حاورته – سماح عادل :
“حميد الربيعي” قاص وروائي عراقي، عاش منذ عام 1979 متنقلاً بين الكويت وبلاد المغرب العربي والنمسا، وعاد مرة أخرى لبغداد بعد 30 عاماً من الارتحال، وهو عضو اتحاد الأدباء في العراق، وعضو نقابة الصحافيين.. غادر العراق عام 1979 إلى الكويت، وعمل محرراً لجريدة “الوطن”، ومجلة “الطليعة” في الكويت.. كتب أول قصة له عام 1976، وعمل مسؤولاً للبيت الثقافي في النمسا.. من أعماله: (تل الحرمل، مجموعة قصصية، سفر الثعابين، رواية، 1987، تعالى وجع مالك، رواية 2010، جدد موته مرتين، رواية 2012، دهاليز الموتى، رواية 2014، أحمر حانة، رواية، 2016).. حاورته (كتابات) عن رواياته وعن بغداد..
(كتابات): في رواية “دهاليز للموتى” تناولت الحرب العراقية الكويتية.. ظلت الرواية سنوات كثيرة حتى طبعتها.. هل هي جرأة في تناول الأمور الشائكة ؟
- رواية (دهاليز للموتى) استغرقت كتابتها ونشرها حوالي ثلاثة وعشرين سنة.. إذ أتذكر أن أول سطر كتب منها كان عام 1991، قبيل بدء الحرب بشهر وكنت أجلس في شرفة بيت في منطقة الجابرية بالكويت، وانتهت الرواية في بغداد في عام 2014.. كنت حريصاً جداً على دخول هذا المعترك من ناحية الأمانة، فأنا قد عشت وقائع الرواية في الكويت، كنت متلهفاً إلى أن تظل الرواية ساخنة نتيجة الأحداث المتتالية ما بين دولة الكويت والعراق، فكلما أنوي طبعها يقع حدث ما، يوتر الأجواء ما بين البلدين، وانا أردت أصلاً للرواية أن تكون “قناة معرفة”، تقرب ما بين الشعبين.
تتبعي لهذا المسار الطويل في العلاقة الشائكة ما بين البلدين، جعلني في خضم الحدث أولاً وحملني روح جرأة التناول ثانياً.
(كتابات): احتفى النقاد بسردك الروائي وتجديدك به.. حدثنا عن ذلك ؟
- دائماً ما أثير الزوابع في طرحي للمواضيع الجديدة أو الثيم غير المستعملة، وما أكثرها لدينا.. كذلك أي كتاب أصدره يكون محل نقاش متواصل، من ناحية طبيعة السرد أو اللغة أو الإشكال الفنية، التي أطرح بها رواياتي، هذا ناتج من الاهتمام لدى النقاد بما أكتب، وأيضاً بسبب نوعية الكتابة التي أتناولها في أعمالي، فأنا غالباً ما أدعو إلى تجاوز كل المعوقات الفنية أو الاجتماعية، التي تحول دون انطلاق الرواية إلى فضاءات جديدة ومبتكرة.
الاهتمام في مجمله من ناحية الدراسات المعمقة، التي تتناول أي إصدار جديد لي، أو في تتبع مسيرتي الروائية كمحصلة، بالإضافة إلى المتابعة الصحافية المستمرة من قبل وسائل الأعلام المرئية أو المكتوبة.
(كتابات): الأسطورة تشغل مساحة هامة في أعمالك.. لماذا ؟
- ليس الأسطورة وحدها.. بل يرافقها دائماً الموروث الشعبي من الأغاني والحكايات إلى المخزون الجمعي في الذاكرة للأجيال، وذلك لأنه القيمة المعرفية لأي شعب كان، فالأسطورة هي الشكل الحياتي الذي جابه به الإنسان الأول مشاكل العالم والغيبيات، في محاولة لمعرفة وتأويل ما يحدث، لأنه كان بحاجة إلى المعرفة وفتح أفق الحضارة والتطور.. مازلنا نحن بني البشر ساعون بهذا الاتجاه، فرغم كل التطور العلمي الحاصل، إلا أننا نبحث عن الخلاص، وإن اختلف الآن عما كان عليه أيام الأساطير الأولى أو بدء الحضارة البشرية.
(كتابات): التاريخ يسكن سردك الروائي وتستعين به وبعض شخوصه كأبطال.. تشكلهم كما تريد.. لم هذا الشغف بالتاريخ ؟
- ليس التاريخ كمادة تملأ المجلدات ولا الأحداث التي جرت به.. أنما أنبش في الحكايا التي تحمل مقاربات مع واقعنا الراهن، بما يقرب الوقائع أو يجعلها في تناص مع بعضها، أيضاً أنا لا آخذ التاريخ على علاته.. بالمناسبة أنا أشد الناس كرهاً للتاريخ، بسبب ما جلب لنا من خراب روحي أو على مستوى المجتمعات وتطورها، بما كان ومازال يحمل من بذور التفرقة أو الغباء أو الجهل، هنا لا أتكلم عن تاريخ الأمراء والملوك فهذا مرفوض أصلاً، لكني أتكلم عن المادة التي حكمت سلوكياتنا طوال قرون، ومازال الناس أسرى لها، بما فيها من قيم الجهل والتخلف كأدوات القتل والذبح والسبي والغارات والغزو.
انتقي من التاريخ المادة التي يمكن أن يبنى عليها حدث اجتماعي حالي، ومنه تشذب ما يحيطها من قضايا، أو أني أحياناً استعمل مادة تاريخية أو شخصية، بيد إني أقلبها بالكامل، إما باتجاه السخرية أو قلب سلوكها إلى الاتجاه الآخر المناوئ.
(كتابات): في رواية (أحمر حانة) بغداد مدينة تفتتها الحروب.. تطحنها بضراوة.. حدثنا عن بغداد بالنسبة لك ؟
- تنقلت بين مدن شتى في أقطار شتى، فلقد زرت وعشت بأكثر من أربعين مدينة على مستوى العالم، فيهن الجميلة الأنيقة أو المغرية أو المهملة المعدومة، لكن مثل بغداد لم أر، إنها من العمق بحيث تتسلل إلى الداخل وتسكن هنالك، ولابد من التعامل معها ومع وموجوداتها بنفس آخر، ذات أو روح أو وجدان يعتمر الوجود كله، وتختلط فيه الثقافات وتنصهر مكونة جنس من نوع جديد، يختلف كلية عنما يسمع الآخرون أو يروا.
في بغداد لا يكفيك أن ترى ظاهر المدينة، أقصد حركة الناس والمركبات والسيارات أو نوعية الملابس أو النظافة والهندام، هذا ليس بدلالة، ثمة دلالات تختبئ في العمق وتحتاج الحفر بقوة ودراية لاكتشافها، بهذا الشكل تطرح بغداد نفسها أمامي حين أكتب، أنا مولع بالمكان، بالذات، أمكنة بغداد، فأنا ابن مدينة وتغريني الكتابة عنها، لقد نلت “كتاب شكر” خاص من مجلس حكومة بغداد على هذا الاهتمام والعناية الخاصة التي أنظر بها إلى المدينة، كما أن الرواية رشحها الناشر لمسابقة “البوكر” لهذا العام.
(كتابات): لماذا تنشر في دول العربية.. ما رأيك في حال النشر داخل العراق حالياً ؟
- العراق مركز استقطاب رئيسي بالنسبة إلى السرد في المنطقة العربية، بما في روايته من آفاق جديدة ومتطورة، بالإضافة إلى زخم الحراك الثقافي، قارئي موجود، سواء طبع الكتاب في بيروت أو القاهرة، فهو يسعى وراءه ويقتنيه، لكني أميل بشكل عملي للطباعة والنشر في الدول العربية، بحثاً عن ساحات ثقافية أخرى وقراء آخرين، إن توصيل الرواية العراقية إلى المدن العربية مهمة ضرورية، لما فيها من انتشار وتوزيع للكتاب العراقي.
دور النشر لدينا مازالت في بدء مراحل إنشائها، لا يخفى عليك أن العراق قريباً قد خرج من عزلته، التي سببتها الحروب، أظن أن الدور هذه تسعى بجد لأن تأخذ مكانتها على مر الأيام، بما فيها من مثابرة وحرص شديدين بتطوير هذه الصناعة.
(كتابات): رغم ازدهار الرواية في العالم العربي.. إلا أن الروائي مازال يعاني التهميش ولا يجد التقدير.. كما في الدول الأوروبية.. لماذا ؟
- الثقافة في المنطقة العربية تعاني الإقصاء.. إذ يحذف بها بعيدا عن إي اهتمام أو رعاية، إطلالة على ميزانية أي دولة عربية تؤكد أن ما يصرف على الثقافة لا يعادل 1% من تلك الميزانيات، في حين أن في فرنسا يصرف لها ما يعادل 12% من أجمالي موارد البلد، النقطة الثانية أن المثقف لدينا من حيث الوظيفة العضوية في المجتمع مازال هامشياً، ذلك أن لا مكانة له في خطط البناء أو التطوير.
لا أشعر بالغرابة مما يحدث.. فقراءة سريعة لتاريخنا “المجيد” بهذا الجانب نلاحظ أن الحكام، على مختلف مراحل التاريخ، كانوا ينظرون إلى المثقف باعتباره “بوق”، حكامنا بهذا الزمن لا يختلفون كثيراً عن أسلافهم، فهم من نفس الطينة والبيئة المبوأة بالعقد النفسية والتخلف.
(كتابات): ما رأيك بالجدل الذي دار مؤخراً حول الرواية العراقية.. وهل ثمة غزارة بالإنتاج بالنسبة للشباب ؟
- إن النقاش مؤشر مهم على حيوية الرواية العراقية.. فثمة معافاة بهذا السرد، ويحتاج بين فترة وأخرى لأن تثار حوله النقاشات لتصويب أو تحديد أو تحديث مساره، أعتقد أن مثار النقاش كان منصباً على تجاوز الرواية للأشكال البالية، التي أثقلت كاهلها خلال الفترات الماضية، وأن على مريديها نزع أرديتهم وارتداء أثواب العصر، بما فيه من إشكالات أو هموم.
هذا رأي معتبر، إذا ما نظرنا إلى ثيمة الروايات المقصودة بهذا النقاش، لقد خرج العراق من آتون ماضيه المثقل بالموت والحروب، ويبحث الآن عن موطأ قدم في الحضارية العالمية، فكان على الكتاب التقاط هذه الحالة، والدخول في عمق العصرنة، بكل ألوانها وأشكالها، نحن فعلاً نعاني من الكم الهائل من الإنتاج الغزير، لكنه بالضرورة لا يعني التعوق، فعلى مر الأيام ستفرز التجارب المثمرة وسيتوقف أصحاب الرواية “التجارية” أو “الرائجة بالسوق”، كما يصطلح عليها.
(كتابات): ما رأيك بالجوائز العربية وهل استطاعت أن تدعم الرواية كنوع أدبي وتنصفها ؟
- أصلاً الجوائز الموجودة في الساحة العربية محدودة.. ولا يشكل التنافس عليها أو ما بينها ظاهرة، بحيث تنعكس على الرواية ذاتها، من حيث التطوير أو الفرز، ما يجري حتى الآن يشكل استلاباً لهذه الرواية، من ناحية الإبداع وتحويلها إلى ظاهرة تجارية، فماذا يعني أن تفوز واحدة وتهمل، على سبيل المثال، بقية الروايات المشتركة في المسابقة والتي قد وصلت العام الماضي إلى اكثر من 180 رواية ؟.. هل هذا يقودونا للقول أن ثمة كاتب واحد (فقط) بالمنطقة العربية في السنة ؟.. لا أعتقد أن الجدب وصل إلى هذه الدرجة من الانحطاط.
يجب أن ترافق مسابقة الجوائز عملية الاهتمام بالرواية وكتابها، من ناحية الترجمة، والتوزيع، والانتشار إلى الثقافات الأخرى، بالإضافة إلى التفرغ والإنابة المالية، أقصد هنا الروايات والكتاب خارج الرواية الفائزة الوحيدة، ثمة اهتمام بالجوائز بين الكتاب خلال هذه الفترة وهذا متأت من حالة الضنك، التي يشعرون بها ويجدون التعويض بها، ليس إلا.
(كتابات): من الكتاب الذين تأثرت بهم ؟
- بسبب الإنهاك المستمر للذاكرة لم يعد متاح لي أن أفرز كل المراحل الأولى من حياتي، فلقد فرضت علي الغربة شروط قاسية مقابل الاستمرارية، ولقد تآكلت ذاكرتي بسبب البعد عن المكان.. ولهذا أعتقد أن عمل الذاكرة يرتبط بالمكان.. في بدايتي مازالت أشعر بحرارة كتاب رواية وليم فوكنر “الصخب والعنف”، فلقد شكل لي مساحة واسعة من اشتباك التداعيات.. تلاه لاحقاً قراءة “مائة عام من العزالة” لغارسيا ماركيز، عند هذه المرحلة أستطيع القول أن ذاكرتي وذائقتي السردية قد بدأت.. بالتأكيد هنالك الكثير من القراءات والأسماء من الأدب العربي والعالمي لا يمكن نسيان تأثيرهما المباشر أو غير المباشر.