7 أبريل، 2024 7:40 ص
Search
Close this search box.

مع كتابات.. إبتسام التريسي: أحيانا أكتب لأرمم جرحاً أو أرتق ثقباً في القلب

Facebook
Twitter
LinkedIn

 

خاص: حاورتها- سماح عادل

“ابتسام إبراهيم تريسي” كاتبة سورية، خريجة جامعة حلب قسم اللغة العربية، صدر لها عشر روايات وأربع مجموعات قصصية. حازت على الجائزة الأولى لمسابقة “سعاد الصباح” عن مجموعة “جذور ميتة”، بالإضافة إلى دخول رواية “عين الشمس” القائمة الطويلة لجائزة البوكر عام ٢٠١٠

الى الحوار:

** متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟

– صحبتي لجدتي هاجر فتحت عينيّ على دنيا الحكاية منذ طفولتي، لا أذكر كم الحكايات التي حكتها لي وأدهشتني وأفزعتني وأدخلتني عوالمها السّحرية حتّى وجدت نفسي أكتب أوّل قصّة وأنا في العاشرة من عمري. هنا جاء دور أبي المهم في حياتي، قارئي الأوّل الذي علّمني كيف أمسك القلم وأكتب في الأوّل ابتدائي، ووجّهني للقراءة منذ ذلك الوقت بشراء المجلات لي “ميكي وسمير وأسامة”.

جعلني أبي أحضر جمعاً من أصدقائه (المحامين والمدرّسين في ثانوية البلدة) وأقرأ لهم قصتي. وعلق في ذهني يومها عبارة قالها أستاذ أبي وصديقه وهو شاعر أيضاً “فرخ البط عوّام”. هدية والدي لي حين أنهيت المرحلة الابتدائية كانت “أعمال محمود درويش الكاملة” الصادرة عن دار العودة، رواية “الأيام” لطه حسين، و”خان الخليلي” لنجيب محفوظ”. وبقي أبي موجهي ومعلمي حتّى دخلت الجامعة. وكنت في المرحلة الإعدادية والثانوية أنشر في الصحف المحلية.

** فزت بجائزة “سعاد الصباح” عن المجموعة القصصية (جذور ميتة) عام 2001 ماذا تعني لك الجوائز؟

– الجوائز تعني لكلّ كاتب اجتياز العتمة إلى دائرة الضّوء. أن يبقى مقروءاً ومعروفاً وهذا أمرٌ مهم للكاتب، الوصول إلى القارئ. بعد الجائزة الأولى لسعاد الصّباح حصلت على الكثير من الجوائز لكنّها لم تعنِ لي شيئاً، فمنافستي لم تكن يوماً مع الآخرين بل مع نفسي، كنت أسعى لأن أتجاوز كتاباتي السابقة إلى الأفضل، ولا يسعدني أن أقارن بأحد أو أفوز عليه في مضمار جائزة؛ لأنّ ذلك لا يعني أنّ نصي هو الأفضل بالمطلق، فالجوائز تحكمها سياسات معينة وصراعات حتّى بين دور النّشر ولجان التحكيم.

الفائز في جائزة حالياً لا يفوز وحده بل هو وشركاؤه إن لم نقل صانعوه وهو (دار النشر، لجنة التحكيم، المشرفون على الجائزة، القرّاء الذين أجازوا العمل في مراحله الأولى) لقد قمت بتحكيم بعض الجوائز وأعرف الكواليس تماماً وما يجري فيها.

** في حوار لك قلت إنّ لكِ مشروعاً روائياً عن سورية بعد الثورة بدأته بـ (مدن اليمام، لمار، لعنة الكادميوم، الشارع 24 شمالاً) التي شكّلت رؤيتك لما حدث خلال الأعوام الخمسة الأولى من عمر الثّورة، وكتبت (بنات لحلوحة) ورواية (الثلج الذائب).. حدثينا عن ذلك المشروع وإلى أين وصلتِ فيه؟

– مشروعي الرّوائي ارتبط بتاريخ البلد المسكوت عنه أو لنقل الوجه الحقيقي المخفي للتاريخ، فالمعروف أنّ التّاريخ يكتبه المنتصرون “الحكّام”. الفكرة جاءت من معرفتي العميقة بمجريات الثّورة السّورية الأولى على الاستعمار الفرنسي في أربعينيات القرن الماضي وما جرى حقيقة في الشّمال السّوري حيث ولدت. فقد قامت الدّولة بتكريم بعض “اللصوص” بصفتهم ثواراً، وألّف مؤرخ سوري اسمه “علي رضا” كتاباً عن الثّورة، تصدّر الكتاب صورة لحافظ الأسد بجانبه أحد الثّوار من محافظتنا والمعروف عندنا أنّه كان خائناً وعميلاً للفرنسيين.

من هنا بدأت بالبحث عن الحقيقة وأخذتها من أفواه كبار السّن وكتبت “جبل السّمّاق” التي وضعت فيها النّقاط على الحروف عن مجريات الثّورة وانتصرت للمهمشين الذين مرّ عليهم التّاريخ من دون أن يذكرهم. المشروع استمرّ في الجزء الثّاني “الخروج إلى التّيه” الذي تناول سيرة النّاس والبلد حتّى نكسة حزيران 1967، بعدها كتبت “عين الشّمس” التي شرّحت ما حدث في الثّمانينيات من مجازر في حلب وجسر الشّغور وبلدتي أريحا.

وكنت أظنّ أنّ مشروعي انتهى هنا، فجاءت الثّورة لأكمله من حيث انتهيت. “مدن اليمام” الشّرارة الأولى للثورة واعتقال ابني. “لمار” سيرة الاستبداد والعائلة الحاكمة. “لعنة الكادميوم” دخول الفصائل المسلّحة وداعش على خطّ الثّورة. “الشّارع 24 شمالاً” سيرة مدينة اللاذقية منذ بداية القرن العشرين حتّى بداية الثّورة من خلال حكايات نساء الحي.

“كاليجولا الهجين” سيرة حياة الطّاغية الأبله. و”الثلج الذائب” عن دور الأكراد ووجودهم في الثّورة السّورية وهذه الرّواية لم تنتهِ بعد. أمّا “بنات لحلوحة” فهي جامعة لكلّ الظّروف المجتمعية والبيئية والسّياسية التي أدّت إلى الثّورة من خلال سيرة بنات حي “بحثيتا” في حلب وهو حي العاهرات الذي أزيل في السّبعينيات ليكون العهر مسيّراً من قِبل الدّولة وجهاز المخابرات.

** هل تم التعتيم والتشويش عمدا على ثورة سوريا وإخراجها من سياق ثورة شعبية إلى أحكام أخرى وتوصيفات تفرغها من معانيها ومن نضالها الشّعبي؟

– طبعاً تمّ التّعتيم بشكل مُبرمج ودقيق على أخبار الثّورة السّورية ومنذ بداية الثّورة اعتمد الإعلام العالمي صيغة (الحرب الأهلية) ولم يأتِ على ذكر كلمة ثورة على الإطلاق. وخلال عام 2012 اجتمعت تسع أجهزة مخابرات عالمية وعربية في الأردن بهدف امتصاص الصّدمة التي أحدثتها الثّورة ومن ثمّ محاصرتها وتمَّ سحب ملف الثّورة من المملكة العربية السّعودية وتوكيل دولة قطر، ومعروف أنّ قناة الجزيرة كانت تنسب كلّ المعارك التي خاضها الجيش الحرّ لجبهة النّصرة بهدف ترسيخ مفهوم محاربة التّطرف الإسلامي.

وكان واضحاً منذ البداية الموقف الأمريكي الذي يريد إطالة الحرب وعدم السّماح بتحقيق نصر، فقد مُنعت مضادات الطّيران عن الجيش الحرّ وتمّ تخويل إيران بالقضاء على الثّورة وعندما فشلت تمً تخويل بوتين بذلك وقد فضح وزير الخارجية الفرنسي السّابق هذا الموقف عندما أعلن منذ أسبوعين فقط أنّ أوباما مارس ضغطاً على فرنسا لتخويل بوتين في سوريا.

وقد أسهمت استمرارية ضخ العنف بتبدل الولاءات كثيراً بعد أن بلغ عدد القتلى مايزيد على النّصف مليون إنسان، وتولّت جبهة النّصرة المدعومة من قطر عملية القضاء على فصائل الجيش الحرّ لتنتهي الثورة فعلياً عام 2014 وليأتِ بعد ذلك سقوط حلب تحصيل حاصل بفضل التّوافقات بين روسيا وتركيا وفصائل الأخوان المسلمين في الشّمال.

ولن ينسى السّوريون أنّ النّظام أفرغ سجونه من الإرهابيين ليشكّلوا نواة جبهة النّصرة وأحرار الشّام وجيش الإسلام، وليستعينوا ببقية إرهابيي العالم من متطرفين إسلاميين من كلّ أصقاع الأرض.

لقد كانت الإدارة الأمريكية والقوى الإقليمية خير عون لرأس النّظام كي يسحق شعباً كاملاً خرج يطالب بحريّته وكرامته المهدورة.

في الثمانينيات أيام أحداث الأخوان المسلمون استعان حافظ الأسد بالمخابرات الرّوسية إثر الاغتيالات التي حدثت فنصحته المخابرات بقتل خمسين شخصاً في المكان الذي يوجد فيه القتيل فلا شكّ أنّ واحداً من الخمسين هو المجرم! مدننا تقصف كلّ يوم بالطّيران، صواريخ وبراميل وهاون واشتباكات والنّاس لا عمل لها سوى لملمة الأشلاء.

الآن نعيش هدوءاً نسبياً بعد انتقال الحرب إلى الأرض الأوكرانية.

** في رواية “عين الشمس” تناولت الاستبداد الذي وقع على الشعب السوري والتحديات التي واجهته حدثينا عن ذلك؟

– “عين الشّمس” كانت مغامرتي الأولى التي كان يمكن أن تؤدي إلى غيابي خلف الشّمس لو كانت المخابرات السّورية تقرأ ولو لم تحصل الثّورة بعد سنة من ظهورها في القائمة الطّويلة للبوكر.

مع هذا لم تصل جرأتي إلى تناول شخص حافظ الأسد كما تحدثت عن عبد الناصر والوحدة في “الخروج إلى التيه”. ما خفف وطأة الأحداث السّياسية في الرّواية وغطّى على الرّسائل الصّغيرة الموجهة فيها قصّة الحبّ اللاهبة والفاشلة بين بطلي الرّواية “نسمة وشمس”.

وقد كانت الرّواية _على الرّغم من واقعية الأحداث التي عشتها في الثّمانينيات وأنا طالبة جامعية_ تبدو قصّة حبّ رومانسية وهو ما أراحني ظاهرياً وأبعد شبهة المباشرة في تناول السّلطة الممثلة بالمخابرات السّورية التي اعتقلت أصدقائي في الثّمانينيات من الحرم الجامعي، والتي هاجمت الجامعة واشتبكت بالسّلاح مع عدد من الطّلاب وحوصرنا يومها في مشهد لا يحدث سوى في الأفلام.

أصدقائي الذين اعتقلوا في تلك الفترة بعضهم لم يعد، بقي في سجن تدمر ذائع الصّيت، وبعضهم خرج بعد خمس سنوات مجرداً من حقوقه المدنية كاملة. كان ذلك كافياً لأكتب عنهم وعن تجربتهم في المطالبة بالحريّة والدّولة الدّيمقراطية.

** نشرت 18 عملا منهم 3 مجموعات قصصية، هل يمكن وصفك بغزارة الإنتاج وهل لديك أهداف من وراء الكتابة؟

– يمكن أن نقول إنّي غزيرة الانتاج فيما لو وزّعنا المنتج على سنوات الكتابة، لكن إن قسناه بالعمر فهو عادي، فأنا لم أصل “مثلاً” إلى ربع ما كتبه “نجيب محفوظ” أثناء حياته.

أمّا عن الأهداف، لا شكّ أنّها موجودة، لا يقوم كاتب بكتابة عمل لأجل العبث إنّما يكتب ليرمم نفسه وهو أضعف الإيمان إن لم يكن لديه رسالة كبرى مثلاً. لن أدّعي أنّ لديّ هدفاً سامياً _مثلاً_ فأحيانا أكتب لأرمم جرحاً أو أرتق ثقباً في القلب، ولأتجاوز عن خيانة الأصدقاء وإهمالهم وابتعادهم وهجرهم، أكتب أحياناً لأجمع أكبر عدد ممكن من الأحباب حولي، أعيش حياتهم ويعيشون داخلي، وأراني من خلالهم بما يغنيني عن صديق واقعي ادّعى أنّه سندي وأنّه بئر أسراري وأنّه لن يتخلَّ عني أبداً ثمّ فجأة غاب، وتخلّى، ونسي، وغدر لأسباب تخصه لا علاقة لي بها! لذا ألجأ إليهم غالباً، هؤلاء الذين لا يغادرون ولا يغدرون ولا ينسون أبداً.

**  في رواية “كتاب الظل” محمية للسيدات فقط بعيداً عن الحروب والعنف والثّورات والتّلوث، عالمٌ مليءٌ بالورود وسحرها وبالطّاقة وبالأرواح التي تتحرر من ثقل الطّبقية وفسادها، هل حاولتِ الحكي عن المرأة ودورها في خلق الحياة واستمرارها وفي وجود الجمال والتّواصل مع الطّبيعة والاكتمال بها؟

– بالتّأكيد، المرأة صانعة الحياة، صانعة السّلام، صانعة الحبّ. تعطي ولا تنتظر أجراً، تعطي بلا منّة. المرأة إن كانت أمّاً أو فتاة أو طفلة، تتعامل مع الأشياء برقة تتناسب وطبعها الذي خلقها عليه سبحانه. قالت “تيلا العرّافة” في الرّواية “قديماً كانت جداتنا يمتلكن المقدرة على صياغة العالم في حكاية، لم توقفهنّ جغرافيا ولا حدود ولا عقبات. المخيلة تلغي كلّ تلك الأشياء، اليوم قامت التّكنولوجيا بتلك المهمة، مع هذا أردت أن أكتسب معارفي على طريقة أقدم جدّة لي تلك التي اخترعت الزّراعة). إنّها عودة إلى المجتمع الأمومي لو شئتِ رؤيته على هذا الشّكل. عموماً أنا أترك للقارئ أن يرى ما يشاء من النّص خاصّة بعد طباعته ودخولي عوالم نص آخر.

** في رواية “كتاب الظّلّ” لما كانت تلك الفتيات كلهن منحدرات من نسل ذكر واحد هو “عبد الحي”، كقارئة لم ترق لي الفكرة، ربما حاولت ككاتبة أن تقولي إنّ كلّ النّساء شقيقات رغم اختلاف البلدان التي أتين منها واختلاف الجنسيات والنّشأة؟

– لكِ الحقّ كقارئة ألا تروق لكِ الفكرة، أن تحبيها أو تكرهيها، فالمحاكمة والتّلقي من شأن القارئ. لا يد لي ككاتبة فيه. أمّا عن مقولة الرّواية فيمكن فهمها كما تشائين، وكلّ تفسير إضافة للنص، وكلّ فهم إضافة إليه ولي أيضاً، فأنا أتعلّم من الآخرين وتسعدني آراؤهم.

** شخصية “عبد الحي” شخصية عذبة، رجل حنون ودافئ وعاشق، رغم أنه عاشر حوالي 13 امرأة وتركهن جميعاً بعد الليلة الأولى احكي لنا عن رسمك لتلك الشّخصية؟

– الحكاية التي شكّلت فكرة الرّواية وهي الملهمة لي لنسج عالم “كتاب الظلّ” هي حكاية واقعية حدثت في قرية من قرى الشّمال السّوري لا تبعد كثيراً عن بلدتي، القرية اسمها “عين السّودا” قبل نزوحي من أريحا عام 2012  في الرّبيع زارتنا سيدة عجوز كانت في زمن مضى موكلة أبي في دعوى لا أذكر ما هي، لكنّي كنت أراها أحياناً تأتي لزيارة أبي من أجل الدّعوى وتحضر لنا معها “خبيزة” تقطفها من الأرض بنفسها وتغسلها جيداً، وتفرمها وتحضرها للطبخ قبل أن تذهب.

كانت سيدة سمراء قصيرة وسيمة ووجهها مبتسم دائماً. هذه المرّة جاءت لتزورنا بعد وفاة أبي ب 22 عاماً. قالت إنّها تذكّرته حين نبتت الخبيزة وتعرف أنّه يحبّ النّرجس فأحضرت معها باقة لتضعها على قبره. المهم أصرّت أن تغسل الخبيزة وتنقيها وتفرمها كالعادة وطلبت مني أن أحضر لها سكينا ووعاء كبيراً وشمّرت عن ساعديها لتبدأ العمل فرأيت ذلك الوشم الغريب. خنجر يقطر دماً واسم عبد الحي يأخذ مساحة السّاعد.

في البداية ظننت أنّ عبد الحي هو عاشقها أو زوجها وخجلت أن أسألها، لكنّ فضولي غلبني، فقلت لها “هنيئاً لعبد الحي يا خالة فأنت تحملينه أينما ذهبتِ” فقالت وهي تغص: “رحمه الله، لستُ وحدي من يحمله بل بنات جيلي كلّهنّ في القرية يحملنه وكنّ يتمنين لو حظين بعاشق مثله. لكن بعد رحيله لم تتزوج إحداهن، بقينا كلّنا من دون زواج. عندما رأت استغرابي حكت لي قصّة عبد الحي الرّاعي الغريب الذي حلّ في قريتهم وعشق ابنة شيخ العشيرة وقتلها ابن عمها وهو يحميها بجسده من الطّعنات وماتا معا. “ذلك رجلٌ قليل أن يوجد مثله على الأرض”، ختمت السّيدة حديثها بتلك العبارة. وكنت مستعجلة أريد الذّهاب فالسّيارة تنتظرني أمام الباب.. لم أذق الخبيزة ولم أعد مرّة أخرى للبلد.

كنت أحلم بالعودة إلى البلد وزيارتها ومعرفة تفاصيل أخرى ولما استحالت العودة فقد نسجت حول القصة رواية كانت “كتاب الظلّ”.

** احكي لنا عن تجربة اعتقال ابنك وكيف عشتها وهل أثرت عليك ككاتبة؟

– عندما اعتقل نور كنت أتوقع ألا يطول الأمر سوى شهر أو شهرين في الأغلب، كلُّ أصدقائه الذين اعتقلوا في تلك الفترة لم يبقوا أكثر من ذلك. لكنّ الأمر الذي حلمت أن ينتهي خلال شهرين استمرّ سنتين. كنت وقتها أكتب “مدن اليمام” عن مجريات الثّورة من خلال قصة حبّ بين شخصين عاشا أحداث الثمّانينيات وافترقا ثمّ التقيا في زمن الثّورة من خلال مواقع التّواصل. لكنّ مجريات اعتقال نور غيّرت سير الرّواية كما غيّرت حياة الأسرة كلّها.

ذهبت إلى “دمشق” للبحث عن نور حيث اعتقل، عشت ظروفاً صعبة رافقت فيها “أصدقاءه” الذين عمل معهم في الإغاثة، عشت ما عاشه ابني، ورأيت نفسي داخل المعتقل، فكتبت بلسانه وكأنّي هناك معه. كانت تجربة مُرّة تحمّلتها بصبر وقوة، لم تنزل دمعتي طيلة اعتقاله. فقط حين علمت أنّه حي وأنّهم أحالوه إلى محكمة الإرهاب بكيت. كنت خلال تلك الفترة قد طبعت “مدن اليمام” قبل أن أعرف مصيره. الكتابة، العمل مع الشّباب، الوقوف بجانب المعتقلين، كلّ ذلك منحني قوة استثنائية جعلتني أستمر.

ما حدث بالنسبة للرواية أنّي حذفت منها ما يقرب 200 صفحة، ألغيت قصّة الحبّ تلك؛ لأنّها لم تعد تناسب أمّاً تبحث عن ابنها المعتقل ساعية لدى كل من يستطيع أن يدلها على مصيره لتعرف ولو خبراً صغيراً وتتأكد أنّه ما زال على قيد الحياة. كان هناك حبٌّ آخر تجلّى في الرّواية.. حبٌّ لا تعرفه سوى الأمّهات.

** هل الكتابة عن الحروب والمجازر والعنف الذي تمارسه السلطة ضد الشعب بهدف التوثيق والتسجيل للتاريخ أم لكشف تلك الأحداث للعالم أم صرخة احتجاج على ما حدث؟

– كلّ ذلك. الكتابة عمّا يجري تدخل في باب التّوثيق، نحن نكتب كي نواجه من سيزوّر التّاريخ مستقبلاً، ولنا الفخر أن نكون حرّاس الحقيقة التي سيزيفها كتّاب التّاريخ مستقبلاً. ونكتب أيضاً كي نُسمع العالم النّائم صوتنا، وإن كان ذلك صعباً إن لم تكن هناك حركة ترجمة منظّمة تقوم بها مؤسسات تُعنى بإيصال القضية السّورية إلى العالم. ونكتب أيضاً لنفرغ ما بداخلنا من غضب كنّا نفرغه في البدايات من خلال هتافات في المظاهرات السّلمية. ورغم كلّ هذا القهر والتّهميش والزّيف الواقع فنحن نكتب دون أن ننسى أنّ ما نكتبه عمل إبداعي صرف يتطلب الكثير من الجهد؛ حتّى يكون رواية بالمعنى الكامل للكلمة وليس شهادة تاريخية مؤقتة، أو وثيقة تصلح لوضعها أمام محكمة العدل.

** هل أثّرت الثورة السّورية على حركة الأدب السّوري وهل يمكن القول إنّه ظهرت أعمال أدبية بفعل الثّورة ونتيجة لها؟

– نعم حدث ذلك، في العشر سنوات الأخيرة ظهر كم كبير من الرّوايات وعدد كبير من الرّوائيين الشّباب الذي أرادوا اقتحام عالم الرّواية بحكاية تجاربهم في الثّورة ما شاهدوه أو عاشوه شخصياً في المعتقلات وخارجها. الكم الكبير قد يكون موجة وستنحسر تدريجياً، في اعتقادي لن يستمرّ كثيرون ممن ظهروا ولن يكون لهم أثرٌ كبير في الأدب عموماً. قد تكون طفرة أوجدتها الثّورة، وأيضاً ساعد على ظهورها السّهولة في الانتشار والنّشر والتّرويج والدّعاية التي جعلت الرّواية ديوان العرب الحديث.

نأمل بعد هدوء هذه الموجة ظهورأعمال روائية لا تشكّل فيها السّيرة الذّاتية عماد التّجربة وإنّما تكون روايات بالمعنى الاحترافي ذات عمق بالطرح وموضوعية أكثر بالتّعاطي مع المكونات الواقعية تتمتع بفهم ووعي للتاريخ ومعطياته وتقدّم رؤىً فكرية إنسانية شاملة بعيداً عن الانتماءات والولاءات الضّيقة.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب