خاص: حاورته- سماح عادل
“أحمد صوان” كاتب وصحفي مصري، صدرت له رواية “الحامي” والتي تتناول ثورة يناير من زاوية مميزة.
إلى الحوار:
(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟
- قد يبدو الأمر تقليديًا لكن الشغف بالكتابة بدأ في سن السابعة، في هذا العمر الصغير لاحظ والدي الراحل أنني أقرأ كل ما تقع عليه عيناي وأحاول تقليده أو كتابة ما يُشبهه في أوراق صغيرة، هكذا بدأ يدفع لي بالكتب بانتظام، ومع كل كتاب بدأت أكتب عنه في كراسة صغيرة كان شغفي بالأمر يتضاعف.
وفي مرحلة الجامعة بدأ الأمر يتخذ شكلًا جديًا. كنت أكتب محاولات قصصية بينما أفكر كيف يُمكن أن أجمع عدة حكايات في رواية، حاولت بضع مرات لكني أبدًا لم أجد شيئًا يُرضيني. في تلك الفترة كنت أدرس الصحافة وانخرطت في عالم الكتابة الذي يتطور معي بكل أشكاله يومًا تلو الآخر، إلا أني لأعوام طويلة كنت أفتقد الحكاية نفسها. أتساءل ما الذي يُمكن أن أقدمه وسط عشرات الكتب الموجودة على أرفف المكتبات أو تملأ الأرصفة. كنت أبحث عن شيء يخصني.
استمر هذا حتى العام 2011، الذي لم يشهد فقط تغييرًا في الوضع السياسي، كل من خاض الفترة من 2011 وحتى 2013 تغيرت روحه بالكامل وإلى الأبد، أن تتحول من مواطن بسيط حالم إلى شخص يصطدم بأعلى مستويات السلطة، وأن ترى حكايات لا تُنسى وتعيش واقعًا أغرب من الخيال هو أمرك كفيل بصُنع شخص آخر. من هنا بدأت حكاية “الحامي” التي استغرقت في كتابتها ستة أعوام.
(كتابات) في رواية “الحامي” كان الموت مصير معظم الشخصيات.. هل هذا إقرار بسوداوية الواقع؟
- ليس بالضبط، يُمكنك أن تري الأمور على هذا النحو الذي لا أنفيه، أو تُضيفي إليها كذلك فكرة أن جميعنا زائلون، سواء كنا مخابيل غارقون في الأحلام أو طُغاة يرفلون في نعيم القوة. لا أربط الأمور بمعتقد ديني بقدر ما أراه حقيقة يجب أن نضعها في أذهاننا عند اتخاذ قرار مصيري.
(كتابات) في رواية “الحامي” تناولت الفترة من 1952وحتى2013 ورصدت أهم المحطات الهامة في تاريخ مصر واستعنت بتقارير من الصحف أو شهادة لشخصيات هامة.. حدثنا عن ذلك؟
- أنا عاشق للتاريخ، وهذه الفترة غيّرت وجه مصر بشكل كامل سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، في كل قراءة لهذه الفترة والجزء الذي عايشته سواء كشاب عادي أو صحفي يمتلك من المصادر والأدوات ما يجعله نافذًا إلى بعض المواضع. كنت أبحث دومًا عن خيط أو حكاية تربط كل هذا.
بينما تتكون الفكرة في ذهني التي بدأت في وضع سيناريو يُمكن أن يتفق مع كل هذه الأحداث التي شهدتها البلاد طيلة ستين عامًا، لثلاثة أعوام غرقت في التقارير الصحفية ومذكرات السياسيين والقادة العسكريين وكتابات المؤرخين وكل ما يُمكن جمعه. استوقفني الكثير خلال هذا البحث فبدأت في انتقاء كل ما يتفق مع هذا السيناريو، هكذا طيلة الرواية كنت أطرح سؤالًا خفيًا: ماذا لو كان هذا ما حدث حقًا؟
(كتابات) في رواية “الحامي” لماذا شخصيات المقاومين للسلطة هشة متخبطة.. تتناول المخدرات لتتجاوز أزماتها التي تثقلها؟
- هي “خيبة الأمل” إذا صح التعبير، في بداية حياتك تكون مُغامرًا ثائرًا وتدفعك طبيعتك للاصطدام بكل وأي شيء وكأنك تستطيع اختراق حائط خرساني بدفعة من رأسك. تحلم وتفكر وتقاوم، حتى تكتشف أنك بلا حول ولا قوة طالما لست من أسرة ميسورة أو يحمي ظهرك شيء من السلطة، عندها تلجأ لما يدفعك في أوقات الأزمة بعيدًا عن العالم وإلا انفجر عقلك وتحولت إلى مجذوب أو مجرم، حتى الفساد يحتاج إلى من يدفع بك إلى عالمه، وفي الحقيقة لم يعد هذا مُتاحًا بعد أن زاد الفاسدون وابتلعوا عالمنا بأكلمه.
شخصيات المقاومين هم أبناء هذا العصر، منذ كانت الناصرية كالمكارثية، والرئيس المؤمن يُضرب مُعارضيه بالجنازير في الشوارع والجامعات، والسبيل الوحيد للارتقاء في عصر مبارك هو الحزب الوطني، ووسط كل هؤلاء يشترط الإخوان أن تكون مُطيعًا كالدواب حتى لو أمروك بقتل أبيك. من كانوا خارج هذه الدوائر إما ذهبوا للسجون أو لجئوا للمخدرات أو صاروا فاسدين بما لا يُقاس.
(كتابات) في رواية الحامي علاقات الحب أيضا مأزومة بتأزم الواقع وهي تعذيب للمحبين.. حدثنا عن ذلك؟
- بالتأكيد، الحب كذلك ابن عصره، يتحكم الواقع في ظروفه كأي شيء في حياتنا، التغيرات السياسية والسلطة والثروة كلها عوامل عذّبت هؤلاء الشباب، فالفتاة اليهودية تركت حبيبها بسبب التهجير، والسياسي الشاب خلّف فتاته الفقيرة لأجل سلطة والده، والثائر الشاب مات مقهورًا بعدما أوجعه حب فتاته وبلاده.
قصص الحب هنا مثل أوقات الهدنة بين المعارك، أعمارها قصيرة لكنها ضرورية، ولا يُمكن أن تستقر بسبب تجدد المعارك. كلها جاءت في أوقات متوترة ومفصلية في حياة أبطالها بالتزامن مع البلاد، لذلك طبيعي أن تكون متأزمة.
(كتابات) لغة الحوار في الرواية خاصة بين أكرم وجميلة وفؤاد وشكري رغم حميميتها إلا أنها مليئة بالسخرية والاستهزاء والألفاظ النابية وقد تكون غير مقبولة لدى بعض القراء وصادمة.. ما رأيك؟
- هي لغة عصرها ومفرداته، هذا الجيل اكتسب خبرات مُضاعفة من الاحتكاك بالشارع، وهذه الألفاظ نسمعها على الدوام في كل مكان فلا داعي لدفن رؤوسنا في الرمال. ننظر للصغير ونطلب منه تجاهلها بينما تلتقطها أذناه، الاعتراض عليها هو بالضبط كما فعل آباؤنا في عصر التليفون الأرضي عندما طالبونا بعدم الكذب بينما مع أول مكالمة لا يرغبون فيها كانوا يطلبون منا الرد كي نقول “بابا مش موجود”. تعلمنا الكذب وتعلموا التجاهل.
حاولت أن أنقل عصور الرواية حتى في المفردات، في الخمسينات كان هناك أرماني ولغته الراقية، والسبعينات كان المال يحتل المفردات، بينما ألفاظ شباب الألفية موجودة في الشارع وعلى المقهى وفي أماكن العمل، والكثير من الشباب يعتبر الإفراط في هذه الألفاظ دليل على الحميمية ومتانة الصداقة. أمّا السخرية فهي نابعة من المرارة، أنضحك أم نُصاب بالجنون؟، كل من خاض تلك السنوات العصيبة قرر أن يُحيل الأمر برمته إلى سخرية تبدو الآن منتشرة في الصور على مواقع التواصل الاجتماعي. هم يستهزئون بأنفسهم وانكسارهم وقلة حيلتهم وانعدام المواجهة حتى قبل أن يسخرون ممن فعل بهم كل هذا.
(كتابات) حين كتبت الرواية هل كنت تفكر في فئة معينة للقراء كتبتها لهم ويتقبلونها؟
- على الإطلاق، لم أكن حتى واثقًا في قدرتي على نشرها أو وجود ناشر يتقبل جرأتها السياسية أو ألفاظ أبطالها الصادمة، للحظة شعرت أن هناك من يكتب تاريخ آخر عن فترة عشتها ولا يمت لها بصلة فقررت أن أكتب حكايات من خاضوا هذه المعمعة الكبرى، ثم تطور الأمر فوجدت مسار الرواية يمتد إلى ما صارت عليه.
خلال الكتابة كنت أعرض بعض الأجزاء على أصدقاء أثق بهم فيرد أغلبهم بكلمة واحدة “استمر”، تعمدت أن أفعلها مع أكثر من صديق مختلفين فكريًا واجتماعيًا وكنت أجد ردود الأفعال تدفعني للاستمرار.
(كتابات) لما اخترت مجال الرواية هل بسبب طغيان الرواية على أنواع الأدب الأخرى أم ماذا؟
- الرواية كالحياة، عدة حكايات تدور في فلك حكاية كبيرة شديدة التعقيد وينظر كل من أبطالها إلى جزء منها وليس الصورة كاملة. كانت لي في عام 2014 – وأثناء كتابتي هذه الرواية- تجربة في إصدار مجموعة قصصية أراها الآن مُتعجلة فحذفتها من ذاكرتي وقررت أنني لا أصلح لهذا العالم العبقري شديد التكثيف، ربما أرى أن القصة أكبر من قدراتي الحالية التي تميل إلى الإسهاب في الحكاية.
(كتابات) ماتقييمك لحال الثقافة في مصر؟
- بائس للغاية إذا جاز التعبير، صورتها الذهنية لدى الشخص العادي سيئة وتنحصر في صورة “عيسوي” التي جسّدها الراحل أحمد راتب في فيلم “يا رب ولد”، أو شباب “وسط ناو” كما يُطلق عليهم رواد مواقع التواصل الاجتماعي، بينما يكتفي المثقفون الكبار بالجلوس في الأماكن ذاتها منذ الستينات والاكتفاء بأن الشباب جيل بلا رؤى أو طموح، وشباب المثقفون يكتفون بتجمعات تكون أغلبها من الأصدقاء. كلاهما يرفض الاندماج مع الآخر ومع من يصفونهم بـ”العوام”.
في الوقت نفسه نجد نسبة كبيرة من القائمين على المواقع الثقافية يتعاملون بروح الموظف لا الفنان أو “المُثّقِف” على حد تعبير وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني، يرون الإصدارات “عُهدة” والرقابة المفرطة “أخلاق”، ويُفضّلون المواقع الثقافية الخالية حتى لا يُفسد الجمهور المكان.
(كتابات) ما رأيك في حال النشر في مصر وهل يدعم الكتاب المبتدئين؟
- سوق النشر في مصر بشكل تجاري جيد للغاية، هناك آلاف الإصدارات سنويًا تُساهم في دفع النشر كصناعة، وهناك العديد من الناشرين يتمتعون بثقافة راقية ودقة في اختيار الأعمال التي يقومون بنشرها أو ترجمتها بغض النظر عن شهرة صاحبها، ويقوموا بمجهود حقيقي لاختيار أعمال تصلح لقراءتها بعد أعوام وليس فقط وقت صدورها. هؤلاء يحاولون فعلًا الدفع بجيل جديد من الكُتاب والمترجمين المُبتدئين بغض النظر عن التكلفة المادية.
في مُقابل هؤلاء نجد الكثير من المُتاجرين بحلم الكتاب الأول، ادفع لتحصل على كتابك أو بضع صفحات في كتاب جماعي يكون مكسبه عشرة أضعاف تكلفته، لا يهم ماذا تكتب ولكن المهم أن معك بضعة آلاف تصلح لاستغلالها، أو فئة أخرى متخصصة في الكاتبات، فلا يهم سوى كم أنتي جميلة لأضع صورتك على الغلاف وأقيم لك عشرات الندوات لبيع النسخ التي يشتريها كل من يرغب في رؤية مفاتنك. هؤلاء لا يصمدون في السوق كثيرًا.
قصة قصيرة لأحمد صوان..
مرآة
الجلوس وحيدًا.. الإصغاء إلى رائعة راجح داود بسكاليا.. النظر لوجهك في المرآة..
آلة الزمن تعود بك إلى الخلف.. إلى عصورها السحيقة..
الآن ترى كل شيء بوضوح تام..
تلك الُندبة في الجانب الأيسر من جبينك..
عراك أطفال.. حقائب مدرسية مُلقاة على الأرض.. أكوام من الغبار تتناثر حولكما.. تلك الصخرة الصغيرة التي التقطها غريمك.. صراخ.. أمك – تلك المرأة الباسلة – تتحرك في جنون بحثا عن علبة البن..
التجاعيد الكثيرة حول عينيك..
سهرات المراهقين.. شرائط الفيديو العتيقة تنتقل من يد لأخرى.. الدِش، ذلك الاختراع العجيب الذي يفتح عقلك على عوالم أخرى بخلاف التليفزيون الحكومي العتيق.. سُعالك المستمر فى الليل… بضعة أنفاس من سيجارة يتيمة يتبعها لبان «سمارة» الشهير.. تلك الفتاة المراهقة التي تسكن بالقرب منك.. درس الفيزياء.. قُبلة في سلم العمارة..
شعرك الثائر..
ذلك الحلاق العجوز الذي كان أبوك يصطحبك إليه.. قطعة الخشب التى كان يضعها على الكرسي.. «السيشوار» ذلك الاختراع هو الآخر.. الموس الذى يلامس ذقنك لأول مرة.. رائحة الكولونيا ٥٥٥..
جرح بسيط في الأذن..
عيناك..
النظرات المُختلسة إلى رفيقة الدرس التي بدأ صدرها في التضخم.. الكدمة الزرقاء بعد شجار بسبب ملابسها.. النظرات المتفحصة من ذلك الضابط الأحمق.. أمك وهى دامعة عقب تخرجك.. دموعك الأخيرة بعد وفاتها..
أذناك..
مُدرّسة الحساب في المدرسة الابتدائية تنهرك.. فاصل من التقريع بسبب تأخرك اليومي.. الضحكة الخافتة من زميلتك التي تروق لها.. صفارة القطار.. النداء على اسمك فى السجل المدني.. أصوات المقرئين فى عزاء أبيك.. هتافات مدّوية ضد الطاغية العجوز.. ضحكات بعد منتصف الليل..
شفتاك..
الفاتحة والتشهد.. ألفاظ بذيئة.. ضحكة صافية.. حديث طويل.. غزل.. صراخ.. همسات خافتة تدعو بالرحمة.. قُبلة فرنسية.. شجار.. تضرع.. نهد جميل.. طعام شهي.. وداع.. ابتسامة حزينة.. كأس خمر..
أنفك..
رائحة أنثى.. نزيف.. قش محترق.. زهرة ذابلة.. هواء نقى.. عطر باريسي.. طعام.. غاز مسيل.. نبيذ معُتّق.. مخاط.. تبغ.. بن يمني.. نَفَس حبيبتك.. صدأ.. عرق المضاجعة.. كمامة.. صودا..
عقلك..
شريط من الذكريات.. خيانة.. صور تكفى عشرات الأفلام الوثائقية.. اكتئاب.. حكايات ومواقف تملأ مئات الكتب.. بشر.. غضب.. كائنات.. ذكرى جميلة.. ثورة.. فتاتك الأولى.. هو كل ما يُلّخصه كتاب المدرسة «كل ما سبق»..