7 مارس، 2024 2:08 م
Search
Close this search box.

مع كتابات..تاج السر الملك: لوحاتي نافذتي الروحية علي الذاكرة وهي معبأة بصور الوطن

Facebook
Twitter
LinkedIn

 

خاص: حاورته – سماح عادل

هو مبدع متعدد المواهب، تنطق لوحاته بالروح السودانية وتعكس شغفه بها، كما تتميز قصصه بخصوصية السخرية اللطيفة التي تنتقد بعض السلوكيات وتضحكك من القلب، كما وأنه يطل عليك في كتاباته من خلال لغة خاصة سعى إلى أن تكون مميزة، محملة بالمعاني والأحاسيس وتتجمل بالعامية السودانية. هو “تاج السر الملك” قاص وروائي وفنان تشكيلي سوداني، مقيم بأمريكا، صدر له: (الأحمسة)، (الدغمسة) و(نخلة لا تُنبت والأبنوس)، وكتاب (“الهلوسة” حكاوي عزو بالعامية السودانية).

إلى الحوار:

(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟

  • بدأ شغفي بالكتابة في وقت مبكر، في العمر الذي تعلمت فيه تركيب الجمل الكاملة، ولعل أكثر ما شجعني، هو اكتشافي لموهبة الحكي، في وقت مبكر عندي، ولا أنسى فضل شغفي بأسلوب الأستاذ “كامل كيلاني”، الساحر، والذي غذت أقاصيصه ذخيرتي اللغوية، وحفزت قدرات الخيال عندي، وأطلقتها لأقصى طاقاتها، وكان أن قيض الله لي أساتذة لغة أجلاء، في كل المراحل الدراسية، أبدوا عناية بتأهيلي وإرشادي، وقد أثمرت توجيهاتهم، في احترافي الكتابة لاحقاً.

مثلي مثل أي كاتب، فقد طورت أسلوبي، بالقراءة الجادة، في الأدب العالمي والإقليمي، وركزت على الاهتمام بالأساليب والتقنيات الفنية للكتابة، والتدرب عليها، والحرص على دراسة أساليب الأدباء، و أهمهم بالنسبة لي فقد كان الأستاذ “نجيب محفوظ”، من أهم المعلمين، الذين تتلمذت على أياديهم،  حتى وإن لم ألتقي به للحظة واحدة، وكذلك الشاعر السوداني الفذ، “صلاح أحمد إبراهيم”، الذي فتح عقلي من زمن باكر، على كون فسيح من الثقافات، ووجهني نحو الآداب العالمية، وعوالم الميثولوجيا الإغريقية، هذا بجانب سنوات قضيتها صحفيا في جريدة السوداني، اكتسبت فيها خبرة عالية، في فنون كتابة النصوص، والتداخل مع القراء والنقاد، في زمن مباشر، وصبغت كتاباتي  الصبغة الاحترافية، واستطعت أن أخلق لي أسلوبا خاصا تقبله القراء، واحتفي به النقاد.

(كتابات) في قصة “طرائق الحصول على ( الدالا)” تناولت الطرائق التي يحاول بها بعض المغتربين  في أمريكا الحصول على أموال دون عناء في لغة ساخرة .. حدثنا عنها؟

  • قصة “طرائق الحصول على الدالا”، واحدة من قصص مضمنة، في كتاب “الدغمسة”، والذي اتجهت فيه إلى الكتابة الساخرة، والتي هي أقرب في حقيقتها، إلى الكوميديا السوداء، وقفت فيها على سرد طرائف المواقف، التي يواجهها المهاجرون، في سعيهم اليومي للبقاء، ولربما الثراء، حين تواجههم النظم الاقتصادية الرأسمالية، المعروفة بعسفها، وحين تضيق بهم سبل العيش، فيلجئون إلى التحايل الساذج، ومحاولة الالتفاف حول القوانين، للحصول على المال، فينتج عن ذلك، مفارقات ومواقف مضحكة، رغماً من تراجيدية مثل هذه المواقف، و”الدالا” هو الدولار في اللهجة الأمريكية العامية.

وبطرف خفي، فقد عنيت من سرد هذه القصص، أن الفت انتباه إخوتي من المهاجرين، إلى أن أفضل طريق  للدالا، هو الطريق المستقيم، دون أن أتعرض بالإساءة للمهاجر أو الانتقاص من نزاهة مجتمع المهاجرين الكلي، فما أكثر الذين يطولون العنق، ويرفعون الهامة عالياً.

(كتابات) الأسلوب الساخر في الكتابة والذي تميزت به في نصوص عديدة لك.. هل هدفه الانتقاد اللاذع لبعض السلوكيات أم ماذا؟

  • لم أختر الكتابة الساخرة عمداً، لم أجلس يوماً، وقد شمرت عن ساعد الكتابة، وقلت لنفسي، سأكتب اليوم بأسلوب ساخر، ولكن يبدو لي أن أثارا بعيدة في ذاكرتي، تتصل بفنيات “توفيق الحكيم”، ولمحاته الساخرة في كثير من أعماله، وتجليات “السعدني”، و”أحمد رجب”، وكتاب سودانيون، وعرب متفرقون، ولربما كتابات غربية قرأتها، كان لها الأثر بشكل أو بآخر، في طريقة كتابتي، خصوصاً حين أردت مواجهة قضايا جادة، ولربما برزت السخرية، بقصد لا واع لتلطيف حدة وقع القص على المتلقي، وإسباغ نعمة النكتة الذكية عليه، وأعترف بأنني أدين للكاتب الروسي “جوجول”، بالكثير في طرق سردي، أو تناولي وتعاملي نصياً مع ما يدور من حولي، من أحداث عادية مملة، ومن ثم تحويلها إلى قصص مشوقة جاذبة.

(كتابات) في مجموعة “نخلة لا تنبت والأبنوس” حنين إلى الأم والأب وإلى العائلة والطفولة والسودان كوطن حميم.. احكي لنا عن ذلك؟

  • مجموعة (نخلة لا تنبت والأبنوس)، تشير بدلالة مباشرة، ومن عنوانها، إلى السودان، شماله وجنوبه، والاسم مقتطع من جملة كاملة في قصة (في حضرة النجمة التي هوت)، وفيها أقول (….. سب أبي شيئا ما لعله اسم الميكانيكي، وما تمكن من رفع يده بالشكر أو التحية، يد على المقود والأخرى قابضة على عصا تغيير السرعات الملتوية، المتصلة بجذع غليظ من الحديد والبلاستيك المقوى، ظلت أمي ترقبه بإعجاب من موقعها، إعجاب حفي خفي، وكنا نحن، سعداء بذلك الشعور الحفي الخفي، أخي وثلاثة أخوات، قرأن “الحمدو” بصوت عال، فتظاهر أبي بالخشوع، بينما واصل سبه الصامت للحديد وواصلت أمي تحديقها في غضبه، حتى افتر فاها عن ابتسامة واضحة، فضحكنا كلنا، وبدا لنا أبانا مثل نبي، يجوز له مالا يجوز لغيره من البشر، كان أبي مثل نخلة لا تنبت والأبنوس في تربة واحدة). ولربما كانت النخلة ترمز للشمال، وشجرة الأبنوس المدارية للجنوب، والذي يعرف الآن، بجمهورية جنوب السودان، ولربما أراد النص، أن يقول شيئاً، عن العلاقة بين الشماليين والجنوبيين، يخاف الناس قوله، أو ما يمكن تعريفه، بجملة المسكوت عنه.

في هذه المجموعة (نخلة لا تنبت والأبنوس)، نزفت في سخاء، حنين ثلاثة عقود قضيتها في المهجر، كنت أكتب، وأنا أرقب الوطن من خلال شاشات السيليكون، ومن خلال  سياحة وجدانية عميقة، وتبتل صوفي، السودان ورغماً عن بعده الجغرافي الشديد، ولكنه متجمد في ذاكرتي بالهيئة التي تركته عليها، وحالي من “إيليا أبو ماضي”، وهو ينشد، وطن النجوم أنا هنا، حدق أتذكر من أنا، حين غادر لبنان صبياً، وعاد إليه كهلاً. نفسها الظروف التي خلقت أدب المهجر اللبناني، تخلق الآن أدب المهجر السوداني، نسخة إلكترونية، فلا يستوجب أن تذهب للوطن، فالأقمار الصناعية، تأت به إليك، وأنت جالس كالقمر في فناء داره، كما يقول الكاتب السوداني بروفسير “علي المك”.

(كتابات) في مجموعة “نخلة لا تنبت والأبنوس” السرد يعتمد على التقطيع.. هل سعيت لعمل سرد مميز وهل تسعى في نصوصك إلى التجريب في السرد؟

  • السردية في (نخلة لا تنبت والأبنوس)، اعتمدت فيها أساسا، على أسلوب التأليف في موسيقى الجاز الأمريكية، والتي لها تأثير في أعمالي التشكيلية، فموسيقى الجاز، تقوم على الارتجال، أو أنها شكل سريالي موسيقي، لا يهتم كثيرا بالقوانين الموسيقية الصارمة، مثلما هنالك فن تشكيلي  سريالي، يقف متحدياً الفن الواقعي، فبينما تبدو وكأنها تبتعد عن المحاور ونقاط الارتكاز، إلا أنها ملتزمة بالإيقاع الداخلي، وكل ما يبدو نشازاً للأذن التي تعودت المتعارف، هو في حقيقته جزء أساسي في رواية الحدث، وقد أكون بشكل آخر أقرب إلى مدارس تيار الوعي، وتقنية المونولوج الداخلي، وقد يكون ذلك من تأثيرات (جويس) و(مارسيل بروست)، أو موسيقى (مايلز ديفيس) أو(ثيلونيوس مونك)، من يدري.

(كتابات) في مجموعة “نخلة لا تنبت والأبنوس” تستخدم لغة مميزة وصور وتوصيفات غير مألوفة.. كما أن العامية تصبغ المجموعة بالروح السودانية.. حدثنا عن ذلك؟

  • اللغة في (نخلة لا تنبت والأبنوس)، منتقاة لتوصيف حالة وجودية معقدة، وأنا من المؤمنين بأن العمل الفني، يعتمد على الدقة والاقتصاد، باستخدام المفردة حمالة المعاني، وقد بلغ بي الاحتياج إلى نوع المفردة هذا، أن لجأت لاستخدم العامية في كثير من الأوقات، ذلك لأن العامية هي الشكل اللغوي الوحيد المتجدد، مقارنة باللغة الفصحى، وقد تكون أكثر تحملا للنحت والطرق والتخريج والتشكيل، وقد يكون من مقاصدي، أن يتعرف القارئ العربي، على العامية السودانية، وقد سلك هذا الدرب من قبلي، الكاتب السوداني (الطيب صالح)، علي استحياء.

(كتابات) ما تقييمك لحال الثقافة والأدب في السودان؟

  • أتابع عن بعد الحال الثقافي في السودان، هناك انفجار روائي ملحوظ، ولكن معظم الكتابات تنقصها التجربة الحياتية، وكما هو معلوم فأن النظام الإسلاموي الشمولي، قضى بشكل تام على أي منهج أدبي أو فني لا يتفق ورؤاه الفكرية السلفية.

(كتابات) ما هي الأسباب وراء عدم انتشار الأدب السوداني في المنطقة العربية؟

  • مشكلة عدم انتشار الأدب السوداني، أو الفنون السودانية عموما في الوطن العربي، عدا “الطيب صالح” و”الفيتوري” بالطبع، (السودان واليمن بالمناسبة)، أعزيها حسب وجهة نظري، إلى أن كثيرا من الدول العربية لم تهتم بشكل جاد، بإدخال نصوص أدبية سودانية في المدارس مثلاً، فنحن في المدارس السودانية درسنا شعراء وكتاب من كل الدول العربية، ولكني لا أتصور طالبا عربيا  واحداً، يعرف الشاعر السوداني الفذ “إدريس جماع”، صاحب قصيدة النيل “من نشوة الصهباء سلسله”، و”ساكنو النيل سمار وندمان”، أو العبقري الشاعر “التجاني يوسف”، أو قاص من العيار العالي مثل الأستاذ “إبراهيم اسحق” وغيرهم.

(كتابات) هل حظ المغتربين السودانيين أفضل في ترويج أدبهم في رأيك عن الذين يقطنون في السودان؟

  • أستطيع أن أتحدث عن تجربتي فقط، أولا لأنني أتولى نشر كتبي وتوزيعها بنفسي، أدشن كتبي، وأدعو المهتمين بالشأن الثقافي، واستخدم الأنترنت للبيع والتوزيع، واستطيع القول، بأنني سعيد وقانع بالنتائج، وقد نجحت في توزيع مؤلفاتي الأربع، بشكل مرضي.

(كتابات) قيل أنك تشبعت بالثقافة الأمريكية وزاوجت بينها وبين ثقافتك السودانية في نصوصك هل هذا صحيح؟

  • عندي إعجاب خاص من زمن مبكر، بالموسيقى الأمريكية، أعني الجاز والبلوز تحديدا، وأصبح هذا الإعجاب مدخلا إلى العوالم الثقافية الأمريكية بشكل أوسع، فدخلت عالم “إدغار ألان بوط، و”ولت ويتمان” و”جاك لندن” و”هنري ملفيل” و”تينيسي ويليامز”، ونهلت من الإبداعات السينمائية، وأعترف أيضا بأن أسلوب الإخراج عند كل من “تارانتينو” و”كوبولا “و”اسكورسيزي”، أثر على طريقتي في السرد، وفي إخراج العمل الفني، الثقافة الأمريكية، ثرية جدا وجامعة، وتلتقي مع الثقافة السودانية، في تعدديتها العرقية والإثنية، واختلاط وانصهار كل هذه المتناقضات، في بوتقة واحدة، تنتج فنا وأدبا جديداً، ومتفرد بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

(كتابات)هل تعكس لوحاتك شغفك بالسودان والذي يظهر في رصد وتصوير ملامح الخصوصية السودانية؟

  • لوحاتي نافذتي الروحية علي الذاكرة، والذاكرة معبأة بصور الوطن، ما لا أقدر علي التعبير عنه بالكتابة، ارسمه.

قصص لتاج السر الملك..

الحب في زمن الصواميل

“حدثت (عزو) بحديث الذي حدث لي، في الليلة السابقة، كعادتنا نتذاكر الأحداث جليلها وحقيرها، نستخلص منها العبر، في شأن المبتدأ والخبر، طرقت درباً للإيناس يحبه عزو، قلت له بأنني التقيت بحسناء لم أرها منذ زمن بعيد، موغل في البعد، فانتبهت حواسه، قلت: كنا جماعة في مقهىً عربي، نتجالس ليلة أمس، حينما أتت تخطر تتبعها رفيقتها، مر السحابة لا ريث ولا عجل، توقفت حركة التنفس الطبيعية عند الناس، والأشجار التي تحيط بالمكان، سكت وشيشها، تباطأت في مشيتها، مثلما يحدث في إعلانات العطور، وسبحت في هواء من مشاعرنا، حتى سقط العدل على المدافع، قلت أحدث عزو، وقد أفلت ما بيديه مصغياً، ثم إنها جلست وصاحبتها، في مواقع يقابل مقعدي وأصدقائي، من زاوية منفرجة، ساد هرج بين النادلات فتنافسن على خدمتها، حتى العنادل حيا النيل صادحها، ثم انتبهنا نحن الأربعة في مجلسنا، إلى حقيقة أن حديثنا صار همساً، ولم يكن هنالك أي داعٍ لذلك، فاستعدنا أصواتنا، وتظاهر كل الرجال الجالسين في المواقع المختلفة، بلامبالاة زائفة، كل يحرس عيون الآخر بعيونه، خشية أن تنزلق في اتجاه المائدة التي تجلس عليها، فأصبح المكان أشبه بمتحف للشمع.

اختلست النظر إليها من على البعد، تحسست رقبتي، فوجدتها قصيرة إزاء هذا الشعر، فصرفت عقلي عن التمني، بيد أن عيني عاودتا النظر دون اعتبار لأوامري، وفي هذه المرة رأيتها بوضوح وجلاء، فاصطفقت (أدراج) عقلي لدهشتي، وأحسست بيد تنقب فيها في سرعة وجلبة، حتي حسبت الناس يسمعونها وهي تفتح وتسد، وفجأة وفي (فايل) قديم، وجدتها، صورتها، اسمها، المكان الزمان، وكل ما يود صاحب الضمان الاجتماعي علمه، قبل أن يباشر حديثه معك عن الفرق بين المعاش المبكر والمعاش الأساسي، قلت لنفسي أستريح من أثقال عبء هبط فجأة على روحي، أحدث أقرب الجالسين إليّ (عصام عصام، أنا الزولة دي بعرفا)، تحول عصام ونفسه قد سودته إليّ، رأيته وقد اكتسى وجهه بتعابير عددت من بينها، الرثاء والنقمة والحب والكره والغضب والحنان، حتى تحول وجهه في النهاية إلي وجه (توني مونتانا) الشهير ب (اسكار فيس)، ارتعدت حين هم بقتلي، وفي يده يحمل منشارا كهربائياً، بيد أنه أشار في رده على افترائي (عيان بيان بالعمل يا صديق)، نهضت من مكاني، ومشيت في اتجاهها مثلما مشي قريبي الشايقي وهو يلهج (الناس بشوق نبيها، من المالح فاتو غادي، إنتي ريدك جابني تنقاسي، اللحج في ها اول تبادي)، تحفز الخلق من حركتي المجنونة، حتى وكأنني سمعتهم يهتفون (الشعب يريد إسقاط النظام كلو)، وأكاد أجزم بأنني رأيت الشفوت والشبيحة وأن جمالاً وخيلاً بعثها مبارك من مكان حبسه في أثري، كرمال لحسن الترابي، وأنا ماضٍ إلى نهايتي مثل (أورفيوس) ساعة سقوطه، رفعت رأسها عجبا، فألتقت عيوننا وهي محاربة كما يقول الشاعر الغنائي، تململت جليستها قلقاً، فتذكرت أن كل كنزا ليه جان، فلم أعرها اهتماماً، بدا الأمر كله مثل مزحة سخيفة، ولكن لم يكن أمامي خيار غير السير قدماً، سجن سجن، غرامة غرامة، أدركت كوكب المريخ، فمددت يدي دون تفكير، فمدت يدها دون وعي، فتصافحنا، قلت إن لم تكن هي، فذي جائزتي قد نلتها، وبلسان الذي يلحدون إليه، ولساني عربي مبين، ابتدرته رعبها:

  • إزيك
  • أهلاً ………….. وعيون القلعة وجواهرها تتقافز أمامي.

حذفت من عقلي ولساني وعلى الفور عبارة (إنتي ما عرفتيني ولا شنو)، فطيرة محلاة بعبط الدنيا والآخرة، عوضا عنها لهجت:

  • إنتي مش إسمك حنتوشة؟.
  • أيوه أنا حنتوشة عرفت كيف؟

ثقتي تضخمت حتى ضاق بها الأفق الرحيب، وعاودتني آلام الكاريزما المزمنة.

  • مش كنتو ساكنين جنب (ساوث كاونتي)؟

اضطربت عيونها… وأجابت وكأنها غائبة عن الوعي.. نعم… صمت.. بمعني أها، ثم أن مقدمة شعرها، وأكاد أقسم، بأنها تحركت باتجاه حركة جبينها الذي اعتصرته، بحثاً عن إلفة وليفة في وجهي، أو شامة، أو سلسة ذهبية منحني إياها أبي (دهر مندرا) قبل وفاته، ليفرق بيني وبين توأمي (رام سينغ).

  • ايواااا صاح .. إنت عبدو مش؟

وهنا، هنا في هذه اللحظة سادتي، مددت رجلي، وتبينت ارتعاشا في يدي.

من ورائي أحسست بالغضب الساطع وهو آتٍ، وأصوات الذين انتظروا في صبر، فرقعة صوت الصفعة على وجهي، They want their money back، بيد أنهم اقتنعوا بأنها إنما أجلت لزمن لاحق، تحدثنا في رفق عن ذلك الزمن في (ساوث كاونتي)، عن الناس وأغنيات ماكسويل وعن الدنيا (وياهو حالها)، وتبادلنا أرقام الهواتف، والناس في شغل عن أمر واقعهم، حتى كاد الكيزان أن يستولوا على مكاسبهم الثورية.

انتهت المقابلة، مثلما بدأت، ليس تماماً، فنظرة الرعب تحولت إلى ابتسامة مشعة، عدت إلى موقعي، وحينما التف القوم حولي، بذلت لهم آخر ما في جعبتي من (غتاتة)، فقلت لهم موصداً الأبواب في وجه أمانيهم العذبة:

  • الزولة دي طلعت قريبتي.
  • فانحسروا عني في خيبة.

إلا أن عزو لم يقنع بنهاية قصتي، ففاجأني بالسؤال:

– إن شا الله تكون ربّطت؟.

–  اربّط شنو؟

– تربط الصواميل، كان ما قادر أنا بربط ليك، أنت زمان أخواتك ما شبطو ليك الصواميل مع صاحباتن؟؟

قلت:- لا،

قال: – إنتو كنتو في أفغانستان؟ حب السودانيين ده يا صديقي، عبارة عن صامولة كبيرة جداً إن تأتي لك لقاء فتاة جميلة أعجبتك، فلا تتوانى عن تشبيط صواميلها، إن لم تفعل شبطها غيرك!

 

من لحظة فراقي عزو وأنا أبحث عن زردية.

……………

كوابيس نهارية

“وافق صديقي الأمريكي (جيسي) على مساعدتي أخيرا، و بدأ في التدرب على أداء الدور الذي رسمته له بصورة يومية، بدأنا بشراء الثياب التنكرية من سوق الملابس المستعملة في (ألن تاون رود)، بذلة سوداء لعل صاحبها كان سفيرا، أو قسيس أو أستاذ جامعي، وحذاء (بوسطونيان) على مقاسه أو أوسع قليلا، ربطة عنق و حمالات بنطال كلاسيكية، موشاة برسومات قوطية، ومن دكان الرهائن، اشترينا بطاقة رسمية من الجلد الأسود، تتوسطها قطعة من النحاس المحفور على هيئة صقر وشعار فيدرالي عنيد، كانت مزيفة، ولكنها كافية للوفاء بالغرض.

(جيسي) صديقي، رجل أبيض في منتصف العمر، مديد شديد، تقاطيعه مطمئنة، تدل على نزاهة ومكر في آن معا، يعمل في تنظيف حدائق البيوت، والمداخن وعديد من أعمال الصيانة، تنتشر على أفق شعره الأسود أسلاك فضية رفيعة ناعمة، طيب يعشق البيرة ولعبة (البولينغ) في الأمسيات، مطلق، يسكن لوحده، تزوره ابنته الوحيدة في عطلة الجامعة في الصيف، سعيد بحريته، ولكنه لا يخفي إشفاقه على حال أصدقائه وخاصة المتزوجين منهم، دائما ما يتدخل لفض النزاعات، يصلح الشقاق حتى وإن لم يطلب منه أحد التدخل، بيد أنني طلبت منه ذلك، وعرضت عليه مشكلتي وخطتي الجهنمية لعلاجها، فقبل مساعدتي بعد تردد لم يطل قائلا (وت ذي هيل).

في الصباح الباكر، ارتدى (جيسي) بذلته السواء، وحذاءه الجديد العتيق، وضع نظاراته الشمسية بأحكام، صفف شعره، واستأجر سيارة (تاون كار) سوداء، وعطف في طريقه على المدرسة التي تعمل فيها زوجتي، كنت قد غذيته بما يحتاجه من معلومات، راجعنا كل التفاصيل بدقة وحذر في الليلة التي سبقت نهار المؤامرة، تحسبا للمفاجآت، فبدا كل شيء على ما يرام.

في مكتب الاستقبال، التقت به زوجتي بعد سماعها اسمها يتردد في ابهاء المبنى عبر الميكرفونات، أتت في عجل كعادتها، تدق الأرض بخطواتها دقا، لتجد السيد (جيسي) في انتظارها متنكرا، سألته في لهفة أن كان الأمر يتعلق بأحد أبنائها، فأجاب محركا رأسه بالنفي وهو يمد يده بالمصافحة، طلب منها أن تصطحبه إلى الخارج، وهنالك اتكأ بظهره على (التاون كار) السوداء، فاكتسب سواد بذلته بعدا رسميا جديدا، سألته عني دون أن يبدو عليها الانزعاج هذه المرة، وأضافت (كنت متوقعاكم تسجنو من زمان)، ولكنه خيب ظنها هذه المرة أيضا، ثم ابتدرها قائلا (السيدة (أميرة)، أعرفك بنفسي أولا، اسمي (روبرت ماكلوفلين)، صفتي رئيس مكتب العلاقات الأسرية بوكالة المخابرات الأمريكية – سي-آى-أيه، وقد تتعجبين لمجيئي لمقابلتك في مكان عملك، ولكن لن يطول عجبك إذا أخبرتك بأن زوجك عميل لدينا بالوكالة، منذ سبعة عشر عاما، هي عمر زواجكما على ما أظن، اتسعت عينا (أميرة) بالدهشة، وهمهمت بكلام مختلط، ذكرت الكلب والجحيم وأشياء أخرى وأمي، وهنا اعترضها (مستر ماكلوفلين) قائلا (أنا سعيد جدا بأنه لم يطلعك على طبيعة عمله الحقيقي، وقد يساعدك اعترافي هذا على إيجاد تفسير لكثير من تصرفاته المريبة)، تنفست (أميرة) الصعداء وهي في موقف عدم التصديق، اختلجت مشاعرها فلم تقو على أخفاء حيرتها، بينما واصل (جيسي) حديثه مكتسبا ثقة لا حدود لها، مواصلا في كذبه دون وازع (زوجك يا سيدتي، مسئولنا الأول في مناطق قرن ويلملم وجحفة وعرق، ونيسابور)، وأضاف ( والآن نعد إلى سبب زيارتي)، قاطعته بقولها (هل هو بخير)، (هو بخير) أجابها (ولعله الآن في هاواي في زيارة سريعة لقضاء مهمة عاجلة، وقد يعود في المساء ويحدثك بأنه كان مع صديقه كمال طيفور، لأداء واجبات عزاء في ريستون، نحن في الوكالة نهتم بصحة عملاءنا النفسية والجسدية، نراقبهم ونراقب الناس اللصيقين بهم، وأفراد أسرتهم، ونركز على سلوك زوجاتهم بالتحديد) شهقت زوجتي من الرعب، وهاجمتها الكوابيس النهارية، وهمت بالاعتراف بما لا يجوز ذكره، والاعتذار، أغرى فزعها (جيسي) بالخروج عن النص وفتح ثغرة لتلقي الشمار، ولكنه عاد إلى النص الأصلي موصدا الباب في وجه فضوله العنيد، عاد إلى حديثه عاقدا ما بين حاجبيه (و قد صبرنا كثيرا على صنوف العذاب والنقة غير المبررة التي يتعرض إليها عميلنا الجليل على يديك، كل يوم من أيام الأسبوع، صباحا وعشية، وشهدنا في صبر وتأثر، كيف أثرت هذه النقة المتصلة على أدائه المتميز، مما أضر ضررا فادحا بمصالح البلاد العليا وسلامة المواطنين، ولم يعد الوضع يحتمل السكوت عليه، فأجبرنا تحت ضغط (أبو كبير)، وبعد مشاهدة أفلام ثلاثين كاميرا منصوبة في منزلكم، وسبعين جهازا لالتقاط الأصوات وتسجيلها، اتضح لنا أنه لا مفر من التعامل معك باعتبارك عدوا للشعب من الدرجة الأولى، وقد انزعجنا في الوكالة من محاولاتك المتعددة لاغتيال هذا الرجل، مرة بصب الصبغة في شاي الصباح، ومد سلك الكهربا (العريان) في حوض استحمامه، وقد قمنا بإفشال كل هذه المحاولات كما ترين، بأعلامه قبل أن يقع الفأس في الرأس، وقد تجدين جوابا على تساؤلاتك عمن أفشل هذه الخطط، والكف عن إلقاء اللوم على أخته وأولياء الله الصالحين في بلاده).

شهقت أميرة مرة أخرى وهزت رأسها تعجبا واستسلاما ( كان بإمكاننا الزج بك في السجن، أو إيداعك بين أسوار غوانتانامو، حتى تتعلمي معني الحياة الزوجية الحقة، و بالمناسبة فإن الحسان اللاتي يحادثهن زوجك باستمرار، لسن سوى طاقم وإكسسوار، مثلما يحدث في أفلام بوند، كل ذلك حتى نموه على الأعداء بتبيانه في مظهر الرجل السفيه، غير المسئول، لا أكثر ولا أقل) وهنا قاطعته أميرة (حتى بسينة؟؟)، فأجابها في ثقة (بسينة زاتا).

وفي ختام لقاءه وقبل أن ينصرف، حذرها من مغبة أن يعلم أى أحد عن ذلك اللقاء ووقائعه، لما في ذلك من عواقب وخيمة، علينا وعلى أطفالنا، وعلى أمن وسلامة الوطن.

عدت كعادتي مساء ذلك اليوم، فتلقاني صبيتي عند الباب صائحين (جبتا الحاجات.. جبتا الحاجات؟؟)، احتضنتهم في فرح مخابراتي حازم، وأومأت لزوجتي بالتحية المقتضبة، كانت ترغي على الهاتف، مع أختها حسب ظني، حيث أنها قامت بقطع المكالمة دون وداع، وأظنني رأيتها وهي تمسح السقف والأركان بعينيها بحثا عن أجهزة الترصد دون جدوى، حيتني في رقة طال عهدي بسماعها، سألتني في رفق بلاستيكي شفاف (اتأخرت كده مالك الليلة؟؟ ضربت ليك ما رديت!!)، لم أتوان عن أجابتها بما اتفقت عليه مع (جيسي) (مشيت مع ناس كمال طيفور لبيت بكا في ريستون)، بدت بيارق النصر في عينيها، وابتسامة مبتسرة، طنطنت (بى ياتو خطوط؟؟ الفرنسية؟؟) ثم بالصوت العالي (مشيتو بي شنو)، تظاهرت بعدم سماعي للطنطنة، وأجبت (بالمترو)، ولم تكن تعلم أن المترو لا يمر بريستون.

عادت أيام العسل، وسنوات التشيز كيك، تغيرت لغة زوجتي إلى لغة العشق الأولى، واتخذت موقعها في طابية (أنا راجلي ما برضى فيهو ولا كلمة)، وتوافقا مع فكرة عملي فقد أصبح كل سائقي التاكسي من الشرق الأوسط مجرد إرهابيين، وتحول زعيق الصباح حول فراشي إلى همس رقيق (امشو برة يا أولاد أبوكم نائم تعبان يا حليلو، انتو ما عارفين حاجة ساكت)، ثم قبلة على خدي، وفي نصف إغماضتي، رأيتها وهي تتأملني في وله وإعجاب، فكأنما وجهي لم يعد مثل (البونية) كما كانت تطلق عليه في الأسابيع الماضية (أنا ما اخترتك ساكت، من زمان عارفاك ما هين…هسة لكن يقشرو بيك كيف؟؟).

توالت الأيام، وقضت زوجتي كثيرا من مشاويرها دون أن تدفع أجرا لسائقي التاكسي من فقراء البنغال والأفغان، وصارت كلما تحدثت إلى صديقاتها، تختم حديثها بجملة (عندنا ناس ما تخافي، مش القرين ده بنحرك ليك الكيس، يجيبو ليك في خشم بابك)، ولكنها رغما عن تحذيرات (جيسي) بتحري السرية، فأنها لم تكف لحظة عن تعليق الطعم في وجهي (والله مرات كده، انت بتكون غامض خلاص، ده العاجبني فيك بالمناسبة)، أو (البلد دي الزول ما يضمن يكونوا مركبين ليهو مكرفون في الحمام، الخوف كاميرا في أوضة النوم، ياب شرا).

و في شهور قليلات، اتسعت دائرة الاحترام، فشملت كثيرا من الأسر وأفراد الجالية، ما حللت بتجمع أو منشط عام، إلا و انحسر(فوليوم) اللغط حتى قارب الصفر، إلا ورافقتني نظرات الحسان حتى مقعدي، سعدت بتحلق القوم حولي بنظراتهم الواجفة، وتذكير بعضهم لي (يا حليل الدويم وأيام الدويم)، بالرغم من أنني لست من الدويم.

و أتى صباح أيقظتني فيه زوجتي من النوم في عجلة، وقالت ورنة الفخر تعلو صوتها، بأن جماعة من ناشطي المناطق المنكوبة ببلادنا يودون مقابلتي، قمت على (مهلي وأقل من مهلي)، قابلتهم في صالون البيت، فبادر زعيمهم بالاعتذار (والله نحنا البيت كان ما بيتنا ما بنجيك توش كدة)، طمأنته بهزة من رأسي، فمضى يقول (جايينك نوضح ليك حاجة، نحنا والله والله والله، القروش حقت الأغاثة دي بنرسلا أول بأول، شوف، الشفافية دي نحنا لو كانت ملاح ما بناكل غيرها، ما تشوف البيوت الأشتريناها دي، والله كلها من قروش الديليفري)، وفي ختام الاجتماع قال رئيسهم (والله نحنا ما سمعنا من الزول الأسمو حسين ده، لكن عارفين بوضعك ده من زمان، فياخي شوف لينا جماعتك ديل يسهلو لينا ورق الكونتينرات ديل).

وفي مساء ذلك اليوم، اتصل بى السيد (هاشم الحسن) قائلا (يا خي القاش ده جنن أهلنا، شوف جماعتك ديل يمسحوهو ولا ينقلو ناس غرب القاش ديل لجبيت)، أما عبد المنعم الجزولي اللدود، فقد توقف عن مغالطتي المزمنة، وبلغني عنه أنه قال (هو قطع شك في المخابرات، ما في اتنين تلاتة، صاحبي وبعرفو، جندوه قدامي في الحلفاية من زمان، لكن ما تسمعو كلام انو عب كبير وبتاع، مشغلنو صبي طباخ، وفي احتمال ينقلوهو يلملم).

تماديت في العسل وغوايته، حتى صدقت نفسي، ازدادت ثقتي بنفسي وأنا اشهد زوجتي تتحدث بالصوت العالي وكأنها قد اهتدت إلى مواقع الكاميرات الوهمية، فتصيح بإفادتها (اها قصرنا معاهو في شي؟؟)، يعقب ذلك سقوطها جثة هامدة على السرير وسرعان ما يملأ صوت غطيطها المكان.

و أتى اليوم الذي لم تقدر فيه مفاصل صبرها على الصمود، فصارحتني بقولها (عارف.. انت وكت أصلك بتصل لغاية يلملم..ما تغشى بالمرة عمي عوض الكريم في ابها وتجيب لى دهب من هناك).

فأسقط في يدي.

 

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب