7 أبريل، 2024 9:35 م
Search
Close this search box.

مع كتابات.. تسنيم طه: ثورة الشباب الباسل المملوء بالآمال العريضة قد انتصرت إلى حدٍ ما

Facebook
Twitter
LinkedIn

 

خاص: حاورتها- سماح عادل

” تسنيم طه” كاتبة سودانية، من مواليد شندي (شمال السودان). خريجة آداب لغة فرنسية- جامعة النيلين بالخرطوم. صدر لها مجموعتين قصصيتين بعنوان “خلف الجسر ومخاض عسير” ورواية بعنوان “صنعاء القاهرة الخرطوم”.

إلى الحوار:

** متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟

– منذ صغري وأنا أحب التدوين وكتابة اليوميات، وكأنها حيلة عقلية لحفظ الذكريات، بحلوها ومرها، وتقنية لا واعية للتخلص من تراكم الأفكار. ومع كثرة القراءة في كتب الأدب، وخاصة بعد تخرجي من كلية الآداب، راودتني فكرة تجريب كتابة القصص. فكتبت أول قصة قصيرة عام 2007 (باللغة الفرنسية)، وكانت مجرد محاولة للمشاركة في مسابقة الفرنكوفونية التي نظمتها السفارة الفرنسية لطلاب الجامعات كل عام في شهر مارس، والتي بفوزي بها حصلتُ على فرصة زيارة فرنسا لأول مرة.

بعدها استمريتُ في الكتابة باللغة الفرنسية لسنوات (في محاولة لإتقان هذه اللغة)، قبل أن أقرر الكتابة باللغة العربية في عام 2013، بعد انتهائي من روايتي الأولى بالفرنسية، التي أحتفظ بها في الدرجٍ لحين موعد نشرها.

**في رواية “صنعاء القاهرة الخرطوم” ما سر اختيارك لتلك العواصم الثلاث لتدور بها أحداث الرواية؟

– لو لم تصادف انبثاق فكرة الرواية في رأسي، أحداث حرب اليمن الأخيرة، لربما كانت الرواية ستستمى “الكويت- القاهرة- الخرطوم”، وذلك لوجود كثير من ذكريات طفولتي في مدينة الكويت، التي خرجنا منها ولم نعد إليها بسبب حرب الخليج الثانية عام 1990، وكثير من ذكريات في القاهرة خاصة في السنوات العشر الأخيرة عند مروري بها في كل مرة أنزل فيها إلى الخرطوم لقضاء الإجازة مع أهلي.

** في رواية “صنعاء القاهرة الخرطوم” أظهرت معرفة عميقة بشوارع وأماكن في اليمن ومصر هل عشت في هذه البلاد وارتبطت الأماكن فيها لديك بذكريات ما؟

– بالنسبة للخرطوم (المدينة التي عشت فيها منذ سن الخامسة عشر وتلقيتُ فيها تعليمي الثانوي والجامعي)، والقاهرة (التي أعشقها كثيرًا) فأغلب الأماكن المذكورة في الرواية، هي أمكنة ترددت عليها ولدي فيها الكثير من الذكريات. أما بالنسبة لصنعاء، فهي مدينة لا أعرفها حتى الآن، وحلمتُ أن أزورها بشدة، وأتمنى أن يتحقق حملي يومًا ما.

** في رواية “صنعاء القاهرة الخرطوم” كانت هناك طاقة حكي، وتفاصيل كثيرة وثرية، ورسم عميق للشخصيات.. كم استغرقت في كتابتها وهل استعنت بشخصيات حقيقية من الواقع؟

– الرواية أخذت مني أكثر من ثلاث سنوات قبل أن ترى النور. لكنني لم أشتغل عليها طوال هذه الفترة. فعندما انتهيتُ منها وبدأت إرسالها لدور النشر، كان يتوجب علي في كل مرة الانتظار لمدة ثلاث أسابيع أو شهر لحين تلقي الرد، ثم يئستُ من كثرة تلقي ردودًا بالرفض وتركتها جانبًا لفترة طويلة، قبل أن أعاود العمل عليها بصورة مكثفة طوال شهرين العام الماضي أثناء فترة حجر كورونا الأول عام 2020. أما بالنسبة للشخصيات، فهي مزيج بين الحقيقة والخيال، ومعظم القصص مستوحاة من الواقع.

** عن ثورة السودان بينت محاولات السلطة لإجهاضها، وإصرار الثوار وبسالتهم في مواجهة معاملة وحشية.. في رأيك هل أجهضت ثورة السودان أم انتصرت بمعنى ما؟

– هذا سؤال ستجيب عليه الأيام.  وفي رأيي أن ثورة الشباب الباسل المملوء بالآمال العريضة قد انتصرت إلى حدٍ ما. وأتمنى ألا يُخزلوا وألا تضيع مجهوداتهم سدىً.

** في روايتك هل حاولت نقل معاناة النساء خاصة داخل منظومة الزواج، ونتيجة لضغوطات المجتمع وعاداته وتقاليده؟

– نعم، حاولتُ نقل معاناة النساء داخل مؤسسة الزواج وخارجه بتناول مواضيع مختلفة منها العنف الزوجي، والخيانة الزوجية، وتعدد الزوجات، والعنوسة، وعدم إنجاب الولد. كما حاولتُ تسليط الضوء على معاناة وضغوطات مجتمعية طالت حتى الرجال، منها تدخل الآباء في قرارات أبناءهم من دراسة واختيار شريكة الحياة والالتزام بتنفيذ وصايا، وغيرها.

** ما تقييمك لحال الثقافة في السودان وتحت إطارها النقد والنشر. وهل اختلف حالها بعد الثورة الشعبية الكبيرة؟

– أعتقد أن هناك نهضة ثقافية كبيرة. ربما يكون سببها شعور الكُتَّاب والأدباء ودور النشر باستردادهم لحريات كانت مقموعة.

** الكتاب السودانيون الذين استطاعوا الخروج بنصوصهم خارج حدود الوطن، والانتشار في البلدان الغربية هل واجهتهم صعوبات، وكيف يستقبل القارئ الغربي نصوصهم في رأيك؟

– لا أظن أن هناك كاتب عربي لم يواجه صعوبات في مسيرته الأدبية. والقارئ الغربي لا يعرف من النصوص العربية سوى المترجمة إلى لغته.

** في باريس اهتم القراء بروايتك ضمن أعمال كتاب سودانيين كبار.. حدثينا عن تأثير ذلك عليك؟

– كان ذلك شرفٌ كبيرٌ لي أن أجد روايتي بجوار روايات لكُتَّاب سودانيين معروفين لهم مكانتهم الأدبية في الوطن العربي، مثل “أمير تاج السر، وعبد العزيز بركة ساكن، وأحمد الملك، وليلى أبو العلا”، في إحدى مكتبات باريس العامة المهتمة بالأدب العربي.

** في رأيك هل يعاني الأدب في منطقة الشرق من فكرة المناطقية بمعنى صعوبة تجاوزه حدود مجتمعه، وما الذي يمنع الأدب السوداني من الوصول إلى البلدان المجاورة؟

– الموضوع نسبي، فهناك دور نشر استطاعت أن تتجاوز حدود الوطن العربية. وربما يكون العائق من وصول الأدب السوداني، المطبوع في السودان إلى الخارج، هو افتقاد تطوير وسائل التوزيع خارج الوطن.

** هناك تواصل كبير بين الكتاب والمثقفين السودانيين على شبكة الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، حدثينا عن ذلك؟

– أعتقد أن للمنصة الرقمية لمناقشة الروايات السودانية أكبر الفضل في هذا التواصل بين الكتاب والنقاد. فقد ساهمت في التعريف بكثير من الكتاب السودانيين. كما أن وسائل التواصل الاجتماعي مثل “فيس بوك” و”واتساب” و”زووم” وغيرها، ساعدت بشكل كبير في انتشار الندوات والمناقشات الأدبية وغيرها.

** هل لديك أعمال جديدة وما هي أحلامك ككاتبة؟

– لدي قصص كثيرة ترتاح في دفاتري، ورواية أعمل عليها هذه الأيام.  وأحلم بالكثير، وأركز على كتابة ما يثير شغفي وأحب أن أقرأه بين الكتب. وأتمنى أن يجد القارئ متعة وثقافة فيما أكتبه.

قِصَّة قَصِيرة ل”تسنيم طه”..

 كَنَهْرِ النِّيلِ… أَوْ أَطْوَل

في البداية، عندما رأيتها تندفع نحوي بعينين دامعتين، تخيلتُ أن دموعها ناتجة عن تقشير البصل أثناء تجهيزها لـ “مُلاح التَّقَلِيَّة”، الذي تعودت تحضيره كل أسبوع لنتقاسمه سويًا مع بنيها في جوي عائلي قبل خروجي لصلاة الجمعة.

لكن لما اقتربت أكثر ورمت بورقةِ “الفولسكاب” على حِجْري، أدركتُ أنني أخطأت التقدير. فبلعتُ ريقي، وسألتها بتوجسٍ عن الخطب رغم علمي بأسباب نيرانها الداخلية التي أبت أن تخمد. فطالعتني بجمرتين متورمتين، قبل أن يتناثر اللعاب من شفتيها الجافتين لتقسم بأنها لن تترك حق ابنها يضيع، وبأنها لا محالة واجدة قاتله لتلوك كبده.

فتنهدتُ بعصبية ثم قلتُ بيأسٍ:

–         وإن تعفوا خيرٌ لكم.

فعقبتْ بصوتٍ تخنقه العبرات:

–         ولكم في القصاصِ حياةٌ يا أولي الألباب.

فألجمني ردها السريع، ولم أدر أي حجة يمكنها أن توفر عليَّ نوبة انهيار عصبي جديد. وتفرستُ في وجهها الشاحب طويلًا قبل أن أبدي استنكاري من ألا يكون لحجها لبيت الله الحرام وطوافها بالكعبة المشرفة وزيارتها لقبر النبي، أثرًا في طمأنة قلبها وجعله يتقبل قضاء الله وقدره.

فارتفع نشجيها قبل أن تتهاوى جالسة على الأرض عند قدماي، لأستشعر زحف جيوش الحزن نحو روحي، كتدافع الماء نزولًا من أعلى جبل.

ومرت لحظات كأنها دهرٌ وأنا في وجومي وحزني واحساسي بالعجز أمام دموعها المتساقطة بغزارة لتبلل خديها وصدرها والتراب الذي تحتها، قبل أن أنتفض إثر هدير محرك الركشة.

–         في شْنُو يا خالة سُكَيْنَة مالك بتبكي كدة؟ ومالك قاعدة في الواطة؟ سأل معاوية مستنكرًا فور قفزه من مركبته الصغيرة.

لكن ابنتي لم تتفاعل مع سؤال صديق ابنها، إلا بمزيد من الدموع، فاقترب منها وانحنى ليهزها من كتفها، ظانًا بأنه سيخرجها من حالة الوجع التي عجزت أن أفعل حيالها شيء.

لكنها ظلت تنتحب وتنوح منكسةً رأسها، قبل أن تهب واقفة، عندما هزها ثانية، متوسلًا إياها أن تكف عن البكاء لتخبره عن الخطب.

وخطفت ورقة “الفولسكاب” من يدي قبل أن أكون قد ألقيت عليها نظرة، لتقدمها له بيدٍ راجفةٍ، وصدرٍ يعلو ويهبط من النشيج.

أمسك معاوية بالورقة ومسحها ببصره سريعًا، ثم عاد يتفرس في وجه والدة صديقه بارتباك، لتُخرِج سُكَيْنَة صوتًا مخنوقًا بالعبرات، لترجوه أن يوصلها بمركبته الصغيرة إلى القصر الجمهوري الآن، حتى تسلم مذكرتها لرئيس الوزراء وتطالبه بأن يأتي لها بحق ابنها.

رماني معاوية بنظرة سريعة قبل أن يوضح لها متلعثمًا بأن اليوم الجمعة، فقعب بنهرة متوسلة:

–         إذًا بكرة من الدّغش!

فلاذ بصمتٍ مرتبكٍ، أنقذته منه عندما مَددتُ الجريدة، التي كنت أقرأ فيها قبل أن تباغتني، لكي أُري ابنتي الخبر المتناول لوصول رئيس الوزراء إلى “جوبا” عاصمة جنوب السودان اليوم في رحلة ستستمر ثلاثة أيام. فرمقتني بنظرة عتابٍ قبل أن تنفجر في نشيجٍ جديد.

في تلك اللحظة، وفي أثناء ملاحقته لكرة القدم التي تدحرجت حتى كادت أن تدخل تحت الكرسي الذي أجلس عليه تحت شجرة النيم الوارفة، لمح الطفل اللاهث مغبر الوجه والقدمين، دموع ابنتي الغزيرة. وما أن التقط الكُرة حتى انتصب ووقف أمام سُكَيْنَة لينشد:

يا والدة ما تبكي…..خلي الوطن يبكي

أنا حسي بيهو حزين

هو مجرد طفل صغير في السابعة، وكل ما فعله ترديد مقطعٍ من هتافات الثورة تداولتْ بين الناس بعد المجزرة. لكنه كانت كزيتٍ سُكِبَ على نارٍ كنا نحاول إخمادها.

حدجتُ الطفل بنظرة عتابٍ ووعيد جعلته يركض هاربًا وراء الكرة التي قذفها وتبعها بسرعة، وكأنه يبرر بها انسحابه من ذلك الجو الجنائزي.

–         يا خالة عليك الله ما تبكي، ولدك شهيد وهسة في الجنة. يا ريتنا كلنا لو مشينا معاهو كان أحسن لينا من الوقوف في صفوف البنزين.

كرر معاوية توسلاته لوالدة صديقه، فرفعتْ سُكَيْنَة عينيها تنظر إليه بدهشة سمرت الدموع في مقلتيها. ولما أحس باستحواذه على اهتمامها، استرسل في الشكوى والتذمر من معاناته اليومية بسبب ضياع وقته في الوقوف في الصفوف بدل أن يقضيه في العمل. فتنهدت سُكَيْنَة بعصبية، ليلتفتْ إليَّ هو ليطالبني بالإدلاء بشهادتي عن ازدحام صفوف السيارات الذي صادفناه في طريقنا، حتى تفهم والدة صديقه أن الذهاب إلى الخرطوم في هذه الأيام سيكون ضربًا من الجنون.

فتفرستُ في وجه ابنتي طويلًا ثم حكيت لها تفاصيل مشوارنا الصباحي سويًا، منذ لحظة خروجي من مسجد “القُبة”، اثناء انتشار شعاع الشمس في الآفاق، ثم توجهي لبيت معاوية، ثم إيقاظي لكي يرافقني برَكْشَتِه إلى سوق “بَحْري” حتى أنهي مشاويري قبل احتراق الجو بأشعة الشمس إذا ما ولى الضحى، ثم مدحه لأنه هب من سريره ورافقني دون تضجر، ليس فقط لأنه يحبني كجده، ولكن أيضًا لتعوده أن يطرقَّ الجيران بابهم، كلما رأوا مركبته ذات الثلاثة إطارات واقفة أمام البيت، ليوصلهم إلى أينما طلبوا الوجه، بشرط ألا يكون مكان يستوجب عبور جسور في أم درمان أو في الخرطوم، حتى أشتهر بـ”تاكسي القُبَّة”، رغم كتابته على “رَكْشَته” من الخلف كلمة “كّدّراوِية”، إحدى أغنيات نور الجيلاني، والقاصد هو بها خطيبته، الساكنة في حي “الكَدَرُو” بشمال الخرطوم-بَحْري.

حكيتُ لها أيضًا كيف استأذن مني بأدبٍ لحظة أن أوقفني عند المَلَجة، حيث تجمع الجزارين الملطخة ملابسهم البيضاء وايديهم بالدماء، لكي يذهب ويناول كوب شاي بالحليب والزلابية (لم يتمكن من تناوله في البيت حتى لا نتأخر) من بائعة شاي. ثم حكيتُ لحظات انتظاري العصيبة مع جزار أصلع صلفٍ، يعج الزبائن حوله كالذباب، لم ينقذني منها إلا مجيئي معاوية بعد تناوله لفطوره، لكي يستعجله في أن يحاسبني ولا يتركني أقف في الصف ويحترم كبر سني، ثم لحظات ذهابنا سويًا وتجازونا لجموع نساءٍ برفقة أطفالهن، لكي ننتقي لها الخضروات التي طلبتها لكي تجهز بها أفضل طعام (محشي وكُفتة وبامية باللحم الضأني) لإكرام صديقتها التي ستزورها لتناول طعام الغداء معها، وتودعها قبل أن تلحق بزوجها في الخليج.

ولما رأيت أن ابنتي لا تتفاعل مع ما أحيكها لها، عمدت إلى الانتقال الى النقطة التي ظننتها بأنها ستتعاطف مع معاناة صديق ابنها، وحكيتُ لها استرساله في الشكوى عند خروجنا من السوق، ومرورنا من أمام من “بلدية بحري”، ورؤية الصفوف في طلمبة بنزين “حِلَّة حَمَد”، الممتد حتى مستشفى بحري شمالًا، ليلامس صفًا آخر أكثر طولًا، متفرع من طلمبة الصَّبابي جنوب جامع المتولي، ليسب أوضاع البلد التي تتعمد إهانة شبابه، ليس فقط بعدم توفيرها له وظيفة في مجال دراسته، ولكن بإجباره على البكاء حسرة على ضياع وقته المهدور في الوقوف في صفوف البنزين بدل  قضائه في العمل لكي يغطي نفقات مراجع الطب لأخته اليتيمة، وأدوية الضغط والسكري لأمه المريضة، عله يوفر مبلغًا يمكنه من الإسراع بالزواج مع حبيبته التي تنتظره مند أربع سنوات، قبل أن يجبرها أهلها على الزواج من رجلٍ غني يكبرها بعشرين عامًا.

وعندما رأيتُ أن سُكَيْنَة لا تتحرك عن وجومها قيد أنملة، تضاعف أساي وحزني، وتملكني إحساس فظيع بالعجز اليأس من فعلِ شيءٍ بإمكانه أن يعيدها سيرتها الأولى: صبوحة مملوءة بالتفاؤل والمرح، تجمع جاراتها بحماسٍ وحب في فناء الحوش الوسيع أو في الصالون، لاحتساء الشاي والقهوة لتبادل الأفكار معهن لإيجاد طرقٍ تساعدهم على تدبير معيشتهن وتنظيم وضبط “الصندوق”، أو الجمعية وهو المبلغ المتفق عليه شهريًا، الذي يجمعنه كل شهرٍ، ليناوب أخذه حسب حاجة احداهن يساعدها في منصرفات كبيرة كزواجٍ أو ختانٍ أو مصاريف مدرسية وغيرها.

وتفاقم حزني وألمي، أشد ألمًا من أنزال ابنها قبل أشهر في قبره، وأنا أراها تتعمد إطالة البقاء الإقامة في حدادها الذي أفقدها في ثلاثة اشهرٍ نضارة وجهها وأورثها هالاتٍ سوداء وشعرٍ ابيضٍ اشتعل فجأة فوق صدغيها، جعلاها تبدو عجوزًا في الثمانين رغم أنها لم تتجاوز الخمسين بعد.

وتحسرت على صبرها وتجلدها اللذان اظهرتهما بشجاعة، قبل أربعة عشر عامًا لكي تركز في تربية بنتيها وابنها، بعد أن راح زوجها ضحية أحداث الشغب التي سادت مدينة الخرطوم فور انتشار خبر موت الزعيم الجنوبي جون قرنق. فبعد خروجها من عِدتها، تحزمت وقررت لعب دور الأم والأب. فكانت تغسل وتكنس وتطبخ وتكوي الملابس وتراجع الدروس وتذهب إلى اجتماعات أولياء الأمور في المدرسة وتذهب إلى علمها في “مَحَلِّية بَحْري” دون أن يمنعها ذلك من زيارة زوجها وقراءة سورتي “ياسين” و”المُلْك” على قبره، ولا من اعداد وجبة الطعام الأسبوعية التي تقدمها، كصدقةٍ جاريةٍ لروحه، للطلاب المقيمين في مسيد جامع “السيد علي الميرغني”.

كل ذلك الثبات ضاع في صبيحة التاسع والعشرين من شهر رمضان، بعد انتشار خبر فض الاعتصام أمام القيادة.

ذلك الثلاثاء من شهر يونيو، دخلت سُكَيْنَة في حالة هستيرية، لعدم معرفتها إن كان ابنها حيًا أو ميتًا. ولم تترك مشرحةً ولا مستشفىً في الخرطوم إلا وذهبت إليها. ولما يئست من لقائه ميتًا انبثق أملٌ في داخلها في أن يكون ما يزال حيًا في احدي زنازين العساكر أو المعتقلات السياسية. لكنها لم تكن تدري إلى أين تذهب بعد حالة الفزع والفوضى التي سادت العاصمة المُثَّلَثة، بعد المجزرة التي تلاها انقطاع في الانترنت، لتنقطع معه كثير من سبل الاتصال.

وفجأة مات الأمل في قلبها عندما ظهرت جثة ابنها، في منطقة “الفكي هاشم” بشمال الخرطوم-بَحْرِي، رابع أيام العيد الذي لم يكن عيدًا، بل مأتمًا أطلق عليه اسم “عيد شهيد”، لتكفن سُكَيْنَة جثمان ابنها بصمتٍ وصبرٍ أدهشا الجميع، وكنت الوحيد الذي أعلم أن وراء ذلك الصمت براكين لا بد وأن تنفجر يومًا.

أخرجني معاوية من سهومي بافتعال سعال، فبلعتُ ريقي بصعوبة أبحث في جعبتي عن كلمات بإمكانها إخراج ابنتي من كهف ظلمات حزنها العميق. وتنحنحتُ ثم نظرتُ في عينها مباشرة وباغتها بسؤالٍ إن كانت تظن نفسها أفضل من رسول الله، فردت بسرعةٍ: “صلى الله عليه وسلم”، ثم استفهمت لماذا أطرح عليها سؤالًا مثل هذا، فأجبت دون تفكير:

–         لأن رسول الله الذي ذرتي قبره، والذي تنتظرين شفاعته يوم القيامة، قد فقد أيضًا فلذة كبده وحزن وبكى، ولم يقل سوى ” إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ”.

فحدجتني بنظرةٍ لائمةٍ عاتبةٍ قبل أن تنفجر في نحيبٍ أقوى، جاهدتُ على ألا يضعفني حتى أواصل:

–         يا سُكَيْنة، الله لن يرضيه أن تهدري وقتك في البكاء اعتراضًا على استرداده لأمانة أهداك إياها، لأنك بذلك ستضيعين وظيفتك في الحياة، وتهملين مهمة خلافته في الأرض.

ففركت عينيها بقسوة وطالعتني بجمرتين، أحرقتاني وأنا أواصل:

–         صدقيني يا ابنتي، بأن هنالك أعداد كبيرة من نساء ثُكالى يعانين مثلك لكنهن صابرات سلمن أمورهن لله واحتسبن أولادهن، وآمنَّ بأن الأقدار شاءت أن تُروى هذه الأرض بدماء ابنائهن، شهداء ثورة ديسمبر لتعبد طريق الحرية والديمقراطية لأجيال قادمة، إيمانًا جعلهن مطمئنات بأن العدالة ستأخذ مجراها، وبأن القانون سيعاقب مرتكبي جريمة فض الاعتصام عاجلًا أم آجلاً.

ولذتُ بصمتٍ وجيز عند استشعار غصة وقفت حلقي، فالتفتُ نحو معاوية لأجده واقفًا أمامي كصنم، مطأطأ الرأس، دامع العينين، زام الشفتين.

ولما عدتُ التفت نحو سُكَيْنة، وأحسستُ بها توشك أن تنفجر في نوبة نحيبٍ جديدة، باغتها بسؤالٍ إن كانت ما تزال مصرة على مضغ كبد قاتل ابنها، فطال صمتها، واتسعت حدقاتها لتطالعني بذهولٍ بينهما يدها تعبث بثوبها تارةً، وتارة تصعد لتمسح دموع عينها. فتنهدتُ بعصبية، ورجوتها أن تستغفر الله، فقالت: “أستغفر الله”، فاستغفر معاوية وراءها واستغفرتُ بدوري، وسألتها إن كانت تذكر ما حدث لجلال الدين الرومي بعد اكتشافه أن صديقه ومعلمه شمس التبريزي قد قٌتل وألقي في البئر، فهزت رأسها إيجابًا، وفاض نهر دموعها من جديد، فواصلتُ استجوابي:

–         أما زلتِ مغرمةً بجلال الدين الرومي واشعاره التي كم استشهدت بها في جلساتك مع صديقاتك لتكلميهم عن مؤلفاته: المَثْنَوي، والرباعيات، وكتاب فيه ما فيه؟

كنت أعرف الإجابة، وإلا لما كنت لأذكرها بقصائد (“أنين الناي”، و”قلبك من سيقودك”، و”أولئك الذين احترقوا بنار الخريف”، و” لا رفيق سوى العشق”)، التي كم انشدناها سويًا أثناء ارتشاف القهوة تحت ظل الضحى، أو احتساء الشاي بالحليب بعد صلاة المغرب.

ولما لانت ملامحها، مددت يدي ومسحتُ على رأسها بحنانٍ، وقلتٌ بيأس:

–         الخيار يعود لكِ يا ابنتي. إما أن تواصلي السير في طريق هند بنت عتبة، وتبحثي عن قاتل ابنك لتلوكي كبده لتشفي غليلك، الذي لن يشفى ابدًا. وإما أن ترضي بقضاء الله وقدره، وتصاحبي ألمك وحزنك لكي تخرجي من داخلك أنوارًا تبدد ظلمات جرحك، فتصبحين بلسمًا لمن حولك، كما حدث مع الرومي الذي أدخلت قصائده إلى الإسلام كثيرًا من الغربيين عندما وضحت لهم أن إله الإسلام ليس ارهابيًا ولا دمويًا، بل إله محبة وسلام ورحمة، يحرق نوره قلب العاشق، فتتفتح بتلات النورانية في داخله.

فعاد نشجيها يرتفع، فواصلتُ بآخر رمقٍ:

–         وتذكري أن قاتل ابنك ليس شخص واحد من السهل الظفر به وإخراج كبده لكي تلوكيها، وإنما هم عصابة لن تفلت طويلًا من يد القانون الذي سيأخذ لك حقك وحقوق جميع المظلومين.

فعقبت بألم:

–         لكن أصبر لمتين يا أبوي؟ خلاص غلبني ما قادرة استحمل النار الجواي دي.

فضغطتُ على يدها وقلت بوهنٍ:

–         تصبري إلى آخر رمق يا ابنتي. لان طريق الصبر والاحتساب لوجه الله، يحتاج نفسًا طويلًا كنهر النيلِ أو أطول، وروحًا متيقنة بأنه لن يصيبها إلا ما كُتِب عليها، لأن كل المصائب والأحزان ما هي إلا أسباب لتحقيق مشيئة الله وقدره.

فكانت تلك الجملة هي ما أعاد إلى سُكَيْنَة سكينتها، وقوة إيمانها وصبرها، وتصبرها.

فطالعتني بنظرة تسليم، ثم كفكفت دموعها، ومدت لتمسك بيد معاوية الممدودة نحوها، لترافقه للداخل، بعد أن أقسم عليها أن يساعدها في أعداد الطعام لكيلا تفوت إكرام صديقتها، ولكي يفوز هو بالغداء معنا بدل الذهاب وإضاعة الوقت في صفوف البنزين.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب