كتبت – سماح عادل :
لازالت ذكريات أيام المرحلة الجامعية في أواخر التسعينيات، تحفظ في ركناً منها مكاناً لتلك القصيدة التي يرددها أحد الزملاء.. وتستثير دهشة الجمهور.. “القدس عروس عروبتكم..”، قصيدة موجعة في تمردها وجرأتها.. تملأني بإحساس الرهبة من جرأتها والآلم من صدقها في تصوير وضعنا الردئ، وحين أسأله بعد انتهاء التظاهرة يقول لي أنها قصيدة لـ”مظفر النواب”.. كنا وقتها نتبادل الكتب بشغف ولم يكن لشبكة الإنترنت توفرها وشيوعها كما في الوقت الحالي، عرفنا “أمل دنقل وأحمد فؤاد نجم ومظفر النواب وعبد الرحمن الأبنودي” كأيقونات.. نردد أشعارهم، نقولها في التظاهرات، ونستجدي بشعرهم تعاطف الناس وحماسهم.
مظفر.. عن قرب
“مظفر عبد المجيد النواب” شاعر يساري عراقي، كرس شعره لينتقد الأنظمة العربية والحكام العرب، كما كتب شعر عامياً عراقياً، لازال الناس يسمعون شعره ويتشاركونه فوق حساباتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، فقد ظل طوال حياته معارض سياسي بارز وناقد للأوضاع المتردية.
ولد مظفر بن عبد المجيد النواب، عام 1934 في الكرخ بالعاصمة العراقية بغداد، لعائلة أدبية حيث كان جده لوالده ينظم الشعر بالعربية والفارسية، وكانت أسرته ثرية مهتمة بالفن والأدب، ولكن والده تعرض إلى هزة مالية أفقدته ثروته.
اكتسبت عائلته لقب “النواب” الذي جاء من “النيابة” أي النائب عن الحاكم، حيث هاجرت عائلة جده إلى الهند أيام حكم العثمانيين للعراق، وهناك تولت الحكم في إحدى الولايات الهندية، ثم عادت منها إلى العراق “موطنها الأصلي” بضغط من سلطات الاحتلال الإنجليزي بالهند بسبب مقاومتها للاحتلال.
الدراسة والشعر والسياسة
درس في كلية الآداب ببغداد، وبعد انهيار النظام الملكي في العراق عام 1958، ثم بعد فترة انتسب إلى جامعة “فانسان” الفرنسية، وسجل رسالة ماجستير كان موضوعها “باراسيكولوجي” أو القوى الخفية في الإنسان.
تطورت موهبته الشعرية نتيجة تأثره بجده الشاعر، وفي الصف الثالث الابتدائي بدأ نظم الشعر حين كلفه أحد أساتذته بإكمال بيت أعطاه شطره الأول، وكان في المرحلة الإعدادية والثانوية ينشر قصائده في مجلات الحائط بالمدرسة.
انتمى إلى “الحزب الشيوعي العراقي” في شبابه، خاصة بعد الإطاحة بالنظام الملكي عام 1958، وظل منضماً إليه حتى اضطر في 1963 إلى مغادرة العراق، باتجاه إيران بعد اشتعال الصراع بين الشيوعيين والقوميين العرب الذين وصلوا إلى الحكم بانقلاب نفذوه في نفس العام.
وكان قد عُين أثناء حكم الشيوعيين للعراق، الذي كان في الفترة “1958 – 1963″، مفتشاً فنياً في وزارة التربية، خلال عام 1963 اضطر لمغادرة العراق، بعد اشتداد الصراع بين القوميين والشيوعيين الذين تعرضوا إلى الملاحقة والمراقبة الشديدة من قبل النظام الحاكم، فكان هروبه إلى “الأهوار” عن طريق البصرة، إلا أن المخابرات الإيرانية في تلك الأيام (السافاك) ألقت القبض عليه وهو في طريقه إلى روسيا وسلمته إلى الأمن السياسي العراقي، فحكمت عليه المحكمة العسكرية هناك بالإعدام، إلا أن أهله وأقاربه سعوا إلى تخفيف الحكم القضائي وبالفعل وصل إلى السجن المؤبد، وفي سجنه الصحراوي واسمه “نقرة السلمان” القريب من الحدود السعودية – العراقية، أمضى وراء القضبان مدة من الزمن ثم نقل إلى سجن “الحلة” الواقع جنوب بغداد.
السجن
في هذا السجن قام مظفر النواب ومجموعة من السجناء بحفر نفق من الزنزانة يؤدي إلى خارج أسوار السجن، وبعد هروبه من السجن توارى عن الأنظار في بغداد، وظل مختفياً فيها ثم توجه إلى الجنوب “الأهوار”، وعاش مع الفلاحين لمدة عام تقريباً، وفي عام 1969 صدر عفو عن المعارضين، فرجع إلى سلك التعليم مرة ثانية.
بدأ النواب يجتذب القراء منذ عام 1969 حين كتب قصيدته “قراءة في دفتر المطر”، ثم عرفه الجمهور العربي من خلال ملحمته الشعرية “وتريات ليلية” التي كتبها خلال 1972 – 1975، والتي كان فيها ملتزماً بقضايا العرب القومية السياسية والاجتماعية، وفيما بعد سيلتزم بتلك القضايا وستكون ظاهرة في شعره.
“الأخطر في حركة الشعر العربي”
اشتهر منذ أوائل السبعينيات بشعره السياسي المعارض والموغل في نقد الأنظمة العربية الحاكمة، نقداً لاذعاً يصل إلى مستوى الجرأة، حتى لقبه البعض بـ”الشاعر الأخطر في حركة الشعر العربي”، وبينت أغلب قصائده ثقافة واسعة وفهم واستيعاب كما استلهم من التراث العربي كثيراً في شعره.
قصائده السياسية الهجائية أودت به إلى أن يكون “شاعر الغربة والضياع”.. فعاش أربعة عقود رحالاً بين المنافي العربية والأجنبية، بين “دمشق وبيروت والقاهرة وطرابلس والجزائر والخرطوم”، وظفار “سلطنة عُمان” أيام ثورتها، وإريتريا وإيران “بعد الثورة” وفيتنام وتايلند واليونان، وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، وفنزويلا والبرازيل وتشيلي.
حرص “النواب” على تنظيم أمسيات شعرية للجاليات العربية بالعواصم الغربية خاصة في لندن، حيث ألقى فيها قصائده الكثيرة التي خصصها للقضية الفلسطينية، والتحريض على مقاومة الإحتلال الإسرائيلي، وأبرز قصائده والتي يشتهر بها حتى بين الشباب الثائر قصيدته “القدس عروس عروبتكم”.
.. ثم “شاعر الغربة والضياع”
في قصيدة بعنوان “رب الحجر” يقول النواب: “ارم رب الحجر.. شلت مدرعة تحت صليات عينيك تلتظ نابض نار.. ارم قبلت كفك وجهاً وظهراً.. زرائبنا لم تزل تتثاءب.. لا سيما انتشر الآن داء البقر.. ارم أنت يد الله.. ألق الحجارة الجحيم.. تآمرهم ضد وعي الحجارة لا يغتفر”.
بدأت عزلة النواب تتسع.. خاصة حينما اختار أن يعيش في دمشق خلال اخريات تسعينيات القرن العشرين، حيث خصص له النظام السوري راتب، فاكتفى بداية بالجلوس في مقهى “الهافانا” بشارع 29 آيار مرتين أو ثلاثاً أسبوعياً، ثم أصبحت مرة يتيمة قبل أن يعتزل نهائياً في بيته الذي لا يفارقه إلا ليلتقي القليل من الأصدقاء في أوقات متباعدة.
أخذ البعض على النواب أنه أيد إسقاط “نظام صدام حسين” 2003، على أيدي قوات التحالف الدولي بقيادة أميركا، حيث أقام عدة أمسيات احتفالاً بذلك، كانت إحداها في مدينة “أبو ظبي” خلال عام 2005، كما ظهر على شاشات الفضائيات العراقية والعالمية وهو يدلي بصوته في الانتخابات العراقية أيام الإحتلال الأميركي 2010.
المرض..
أصيب النواب بمرض “الشلل الرعاشي” وفي آيار/مايو 2011، عاد إلى بلده العراق بعد أربعين عاماً من الغياب قضاها في المنافي، وقد استقبله الرئيس العراقي حينها “جلال الطالباني” في مكتبه بقصر السلام في العاصمة بغداد.
من أبرز قصائده “القدس عروس عروبتنا – قمم قمم – اصرخ – البراءة – سوف نبكي غداً – يوم في حمام امرأة – أيام العشق – رحيل – جزر الملح – وتريات ليلية – قراءة في دفتر المطر”.
اشتهر النواب بقصائده المسجلة بصوته على أشرطة “كاسيت” خلال أمسياته الشعرية، نظراً لطريقته المميزة في آداء أشعاره، بحيث تتحول أبيات قصائده إلى ما يشبه المسرحية، لكنه رغم جماهيريته الواسعة لم يطبع شعره في ديوان يجمعه، ما عدا شعره الشعبي الذي جُمع في ديوان “الريل وحمد”، ويقال إنه طبِع دون علمه.
يبرر النواب ذلك بسبب تنقله وإحجام دور النشر عن التعامل معه لما يحمله شعره من نقد جريء للحكام العرب، وهو يؤكد على أن شعره أكثر بكثير مما ألقاه على المسارح وسُجل في الأشرطة، فقد ضاعت عشرات القصائد الطويلة بسبب عدم تدوينها ولفقدها في حادثة غرق باخرة ليبية كانت تحمل مكتبته وأشعاره.
وفي عام 1996 طبعت “دار قنبر” بلندن كتاب “الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العربي المناضل مظفر النواب”، أما شعره فقد ألف عنه كتابان صدرا في دمشق، هما: “مظفر النواب حياته وشعره” لباقر ياسين (1988)، و”مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية” لعبد القادر الحسيني وهاني الخير (1996).
تتردد في الآونة الأخيرة إشاعات عن موته، لكن تنفى من قبل أقاربه، يظل النواب يتنفس الحياة لكن من خلال إهمال متعمد ومقصود لشاعر قضى حياته في التمرد، وفي الدفاع عن قضايا وطنه ومحاربة القبح والفساد.