خاص: حاورته- سماح عادل
“إبراهيم القاضي” كاتب مصري، من مواليد 1980، شربين محافظة الدقهلية، حاصل على ليسانس آداب قسم لغة فرنسية، كلية الآداب جامعة المنصورة 2002. يعمل مدرس لغة فرنسية بالأزهر
هو عضو اتحاد كُتاب مصر، صدرت له ثلاث روايات ،”القرية” 2012، و”عزبة الباشا” 2014، و”كفر الدراويش” 2018.
إلى الحوار:
(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟
– ثمة ردود معروفة مسبقًا، كأن يقول الكاتب، منذ نعومة أظفاري، وهذا غير صحيح، فلقد كانت بيني وبين القراءة ما صنع الحداد، ولكن التطور الدراماتيكي، حصل أثناء تأدية الخدمة العسكرية، حين أهداني زميل رواية “إني راحلة” ل”يوسف السباعي”، يومها لم أنم حتى انتهيت من قراءتها، وانفعلت لدرجة البكاء الطفولي مع البطلة، بيد أن شيطانة الكتابة لم تهبط علي، وتحرك رغبة الكتابة بداخلي، إلا عندما أهداني نفس الزميل، رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”، هذه الرواية الفارقة، التي كان لها الفضل، في تحريضي على فعل الكتابة، فحين انتهيت من قراءتها، شعرت أن لدي ما أصرح به لهذا العالم، لدي الرغبة في إعلان الرفض، فمنذ ولدت و “لا” أحب إلى كثيرًا من “نعم”. خُلقت قلقًا، تطاردني الهواجس، كمطاردة الطيور الجارحة للحم ضحيتها، ومنذ تلك الأيام وليس لي ملجأ يعصمني من تلك الهواجس، غير الكتابة وقراءة الكتب الجيدة، وإن كنت أظن أن تلك الهواجس ستبقى معي فوق الأرض، وربما ترحل معي تحت الأرض، وتصير رفيقتي في الأبدية.
(كتابات) في رواية “كفر الدراويش” هل استخدمت الرموز للتعبير عن أفكار ما؟
– أود أن أقول أولًا، أن عنوان الرواية كان “كفر الدكر”، وهذا الاسم الأقرب إلى نفسي. بالطبع اللجوء إلى الرمزية، واحدة من حيل الكاتب للمراوغة، وعدم التصادم المباشر مع النظام، وهنا لا أقصد النظام السياسي بالضرورة، بقدر ما أعني، النظام الذي جُبلت عليه مجتمعاتنا العربية، والتي تفرض قوانين خانقة، والكاتب ثائر بطبعه، يحاول عبر كتاباته تحطيم، ما تيسر له من التبوهات، كما أن للرمزية مآرب أخرى، منها إشراك القارئ مع أبطال الرواية لحد التواطؤ أحيانا مع شخوصها..
وفي “كفر الدراويش” كان الأبطال من لحم ودم، ليسوا دائمًا ملائكة، وكذلك ليسوا دائمًا شياطين. وأنا لا أنحاز أبدًا للأحكام المسبقة، ولا أؤمن بالخير والشر المطلقين، فمن تراه من وجهة نظرك شيطان رجيم، بالنسبة لغيرك بطل أسطوري، وثمة أتباع بالملايين لقتلة مستبدين، بداية من “جنكيز خان وهتلر وموسيليني وستالين وماو تسي تونج”، رغم أن كتب التاريخ مليئة بفظاعاتهم في حق البشر.
(كتابات) في رواية “كفر الدراويش” هل الأحداث التي بها واقعية وما مدى مطابقة الريف في الرواية للريف في الواقع؟
-الفن وفي القلب منه الأدب لا يحلق بعيدًا عن فضاءات الواقع، ولكنه لا يتماهى معه لحد التطابق، والكاتب ابن بيئته، التي يتفاعل معها. ويشعر بمحيطه ولكن برغم أن أحداث الرواية تدور في الريف المصري، إلا أن قضيتي الأولى هي الإنسان، الذي تصادف وجوده في قرية كفر الدكر، ولا يختلف كثيرًا عن غيره في أي بقعة من بقاع العالم، فهموم الإنسان واحدة مهما تعددت الأماكن.
وأنا كائن يبحث عنه نفسه في الماضي، يشعر بغربة الزمان والمكان، مريض بالنوستالجيا، لذا ألوذ بالماضي، للهروب من أهوال الحاضر، وأبحث عن الأمان في وجود المهمشين، وضحكة البسطاء. كائن يحلم بالعدل على الأرض ولا يجده، فيصيبه الاكتئاب، ويلوذ بالخيال ليخلق عالمه الخاص الذي يسوده قيم العدل والحب والخير والجمال، يمكنك أن تقولين، أني أحد سكان الهامش، ويحب حياته هذه، ويكتب عن أقرانه من المهمشين، الذين لا يبحثون عن بطولات فارغة، بسيوف من القش. إن التاريخ يرحب بالمنتصرين، وينظر بعين الفخر لبطولاتهم ويحكي عن انتصاراتهم، دون أن يرف له جفن وهو يرمق المستعبدين في الأرض، الذين لولاهم ما صنع هؤلاء أمجادهم، لذا أراني موظفًا، لدي هؤلاء المهمشين،الذين تنكر لهم الزمن، أدون أخبارهم، وأتحدث عن أحلامهم، وأبكي لأحزانهم.
(كتابات) في رواية “كفر الدراويش” لما يحكي الراوي من خلال عيون أهل القرية وأفكارهم خاصة في موضوع الإيمان بوجود الجن؟
– الإيمان بالجن قديم في الريف، والإنسان العاجز عن تفسير ما يحيط به من ظواهر، يبحث عن تفسيرات ميتافيزيقية لها ومنها الجن، وقد يكون ذلك، درب من دروب الجنون في هذا العالم الذي سكن الفضاء، ولكن القروي إلى يومنا هذا يؤمن بالجن، وقدرته على التأثير في حياته، ويرفض رفضًا قاطعًا، التشكيك في وجوده.
(كتابات) كتبت روايات أخرى عن الريف احكي لنا عنها؟
– كتبت “القرية” وهي نوفيلا، كتبتها متأثرًا بثورة يناير العظيمة، وهي صادرة عن دار اكتب، وكتبت “عزبة الباشا”، وتدور أحداثها في آخر عهد فاروق و بداية عهد عبد الناصر، وهي صادرة عن دار الرواق، وبصدد إصدار مجموعة قصصية قريبا.
(كتابات) هل للأدب في رأيك رسالة وهدف وما هي؟
– أخشى أن أرد بنعم، فأنزلق بالأدب من مكانته السامقة، كمحاولة جميلة ويائسة لتفسير العالم، ومن وجهة نظري الأدب الحقيقي، هو الأدب القادر على خلق الدهشة، وتمرير الرسائل، دون السقوط في بئر المباشرة. فليس من مهام الأديب إصلاح الكون.
(كتابات) في رأيك هل طغت الرواية على أنواع السرد الأخرى؟
– نعم، فالعديد من دور النشر، لا تفتح ذراعيها مرحبة إلا للرواية، والجمهور “عايز كده”، ودور النشر خاصة الصغيرة لا يمكن أن تستمر، دون النظر إلى رغبة الزبون.
(كتابات) ما تقييمك لحال الثقافة في مصر؟
– الثقافة في مصر يتيمة، رغم آلاف البشر من حولها، وتخصيص الحكومة وزارة لها، “كلّ يدّعي وصلًا بليلى وليلى لا تقرّ لهم بذاكا”. ومن الواضح للعيان، أن ثمة تفريط، أتمنى أن لا يكون ممنهجًا، لقوة مصر الناعمة، وأهمها الثقافة، فلم يعد الفن المصري على سبيل المثال هو السائد في العالم العربي كما كان من قبل.
(كتابات) هل حال النشر يدعم الكتاب المبتدئين في رأيك؟
– حال النشر في مصر لا يسر عدو ولا حبيب، فثمة عراقيل عدة أمام الشباب، منها محدودية القدرة المادية لدور النشر الجادة، وانتشار عديد من دور النشر الهادفة للربح فقط، دون النظر إلى ما تضيفه من قيمة للحياة الأدبية والفنية.
(كتابات) هل النقد مواكب لغزارة الإنتاج في رأيك ولما؟
– للأسف لا، النقد في الغالب، يعتمد على العلاقة الشخصية بين الكاتب والناقد، وفي إطار من الشللية وتبادل المصالح، التي تعوق وصول الأدب الجيد إلى الجمهور.
(كتابات) كيف تقيم تلك الأعمال الدرامية المأخوذة من النصوص الأدبية؟ وهل هناك مشروع لتحويل روايات لك إلى الدراما؟
-أفادت الدراما النصوص الأدبية كثيرًا، وكانت المنفعة متبادلة، للنص وللعمل الدرامي، فمن جهة ظهرت سيناريوهات قوية ومتماسكة مأخوذة من تلك النصوص، ومن جهة أخرى تعرف جمهور الشاشات على النصوص، التي لم يقرأها إلا أعداد قليلة بالمقارنة طبعًا بالعمل الدرامي، وعلى سبيل المثال هناك أعمال درامية أضافت كثيرًا للنص كمسلسل “ذات”.
وبالطبع أتمنى تحويل رواياتي إلى الدراما، وكانت هناك محاولات من قبل، لم يكتب لها النجاح بعد، والعديد من الأعمال الفنية التي تناولت الريف المصري، أصبحت من روائع الفن المصري، وبقت خالدة في ذاكرة المشاهد، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، أفلام “الزوجة الثانية” و”شيء من الخوف” و”الأرض”، وهذه الأفلام من أهم مئة فيلم في تاريخ السينما، وتدور أحداثهم جميعًا في الريف المصري.
والريف المصري وإن كانت شخوصه قليلة بالمقارنة بالحضر، إلا أنها ثرية جدًا فنيًا، وأزعم وليس كل الزعم إثم، أن “عزبة الباشا” و”كفر الدراويش” لو أتيحت لهما الفرصة للانتقال من النص إلى الشاشة، سيحققان نجاحًا مدهشًا، فهناك تعطش من الجمهور للنصوص الجادة، التي تدور أحداثها في الريف.
قصة إبراهيم القاضي..
معركة العراة
تبدل الزمن وتاهت كثير من ذكرياتنا وسط ركام الماضي البعيد والقريب، طاردتها الحداثة وأردتها قتيلة في قريتنا، التي ضربها إعصار المدنية، وجرف ماضيها.. البيوت الطينية المسقوفة بقش الأرز تعلوها أبراج الحمام المنتصبة القامة الشامخة تناجى السماء، لم تعد تشغل غير مساحات ضيقة في ذاكرة أهل القرية، الذين هجروها وركبوا البحار، وعادوا ببنايات شاهقة ألوانها زاهية، لكنها تغضب العيون.
حتى الترعة التي تشق قلب قريتنا اختفت. لهذه الترعة ذكريات سأقص لك حكايتها، سنسافر معًا ممتطين آلة الزمن لنعود إلى الوراء، زمن الأبيض والأسود..على حرف هذه الترعة كان يربض كوخ من الغاب والطين، يغازل مياه الترعة المار بجواره، تسكن فيه الست ميمي، ألمح في عينيك استغراب من الاسم، سأردد على مسامعك ثانية.. نعم هكذا كان اسمها، أقدر اضطراب أفكارك، فالاسم كان أعجميًا في قرية، يسكنها أسماء مثل ست الدار وحمدية وعلوية وفوزية، أستطيع أن أوكد لك يا صديقي صحة الاسم، لكن من المستحيل أن أعرف كيف سُميت به.. لنتجاوز الاسم ولنعد إلى الست ميمي الإنسانة بشحمها ولحمها، لا نعلم من أين أتت إلى قريتنا الساكنة الهادئة، ولا نعرف لها أصلًا ولا فصلًا، يقول البعض أنها جاءت إلينا من المدينة الرابضة في حضن النهر، لكنها على كل حال ليست معلومة مؤكدة.
أتت إلينا كالغزاة، وسكنت الكوخ على شط الترعة، فأصبح هذا المكان من المحرمات على أهل قريتنا، لا يمرون بجوار كوخها إلا حينما يُشيع أحدهم إلى العدم وفى الظروف القاهرة، مع هذا حين كانوا يمرون بجواره، كانوا يغضون الطرف بعيدًا عن الكوخ، خصوصًا بعد ما حصل لأبي الوفا، الذي تجرأ و لمح بطرف عينيه شبح رجل بداخل الكوخ، فوقعت عيني الست ميمي عليه، ونال من لسانها عقابًا أليمًا.
الست ميمي.. أسمعك تقول في عقل بالك لم تُلحق لفظة الست قبل ميمي؟؟ أصدقك القول لا أعلم، رغم مرور تلك السنوات مازلت أخشى من ذكر اسمها دون الست، فهذه المرأة كانت موهوبة بكل ما تحمل تلك الكلمة من معان، كنا نشاهدها ونحن صغار وهى تسحب أنفاسًا من الجوزة وتخرج سحب الدخان المتعاقبة من فتحتي أنفها، مغلقة فيها وعيناها، فكان الدخان يتطاير كأن حريقًا اندلع فى ديار القرية، ولا أجدع رجل في بلدتنا يستطيع أن يتخيل نفسه يشرب الجوزة كتلك الموهوبة.
تعرف القرية كلها أن الست ميمي تبيع الهوى على شط الترعة، ويرون الزبائن يتوافدون عليها من كل حدب وصوب، كأن كوخها أصبح “مولدًا” يأتيه الزوار، مع ذلك يتحاشى الجميع الخوض في سيرتها، فأهل القرية يعلمون أن لديها بصاصين في البلدة ينقلون لها الشاردة والواردة.
ذات يوم بعد انتهاء صلاة العشاء، وبعدما صافح الشيخ عوضين المصلين،همس بصوت خافت
– مينفعش اللى بيحصل ديه يا أهل البلد.. والله حرام كده.. هنفضل حاطين الجزمة فى بؤنا لحد امتى؟
الحقيقة تُقال لم يخدش الشيخ عوضين سيرة الست ببنت شفه، لكن متولى أبو شديد (الله يسامحه) نقل كلام الشيخ إليها، فأتت مسرعة ترتدي عباءتها اللف، وكان الشيخ خارجًا من الجامع، فأمطرته سبابًا ولعنًا،هطل على رأس المسكين، لم تكن ذات وجه مكشوف فقط بل جسد كله مكشوف، فليس لديها سقف أخلاقي.. حاول الشيخ تلاشى النظر إليها، فأمسكت بتلابيبه وزعقت بصوت زلزل المكان من قوته:
– ايه يا دلعدى يا سي الشيخ، كنت بتقول ايه؟، وأطلقت ضحكة رقيعة مسرسعة ثم شخرة أحدثت صوتًا كأن لغمًا انفجر في قريتنا، تلتها شخرات متعاقبة بأصوات متدرجة أحيانًا أقوى وأحيانًا أضعف.. ثم أزاحت عباءتها فبدا جسدها كيوم ولدتها أمها،هرول الرجال و النساء بعيدًا بخطوات متعثرة في الخجل، وحاولت ساقي الشيخ ركوب الريح، لكن الست أحكمت قبضتها عليه، وزعقت بصوت رج بيوت القرية.
– بتقول علي ايه يا شيخ عوضين، اسمك عوضين يا دلعدى، ده انت محصلتش ربع عوض. تبعتها ضحكة خليعة بصوت رفيع.
آه كل هذا يحدث منك يا شيخ الجامع!! يا عيب على الأيام، إنها علامات الساعة يا ناس.. معقولة شيخ الجامع؟!.. معقولة الشيخ عوضين؟!
ألمح سؤال في عينيك يلعني، لأني لا أسلك أقصر الطرق في القص.. في الحقيقة يا صديقي لا أعرف كيف أبدأ حكاية الشيخ عوضين مع الست ميمي، ولكن سأتخذ من عبارة (لا حياء فى الحكي) درعًا يقينى شر البعض وسأحكي.
تزوج الرجل أكثر من مرة، كلها كانت زيجات من خارج قريتنا، ولكن أمد تلك الزيجات لم يكن يتعدى شهور، ونستيقظ على خبر طلاق الشيخ عوضين لزوجته الغريبة.. حتى تزوج محروسة بنت أبو إسماعيل، واستقر زواجه بها دون ثمرات، كنا نعلم أن محروسة هي السبب، فهي امرأة كالأرض البور.. كان لدى محروسة ذات الجسد الذي يشبه عود القصب الممصوص شيء من الدهاء، سربت خبرًا لنسوان البلد أن الشيخ عوضين ضعيف.. ألمح الفضول يكاد يهشم رأسك من تلك الكلمة.. صبرك يا صديقي لا تكن عجولًا، وانتظر لأجمع شتات كلماتي الخجولة لأكمل حكاية هذا الرجل (الضعيف).. انتشر الخبر في القرية كالنار حين تندلع في قش الأرز، حتى وصلت إلى مسامع الشيخ، حين تهكم عليه متولي أبو شديد وهو على المنبر، وقال بصوت سمعه جميع من في المسجد:
– الشيخ عوضين بيربى لحم زى الخروف المخصى.. ههه.
انفجر الناس بالضحك.
و رد أحدهم ساخرًا:
– عشان ندبحه ع العيد..ههه.
وقف آخر مقاطعًا الشيخ وهو على المنبر:
– عايزين خطبة عن حقوق النسوان الشرعية..ههه.
عاود الناس الضحك ولوح له الشيخ بيديه بالجلوس متظاهرًا، كأنه لم يسمع.
لم يعد للشيخ (عين) ليتطلع بها في عيون الناس التي أكلت وجهه، نصحه أولاد الحلال ليجرب حظه مع الست ميمي، بدلًا من زوجته عود القصب الممصوص، التي تنام في الفراش كأنها هم الموت.. فالست ميمي لها من الحيل ما تعجز عنه العفاريت، حين تتلوى كالحية في قميصها، فينطق الأخرس ويُبصر الأعمى، هكذا نصحه ابن الحلال، استجاب الشيخ للنصيحة بعد تردد طويل، وذهب إليها مستورًا في جلباب الليل.
ماذا تفعل يا شيخ عوضين؟؟ عد إلى دارك يا ابن الكلاب، تنهى الناس عن الزنا وتهوي أنت في بئره، ستأكل النار جسدك، إلا الزنا يا عوضين، هكذا كان يحدث مولانا نفسه وهو ذاهب إلى الكوخ، حتى أدار عقبيه، ليرجع إلى داره، لكنه تذكر ضحكات الناس في الجامع وسخريتهم منه، فاشتعلت بداخله رغبة التجربة.
طردت كل زبائنها، وتفرغت للشيخ، اليوم لعمل الخير ومساعدة الرجل، الذي دخل الكوخ بخطوات متعثرة في خجله، ودون أن ينطق بحرف، استقبلته بابتسامة خفيفة على محياها ليطمئن، اختفت رقبة الرجل من الخجل، أعدت الجوزة وحجرين الحشيش المخصوص، وتبادل معها الشرب على مضض، وكانت اللحظة الحاسمة.. لحظة الحقيقة.. دنت منه بعدما خلعت عنها عباءتها وألقت بجسدها فوق الفراش..
أرجوك يا صديقي لا تطلب مني أن أحكي لك تفاصيل تلك اللحظات التي انتهت بفشل الرجل..
بعد ذلك الاختبار المؤلم عاد إلى داره يحمل أثقال الخيبة، زاد همه وكمده وتغيرت موضوعات خُطبه، لم يعد يحدثنا عن الزنا وعن العقاب الشديد الذي ينتظر من يقترب منه.. كان يحثنا على عدم الخوض في الأعراض، ويزيد في قصص النساء الزانيات اللائي تاب الله عليهن.. فباب التوبة مفتوح.. لكن دماء الغيرة على قريته كانت تلدغ عروقه كالثعابين، فقال كلمة بعد الصلاة، لم يمر بجوار الست فيها بحرف، تلقفها كبير البصاصين، ونقلها.
أحكمت الست ميمي قبضتها على قريتنا، فالقرية تهاب الفضائح والست كانت عينها مكشوفة، لا تتورع أبدا عن نزع عباءتها على رؤوس الأشهاد.. لكن لا يفل الحديد إلا الحديد.. كما أتت الست ميمي إلى بلدنا وأقامت كوخًا على شط الترعة.. أتت الست أمل من المدينة أيضا!
ألم أقل لك لا تكن عجولًا، وترسم صورًا لأشخاص دون سابق معرفة، ألمح في رأسك صورة لها كأميرة إغريقية يداعبها صوت أم كلثوم وهي تغرد (أمل حياتى).. انفض عنك غبار أوهامك، وانتظر فالست أمل لم تكن أقل قبحًا من الست ميمي.. أقامت الست أمل كوخا على شط الترعة الآخر في مقابل كوخ الست ميمي..
كنا نجلس على شط الترعة ونحن صغارًا في فريقين. نتنظر حين تندلع بينهما معركة على زبون، تبدأ كل منهما بإلقاء السباب واللعنات على الأخرى.. والحق يًقال لقد كانت الست ميمي أكثر خبثًا، تُطلق شرارة المعركة، وتتوقف حتى ترهق منافستها، فتواصل هي.. كملاكم ماكر يحيط وجهه بقفازه، حتى تخور قوى منافسه فيجهز عليه.. لكن الست أمل (الغشيمة) تبدأ بالخطوة الأخرى، وهى مرحلة الشخر، تخرج من فيها الشخرات متعاقبة، كأنها تُخرجها من باطن قدميها.. يستمتع أهل القرية بتلك المباراة اليومية التي تبدأ بينهما ولا تنتهى، لكن الاستمتاع يصل ذروته حين تخلع إحداهن عباءتها وتشير بيديها ناحية منافستها التي ليست أقل منها إباحة، فتخلع الأخرى، وتبدأ مرحلة جديدة هي مرحلة المعركة العارية..
في تلك المعركة الحاسمة، تستخدم كل منهن مهاراتها التي تجيدها، الست ميمي ليس كمثلها أحد في الردح، قاموسها من الشتائم لا ينضب، تتدفق الشتائم الموسيقية من فيها دفعات متعاقبة، تبدأ بما يمكن سماعه وتنتهي بما لا يُطاق، لكنها كأي موهوب لديه نقاط ضعف.. نقاط ضعف هي في حد ذاتها نقاط قوة غريمتها الست أمل، ذات الجسد الممشوق والصدر الناهد، تعلم الست أمل أن معركة الردح خاسرة، لذلك تستعجل المرحلة الأخيرة حينها تخلع عنها عباءاتها، تتحدى غريمتها أن تفعل مثلها، بالطبع منافستها عينيها يندب فيها رصاصة، لكن جسدها المترهل وكرشها الكبير يقفان سدًا مانعًا أمام انتصارها، مع ذلك تضطر مرغمة على الخلع، فقانون الصراع يحتم عليها ذلك، وإلا احتسبت الجولة لصالح منافستها.