4 مارس، 2024 5:43 م
Search
Close this search box.

مع كتابات.. بسام أبو شاويش: بعض قصص النضال الفلسطيني الحقيقية أغرب من الخيال

Facebook
Twitter
LinkedIn

 

خاص: حاورته- سماح عادل

“بسام أبو شاويش” كاتب فلسطيني مقيم في غزة، صدر  له : رواية (أنا آتيك به) ومجموعة قصصية بعنوان “زمن الكاتويشا”

إلى الحوار:

(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟

– شغفي بالكتابة بدأ من ثمانينيات القرن الماضي، كنت في العشرينيات عندما أصابتني سوسة الكتب وكنت قد قرأت لمعظم الكتاب العرب وخصوصا المصريين، قرأت أعمال “نجيب محفوظ ويوسف إدريس والعقاد وطه حسين والحكيم” ومن العرب “الطاهر بن جلون، الطاهر وطار” ومن لبنان “توفيق يوسف عواد” ومن سوريا “حنا مينا” وآخرين كثيرين. ناهيك عن الأدب الروسي والعالمي، إن بذرة الكتابة بدأت مع الأدب الروسي ومع “دوستيوفسكي” تحديدا، تأثرت به جدا وكنت ومازلت اعتبره مثلا أعلى.

ولعل خروجي من الوطن في سن مبكرة أتاح لي فرصة كبيرة لأنمي إمكاناتي الأدبية، خاصة أن دمشق في تلك المرحلة كانت تضج بالأنشطة الثقافية المختلفة، ومما لا شك فيه أن بيروت ساهمت بشكل كبير في تشكيل ذائقتي الأدبية. في البدء اهتممت بالشعر وأحيانا بالقصة القصيرة، قرأت الشعر العربي قديمه وحديثه وحتى الشعر المترجم وخصوصا الثوري منه ، كان يعجبني “بابلو نيرودا ولوركا”، واليوت، وأحيانا توماس مان”.

أول محاولة لي للنشر كانت قصيدة صغيرة نشرتها في بريد القراء في مجلة “الهدف” التي كانت تنطق باسم “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”. كانت تلك محاولة ساذجة لكنها أفادتني كثيرا، فقد اكتشفت أنني لا أجد نفسي حقيقة إلا في النثر، خصوصا القصة القصيرة وفيما بعد الرواية، ولعل المسألة الأكثر أهمية والتي زادت من منسوب الشغف بالأدب كانت انضمامي لفتح وانغماسي في العمل العسكري، ومراكمة تجارب كثيرة وغنية ومتنوعة خلال تلك المرحلة من حياتي.

(كتابات) في رواية “أنا آتيك به” لما اخترت شخصية “وليد مسعود” التي هي أحد شخصيات جبرا إبراهيم جبرا الشهيرة؟

– عن اختياري لشخصية “وليد مسعود” في رواية “أنا يأتيك به” فالأمر بدأ بعد قراءتي لرواية “جبرا” الشهيرة “البحث عن وليد مسعود”، شعرت حينها أنني أعرف “وليد مسعود” شخصيا، واستمرت الفكرة في السجن. فقد كنت معتقلا سياسيا لعدة سنوات في سجون ذوي القربى. ناقشت الفكرة مع صديق مهتم بالأدب ولديه رؤية نقدية جادة فشجعني على كتابة رواية عن “وليد مسعود”. أردت في الحقيقة أن أبدأ من حيث انتهى “جبرا”، لكني ترددت، كنت أدرك أن القارئ لابد أن يعقد مقارنة بيني وبين “جبرا” وهي لن تكون لصالحي بأي حال من الأحوال.

شخصية “وليد مسعود” شخصية ثرية ومتعددة الجوانب ولعل الجانب الفلسفي كان كليا في رواية “جبرا” أكثر من أي جانب آخر، لذلك رأيت أن أستخدم الاسم فقط وابني عليه وأركز على جوانب أخرى لم يركز عليها “جبرا” خلال تناوله للشخصية. “وليد مسعود” في رواية “أنا اتيك به” ليس هو نفس “وليد مسعود” الذي كتبه “جبرا”، أصبحت المسألة تشابه أسماء وأيضا تشابه أمكنة…!!!

(كتابات) في رواية “أنا آتيك به” ما مدى اختلاف التناول بينك وبين جبرا؟

– ثمة فرق كبير بين الشخصيتين، “جبرا” كما سبق وذكرت ركز على الجوانب الفلسفية في الشخصية واقتصر تناوله على مرحلة تاريخية لحد ذاتها لم يتجاوزها، أما في “أنا اتيك به” فقد ركزت على جوانب متعددة إنسانية وعاطفية وعملية…الخ…

إضافة إلى ذلك فقد غطت شخصية “وليد مسعود” في “أنا اتيك به” عدة مراحل من تاريخ النضال الفلسطيني الأمين ولو من بعيد مراحل متأخرة من ذلك التاريخ الحافل بالأعمال والخيبات.

(كتابات) في رواية “أنا آتيك به” شخصية وليد مسعود شخصية أقرب للشخصية الأسطورية أو الخارقة لما؟

– أبدا، بالمرة، ليست خارقة ولا أسطورية. ثمة شخصيات عملت في مواقع مهمة في الثورة الفلسطينية كانت تبدو عن بعد خصوصا، لمن لم يعرفها عن قرب، شخصيات أسطورية في حين أنها إنسانية جدا، تحمل كل ضعف الإنسان وعطائه وإن بدت عن بعد وكأنها شخصيات خارقة. و”وليد مسعود” في “أنا آتيك به” يأتي ضمن هذا السياق. هو لا يجترح المعجزات ولا يقوم بما يعجز الآخرون عن القيام به، يبدو أن الكثيرين بسبب بعدهم عن دائرة النضال الفلسطيني يعتقدون أن بعض ما يكتب هو من قبيل المبالغات، في حين أن بعض قصص النضال الفلسطيني الحقيقية هي ربما أغرب من الخيال…!!! لذلك فشخصية “وليد مسعو”د في “أنا اتيك به” هي شخصية موجودة بقوة، وهي إنسانية جدا وليست أسطورية أو خارقة.

(كتابات) هل لابد للبطل أن يكون متعدد العلاقات ومعشوق النساء في رأيك؟

– غالبا، نعم، وإلا كيف سيكون بطلا؟؟؟ البطولة هنا لا تعني اجتراح الخوارق أو المعجزات، لكنها تعني ببساطة شجاعة القول والفعل معا. شخصية البطل لابد أن تكون منسجمة مع نفسها، وإلا فلا معنى للبطولة، واعتقد أن النساء يستهويهن هذه النوعية من الشخصيات. ربما لطابع المغامرة والوقوف على شفا الموت الذي تتميز به شخصية البطل غالبا.

(كتابات) في رواية “أنا آتيك به” رصدت النضال الفلسطيني والعقبات التي واجهته خاصة في القرن الماضي حدثنا عن ذلك؟

– نعم صحيح، وهذا الأمر مقصود تماما، ثمة مراحل وأحداث مهمة في مسيرة النضال الفلسطيني لم يتم تسليط الضوء عليها بما يكفي، حاولت في “أنا آتيك به” أن أملأ فراغا ما أو أسد ثغرة تركت مفتوحة دون أن يفكر أحد في إغلاقها. لابد للأجيال الفلسطينية الصاعدة أن تعرف وأن تدرس تجارب الذين سبقوا كي لا يقعوا في نفس الأخطاء. هذه للأجيال هي التي ستحمل عبء القضية في المستقبل لذلك لابد أن تدرس تجارب السابقين واستخلاص منها العبر، وتتعلم كيف تتلافى الأخطاء التي وقع فيها من سبقهم، ربما كان هذا أحد أهم الدوافع لكتابة “أنا آتيك به”.

(كتابات) في مجموعة “زمن الكاتويشا” تناولت المحن والمآسي التي يواجهها الفلسطينيون.. هل لابد أن يعبر الأدب عن قضايا المجتمع؟

-أكيد، وإلا لن يكون أدبا، سمه ما شئت، لكنه أن لم يحمل هم الناس فأنه لن يكون أدبا. أنا ضد فكرة الفن للفن، ضدها على طول الخط، أنا مع الالتزام في الأدب، بمعنى أن الأدب لابد أن يكون ملتزما بقضايا الجماهير. هنا لابد أن أعيد ما قاله الراحل الكبير “غسان كنفاني” عن الالتزام: “أن تلتزم يعني أن تكتب ما تعتقد أنه الحقيقة، أن تكتب وفي عينيك نظرة مستقيمة نحو الهدف”.

واعتقد أننا كفلسطينيين مطلوب منا أكثر مما هو مطلوب من أي أحد آخر أن يكون أدبنا ملتزما. خصوصية الحالة الفلسطينية تجعل من الالتزام أمرا حيويا لا مناص منه.

(كتابات) ما تقييمك لحال الثقافة في فلسطين وغزة بالتحديد؟

– الوضع الثقافي الآن ليس كما يجب، منذ التوقيع على اتفاق أوسلو ووضعنا الثقافي يراوح بين التردي والصعود، ليس ثمة ثبات. اعتقد أن الوضع السياسي يعكس نفسه على الحالة الثقافية في فلسطين، أظن أن أدباء فلسطين في مناطق ١٩٤٨ هم العلامة المضيئة في الثقافة الفلسطينية الآن.

وأكاد أجزم أن حالة السيولة وإن شئت الفوضى التي سادت في العقد الأخير فيما سمي بالربيع العربي كانت أحد أهم الأسباب فيما وصلت إليه الثقافة من تذبذب وتردي، ليس فلسطينيا فحسب بل وعربيا أيضا، لكن مع ذلك تبقى هناك استثناءات. ثمة بعض الكتاب مازالوا يقبضون على جمرة الأدب، مازلنا نقرأ أشياء جميلة رغم التردي السائد.

(كتابات) لماذا في رأيك اختفت القضية الفلسطينية من الأدب العربي في الوقت الحالي؟

– إلى حد ما، لكن ليس كما كان الأمر سابقا، غياب القضية الفلسطينية من الرواية العربية يعود لأسباب عديدة، منها انحسار المد الثوري بعد أوسلو وغياب ذلك الوهج الثوري الذي طالما كان عامل جذب للأدباء العرب للكتابة عن القضية وعن فلسطين، اتفاق أوسلو أيضا كان سببا مباشرا وراء خفوت الاهتمام العربي بالقضية. الفوضى والربيع العربي شيئان آخران لغياب فلسطين عن الرواية العربية، ومع ذلك هناك بعض الأقلام والأصوات العربية مازالت ملتزمة بفلسطين وقضاياها، لكن مؤكد ليس الأمر كما يجب أن يكون. مع ذلك ليس مطلوبا من الأدباء العرب أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك، نحن في فلسطين نتفهم الوضع جيدا، ولا نلوم أحدا.

(كتابات) هل الأدب الفلسطيني يجد رواجا في البلدان العربية الأخرى ولما؟

– هذا السؤال متعلق بالسؤال السابق إلى حد ما، لا أستطيع أن أحدد بدقة حجم رواج أدبنا الفلسطيني في البلاد العربية. هذا الأمر يحدده الناشطون لكني اعتقد أن الأدب الفلسطيني مازال يلقى رواجا معقولا في بعض الدول العربية مثل لبنان وسوريا ومصر وربما العراق. أما في دول الخليج فأظن أن الرواج محدود، باستثناء الكويت التي ومن خلال متابعتي للنشاط الثقافي فيها اعتقد أن الاهتمام بأدبنا  الفلسطيني مازال موجودا بقوة. أيضا في الجزائر والمغرب العربي عامة مازال أدبنا يلقى بعض الرواج وإن كان محدودا إلى حد ما. أسباب محدودية الرواج تعود للأوضاع السياسية والاقتصادية المعقدة التي سادت ومازالت تسود حتى الآن، المواطن العربي الآن يعاني على كل الأصعدة وبات نوعا من الترف الاهتمام بالأدب بشكل عام وليس فقط الأدب الفلسطيني.

قصة ل”بسام أبو شاويش”..

الرواية/ المؤامرة

… ظل لسنوات طويلة يتساءل وشعور بالمرارة يطغى على كل خلايا روحه.. “ترى كيف سيكون شكل العالم لو كان كل الزعماء والوزراء ورؤساء الحكومات أدباء… أو فنانين؟؟”

… فكر وهو يتصفح كتاب لأندريه مالرو الوزير الفرنسي المثقف الذائع الصيت.. “عليك أن تكتب عشرة ألاف صفحة ثم تمزقها لكي تكتب صفحة واحدة تستحق النشر!!”…

لماذا قال مالرو ذلك؟ يتساءل وابتسامة أشبه بتكشيرة أسد جائع ترتسم على شفتيه.. منذ عشرين عاماً وربما أكثر وهو يضع مشروع روايته الأولى.. يضع الخطوط العريضة.. المفاصل الرئيسية للرواية.. مواصفات الأبطال.. الأمكنة.. الأحداث… يوزع الأدوار الثانوية.. يقتبس ثم يمزق ما اقتبسه!!.. “يجب أن تكون الرواية خالية ن أي اقتباس”..” ستكون روايتي الخاصة”…

… عشرون عاماً وهو يكتب ويمزق.. ثم يكتب.. ثم يمزق… ثم يتذكر ما قاله مالرو.. يتساءل بمرارة وسخرية.. “ترى هل بلغ ما كتبته ومزقته عشرة آلاف صفحة كي أبدأ في صياغة الرواية؟”

… ثمة أمور كثيرة يجب أن تتضمنها الرواية.. قضايا شائكة كثيرة لا بد أن تكون محور روايته.. هل يتحدث عن قضية الديمقراطية في هذه البقعة المتوترة من العالم؟… هل يناقش قضية الصراع بين الحضارات؟ هل يتطرق إلى قضية حل الخلافات في الرأي بواسطة كواتم الصوت؟؟ هل يناقش مشكلة حل النزاعات بين الدول بالقوة في مرحلة تمر بالتحولات الكبرى والانتقال من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين لكثير من أنظمة الحكم في كل أركان المعمورة؟؟

لكن هل يجرؤ على الاقتراب من هذه المناطق الحساسة؟ وإذا واتته الجرأة فهل يكتب مباشرة ودون مواربة أم يلجأ إلى التلميح وربما إلى الرموز؟ سيقولون عنه جبان.. مدّعي .. وقد يتهمونه بالترف الثقافي.. وربما بالبرجوازية العفنة!!!

… ثمة تهمة شائعة في هذا الشرق تطال كل من يلجأ إلى الرمزية أو إلى استخدام لغة صعبة ومفردات غريبة نادرة التداول… يقولون عنهم مدّعو ثقافة.. جبناء.. موالون للسلطة!!! وأحياناً عاجزون.. لكن حتى لو لجأ إلى هذا الأسلوب- الذي لا يحبه- متجاوزاً كل الاتهامات فهل ينجح؟؟ ثمة قضايا لا يمكن معالجتها بمفردات صعبة وأسلوب رمزي.. قضايا لا بد من مناقشتها بمنتهى الوضوح وبلغة سهلة يفهمها الجميع…

… هل يمتلك القدرة على كتابة روايته/ الحلم بلغة صعبة ومفردات لا يعرفها إلا قليل من المتبحرين في علوم اللغة والنحو والصرف.. والبلاغة!!!؟

تذكر عشرات المجموعات الشعرية التي كتبها منذ البدايات الأولى لإصابته بفيروس الأدب!!! أحرقها كلها.. لم يبق منها سوى بضع شذرات عالقة في الذاكرة…

عندما جرب مرة أن ينشر قصيدة قصيرة لا تتجاوز صفحة واحدة من القطع المتوسط، وقد نشرها يوم ذاك في مجلة فصلية متخصصة بالشعر الحديث.. في اليوم التالي مباشرة تم استدعائه إلى فرع الشرطة السرية… ثمة مكتب لهذه الشرطة في كل حي وزقاق في المدينة… وهي تقوم بدور حيوي ومهم في حفظ الأمن والنظام العام!!!

هكذا يقولون… وقد يكون ما يقولونه ملفقاً!! المهم أنه قابل الضابط المكلف بقضيته.. قال له الضابط بلهجة محايدة تماماً:

– مرحباً بشاعرنا العظيم!!!

لم يستشف أي سخرية من لهجة الضابط… لكن كلماته كانت خالية من أية جدية.. تمتم بتحية وظل واقفاً ينتظر الأمر “السامي” بالجلوس… ولكن الأمر تأخر ولعل الضابط استمرأ خوفه وارتباكه فتركه واقفاً.. تمعن فيه بصمت.. عذّبه بصمته الطويل!؟؟

دارت به الأرض وهو يتذكر ما سمعه من معتقل سياسي أمضى بضع سنوات في سجون الشرطة السرية بسبب مقالة سياسية في صحيفة أجنبية.. لقد هاجر هذا المعتقل بعد خروجه من السجن مباشرة… لم يتمكن من المكوث في الوطن يوماً واحداً!!!

… جاءه صوت الضابط بارداً.. حاداً.. حاسماً… “لم نكن نعرف أنك من الجماعة”… فتشنا في كل الملفات القديمة، وعدنا إلى الأرشيف المركزي للجهاز، ولم نجد لك أي ملف.. ولا حتى تقرير واحد!!! أليس هذا غريباً؟ … وتابع… بسخرية.. “لابد أنك على درجة عالية من الحذر.. للدرجة التي لم تلفت أنظار مخبرينا!!!”

صمت طويلاً وبعد تنهيدة تعب مفتعل/ لصالح من تعمل؟

ثم عشرات الأسئلة.. مئات الأسئلة.. وعشرات الاستبيانات… أملأ هذا النموذج… عبئ هذه الورقة… ابصم هنا.. وقّع هناك… كم مرة سافرت خارج القطر؟ هل لديك أقارب يعملون في مؤسسات أجنبية؟ هل سبق وعملت مع أحزاب أو منظمات سياسية؟ هل تصلي الفجر في المسجد؟؟

ثم.. أسئلة أخرى غريبة… ما رأيك بالخلاف بين علي بن أبي طالب ومعاوية؟؟ ما رأيك بفكر الخوارج؟…

… وانتهى به الأمر في زنزانة ضيقة في رواق طويل يسميه المعتقلون ممر الرعب!!!

لم يكن الصراخ ينقطع في هذا الرواق ليلاً أو نهاراً… حفلات التعذيب- كما يسمونها متواصلة ليل نهار-.. لم يكن ذاك صراخاً بشرياً… كان أشبه بصراخ حيوان يتعرض للذبح!!!

…حطموا أعصابه تماماً… دمروه من الداخل…

كان جاهزاً للتوقيع على أي اعتراف… المهم أن يخرج من هذا المأزق… لكن الغريب أنه لم يتعرض لأي تعذيب أسوة بالآخرين…

ذات صباح استدعاه ضابط التحقيق، وبهدوء شديد أعاد له أوراقه وأماناته وسمح له بالذهاب!!! كان وجه الضابط بشوشاً وهو يصافحه ويقول بمودة مبالغ فيها جداً “بإمكانك الذهاب الآن”… لم يصدق ما يسمعه.. وما يراه… ظل يحدّق في وجه الضابط مأخوذاً… بدت عليه البلاهة وهو يردد.. أذهب؟؟ وجاءه صوت الضابط بحنق هذه المرة… هيا اذهب… لا نريد أن نراك هنا مرة أخرى… هيا..

غادر المركز وهو لا ينوى على شيء… وظلت ذكرى اعتقاله عالقة بذهنه سنوات طويلة… لم يجرؤ على نشر كلمة واحدة بعد تجربة اعتقاله!!

… وكتب كثيراً… ظل يكتب ويمزق… كان جباناً لدرجة أنه لم يعد يفكر مجرد تفكير بالاحتفاظ بما يكتبه سوى ليلة أو بعض ليلة… ثم يمزق ما يكتبه، ويتمزق قلبه وتتفتت أعصابه مع كل ورقة يمزقها !!!

كانت ذكرى ذلك الاعتقال التعسفي تثير رعبه… وها هو الآن وبعد عشرين عاما”ً وأكثر يأخذ القرار الصعب… كتب كثيراً وقرر أن ينشر ما كتبه.. وليكن ما يكون… كيف واتته الشجاعة لاقتراف مثل هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر؟ هو لم يفكر بتوجيه هذا السؤال الصعب لنفسه.. ظل مشروع الرواية يلح عليه إلحاحا غريباً.. يطارده في يقظته ومنامه حتى أضحى أسيره تماماً…

بدأ متردداً.. ثم شيئاً فشيئاً عاودته حمىّ الكتابة قرر أن يلجأ إلى التاريخ.. دائماً وجد في التاريخ ملاذه الآمن!! حضرته واقعة استشهاد الحسين في كربلاء وبدأ يحيك مؤامرته حولها… كانت الرواية أشبه بالمؤامرة… سوّد عشرات الصفحات، كتب التاريخ… بل أعاد كتابة التاريخ على طريقته الخاصة!!!

… تحدث عن الصراع الدموي بين عليّ ومعاوية.. رجع للكتب القديمة، درس التوراة والإنجيل وكتب المستشرقين.. قرأ كل ما وقع تحت يديه من تفاسير للقرآن، عاد لما كتبه سيد قطب وأبو الأعلى المودودي.. لم يدع شيئاً عن القضية إلا وقرأه!!!

وفي الصفحة الأخيرة من الرواية تساءل ببراءة خبيثة:

“ترى لو سمىّ محمد عليه الصلاة والسلام خليفة من بعده، هل كان سيقع الخلاف ويراق كل هذا الدم، ويستشهد الحسين شهادة مازالت ماثلة للشيعة حتى الآن، لدرجة أنه يحتفلون بها على طريقتهم الخاصة.. لماذا لم يفعل محمد ذلك؟ هل أراد أن يكون الأمر ديمقراطياً؟؟ وكتب بين هلالين “وأمرهم شورى بينهم”!!! ولكن.. وعاد يتساءل بخبث أشد “ولكن لماذا لم يسمىّ أبو بكر علياً من بعده؟؟ ثم عمر لماذا لم يفعل ذلك؟ لماذا تجاهلوا علياً؟؟ ويتساءل بنفس الخبث” هل كان هناك مؤامرة على الإمام عليّ وبالتالي على آل البيت؟؟

من يجيب على هذه التساؤلات.. ويحل المعضلة التاريخية؟؟

ويتابع.. ولكن لماذا  يتآمرون على الامام عليّ وهو ابن عم رسول الله وزوج ابنته الحبيبة فاطمة ؟؟ وهو من أراد أن يضحى بحياته من أجل النبي عندا نام في فراشه ليلة هجرته  وكان مشركو قريش يتآمرون لقتله في تلك الليلة بالذات؟

ألم يكن الرجل يستحق.. لكن ضرورات السياسة تدخلت لتحرمه من هذا الحق”!!!

لم يستطع إنهاء روايته كما يشتهي.. ظل يبحث عن خاتمة مناسبة.. مقنعة، لكنه لم يصل إلى نتيجة مرضية!! وأخيراً وصل إلى النهاية المبتغاه التي بحث عنها طويلاً… وصل إليها وهو في نفس الزنزانة القديمة التي كان نزيلها منذ أكثر من عشرين عاماً…!!

دمشق 1989

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب