23 نوفمبر، 2024 10:56 م
Search
Close this search box.

مع كتابات.. الدكتور حسين الهنداوي: الفلسفة البابلية بمثابة الأصل البعيد للعقلانية الكونية الحديثة

مع كتابات.. الدكتور حسين الهنداوي: الفلسفة البابلية بمثابة الأصل البعيد للعقلانية الكونية الحديثة

 

حاوره: طارق الكناني

عندما يمتزج الشعر بالفلسفة حتما ستكون الحصيلة نوع خاص من السمو في  المعاني والتنوع في الأغراض الشعرية والتعمق في الذات والمحيط، وحتما ستكون الفلسفة معيارا حاكما في فهم ما يصوغه من درر، بعيدا عن السياسة وكل تعقيداتها ومتطلبات الانتخابات وصراعاتها التقينا اليوم الأستاذ الدكتور “حسين الهنداوي” مستشار رئيس الوزراء لشؤون الانتخابات، وحاورناه حول منجزه الأدبي والفكري. ففي البداية نرحب به ضيفا عزيزا على صحيفتنا، ونحب أن نعرّف القرّاء الكرام بضيفنا الكريم.

–  اسم الشهرة: الدكتور حسين الهنداوي.

–  الاسم الكامل: عبد الحسين يعقوب عزيز الهنداوي.

–  مكان وتاريخ الولادة: (الهندية – العراق 1947).

–  البلد الأصلي: (العراق).

–  التخصص الجامعي: الفلسفة الحديثة.

– اللغات: العربية والفرنسية والإنكليزية وبعض الكردية..

– التحصيل الأكاديمي:

  • دكتوراه بدرجة شرف في الفلسفة الحديثة (بإشراف البروفيسور جاك دونت) ، فرنسا، جامعة بواتيه،1987.
  • ماستر في الفلسفة الحديثة، فرنسا، جامعة بواتيه، 1982.
  • دبلوم في اللغة الفرنسية، جامعة بواتيه، فرنسا، 1977
  • بكالوريوس في الفلسفة، كلية الآداب، جامعة بغداد، 1970.
  • أكمل دراسته الابتدائية في الهندية (طويريج) والإعدادية والجامعية في بغداد.
  • شاعر وكاتب عراقي.

المؤلفات المنشورة..

  • “هيغل والإسلام”، (باللغة الفرنسية)، منشورات دار (Orients Éditions) باريس 2021. 320 صفحة. وهذا الكتاب أول دراسة أكاديمية موثقة حول منظور الفيلسوف الألماني الشهير هيغل عن الإسلام كما عن الأصول الإسلامية لبعض الأفكار الهيغلية الأساسية.
  • “التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيغل” (الساقي، بيروت 1996).
  • “هيغل والفلسفة الهيغلية” (الكنوز الأدبية، بيروت 2004).
  • “على ضفاف الفلسفة” (بيت الحكمة، بغداد 2005).
  • “أخاديد” (مجموعة شعرية، منشورات عراق للإبداع، أربيل 2012).
  • “محمد مكية والعمران المعاصر” (دار العربية للعلوم ناشرون، بيروت 2012).
  • “فلاسفة التنوير والإسلام“: فولتير، جيبون، مونتسكيو، روسو، هيردر، غوته، هيغل، ونابليون..” (منشورات دار المدى، بيروت 2014)
  • “الهندية طويريج، بيتنا وبستان بابل” (منشورات دار المدى، بيروت 2015).
  • “استبداد شرقي أم استبداد في الشرق؟”(منشورات دار المدى، بيروت 2016).
  • و”لبنان 1991، رحلة في كوكب ممزق“، (منشورات دار المدى، بيروت 2018).
  • “الفلسفة البابلية“، (منشورات دار المدى، بيروت 2019)،
  • “مظفر النواب، تأملات وذكريات“،(منشورات دار المدى، بيروت 2021) قيد النشر.
  • “ولادة الكون لدى طائفة “أهل الحق” أو العليّلاّهيّة” (تأليف محمد مكري) ترجمة عن الفرنسية، (أصوات- 1994) لندن، المملكة المتحدة.
  • كتب قيد الصدور بالعربية: “في الفكر الفلسفي العراقي المعاصر“، “دولة اللادولة في الفكر الحديث“، “في نقد العقل الأمريكي“، “المفكر البابلي بيروسا”، “علي الوردي والمنهج الجدلي”.
  • له عشرات المقالات والمحاضرات والمقابلات الفلسفية والأدبية والصحفية منشور معظمها في دوريات ومجلات رئيسية أهمها “الاغتراب الأدبي” و”نزوى” وصحيفة “الحياة” و”دراسات شرقية” و”الصباح” و”الصباح الجديد” والحكمة” “إضافة إلى مجلة “أصوات” التي أسسها مع أدباء وفنانين عراقيين آخرين في فرنسا عام 1976. كما ترجمت له عشرات المقالات إلى لغات أجنبية أبرزها الانكليزية ونشرت في عدد من أبرز الصحف الأمريكية من بينها (الناشيونال انترست) و(الناشيونال رفيو) والواشنطن تايمز والعديد غيرها.

الجوائز التي رشح لها:

الجائزة السنوية لعامي 2001 و2002 المخصصة لأفضل مقال لصحفي أجنبي مقيم في المملكة المتحدة.

الاتحادات الأدبية والفكرية المشارك فيها..

1- مؤسسة (عراق للإبداع)، رئيس المؤسسة منذ 2005 ولحد الآن،

2- الجمعية الفلسفية العراقية في الخارج، عضو مؤسس.

3- نقابة الصحفيين البريطانية. عضو دائم.

4- جمعية الصحفيين الأجانب في بريطانيا. عضو 1997-2002.

 أهم الخبرات والمواقع المهنية..

– مستشار دولي أقدم لدى الأمم المتحدة واليونسكو بين 2008 و2015، وأول رئيس للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق بين 2004 و2007، ورئيس تحرير القسم العربي لوكالة يونايتدبرس العالمية للأنباء (UPI) لتسع سنوات بين 1995 و2004، وعضو بعثة منظمة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إلى هايتي بين 1993 و1995. ومبعوث منظمة العفو الدولية إلى لبنان واليمن بين 1991 و1993، ثم عضو وفدها إلى اليمن خلال الحرب الداخلية في 1994، وقبلها مؤسس القسم العربي في جامعة بواتيه الفرنسية والمحاضر الأساسي فيه بين 1982 و1985، وكاتب في أبرز الصحف العربية (الحياة، السفير، المدى، القدس العربي..) منذ 1980 إلى الآن.

نشاط سياسي..

مستقل سياسيا منذ خروجه من العراق في منتصف السبعينات. انتقل مع عائلته من الهندية إلى بغداد في نهاية 1960. واشتغل منذ نهاية 1962 عامل في مطبعة الهلال ثم في مطبعة ثنيان ببغداد، عمل بعدها مراجعا لغويا في مجلة “العاملون في النفط” حيث نشر عددا من القصائد والمقالات الأدبية بموازاة النشر في عدد من الصحف العراقية. بعد أيام من تخرجه من جامعة بغداد عام 1970، اعتقل من قبل أجهزة السلطة البعثية في 10/5/1971، وتعرض للتعذيب أثناء التحقيق. وقد اضطر بعد إطلاق سراحه، إلى الهرب من بغداد والتخفي داخل العراق لنحو أربع سنوات ملتحقا بالحركة الثورية العراقية المعارضة.

قبل أن يتسلل إلى سوريا ثم إلى لبنان في 1975، ومنه لاجئا سياسيا إلى فرنسا حيث درس اللغة الفرنسية واشتغل عاملا في الزراعة والبناء ثم مترجما ثم مدرسا في جامعة بواتيه الفرنسية بعد إكمال الماجستير والدكتوراه فيها. كما أسس القسم العربي لكلية الآداب في الجامعة نفسها والموجود لحد الآن وعمل فيه لسنوات قبل أن ينتقل عام 1990 إلى العمل الصحفي أولا، ثم مستشارا دوليا لحقوق الإنسان لدى منظمة العفو الدولية، وبعدها مستشارا لدى الأمم المتحدة منذ 1993 في هايتي وجمهورية الدومينيكان، قبل أن ينتقل إلى منصب رئيس تحرير القسم العربي في وكالة أنباء عالمية لثمان سنوات، انتهت بعودته إلى العراق بعد سقوط النظام السابق واختياره من قبل الأمم المتحدة للإشراف على إنشاء مفوضية الانتخابات في العراق ورئاستها لسنوات، وأخيرا عودته مستشارا دوليا أقدما لدى الأمم المتحدة من جديد.

وكان الحوار التالي:

  **عند قراءة سيرتك الذاتية المشرقة، ألا ترى أنك تحبس قدراتك بجلوسك في هذا الموقع، أي كمستشار رئيس الوزراء للانتخابات؟ وهل يستحق منصبكم الحالي كل هذه التضحية؟

– هذا السؤال يطرح دائماً لا سيما من الأصدقاء والمعارف. وقد طرحته أنا نفسي مرارا. حتى رئيس الجمهورية سألني هذا السؤال المحرج قبل أسابيع: “مكانك ليس هنا! ألا ترى معي بأنك تضيع وقتك في مهنة الانتخابات..” قال لي د. برهم صالح بمودة عالية أمام مشاركين في اجتماع بمكتبه بينما كان يقلب صفحات كتاب لي عن “الفلسفة البابلية” أهديته نسخة منه آنذاك. وهو على حق بلا ريب.

ولكن، ومع اعتزازي البالغ بهذا التثمين، لا اعتقد بأن حسم الاختيار بين الفلسفة والحياة العملية سهل أو ممكن كمجرد خيار شخصي لا سيما في بلد كالعراق، حيث على الكاتب أن ينخرط في شلال الحياة بما فيه من تناقضات وأخطار، إذا قرر مقاومة العزلة ورفض التحول إلى مجرد متقاعد أو مجرد مثقف يعد أوراقه الأخيرة وهو في طريقه إلى الانقراض.

وفي كل الأحوال، لا أترك فرصة سانحة دون أن أوظف فيها الطاقة المعرفية التي امتلكها، سواء في كتابة نص أو في نشاط جامعي أو في فعاليات حيوية لمنتديات فكرية أو أدبية في العراق أو مع الجاليات المغتربة. وعلى العموم، إن أي منصب لا يستحق التضحية ولا قيمة له أمام جلال الشعر أو الفلسفة ومهما كان.

 **هل تسمح لك مهماتك الوظيفية في الانتخابات بامتلاك الوقت والتركيز اللازم لمواصلة الاهتمام بالفلسفة والأدب؟

– يعتمد الأمر على مواسم العمل والأولويات والظروف. لكن على العموم لدي دائما الوقت اللازم لمتابعة اهتمامات الفكر والكتابة. أنا موظف انتخابات دولي منذ عقود. وهي عمل يدوي أو عضلي إذا جاز القول ولا تحتاج إلى طاقة ذهنية كبيرة على عكس الكتابة الأدبية والفلسفية. لكنني لست موظفا عاديا. فهنالك في عملي بالانتخابات العراقية لا سيما المقبلة عوامل جذب وتحديات فكرية وسياسية تغرينا بالعمل من أجلها ولو جزئيا.

فمن جهة هناك قناعة بإمكان تقديم خدمة ولو بسيطة من خلال المساهمة في دعم إجراء انتخابات مبكرة وعادلة وحرة ونزيهة. بالتأكيد لا توجد ضمانات كافية كما أن هناك كثيرون لا يؤمنون بواقعية هذا المشروع. إلا أنه لا خيار لنا سوى المحاولة وتصحيح المحاولة وكل التجارب العالمية في دول العالم النامي مرت بهذا الطريق الوعر ونجحت غالبا. العامل الآخر هو أنني امتلكت معرفة تقنية وسياسية مطلوب مني توظيفها اليوم. ولا ضير أن يلتقي هذا مع طموحنا طموح أغلبية العراقيين بإجراء انتخابات ديمقراطية نزيهة وشفافة.

هل سيتمكن العراق من انجاز هذه المهمة؟

– العراق وطن حقيقي فضلا عن أنه يمتلك ما لا يمتلكه غيره في المنطقة من طاقات بشرية وطبيعية وحتى روحية تجعله قادرا على تجاوز حالة الرجل المريض التي يعانيها حاليا إلى حالة القوة الإنسانية البناءة وحتى القيادية. بلا شك، هناك اليوم صراع ينبغي الانتصار فيه، ومعركة ينبغي الفوز بها. نعم يمكننا إجراء انتخابات ديمقراطية نظيفة وعادلة إذا وفرنا الشروط اللازمة لها وقدمنا كل الدعم للمفوضية لتمكينها من تحقيق النجاح في تعميم الاعتماد على النظام البايومتري حصرا في كل مراحل العملية الانتخابية.

إلى جانب توفير المراقبة الوطنية والدولية الفعلية وقيام الدولة بتوفير بيئة آمنة وحرة للانتخابات عبر كافة الإجراءات الممكنة، وحظر السلاح المنفلت والمال السياسي المنفلت ورفض التدخلات الخارجية والداخلية المسيئة لنزاهة العملية الانتخابية، فضلا عن تفعيل تنفيذ العقوبات القانونية على كافة الجرائم الانتخابية وتشديدها دون إغفال لزوم قيام القوى الجديدة والشابة بتنظيم نفسها ومضاعفة استعدادها لضمان تحقيق فوز حقيقي ولو نسبي في الانتخابات.

كيف ستسمح له الحيتان التي تحيط به بتحقيق هذا الهدف؟

– إرادة الشعب يجب أن تحترم باعتباره مصدر السلطات والانتخابات لن يكون لها أي معنى إذا لم تكن حرة ونزيهة. بلا شك هناك عقبات وصعوبات وحيتان لكن العراق بحاجة مصيرية إلى التغيير والخروج من حالة الخطر التي يمر بها الآن، وعلى الجميع الاستجابة لإرادة الناس بحياة كريمة اقتصادية وسياسية أيضا، لا سيما وأننا أمام مجتمع كبير قوامه حوالي أربعين مليون نسمة في بلد عريق بالحضارة والثقافة والثقة بالنفس، لكنه يعاني في نفس الوقت من مرارة الفشل ومن معاناة  كبيرة جدا وعميقة.

وأنا اعتقد أن هذه الوضعية لا يمكن أن تستمر طويلا. فحتى من وجهة نظر فلسفية لا يمكن لها أن تستمر كونها غير عقلانية وخرجت من كل الأطر تقريبا. على العكس اعتقد أن القوى القديمة خسرت المعركة مع الشعب أصلا وهي تدرك ذلك كما تدرك أنها فقدت السيطرة على مقاليد الأمور رغم كل المظاهر ولذلك فهي تحاول الآن أن تتكيف مع الحقائق الجديدة.

ألا تعتقد بأنك تتبنى نظرة متفائلة جدا؟

–  قد يكون ذلك وهو ضروري. هناك اليوم قوى قديمة تلفظ أنفاسها ولكنها ما زالت تقاوم. هناك تقييمات مختلفة وهذا صحيح. البعض وصفها بأنها أصبحت نمورا من ورق فيما يرى آخرون أن أوراقها انكشفت وأسلحتها باتت قديمة لكنها ما زالت نمورا. أنا اعتقد أن هذه القوى استهلكت نفسها ولم يعد لديها ما تقدمه للمواطن.

إلا أن غياب البديل الجديد هو المعضلة الأساسية الآن. ومن وجهة نظر ديالكتيكية أرى أن هناك أمل قوي بتغيرات إيجابية كبيرة في العراق خلال السنوات المقبلة ولدي الثقة الكاملة بأن الوضع لا يمكن أن يستمر على هذه الصورة بعد الآن، ولذلك أشعر أن هناك مجال لدي لتقديم عمل مفيد من خلال الانتخابات وهذا يتيح لي التواصل مع الناس.

** لماذا اخترت الفلسفة هل كانت طموحك الشخصي أم فرضتها عليك رغبات القبول المركزي؟

– فرضتها رغبات القبول المركزي الجامعي بالفعل. فعند التقديم إلى جامعة بغداد في العام الدراسي 1966 -1967، أردت الالتحاق بقسم اللغة العربية بكلية التربية لأنني كنت أطمح أن أحصل على وظيفة مدرس بعد التخرج، وكانت وظيفة تضمنها الدولة لخريجيها دون الكليات الأدبية الأخرى. لكن الحظ لم يحالف حفنة طلاب حفاة كنت أحدهم، إذ رمونا وملفاتنا في لحظة حرجة، أسرعت أثرها إلى كلية الآداب لأجد أن كافة الأقسام “البرجوازية” قد أغلقت أبوابها ولم يعد أمامي سوى أقسام الاجتماع والصحافة والآثار والفلسفة فتشبثت بهذا الأخير، رغم تحذيرات كثيرين من التورط باختيار هذا القسم “التعبان” بنظرهم. وأتذكر عندما دخلت إلى الصف الأول في قسم الفلسفة أننا كنا ستة عشر طالبا مبعثرين في القاعة لا يعرف أحدنا الآخر، كما لو أنهم جميعا جاءوا إلى قسم الفلسفة مرغمين هم أيضا وربما بنفس الطريقة التي أوصلتني إليهم لكننا سرعان ما بنينا علاقات تعاون طيبة.

 ** لو عاد بك الزمان، وأعطيت لكِ فرصة ثانية للاختيار، هل كنتَ ستختار قسما آخرا غير الفلسفة؟

– لن يعود الزمان إلى الوراء طبعا. لكن إذا خيرت من جديد افتراضا لاخترت قسم الفلسفة دون تردد. فقد صرت أفضله على كافة الأقسام الأخرى في كلية الآداب والتربية أيضا مع احترامي لهما. لكنها كانت مسيرة طويلة وعسيرة قبل الوصول إلى هذا الاستنتاج. وللحقيقة كنا محظوظين أن نعاصر تلك الحياة الجامعية الجميلة في كليات جامعة بغداد في منتصف الستينات، وقبل الانقلاب البعثي في تموز 1968 الذي كانت اعتداءات جلاوزته على الهيئات التدريسية والطالبات والطلاب كارثة على المستوى العلمي ما تزال الجامعات العراقية تدفع ثمنها إلى الآن.

فقبل ذلك الانقلاب كان الكليات زاهرة بالأنشطة الثقافية والعلمية ولا سيما كلية الآداب التي اشتهرت بمهرجانها الشعري السنوي، الذي تنافس فيه شعراء الكلية وكنت المضطهد دائما بينهم نظرا إلى أنني من قسم الفلسفة، بينما كانت اللجنة التحكيمية متكونة من أساتذة اللغة العربية المنحازين إلى تلاميذهم بشكل فاضح غالبا.

أما قسم الفلسفة فقد اشتهر بنخبة من الأساتذة لعلهم الأفضل في كل تاريخ القسم ما منح تلك الفترة تسمية “الفترة الذهبية” لتدريس الفلسفة في العراق، وكان أبرزهم المفكرون الراحلون (مصطفى كامل الشيبي وحسام الالوسي وياسين خليل ومدني صالح) كما تميز القسم بجريدة جدارية باسم (الفكر الجديد) كانت تستقطب الطالبات والطلاب وكنا نحررها كاملة، وأتذكر أنني نشرت فيها أولى كتاباتي وقصائدي.

** قال تعالى (يُؤْتِى ٱلْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ. وَمَن يُؤْتَ ٱلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا…) سورة البقرة الآية 269… ومعنى كلمة فلسفة هو حب الحكمة. وهذا يجعل من الفلاسفة أشخاصا حكماء ومفكرين والأهم من ذلك رساليين أي بمعنى أصحاب رسالات… فهل أنت كذلك؟ وما هي رسالة حسين الهنداوي؟

– أنا ما زلت تلميذا بسيطا ونقطة صغيرة في بحر الفلسفة المترامي. الفلسفة نور عظيم. وحب الفلسفة نعمة بكل المعاني. وهذا ما صرت أتيقن منه يوما بعد آخر. وهذه هي الرسالة. وهي موجودة تلقائيا وربما فطريا لدي إلا أن تجلياتها تسمو وتتجدد يوما بعد يوم. ولم يكن هناك تخطيط لها ولم يكن هناك مشروع. خلال فترة الدراسة الجامعية في بغداد كانت هناك نبتة بالفعل لكنها ذبلت بفعل طغيان الشعر على معظم الاهتمام والعنفوان، ثم أهملت تماما ونسيت لصالح هموم السياسة والأيديولوجيا وكذلك الشعر الذي ظل يقاوم.

لكن الفلسفة عادت بشكل أقوى من أي وقت مضى بعد الانتقال إلى فرنسا والعودة إلى الدراسة الأكاديمية وخاصة الفلسفية في جامعة بواتيه، حيث مركز دراسات هيغل وماركس الذي أنشأه وظل يديره أستاذنا الراحل البروفيسور “جاك دونت” عالم الفلسفة الفرنسي العالمي، الأهمية في دراسة الفلسفة الهيغلية. وهكذا ومع مرور الزمن والتجربة صارت الرسالة هي جعل الفلسفة تلعب دورا أساسيا في خدمة ثقافتنا الوطنية قدر المستطاع.

 **هل تواكب الثقافة العراقية تيارات الفلسفة العالمية المعاصرة في نظرك وكيف تدعم ذلك؟

– اعتقد أن الثقافة العراقية الراهنة بين أنشط الثقافات العربية في مجال التفاعل الحيوي والبناء مع تيارات الفلسفة العالمية المعاصرة. وهذا ليس جديدا وإن كان يتم بشكل عفوي وغير منهجي في الغالب. لكنني أرى ضرورة العمل أيضا على تأصيل العلاقة بين الفلسفة وثقافتنا التاريخية على أساس علمي لأن الثقافة ومنها الفلسفة هي البعد الأساسي في الهوية الوطنية العراقية، وهو ما يميزها ويغنيها منذ البداية وعلينا مواصلة تغذيته وفق شعار (زرعوا فأكلنا..) وتعميق النزعة الإنسانية العالمية فيها ومن هنا تعاملي مع الفلسفة البابلية كالأصل البعيد للعقلانية الكونية الحديثة.

واعتقد أننا كلما توغلنا أكثر في البحث كلما اكتشفنا مناطق خصبة جديدة في الثقافة العراقية الأصلية وأيضا في الفلسفة، وهذا ما حاولت تأكيده في كتابي عن الفلسفة البابلية غبر تقديم دلائل مؤكدة تقريبا على أن كلمة فلسفة أصلها بابلي ومعناها “حب الحكمة” أيضا وهذه الأطروحة أصبحت متداولة جدا حاليا حتى خارج العالم العربي.

ونفس الشيء حول موضوع الدولة الذي نعمل على تعميق الحوار الفلسفي حوله في سلسلة مقالات عن نظرية الدولة ما بين هيغل وابن خلدون، كشفنا فيها عن عمق فكرنا الفلسفي السابق وأصالة أطروحاته في بناء الدولة وهيكليتها وشكل الدول، وهذا الحوار مطلوب الآن في التعامل مع النظريات الفلسفية حول الدولة سواء كانت إسلامية كالتي يمثلها ابن خلدون أو غربية كالتي يمثلها هيغل أو غيرها.

 ** أين تكمن قوة فكرة الدولة لدى هيغل في رأيكم؟

– تكمن في التأكيد على أن الدولة هي العقلاني والمطلق والثابت الذي تبلغ فيه الحرية سموها الأقصى. لكن للوصول إلى الدولة التي يجد فيها الفرد نفسه حراً تماماً يتوجب على الإنسان تطوير عدة أشكال من الدول، بموجب عدة مبادئ وعبر عدة حقب تاريخية ابتداء من اللحظة التي يبدأ فيها قطيعته مع حالته البدائية على المستوى الحضاري العقلاني.

أي أن الدولة هي الأساس والإطار التي تنمو به الحضارة ككل، بما فيه الفن وضروبه المختلفة مثل الشعر والموسيقى والعمارة والمسرح وكل الأمور الأخرى وأيضا بالنسبة للفلسفة نفسها والتيارات الفلسفية، تحتاج إلى هذا الإطار الذي يحميها وأيضا يوفر لها الحريات الأساسية. وبالنسبة للفكر الهيغلي إن الدين هو مصدر الدولة، وإن شكل العلاقة بين الله والإنسان في أي دين هو الذي يخلق شكل الدولة وهذا ينطبق حتى على أبسط أشكال الدول. فحتى في دولة الطبيعة في إفريقيا مثلا هناك علاقة روحية تشعر بها الإنسان بسموه.

أما سر صمود الفلسفة الهيغلية فتلخصه ببساطة جملة واحدة وهي: لا يمكن أن تكون هيغليا بعد هيغل. أي أن الهيغلية مفهوم متحرك كالحياة. لأن الديالكتيك يغذي بل يفرض ديمومة الصراع والفكر المتجدد، وأنا اعتقد أن أهم ما تعلمته من الفلسفة هو لا دوغمائية ولا عقائد جامدة بعد اليوم. أي أنه ليس هناك حي إلا هذا الصراع الذي يبدو بمثابة ينبوع الحياة المتجدد والمستمر والذي نحاول أن نكون جزء  منه، لكن الجزء الحي في نفس الوقت وليس فقط مجرد تكرار باهت أو تكرار ميكانيكي لما يحدث.

وهذا التكرار نجده في الأيديولوجيات والشعارات، وأنا خلال تجربتي في العمل السياسي أو الحزبي وجدت نفسي اصطدم غالبا مع المسئولين الحزبيين، وخاصة هؤلاء الذين نطلق عليهم (الأيديولوجيين) إذ غالبا ما يكون هؤلاء أكثر قمعا حتى من شرطة القمع، كما لو أن الأيديولوجي يشعر الرغبة بالانتقام كلما شعر بالهزيمة الفكرية أو كلما شعر بلزوم التخلي عن فكرة لديه.

** بعد كل هذه الدراسة والبحوث التي اطلعنا على الجزء اليسير منها فوجدناها غنية بالمعرفة والحكمة وخصوصا في مجال بناء الدولة، هل كانت لكم رؤية في هذا المجال منفصلة عما يطرح الآن؟ وهل آمن بكم أحد؟

– الفكرة الجوهرية هي رفض الاستبداد بكل أشكاله لأن الاستبداد قد يبني أقوى بلاطٍ أو سلطة قمعية، لكنه لا يستطيع أن يبني الدولة لا سيما دولة الحقوق التي نطمح إلى بنائها وهي نقيض الاستبداد بالطبع. نعرف جيدا وهذا ما ركزنا عليه بالتفصيل في كتاب (استبداد شرقي أم استبداد في الشرق) أن القوى الاستعمارية الأجنبية اتهمت كل الدول الشرقية والإسلامية على مر التاريخ بالطغيان والاستبداد لتبرير احتلالها لبلداننا.

إلا أن كل هذا وغيره لا ينبغي أن ينسينا حقيقة أن تاريخ الدولة في الشرق لم يكن إلا سلسلة لا تنقطع من الأنظمة الاستبدادية وغالباً البشعة. ومن هنا استنتاجنا المعروف بحقيقة أن هناك استبداد في الشرق والغرب على حد سواء، وهو ما يؤكده التاريخ السياسي الغربي، حتى الثورة الفرنسية على الأقل، حيث توالت على الحكم سلسلة من الأنظمة الاستبدادية والمطلقة غالباً الأمر الذي يعني أن من الخطأ القول بوجود علاقة قدرية بين الإسلام والطغيان، أو بين الشرق والعبودية تماماً كما أنه محض وهم القول بوجود علاقة قدرية بين الغرب والحرية أو بين المسيحية والديموقراطية.

 ** طبيعي هذه حاجة الإنسان إلى دين تفرض عليه هذه الحالة إذا لم يجد الله ليعبده تجده يضع حجارة ليعبدها ولكن دعنا نناقش بناء الدولة في الفكر الإسلامي.. هل حدد الدين الإسلامي شكل الدولة أو نوع الاقتصاد؟

– في كل الأديان هناك موقفان أو تياران يمكن أن نطلق عليهما يساري ويميني، المحافظ والمنفتح وهذا يشمل الإسلام الذي يركز على فكرة العدالة والمساواة دون ترويج نموذج محدد أو ثابت لشكل الدولة. على المستوى العملي، وإذا استثنينا الفترة الراشدية، فإن كل السلطات المنتسبة إلى الإسلام بدءا من السلطة الأموية حتى السلطة العثمانية هي أنظمة قمعية لا علاقة لها بمفاهيم العدالة والمساواة وغيرها التي دعا لها الإسلام.

وهذه العلاقة البعيدة عن مفاهيم الإسلام وحتى المضادة له هي ما تستند إليه بعض الجماعات المتطرفة والإرهابية بزعم التفسير الأصولي للنص وأمثال هذه الجماعات الأصولية الاعتباطية وجد بشكل مبكر في الواقع ونعرف الاعتداءات التي تعرض لها مفكرو المعتزلة في بغداد وغيرها من قبل الجماعات الأصولية المتطرفة، لمجرد أنهم سعوا إلى التأويل على أسس عقلية دعا إليها القرآن الكريم ذاته، وفي إطار المحافظة على الأصول الأساسية وخاصة التوحيد والعدل، وغيرها من مسائل أساسية ترسم العلاقة بين الله والإنسان وبين المجتمع والأفراد وانعكاس ذلك في الدولة، سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية، وأنا اعتقد أنه من الضروري جدا الآن العودة إلى إحياء وتطوير الأفكار والجوانب العملية غير المكتشفة لحد الآن في فكرنا حول الدولة، وعبر العمل على عزها دون السقوط في حبال المصلحية النفعية أو التعصب أو الابتعاد عن جوهر مبادئ العدالة والمساواة والتضامن والتسامح التي يبشر بها الدين نفسه.

 ** معروف عن المؤسسة الدينية بكل أشكالها إيمانها بالنظم الثيوقراطية وهذا يتعارض مع آراء المفكرين والفلاسفة والحكماء وغالبا ما تكون نهاية الفلاسفة على يد رجال المؤسسة الدينية على مر العصور.. هل عانيت من هذا الموضوع وما هو موقف المؤسسة الدينية مما تطرحه من أفكار تنويرية؟ أم أنت متصالح معها فيما تطرحه من أفكار في بناء الدولة؟

– هذا سؤال مهم جدا لكن الأمر لا يخص هذا الدين أو ذاك أو هذه المؤسسة الدينية أم غيرها خاصة، وأن الأديان والقادة الروحانيون الحقيقيون يؤكدون جميعا الآن على العدالة والمساواة والحقوق الفردية وحرية المعتقد وحتى حقوق الإنسان. المواجهة بين المفكر والمؤسسات الدينية ليست حتمية كما كان الأمر في الماضي لكنها ستكون مواجهة عبثية لمن يصر عليها وضارة بالجميع. مشكلة المفكر الحقيقية هي مع السلطة السياسية وليس الدينية في الواقع. وعلى أية حال فإن قدر المفكر أن يمشي بين ألغام ليس له يد في صنعها. كل مؤسسة تعتبر نفسها عليا تنظر إلى المثقف بارتياب وهذه بديهية. حتى في الأحزاب الأكثر أيديولوجية وديمقراطية في العالم لا سيما الثالث هناك مواجهة ما لا مفر منها تنتظرك.

في بداية حياتي السياسية والفكرية وعندما كنت في حركة يسارية جيفارية الهوى واجهتنا هذه الحقيقة بشكل صادم. الصدام مع القيادة العليا كان قدرا تتفاقم خطورته مع الأيام في تجربة قاسية جدا لنحو ثلاث سنوات ونصف في أعالي جبال تكاد تلامس السماء لم يكن يهم الزعيم خلالها إلا تكريس سلطته العليا وعصمته. لكن مع ذلك كانت تجربة عظيمة في جوانب عديدة منها لا سيما في هدفها النبيل بالخلاص من النظام البعثي الفاشي الذي عاث في الأرض فسادا ما بعده فساد.

إن تجربة حركة الكفاح المسلح التي شهدها العراق في نهاية أعوام الستينات الماضية تحتاج إلى وقفة طويلة جدا لسرد دروسها ومجرياتها التي هي صفحة نيرة من تاريخ العراق الحديث، وشارك فيها عدد كبير من العراقيين المناضلين وبينهم شعراء وكتاب وعمال وفلاحون من كل أنحاء البلاد. ومع ذلك كنا دائما نصطدم بالقيادة التي بدت لنا كمجرد دكتاتورية مصغرة كان علينا أحيانا أن نتجنب التصادم معها كي نواصل الحياة من جانب ونواصل عملنا الثوري ضد النظام الدموي من جانب آخر.

** للشعر حصة أيضا في حديثنا.. كيف تمكن الشعر واقتحم عالم الفلسفة الذي تعيشه؟ كيف كانت البدايات؟

– في البدء كان الشعر وقبل الفلسفة لدي في الواقع. فقد بدأت كتابة الشعر منذ أعوام الدراسة في المتوسطة إذ كانت أول قصيدة وتحديدا في منتصف 1963، ثم تطور الأمر خلال الدراسة الإعدادية إذ كتبت قصيدة في رثاء الشاعر بدر شاكر السياب وأخرى وجدانية أردت إيصالها إلى أم كلثوم كي تغنيها وكانت مستلهمة من قصيدة الأطلال، وقصائد أخرى إحداها عن استشهاد الإمام الحسين (ع) وكنت آنذاك طالبا في الصف الرابع بثانوية الشعب بالكاظمية وكان عمري حوالي 17 عاما. وقد ساهم في بلورة قدراتي الكتابية اهتمام مدرس اللغة العربية في ثانوية الشعب آنذاك وهو الأديب والشاعر “مظفر بشير” وكان أستاذا كريما جدا كان يحول درس المحادثة في كل يوم أربعاء إلى درس لإبراز مواهبنا البسيطة، بالسماح لكل طالب بإلقاء خاطرة أو قصيدة أمام التلاميذ ثم يدعو التلاميذ إلى مناقشتها وهذه كانت تجربة مبكرة وجديدة ربما في ذلك الوقت.

وكنت مع تلميذين أو ثلاثة آخرين نتفرد في قراءة القصائد والخواطر كل أسبوع تقريبا، وفي أحد المرات أخذ مني الأستاذ قصيدة ونشرها في بريد القراء بجريدة البلد البغدادية، وكان ذلك في حوالي عام 1965 وقد مثل منعطفا في حياتي الشعرية. وبالفعل فقد نظمت الكثير من القصائد العمودية القصيرة لأغراض شتى.

وحين انتقلت إلى الدراسة في كلية الآداب في صيف 1966، كانت مهاراتي الشعرية قد تبلورت بشكل أفضل ما سمح لي بنشر نصوص منها في صحيفة جدارية خاصة بطلاب قسم الفلسفة توليت تحريرها، وكان مما نشرته قصيدة غزلية بسيطة سرعان ما شاهدت أحد الطلاب ينقلها ويرددها بإعجاب أثار فرحي، وقد شجعني ذلك على مواصلة كتابة الشعر العمودي قبل أن أتقدم للمشاركة في مهرجانات كلية الآداب السنوية بانتظام ونلت عدة جوائز تشجيعية، كما نشرت العديد من القصائد في الصحف والمجلات العراقية وقد جمعتها لاحقا في مجموعة شعرية باسم (رمال) أجازت وزارة الثقافة آنذاك نشرها إلا أنها لم تر النور أبدا. بيد أنني نشرت عددا من القصائد والمقالات في مجلة (العاملون في النفط) أثارت اهتماما ومكافآت وأشهرها ربما قصيدة (بيادر الصمت) التي لحنها الفنان “نامق أديب”.

 ** ما هي حصيلة هذه الرحلة مع الشعر؟ هل كانت غنية مثلما هي الفلسفة أم شيء عابر؟

– في عام 2013 صدرت لي مجموعة شعرية أولى بعنوان (أخاديد) وهناك مجموعة أخرى في الطريق إلى النشر قريبا. وهناك قصيدة عن بغداد لحنها الموسيقار “نصير شمه” وانتظر أن يتم إطلاقها قريبا. وهناك عشرات القصائد الأخرى غير منشورة. الشعر في نظري أصعب وأقرب إلى الروح من الفلسفة برغم أن قصائدي المتأخرة اهتمت بالبعد الفلسفي بشكل خاص. منها قصيدة: “الأيّامُ.. حمَلتْنا في رحمِها كالسّلاسلْ”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة