23 ديسمبر، 2024 7:22 ص

مع كتابات.. “أحمد غانم عبد الجليل”: لدى الكاتب العراقي عبئًا مضافًا فرضته سنوات العزلة وانهيار الدولة

مع كتابات.. “أحمد غانم عبد الجليل”: لدى الكاتب العراقي عبئًا مضافًا فرضته سنوات العزلة وانهيار الدولة

خاص: حاورته- سماح عادل

“أحمد غانم عبد الجليل” كاتب وروائي عراقي، من مواليد 1973 بغداد، حاصل علي بكالوريوس اقتصاد ـ جامعة بغداد. صدر له:
– رواية “بين الجنة والنار” عن مركز المحروسة للنشر والتوزيع والخدمات الصحفية، مصر 2010
– رواية “عند شواطئ أندلوسيا” عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، الأردن 2015
– “نساء من بلاد الشرق” عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2020.
– رواية “عصفورة الكواليس” 2023.

كان لي معه هذا الحوار الشيق:

* متى بدأ شغفك بالكتابة وماذا تعني الكتابة بالنسبة لك؟
– في صغري مررتُ بتجربة شديدة القسوة، بعد تسلم صدام حسين السلطة وإعدام الوالد وعدد من رفاقه في قضية لحد الآن يتم تناولها هنا وهناك، تلك الأحداث الصاخبة كانت فاجعة بكل المقاييس بالتأكيد، على المستوى العام والخاص، وخلقت داخلي حاجة كبيرة للبحث عن وسيلة للبوح عبر أنماط سردية لم تكن مكتملة الملامح في البداية، في حين أن كل كلمة، ولو على سبيل الفضفضة كانت مبعث خوف متزايد.
فوجدت في الكتابة غايتي، ليس لأجل تفجير الصرخات المكبوتة فحسب، إنما من أجل التعبير عن مخاوف طفل وعي على حقائق سياسية بحجم وطن، قد يصعب تصديق أغلبها، كل ذلك أمدني بطاقة كبيرة على الكتابة، والحلم في ذات الوقت، حلم ينبذ سياسات القهر والتسلط، حلم صار شيئًا فشيئا عالمًا للشخصيات السردية التي تسعى إلى الحرية والبحث عما يدور خلف الكواليس، لأن كل حقيقة صارت تملك أكثر من وجه في رأيي، أو على الأقل تستدعي النظر إليها من أكثر من زاوية.
وهذا ما جعل نصوصي تتحرى كوامن النفس البشرية وما تتضمن من تناقضات، وبواقعية تنفر من الشعارات أو القوالب الجامدة، وحتى كقارئ أبحث عن النصوص التي ترصد جدلية بمفهوم جديد، ورؤية بعيدة عن النمطية، وأرى أن هذا من ضمن دور المبدع والمثقف عمومًا، خاصة في مثل مجتمعاتنا التي تجنح إلى ردود فعل حدية، ما بين أطر فكرية متوارثة لا تخرج عن نطاق المدح أو الذم في أغلب الأحيان.
* في رواية “عصفورة الكواليس” هل يمكن القول أن البطلة “هالة” كانت رمزا عن الوطن؟
– يصعب أن تكون أي شخصية سردية رمزًا للوطن على مسار أحداث الرواية، لأن ذلك يمكن أن يتحكم بما يصدر عنها من انفعالات ومواقف، خاصة وأنها شخصية واقعية إلى حد كبير، تبحث عن الأمان دومًا، وهذا ما قادها إلى سلسلة من المفارقات داخل وخارج الوطن، ولذلك سعت إلى استغلال الفرصة الأفضل في بعض الأحيان، لكنها يمكن أن تعبر عن الكثير من الحكايات المتوارية في حيز المسكوت عنه، خاصة في ظل النظام الديكتاتوري.
وعندما بدأت الكتابة عنها بدت لي الشخصية كما لو كنت أعرفها عن كثب، الطالبة الجامعية في زمن يشهد الكثير من المتغيرات المنعكسة على إيقاع الحياة بالكامل، من ضمنها المشاعر التي تكون عادة شديدة التدفق في مرحلة عنفوان الشباب، بينما كانت هي تعرف كيف تتحكم بتلك المشاعر إلى أبعد حد، وتعمد لاستغلال حب قريبها لها فقط كي تبحث عن منفذ للخلاص.
في مثل تلك السنوات كنتُ أنا في المرحلة الجامعية، حيث دخلت الكلية بعد أشهر من انتهاء حرب الخليج الثانية، لذا وجدتُ شخصية هالة وسيلتي لتجسيد بعض ملامح تلك الفترة العصيبة على الجميع، وحتى عندما وجدتْ من يستحق مشاعرها بالكامل تعاملت مع تلك المشاعر من منطلق المرأة الموجوعة التي خبرت الكثير من الصراعات، بعضها تناقلت إلى مسامعها، فصارت دون أن تعي جزءًا من تكوينها.
من ناحية أخرى هناك شخصية نوال، المناضلة الثورية التي تعبر عن جيل من النساء العراقيات اللواتي تم تهميشهن لحد الآن، نساء قويات الإرادة في كل الأزمنة، يمثلن الكثير في حياتنا من عطاء وتحدٍ وصبر، وأيضًا قدرة كبيرة على الحب بكافة أشكاله.
صفات كثيرة حاولتُ تجسيدها من خلال هذه الشخصية، كما فعلت في رواية “عند شواطئ أندلوسيا” من خلال شخصية الحاجة بلقيس، وفي رواية “عصفورة الكواليس” كانت تمثل أيضًا صوت الضمير للعديد من الشخصيات، فبينما كان طليقها يتمنى شيء من الوصال القديم، ظلت هي تحارب من أجل مبادئها، وإن اتخذت دور المتفرج على ما حدث من شقاق بين أعضاء الحزب الواحد في المنفى، ذلك هو الدور الذي صار إليه الكثير من العقائديين القدامى في زمن جاء بمفردات وشعارات مغايرة تمامًا لما وعينا عليه، من أجل ذلك قد تتنقل رمزية الوطن ما بين الشخصيات، ولا يمكن اختزاله ضمن شخصية سردية واحدة.
* في رواية “عصفورة الكواليس” تناولت التغييرات السياسية التي حدثت في العراق علي مدار سنوات، وأجدت في صناعة شخصيات بمثابة نماذج لفئات معينة في المجتمع العراقي، الثائر،الخائن، ذيل السلطة، المنتمي لحزب متشدد دينيا. حدثنا عن ذلك؟
– كما ذكرت سابقًا، وعيتُ على تأسيس عهد الديكتاتورية في العراق، والأنظمة على هذه الشاكلة تنتج الكثير من الشخصيات الانهزامية والمنقادة، والمتطفلة والمتملقة للسلطة إلى أقصى حد، وعلى حساب كل شيء وأقرب المقربين، وكذلك تزرع الخوف حتى بين أفراد العائلة الواحدة، إلا أن أغلب الشخصيات التي أكتبها تبقى من وحي الخيال بالكامل، أو لنقل أنها نتاج ما أرساه الواقع المعاش في مخيلتي.
لذا الكثير من القرّاء يظنونها شخصيات حقيقية بنسبة كبيرة، لأني أعمل دومًا على تجسيد الشخصية العراقية بكل ما مرت به من أحداث عصيبة، ما بين الحروب والحصار، ومن ثم احتلال غير كل الموازين من جديد وبصورة غلبت عليها العشوائية، أفرزت المزيد من النماذج مركبة الشخصية إلى حد شديد التعقيد، بحيث أن ثائر الأمس قد يكون من ضمن طغاة اليوم، أي قد يجتمع الظالم والمظلوم في شخص واحد، لكن بنسب مختلفة.
ففي رواية “عصفورة الكواليس” على سبيل المثال نجد أن شخصية “كمال ياسين” كأنها عاشت أعمارًا كثيرة من خلال عمر واحد، من مناضل شيوعي إلى رأسمالي يحاول التمسك بكل الخيوط في يديه، ولو عن بعد، ومثل هذه الشخصية تكون حاضرة في كل عهد.
من ناحية أخرى غلبت على جيلي ملامح الالتزام الديني، ربما ساهم في ذلك ما أصيب به جيل والدي من انكسار، وهنا كان لا بد لي من رصد ما رسخ لدى البعض من مفاهيم التعصب والتطرف عبر الكثير من النصوص، خاصة وقد تحول ذلك الالتزام لدى الكثيرين إلى مناصب ونفوذ وسلطة، حتى ضمن التنظيمات الإرهابية المناوئة للسلطة.
ومن خلال كل هذه التراكمات أشعر لدى الكتابة أني أرسم لوحات تعكس كل ما يرتسم في خاطري، وكما كتبتُ في التمهيد لرواية “عصفورة الكواليس”: “لا تحتاروا بتأويل الشخصيات، هي من هبة الخيال المطعون بالحقائق التي وعينا عليها ووجدناها بانتظارنا في كل دربٍ خطونا وكل مهربٍ التجأنا إليه”.
* في رواية “عصفورة الكواليس” جاءت النهاية إيجابية، هل كنت تريد القول أن هناك أمل رغم الخراب والفوضى؟
– رغم كل ما أصابنا في الماضي وما نتجرع في الحاضر لا بد أن يظل بعضٌ منا يتطلع إلى المستقبل، خاصة وأننا شهدنا الكثير من التغيرات، وبسرعة خاطفة تجعلنا في تساؤل دائم عما يخبئه الغد، وقد ألمحتُ إلى هذا في عدة فقرات سبقت نهاية النص، وأنا عادةً أتطلع إلى جيل الشباب، وأرغب دومًا بمعرفة ما يدور في أذهانهم وما يمكن أن يتمخض عنه لاحقًا.
الكثير من البلدان مرت بفترات انهيار شامل واستطاعت الخروج من دائرة الانكسار، رغم ذلك لا أحب الإغداق في التفاؤل، ولا ترديد ذات الهتافات صاخبة النبرة، لذا جاء ما كتبَته شخصية “زياد” في النص يحفز لانتظار الغد، بقدر ما يحمل من شكوى حزينة تحكي حكايته وحكايات كثيرين ممن تغربوا في أصقاع الأرض، ومن قبل مغادرة أرض الوطن:
“لا تلوميني يا حبيبتي إن فاجأتكِ يومًا بمغادرتي
عمري دومًا على سفر
أنا إن خنت فقد خنت قلبي
نبضاته تئن هنا وهناك
في كل بلادٍ نادت غريتي ثم نبذتها إلى منافٍ أخَر
مشرد، مطارد، تقتفي أثري رصاصة قد تنتزع آخر ما لدي من ذكرياتٍ وصور
لا أريد أن تأتيني باكية وأنا أغمض أجفاني على دنيا من وتر
وتر يعزف لحن أغانينا وحكاياتنا
يخفق وشموع أرواحنا في كل دربٍ جديد
دروب وطنٍ ينزف بكاء شعبه
دون أن يموت
الأوطان لا تموت يا حبيبتي
الأوطان لا تموت
تذكري هذا وأنتِ تذرفين الدمع أمام قبريَّ المفقود
وأنتِ تشمين عبق ورودنا الذابلة، الملقاة في تيه خطانا المتعثرة بكل حلم فقدناه
وما أكثر ما فقدنا من أحلامٍ يا حبيبتي، ما أكثر ما فقدنا من أحلام
سافرت معي في غربة السنين
فلا تلوميني، ولا تتهميني
بنكران حب إن ارتحل عنا لأمدٍ
عن ذاكرة بلادنا أبداً لن يغيب”
* في رواية “عند شواطئ أندلوسيا” رصدت مشاعر المغترب، الذي ترك وطنه ليبحث عن حياة أخرى بديلة لكنه لا يستطيع نسيان الانهزام والانكسار الذي حدث له في وطنه.. حدثنا عن ذلك؟
– العراقي يرتحل ومعه ذاكرته المخضَبة بالأحزان وأوجاع الانكسار بسبب ما عانى في بلده، لذلك لا يستطيع التجرد من مآسيه بسهولة، وقد تكون غربته بمثابة قوقعة جديدة تتجدد داخلها تلك الذكريات وتفزر مواجع أخرى، خاصة وأن أخبار الوطن تظل تلاحقه أينما كان عبر مختلف وسائل الإعلام.
وهناك نصوص عديدة رصدتُ خلالها ما يعانيه المغترب العراقي من عبء يستنزف أعصابه كل حين، حتى لو أصيب بحالة من ألزهايمر، كما جاء في قصة “لوحات مجزّأة” عن رجل بالكاد يتذكر محل إقامته، مع ذلك تأتيه جذوات من الماضي عما عاناه داخل وطنه من ويلات الاعتقال وحب ضائع تسترسل إليه ملامحه ضمن أفق الحاضر الذي لا يستطيع التكيف معه بأي حال من الأحوال.
وذات الأمر تقريبًا بالنسبة إلى شخصية “محمد” في رواية “عصفورة الكواليس” مما ألجأه إلى التشرد الفكري، عسى أن يهبه القدرة على تعويض ما فاته من بعد رجوعه من الحرب منكسرًا، إذ يكون ذلك الانكسار مثل طيات الموج المتدافع نحو جهات قد تقود إلى سلسلة غير منتهية من الضياع، قد تتمثل في التطرف الذي يصب حقده على الوطن الذي سلبه أمانيه قبل كل شيء، وهناك الآن الكثير من السياسيين والمتنفذين في بلادنا من ضحية مثل هذه الجدلية غير المنتهية.
لأن كل عهد يتسبب في هجرة المزيد إلى بلاد الغربة، حتى صارت الغربة ذاتها ساحة مجادلات بين تيارات وتوجهات مختلفة، ومن عدة أجيال، كل طرف ضحية عهد ما وظروف سياسية تتباين بشأنها الآراء من قبَل الأطراف الأخرى، بينما تبقى كل الأنظار مشدودة إلى البلاد البعيدة وما يمكن أن تشهده من تغيرات جديدة، لذلك الكتابة عن الغربة بالنسبة لي لا يمكن يتم اختزالها من خلال كل ما كتبتُ لحد الآن، لأن عالم الغربة من ضمن المرايا التي تعكس ما يحدث في الداخل.
* رواية “عند شواطئ أندلوسيا” هل جربت الذهاب إلى دول غربية والعيش فيها أم أن خيال الكاتب لديك يلعب دورا كبيرا في رسم الشخصيات والأحداث؟
– لقد سافرت إلى إسبانيا في رحلة قصيرة، زرت خلالها عدة مدن، من ضمنها مدينة ملَگا في الجنوب، وسحرتني الأجواء هناك، بما تمتلك من مواءمة جميلة بين العديد من الثقافات، لكن ظل الخيال هو الذي يرسم أمامي الأماكن التي راح بطل النص يتنقل بين فضاءاتها، وهناك من ظن أني كتبت عن إقامتي الطويلة هناك، وأني رسام وعشت كل ما عاش الرسام العراقي عبر صفحات السرد، طبعًا ذلك يسعدني كثيرًا لما تحققه كتاباتي عمومًا من مصداقية لدى القارئ.
لكني أيضًا أود التأكيد على أن خيال الكاتب يجب أن يكون هو في المقدمة، مع تراكم معرفي وثقافي طبعًا، لأن الكاتب ليس مدونًا للأحداث، مهما كانت درجة أهميتها، إنما هو يكتب ما ينتج عنها من رؤية فنية يمكن أن تهب القارئ أكثر من مدلول في وقت واحد.
وحتى لو سمعت قصة حقيقية من شخص ما، وتأثرت بها كثيرًا، لن تكون هي ما أود كتابته بالتحديد، بل أني أكتب من وحي ما عرفت لا أكثر، على سبيل المثال في رواية بين “الجنة والنار” أتذكر أني استلهمت شخصية “نادية” من امرأة لا أعرفها، فقط كانت تمشي في الشارع، وقت خروج الموظفين، محنية الرأس، ربما من فرط الحر وتعب اليوم الطويل، لا أدري لمَ تخيلتها تفكر في حبيب، أو زوج غيَبته الحرب لسنوات، ربما لأن في تلك الفترة كان الكثير من الأسرى يعودون من إيران، وأيضًا كنت أسمع الكثير من الحكايات الغريبة عن تلك العودة المتأخرة بعد فقدان الأمل، ولحد الآن شخصية “نادية” من أكثر الشخصيات حضورًا في ذهني، رغم مرور نحو عشرين عامًا على كتابة الرواية.
* في روايتيك “عند شواطئ أندلوسيا” و”عصفورة الكواليس” تأخذ قصص الحب مساحة كبيرة من السرد، هل هي محاولة لجذب القراء، أم أن الحب يتجاور في سردك مع هموم الوطن وقضاياه؟
– الحب لدي، في الكتابة خاصةً، ليس مجرد أحاسيس وعبارات غزل بين اثنين بمعزل عن الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحيطة، لأن كل شخصية هي من تكوين تلك الظروف بشكل أو بآخر، لذلك كان مفهوم الحب يختلف لدى كل شخصية من الشخصيات الثلاث في رواية “عصفورة الكواليس” وكذلك أسلوب التعبير عنه، وذات الأمر بالنسبة لشخصية “هالة”.
كما أن كل الأحاسيس والهواجس الإنسانية، ورغم كل ما ينتابها من تناقض، يمكن أن تكتشف من خلال نوازع الحب المختلفة، حتى الكراهية قد تكون رد فعل لقصة حب فاشلة، أو انجذاب من طرف واحد، مع صد عنيف من الطرف الآخر.
طبعًا لا أريد أن أقلل من شأن الرومانسية بمفهومها العام، فهناك روايات كثيرة تعني بذلك، وهناك من يهتمون بقراءتها، لكني عندما أهمُ بالكتابة يكون لدي ما أود أن أتناوله من خلال رؤية لا تكتفي برصد نبضات عشق مهما تنوعت تفاصيله لن تخرج عن دائرة النمطية في النهاية، فالكتابة لدي مواجهة دائمة للواقع من خلال إعادة صياغة مفرداته، فالمهم هو كيفية تناول قصة الحب، وضمن أي سياق، وما الذي يمكن أن تفتحه أمامي من سبُل وتمنحه من تفاصيل تهب للنص تميزه لدى القارئ، وما الجديد الذي يمكن أن يأتي به.
* ما تقييمك لحال الثقافة في العراق من نشر وفاعليات وهل يمكن الحديث عن نهضة ثقافية؟
– هناك فعاليات ثقافية في العراق، والعديد من المجلات الأدبية، وكذلك بعض دور النشر تخرج من نطاق المحلية نحو المشاركة في معارض الكتاب العربية، لكن يبقى كل هذا دون ما يلبي احتياجات الكاتب والقارئ العراقي، وهذا يعود لأسباب كثيرة في بلد لا يشهد الاستقرار، الاقتصادي والسياسي، لذا نجد أكثر إصدارات المبدع العراقي تأتي عن دور نشر عربية، وقد لا تصل إلى متناول القارئ في بغداد أو المحافظات إلا من خلال معارض الكتاب.
كما لا توجد جهات تسلط الضوء على نتاج الكاتب العراقي المقيم في الخارج، فالأمر يبقى رهن علاقات الكاتب هنا وهناك، رغم أن المواهب العراقية الحقيقية يمكن أن تُعد ثروة حقيقية تساهم في إظهار الوجه الحقيقي للعراق.
بالتأكيد يسعدني أن يكون لدي قراء في كل مكان، لكن أن يشعر الكاتب بالاهتمام داخل بلده أمر مختلف تمامًا، خاصة وأن نصوصي تستلهم أفكارها دومًا من الوجع العراقي، كما أن هناك الكثير من المبدعين العراقيين لا يجدون صدى الجوائز المهمة التي يحصلون عليها داخل بلادهم.
لذا أتمنى أن يتم تأسيس مراكز ثقافية مستقلة تمامًا، أي غير مرتبطة بأي توجه سياسي أو فكري، وإلا سوف نبقى في حالة تشتت ثقافي متزايد ما بين الداخل والخارج من جهة، وما بين سياسات التهميش المتوارثة عبر كل العهود، ولأسباب لا علاقة لها بقيمة العمل الأدبي.
* هل يمكن القول أن الرواية العراقية في مرحلة نمو وما رأيك في ما صدر منذ 2003 وحتى الآن؟
– كل مجال إبداعي لا بد أن يكون في حالة مستمرة من التطور، وإلا عجز عن تجسيد الصورة الحقيقية للمجتمع، وبعد 2003 خرجت الرواية العراقية من قمقم الكبت والقهر الذي تم فرضه من قبَل النظام السابق، إلى حد استوقف الكثيرين من الكتّاب والنقاد العرب، لأن النتاج الروائي كان غزيرًا جدًا ومتعدد الرؤى والتوجهات، وهذا ما سبب بعض الإشكالات نتيجة التسرع في إصدار الأحكام، أو بفعل انفعالات حماسية أراد الكاتب العراقي التخفف منها في نصوصه كي تجنح إلى الواقعية أكثر، بينما توقع الكثير من الأدباء والمثقفين العرب أن تكون الكتابات العراقية محملة بشحنة من الغضب الموجه ضد الاحتلال بشكل أقرب إلى المباشرة.
وقد واجهتُ مثل هذه الآراء كثيرًا، لأن البعض ظن أني أبرر أسباب الاحتلال عبر كتاباتي، لكن بعد حين صارت القراءات أكثر تفهمًا لما أريد التطرق إليه، وأني لا أكتب دفاعًا عن أي طرف، لأن كل الأطراف في رأيي مسئولة عما صار إليه العراق، ولعل رواية “عصفورة الكواليس” تعزز مثل هذا الرأي أكثر من ذي قبل.
بالتأكيد ليس كل ما صدر منذ عشرين عامًا على ذات الدرجة من الجودة، لكن دومًا النص الجيد هو الذي يبقى عالقًا في الأذهان، وليس فقط خلال حفلات التوقيع وحملات الدعاية التي يرَوِج لها الكتّاب ودور النشر هنا وهناك.
من ناحية أخرى هناك كتّاب برزوا على المستوى العربي والعالمي أيضًا، وتم الاحتفاء بإبداعهم على نحوٍ متميز، وقد تمت ترجمة أعمالهم إلى العديد من لغات العالم، بالإضافة إلى ذلك أترقب بروز جيل جديد من المبدعين، في كافة المجالات، لكن أرجو عدم الاستسهال، فقط كي يتم إبراز أسمائهم على صفحات الصحف أو المواقع الإلكترونية، فعملية النشر الآن متاحة للجميع، لكن جهد التميز من أجل البقاء يحتاج إلى التأني والعمل المستمر من أجل إثبات الموهبة الحقيقية.
* حين تكتب عن الكوارث التي حلت بالعراق تهدف بذلك التوثيق أو اطلاع الآخرين، من خارج العراق، علي ما حدث أم الحكي عن إحداث واقعية لا يمكن تجاهلها أم ماذا؟
– التوثيق ليس من مهام الأدب عمومًا، وبهذا الشأن دخلت في نقاش مع كتّاب أرادوا الكتابة عن قضايا سياسية مهمة ضمن نص روائي، أو جعل إحدى الشخصيات السياسية من ضمن محاور نصوصهم، وفق ما يحصلون عليه من معلومات من هنا وهناك، وللأسف بعض القرّاء يأخذون ما يأتي في تلك النصوص كحقائق مؤكدة، بينما حتى السير الروائية تكون مأخوذة بالظروف والأحداث التي مرت بالكاتب، أما التوثيق فلا بد أن يلتزم الحيادية التامة، لكننا من النص الروائي يمكن أن نستقي معلومات عامة عن حدث ما في بلد ما، فمن خلال العديد من كتّاب أمريكا اللاتينية تعرفنا على الكثير من أساليب الحياة في تلك البلاد البعيدة، وذات الأمر بالنسبة لنصوص كتّاب من أفريقيا والصين وأمريكا وأوروبا.
بهذا يتكون لدى القارئ رصيد ثقافي ومعرفي عبر الانفتاح على الآخر، وأنا أضع في ذهني دومًا ما قد يضيفه أي نص أنشره للقارئ، العراقي لأني أحاول التعبير عما عاشه ويعيشه من مشاعر متباينة في خضم كل ما مر علينا ضمن مراحل سياسية واجتماعية مختلفة، وبالنسبة للقارئ العربي فقد استطعت أن أجعله على اطلاع بما مر به العراقي، حسب ما يكتبه لي الكثير من الأصدقاء من بلدان مختلفة، ويظل كل ما أكتبه يثير الدهشة، لأن كل ما شهدناه يبقى فعلًا أغرب من الخيال.
رواية “بين الجنة والنار” على سبيل المثال نقلت صورة مغايرة إلى حد كبير لما كان ينقله الإعلام الموَجه عن تلك السنوات، وذات الأمر بالنسبة لبقية النصوص التي تناولت جوانب خفية عن الشخصية العراقية وما واجهت من مفارقات عبر عقود من صخب الشعارات ودمار الحروب، وبذلك يكون الكاتب العراقي يحمل عبئًا مضافًا فرضته عليه سنوات العزلة والكبت في عهد الديكتاتورية، وأيضًا ما لحقه من تداعيات انهيار الدولة بعد الاحتلال، وما فرضه كل ذلك من تخبط وازدواجية لا بد للكتاب أن يرصد تداعياتها باستقلالية عن توجهات الأنظمة المتعاقبة.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة