خاص: بقلم- طارق يوسف:
آه آه…
الأولى آه…
والثانية آه…
والثالثة آه…
الأولة مصر قالوا تونسي ونفوني.. جزاة الخير.. وإحساني
والتانية تونس وفيها الأهل جحدوني.. وحتى الغير.. ما صافاني
والتالتة باريس وفى باريس جهلوني.. وأنا موليير.. في زماني
في 25 (آب) أغسطس 1920، ونزولًا على رغبة السلطان “فؤاد الأول”، قامت السلطات الفرنسية بترحيل “بيرم” إلى تونس، باعتباره “حماية فرنساوي”، حيث لم يكن حاصلًا على الجنسية المصرية.. ولم يُسمح له حتى بوداع أهله، وكان عمره وقتها 27 عامًا.
ويذهب “بيرم” إلى المنفى، ليقضي عشرين عامًا بعيدًا عن مصر، قضى معظمها متنقلًا بين تونس ومدن فرنسا، بحثًا عن الرزق..
وما إن استقر في تونس حتى أرسل زجلًا يسخر من السلطان بقوله:
ما قلتليش يا راعي الرعيان
بقى لك أزمان
ازَّي أحوال الخرفان
بتوع المجزر
الصراع من أجل البقاء
وفي فرنسا كان “بيرم” يُراسل (جريدة الزمان) في مصر، يُرسل أزجاله ومقالاته مقابل مبلغًا يحصل عليه في نهاية كل أسبوع، إلى أن توقفت الجريدة عن نشر إنتاجه الأدبي، ومن ثم توقفت عن إرسال المبلغ الأسبوعي الضئيل الذي كان يقتّات عليه “بيرم”..
وظل يتنقل من مدينة إلى أخرى، ومن مكانٍ إلى مكان، بحثًا عن عمل يُقيّم به أوده.. كان يعيش مع الفقراء المناضلين من أجل البقاء على قيّد الحياة، من أبناء فرنسا، وأبناء الجزائر والمغرب العربي المهاجرين بحثًا عن الرزق، في أشق الأعمال وأكثرها قسوة ومرارة..
غلبــت اقطــّـع تـذاكـــــــر
وشبعــت يـا رب غربــة
بيـن الشطـــوط والبواخــر
ومـن بلـدنـا لأوروبــــــا
واقـولـكــم بالصــراحـــــة
اللي ف زمـانــا قـليـلـــة
عشـريـن سنه في السياحة
باشـوف منـاظـر جميلـة
ما شـوفت يا مصـر راحـة
في دي السنيـن الطويلـة
الا اما شـوفـت البـراقــــع
والـلّـبـــدة والجــلابـيـــة
عطـشــان يا صـبايـــــــا
عطشان يا مصـرييــن
عطشان والنيل في بلادكم
متعـكــر مليـان طيـــن
ولا نهر “الرون” يرويني
ولا مية نهر “السين”
ودموع العين ما بتروي
نار القلب الحزين
دي تلات حكومات يا اخوانا
ظلموني واشكي لمين
فاضل ع العتبة الخضرا
عشرين عام ع الهجين
يا باريـس يا ام بلاد بــره
يا مـربيـه “لامـارتيـن”
بعتـتــلـك ام الدنيــــــــــا
شاعر في الشعر متيــن
يعمـل أشعار لبـرابــــره
وصعـايـدة وفـلاحيــن
ايـاك مايمـوتـش عنــــدك
في بيـوت المسـاكيــن
الحاجة أم الاختراع
وليس هناك ما هو أكثر صدقًا من الخطاب التالي، الذي أرسله “بيرم” إلى جريدة (الزمان)، ضمن سلسلة من الخطابات التي أرسلها إلى هذه الجريدة، كي تنشرها بصفة دورية.. ويذكر “بيرم” أنه اعتاد أن يتناول في كل أسبوع شيكًا من البنك يُرسله مدير الجريدة في القاهرة، ثم أخذ يُرسل الشيك كل أسبوعين، بدلُا من كل أسبوع، وتقدم خطوة إلى الأمام فجعل يُرسله كل ثلاثة أسابيع، ولكن بنفس المبلغ الأسبوعي..
وفي هذا الخطاب كتب “بيرم”:
في الأسبوع الأول من شهر (شباط) فبراير 1921، اشتد البرد وغطت الثلوج شوارع وسطوح الديار، ووقفت الأشجار مجردة من الأوراق وأصبحت كالهياكل العظمية.. وقد تناولت الطعام في هذا الأسبوع مرتين أو ثلاثة، وقبل الليلة التي أدون فيها هذه الكلمات، رّقدت بلا عشاء، وفي مثل تلك الحال يشعر الإنسان أن النوم يغني عن الطعام، فبقيت في الفراش أنظر من النافذة إلى السماء المكفهرة ولا أعرف إن كان الوقت ضحى أو مساء، كلما سمعت وقع أقدام على السلم حسبتها خطوات ساعي البريد جاء بالخطاب “الموقر” ! وعندما سمعت نسيس المقلاة عند جيراني، وصعدت رائحة “البفتيك” يُقلى، علمت أننا وقت الظهيرة.. للجوع ثلاثة أدوار: الأول يشتهي فيها الجائع أي شيء وكل شيء حتى الحشائش وأوراق الشجر، والثاني مغص والتواء في الأمعاء، والثالث غيبوبة وأحلام وهذيان..
أوحى إليّ الهذيان أن أستعمل القاعدة المشهورة: “الحاجة أم الاختراع”.. وماذا عسى أن يخترع الإنسان ؟..
ألمس بيدي الفراش فأجده طريًا، فأحسب أن حشوه يصلح للغذاء.. هل أبيع البطانية التي أملكها ؟.. ولكن أين هو المشتري في تلك الساعة ؟..
فتحت كل مرتبة، وقلبت كل وسادة، لعلي أجد تحتها قطعة من الخبز أو ما يُشبّه الخبز، وقلبت الكنبة بحركة عنيفة كالمجنون، فلاحت لي بصلة تلمع قشرتها الذهبية تحت النور.. البصل لذيذ إذا شوي بالنار، لكني لا أملك الوقود ولا الثقاب، ولسنا في مدينة شرقية حتى نجد بسهولة الأوراق والأخشاب ملقاة في المزابل، أو نجد من نستوقفه ونطلب منه عودًا من الثقاب على سبيل المروءة.. أعددت الوقود من المواد الآتية: قاموس عربي فرنسي.. ديوان أبي العتاهية.. عدة خطابات من الأصدقاء والعائلة.. ونجحت في الحصول على عود ثقاب من أحد الجيران بعد تردد طويل..
أخيرًا ارتكزت البصلة العزيزة بين قصائد أبو العتاهية، وخطابات سيد درويش وعباس العقاد، وصعد اللهب من الكانون يُدفيء الحجرة وينيرها، إلى أن احترقت جميع الأوراق.. وبحثت عن البصلة فوجدتها قد سقطت من بدء إشعال النار، في أسفل الموقد، ولم ينضج منها غير ثوبها الخارجي..
ولكن الدفء وحده في بلد مثل “ليون”، يُعدّ نعمة كبرى لا سيّما مع النوم..
أنا اتلهيت وخدل زِنْدي
وانا لا عنتر ولا غاندي
إن كانت الغلطات من دي
يكون ف عون اللي عملها
إن كان على الملح اكلناة
وإن كان على السجن دخلناة
والجوع نحلنا ونحلناه
خلي اللي فاضل لرجلها
قالوا اللي يشرب من نيلك
لا بد يرجع ويجيلك
وانا اللي عطشان ف سبيلك
الدنيا إيه اللي جَرَالْها
يا بلدي هجرك يكفاني
يا عَمْلة قُمْع ونسياني
ويوم ما هرجع لك تاني
هَتبقى رجعة بْرِسْمالها
يام الكرانك والدلتا
هَتعملي طرشة لإمتى
ما اتغيرت كلمة زفتى
والدنيا راقت أحوالها
وفي مشوار بيرم (4)
نتتبع رحلته بين الزجل والشعر..
فإلى لقاء