثوا أكثر من عشر دقائق.

طبعا هناك حالات خاصة هنا وهناك حيث تجد فرقا تحترم المخرج والمنتج والممثل وتقدم عروضا هامة بجودة عالية مثل مهرجان الرباط لسينما المؤلف. لكن تبقى هذه الأماكن نادرة ولا يمكن أن تستوعب كل ما جد بالعالم.

غضبي لا يتعلق بشخصي بل بعلاقتهم بجماهيرهم التي يكرهونها لأنهم لا يقدمون لها الأمثل والأجمل والأذكى بل يكتفون بأفلام الشاورمة والغبار.

لو كانت هذه اللجان تحب فعلا جماهيرها لما كانوا يبرمجون الكليشيهات ولما اكتفوا بأفلام بعض من الرجال والنساء.

مهرجانات العرب أغلبها تبادل مستمر للفنادق وتذاكر الطائرات. إنه بزنس ترفيهي تجد كل سنة نفس آكلي اللحوم وشاربي البيرة في نفس السجادات الحمراء.

يمكنني أن أقدم قائمة كاملة بأسماء ثابتة لبعض المهرجانات ولبعض من سيقدم عليها دون فيلم أو مهمة أو أي تبرير عدا الترفيه.

السكوت عن الفساد تواطؤ والسكوت عن الخبث عهر والسكوت عن العفن وسخ دماغ لا يغتسل.

ولأني لا أخشى فقدان سريرا بفندق أو تذكرة طائرة فإنهم اتحدوا على عزلي وهم يعرفون أن أفلامي جيدة شكلا ومضمونا وأني لا أقول سوى الحق.

فلماذا مهرجانات الغرب وفية للمخرجين وللأفلام التي تعرض بها. مهرجان “كان” لا ينسى مثل مهرجان القاهرة أن يستدعي كل أربعة أو خمسة أعوام مخرجا قدم فيلما به. ولماذا مهرجان قرطاج لا يعود لقائمة من عرضوا منذ سنوات ويستدعى من الأسماء التي شاركت سابقا أعضاء بالتحكيم أو لعرض أفلام جديدة به. لماذا منذ 10 سنوات حرم علي هذا المهرجان التونسي رغم إدارته من طرف أربعة أشخاص مختلفين؟ هل هناك قوائم سوداء بالقاهرة التي لم أدخلها منذ 2016؟ رغم أني أنجز فيلما جديدا كل سنة. لماذا تتعامل مهرجانات العرب مع السينما كأنها كرة قدم “بهوليغانية” بشعة؟

مهرجانات الغرب لا يهمها أن كنت مثليا أو نازيا أو خمارا أو متدينا إن كان فيلمك جيدا. لا يهمهم رأيك في بوتن أو في صدق خطوات الإنسان على سطح القمر أو إن كنت تؤمن بكروية الأرض إن كان فيلمك جميلا لجمهورهم.

بالبلاد العرب لا يجب أن تعلق على صفحات “النكاد” وصفحات المبرمجين ومدراء المهرجانات. أي تعليق لا يعجبهم تسحب منك الفيزا إلى الأبد. إنها ديكتاتورية تقمع كل تعبير حر مهما كان الموضوع. لا يرضون عليك إلا إذا انحنيت وسكتت عن اختياراتهم وعن نتاج تتويجاتهم وألا تبخل بأي “لايك” عندما ينشرون وجوههم البائسة وأن تجامل كل مفردة وهمزة وغمزة صادرة من عقولهم اللامعة.

* تقوم بعمل ورشات سينمائية، هل تسعى لأن تنشر فكرتك عن السينما ليصبح لها مريدين من صناع السينما الشباب؟

– الورشة مفهوم غربي مفاده صقل جيل وتعليب أفكاره لكني عندما أقوم بهذه المهمة أول ما أركز عليه هو الخروج عن السرب.

ما يقلقني الآن هو تلك الورشات التي تقام لإعادة توجيه الأفكار الأصلية والأصيلة وإخضاعها لمسار سياسي مقرر مسبقا والتي يصادق عليها أصحابها لأنها مصحوبة بمنح تساعد على إيجاد دعم لإنجاز الفيلم. أي أن هناك مهرجانات صارت تبرمج أفلاما مسبقا تكون فيها هي الأفلام وهي بيضة لم تفرخ بعد. هذا المنطق النفعي لا يسمح للأفلام الخارجة عن القطيع أي فرصة للظهور. أي أن الورشات صارت الزنزانة الأولى التي يتنقل منها المخرج الشاب للوجود إلى معتقل المهرجان الذي يكون قد بلور وصقل وحدد كل جوانب السيناريو والذي يجعل منه نجما لفترة ما طالما لم يجد له بديلا.

الورشات التي قمت بها كان الموضع فيها حول حرية التعبير وعدم الخضوع إلى اللوبيات المتفشية في البلاد الغربية والعربية والإفريقية. يبدو أن الفساد لم يصل بعد إلى البلاد الأسيوية بالسينما. لأن الأماكن التي أعرض بها لا أتنازل فيها عن قميصي ولا عن سروالي أبدا.

الورشة قد تبدو مغربية لسرعة التعلم فيها إن كان صاحبها ذو منهجية وصادق في تقديمه للأجمل من خبرته لكنها فخ قاتل إن ارتبطت بدعم يخشى المتربص فقدانه.

* تقوم بالمشاركة في مهرجانات سينمائية وخاصة في روسيا، كيف كانت رحلتك في التواجد على الساحة وهل واجهتك صعوبات لتظهر أعمالك للنور؟

– ليست لي أي صعوبة لعرض أفلامي لأن المكان مرتبط بجودة المشاهد. لكن هناك صعوبة بل وانعدام لعرض أفلامي للمشاهد العربي. أي أن الموضوع معكوس تماما إلا بذهنية الذين ذكرنا ذكاءهم الحاد أعلاه والذين يحرمون أجيالا كاملة من التعرف واكتشاف سينما عربية إفريقية جيدة.

الجمهور عندي لا يحمل جواز سفر وليس له لون معين أو دين معين. إنه حساسية وذكاء وإنسانية متفتحة قادرة على استيعاب المادة الفيلمية دون قيود.

فبأي حق يحرم الجزائري والمصري والتونسي والمسقطي واللبناني من سرد ونغمة وإيقاع قد يغرس في ذهنيته وروحه ووجدانه حبا رفيعا ونورا مشرقا؟

* هل تأثرت السينما بكل تلك التغييرات في العالم سواء على مستوى الفوضى الكبيرة والأحداث المضطربة من أوبئة وحروب وصراعات أو على مستوى التطور التكنولوجي الهائل ووجود وسائل تواصل اجتماعي وفيديوهات يوتيوب ومؤثرات بصرية كثيرة لحد التشويش؟

– هل تأثر المذياع أو الراديو بالتلفزيون؟ وهل تفاعل “صندوق العجب” بالشاشة العريضة بقاعات السينما وغير السرد الدراميوهل استلهم انستاغرام ضجيجه من فيس بوك؟ وهل النت ليس إلا وسيلة لتدجين العقول؟وهل الكتب ستتوقف عن الطبع أمام القرصنة الهمجية؟وهل حروب الصليبيين مستمرة في رغبتها في السيطرة على الموارد الروسية؟ بعد الاستيلاء على ليبيا والعراق؟ التفاعل حتمي من جهة كما يمكن تفاديه إن كان المخرج حريصا على البقاء خارج التيار. اليابان تحافظ على تراثها أكثر من البلاد العربية رغم تقدما السريع تقنيا وتأثيرها على مسار الحياة العالمية باكتشافاتها العلمية الكبيرة.

وهل الحفاظ على القالب العربي والشاعرية الأندلسية والتوابل المغاربية والهندام الدمشقي تخلف أم هوية وعرق ونسب وانتساب إلى حضارة ومعرفة أقدم من بريق ناطحات السحاب النيويوركية؟ فاليمن المتآمر عليه اليوم كان سباقا في الهندسة والمعمار والجزائر القديمة في نشأتها من أوربا تعرف البحار والعلوم قبل غيرها من شوارع باريس وتونس والمغرب ومصر والعراق وفلسطين والأردن مصادر جميعها للفلسفة وعلوم كان يجهلها عالم أروبا وحتى النت الحالي.

التأثر والتأثير حتميان لكن الحفاظ عن المصدر ضرورة. السينما التي تراودني لا تنزوي ولا تلهث. لا أريد سردا نخبويا لا يفسره إلا النابغة كما لا أريد سردا عاهرا يركض وراء جوائز الملوك الفارغة.

وهل التوقف عن استعمال المادة الفيلمية الخام بعيار ال 35 مم غير نوع اللقطات رغم أنه غير تماما كيفية الإضاءة؟ وهل منصات العرض بالنت تأثر عن نوعية التمثيل؟ وهل المسرح عانى من قدوم “شابلين” و”بستركيتون”؟

لأن الاحتفاء بشكسبير بالمسارح مازال مصدر إلهام الممثلين ولأن المذياع لم يتوقف بثه بسياراتنا اليومية ولأن الكتب مازالت المعارض تقام لها كل عام.

أن غسيل الزرابي مازال يدويا وأجود مفعولا وغسيل الأواني أكثر نظافة باليد من الغسالة الآلية والطبخ في الأواني النحاسية القديمة على نار من حطب مذاقه نادر وأصيل.

ما يسمى تغيرا بفضاء الإعلام عامة ليس إلا تشويشا كهرومغناطيسي مرهق للأذهان وما يعرض على الشبكة ليس إلا غسيل للأدمغة بهدف تخديرها وخلق نوع جديد من الشعوب القابلة للجلد دون رفع أي مخلب للمقاومة.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب