مشوار بيرم (1) .. “المسلة.. لا هي جريدة.. ولا مجلة”

مشوار بيرم (1) .. “المسلة.. لا هي جريدة.. ولا مجلة”

خاص: بقلم- طارق يوسف:

قد أوقـع القلب في الأشجان والكمـــدِ

هـوى حبيــب يُسمى المجلس البلدي

ما شرد النوم عن جفني القريح سوى

طيف الخيال.. خيال المجلس البلدي

إذا الـرغيف أتى.. فالنصـف آكلــــه

والنصــف أتركــه.. للمجلس البلدي

وإن جلسـت فجيبي لست أتركـــه

خوف اللصوص.. وخوف المجلس البلدي

وما كسوت عيالي بالشـتاء ولا

في الصيــف إلا كســوت المجلس البلدي

كأن أمي أبـَل الله تربتهــــــــا

أوصــت فقالـت أخـــوك المجلس البلدي

يا بـائع الفـجل بالملـــيم واحـدة

كـــم للعيــــال.. وكــــــم للمجلس البلدي

كانت قصيدة المجلس البلدي، بمثابة شهادة ميلاد الشاعر والزجال “محمود بيرم التونسي”..

وخلف نظمه لقصيدته الأولى هذه قصة.. فعندما بلغ “بيرم” السابعة عشر من عمره، أحس أنَ عليه أنْ يستقل بعملٍ خاص، فاتفق مع أحد الصيادين على أن يشتركا معًا في دكان بقالة..

واستلف “بيرم” من خاله نصف رأس المال الذي سيَّساهم به في هذا المشروع..

وفي الدكان الجديد، بينما كان يُقلب في الكتب التي يستخدم أوراقها في لف الجُبن والزيتون، لفت انتباهه كتاب في الصوفية لـ”مَّحي الدين بن عربي”، وما أن انتهى من قراءة هذا الكتاب، حتى بدأ يبحث عن كتبٍ أخرى من هذا النوع، فاشترى كتبًا لـ”المقريزي والغزالي والميداني”، وقرأ في الأدب الشعبي لـ”عبدالله النديم”، وغيره..

ومع انشغال “بيرم” بالقراءة، وفتح باب الشُكُكْ على مصراعيه لزبائنه، ذابت البضاعة بعد سبعة أشهر من افتتاح الدكان.. وضاع رأس المال في دفاترٍ لعينة، كانت تضَّم على حد تعبير بيرم: “أسماء خلق تأكل مال النبي”…

وفي نفس الوقت يُفاجأ “بيرم” ذات يوم بالمجلس البلدي في الإسكندرية وهو يحجز على بيته ويُطالبه بضرائب العوايد (كان مبلغًا كبيرًا) عن سنوات مضت..

وكأن الدنيا أرادت بهذا الحدث أن تستّفز وتُطلق روح الشاعر والزجال داخل “بيرم”..

اغتاظ “بيرم” وقرر أن يرفع راية العصيان ضد المجلس البلدي بقصيدة يجعله فيها “مسّخرة” في أفواه الناس..

وأحدث نشر القصيدة دويًا.. فلم يُعدّ في الإسكندرية مَن لم يتكلم عنها، أو يحفظها، أو يُرددها..

كما ترجمها موظفو المجلس البلدي إلى اللغات الأجنبية، حيث كانوا جميعًا من الأجانب..

العامية بديلًا عن الفصحى

بعد هذه القصيدة ترك “بيرم” التجارة وتفرغ لتأليف الشعر.. إلا أنه أدرك بعد فترة أن الشعر وسيّلة محدّودة الانتشار بين شعبٍ 95% من أبنائه لا يقرأون، فاتجه إلى الزجل الذى يفهمه الغالبية العظمى من المصريين.

وكانت أزجاله الأولى مليئة بالدعابة والسَّخرية المُرَّة في نفس الوقت..

يا مصري وأنت اللي هامـمــني

من دون الكُـل

هـزيــل ويحســبك الجاهـــــل

عيـان بالسُــل

مـن دى الكـيوف اللى تصـــبر

على كُـْتر الذُل

ونمـــت والعـالــــم فايـــــــق

قوم بُصْ وطُل

شوف الشعوب واتْغَصْ ودوب

وأرجـع إنسان

…………………

يا بنــت باني الهــــرم

لمي هَـلاهِيـلِـكْ

والبرقــع اللي انخـرم

ويـا خُـلاخِيـلِـكْ

جهـل النِسـا بالعلـــوم

خـلانـا أنتيــكـا

نفهــم في فـن الهـدوم

رُقْعَـه وتَشْتيكَه

يا بنت باني القصـور

راجـل يناديــــكي

بينه وبينـك ستــــور

مــــدى أيـاديــكي

وفكي عنـه السيـــور

الله يقــوّيــــــكي

وكوني إيـده اليمــين

في اللي عليه ناوي

تصريح من وزارة الداخلية للتجارة في الحشيش !!

وفي (آذار) مارس 1919 تندلع ثورة الشعب المصري بجميع طوائفه مطالبة بالاستقلال وجلاء المحتل..

ويُشارك “بيرم” في الثورة ولكن على طريقته الخاصة كما يقول:

“اشتركت في الثورة على طريقتي الخاصة.. لم أقذف بالحجارة.. ولم أحطم مصابيح النور.. وإنما نظمت مقطوعات زجلية مناسبة للمقام.. فكانت أشد وأقوى من الحجارة.. بل ومن القنابل أيضًا”.

ولم يكتفِ “بيرم” بكتابة الأزجال وإرسالها إلى الصحف لنشرها، بل بادر بإصدار جريدة تحمل كل الأفكار التي يُريد إيصالها للناس..

يذهب “بيرم” إلى القاهرة.. ويُقابل “يوسف بك خلاط”، مدير المطبوعات، طالبًا منه ترخيصًا بإصدار جريدة..

ويسّوف “خلاط بك”.. ويُعطي “بيرم” موعدًا تلو الآخر، متعللًا بانتظار موافقة وزارة الداخلية..

وبعد مرور عدة أسابيع يتلقى “بيرم” الرفض الصريح من “خلاط بك”:

“يا بيرم أفندي.. وزارة الداخلية لا توافق على إصدار أية جريدة في الظروف الحالية التي تمر بها البلاد”.

فرد عليه بيرم: “طيب.. والله ممكن تعمل لنا تصريح من وزارة الداخلية نتاجر به في الحشيش”.

ينتفض “خلاط بك”، ويأمر بإلقاء “بيرم” في الشارع..

فيُسافر عائدًا إلى الإسكندرية، وقد قرر أن يتحدى “خلاط بك” ووزارة الداخلية وقانون المطبوعات..

ويُصدَّر “بيرم” جريدة اسماها: “المسلة.. لا هي جريدة.. ولا مجلة”

ونجح بهذا في التهرب من قانون المطبوعات، الذي لم يكن يسمح بإصدار أية جرائد أو مجلات جديدة..

مرمر زماني

وتتوالى أعداد (المسلة) في الظهور.. حتى كان العدد الثاني عشر منها، عندما نشر “بيرم” زجله الشهير “مرمر زماني”

كان الزجل أكثر جرأة، فبعد أُن أُعلِن عن مولد “فاروق” في 11 (تشرين ثان) نوفمبر سنة 1920، ولم يكن قد مضى على زواج “فؤاد” بزوجته الثانية “نازلي” إلا قُرابة سبعة أشهر، حتى أشيع أن الحمل في “فاروق” حدث قبل عقد القران، فنشر “بيرم” على صفحات (المسلة) القصيدة التالية:

الْـبِـنْـتِ مَـاشْـيَـةْ مِـنْ زَمَـانْ تِـتْـمَـخْطَرْ

وِالْغَفْلَة زَارْعَةْ فِي الدِّيوَانْ قَرْعَ اخْضَرْ

تِـشُـوفْ حَـبِـيـبْـهَا فِي الْجَاكِتَّة الْكَاكِي

وِالـسِّـتَّـة خِـيـلْ وِالْـقَـمْـشَجِي الْمَلَّاكِي

تِـــسْــمَــعْ قُــولِــتْــهَــا … يَــا وْرَاكِــي

وِالْـعَـافْـيَـة هَـبْـلَـةْ وِالْـجَـدَعْ مِـتْـشَـطَّرْ

مَرْمَرْ زَمَانِي يا زَمَانِي مَرْمَرْ

الْــوِزَّة مِــنْ قَــبْــلِ الْــفَــرَحْ مَـدْبُـوحَـةْ

وِالْـعَـطْـفَـة مِـنْ قَـبْـلِ الـنِّظَامْ مَفْتُوحَةْ

وِالـدِّيـكْ بِـيِـدَّنْ وِالْـهَـانِـمْ مَـسْـطُـوحَةْ

تِــقْــرَا الْــحَــوَادِثْ فِــي جَـرِيـدَةْ كَـتَّـرْ

مَرْمَرْ زَمَانِي يا زَمَانِي مَرْمَرْ

يَــا رَاكِـبِ الْـفَـيْـتُـونْ وِقَـلْـبَـكْ حَـامِـي

حَــوِّدْ عَــلَــى الْــقُـبَّـةْ وِسُـوقْ قُـدَّامِـي

تِـلْـقَـى الْـعَـرُوسَـةْ شِـبْـه مَحْمَلْ شَامِي

وَابُـوهَـا يِـشْـبِـهْ فِـي الـشَّـوَارِبْ عَـنْـتَـرْ

مَرْمَرْ زَمَانِي يا زَمَانِي مَرْمَرْ

وِحُــطِّ زَهْــرِ الْــفُــلِّ فُـوقْـهَـا وْفُـوقَـكْ

وِجِـيـبْ لَـهَا شِبْشِبْ يِكُونْ عَلَى ذُوقَكْ

وَنَــزِّلِ الــنُّــونُـو الْـقَـدِيـمْ مِـنْ طُـوقَـكْ

يِــنْـزِلْ فِـي طُـوعَـكْ لَا الْـوَلَـدْ يِـتْـكَـبَّـرْ

مَرْمَرْ زَمَانِي يا زَمَانِي مَرْمَرْ

دَا يَـــامَـــا مَـــزَّعْ كُــلِّ بَــدْلَــه وْبَــدْلَــهْ

وِيَــامَــا شَــمَّــعْ بِــالْــقِـطَـانْ وِالْـفَـتْـلَـةْ

وِلَــمَّــا جِــه الْأَمْـرِ الْـكَـرِيـمْ بِـالـدُّخْـلَـةْ

قُـلْـنَـا اسْـكُـتُـوا خَـلُّـوا الْـبَـنَـاتْ تِـتْسَتَّرْ

مَرْمَرْ زَمَانِي يا زَمَانِي مَرْمَرْ

نِــهَــايْــتُــه يِــمْــكِــنْ رَبِّــنَـا يْـوَفَّـقْـكُـمْ

مَـا دَامْ حَـفِـيـظَـة الْـمَـاشْـطَة بِتْزَوَّقْكُمْ

دِي سُـكَّـرَةْ مَـالْـطِـي دَاهْيَةْ مَا تْفَوَّقْكُمْ

بَـسِّ ابْـقَـى سِيبَكْ مِ اللِّي فَاتْ دَامْقَدَّر

وعلى إثر نشر هذا الزجل، أصدر السلطان بنفسه أمرًا بإغلاق (المسلة)..

ثم اتصل بسلطات الاحتلال الإنجليزي، حتى يتوسطوا لدى القنصلية الفرنسية لترحيل “بيرم التونسي” من مصر، حيث أنه حماية فرنسية..

وتستجيب القنصلية الفرنسية.. وتوافق على ترحيل “بيرم” إلى تونس، حيث أنه لم يكن يحمل آنذاك الجنسية المصرية..

ويذهب “بيرم” إلى المنفى، ليقضى به عشرين عامًا بعيدًا عن مصر، قضى معظمها متنقلًا بين مدن فرنسا، بحثًا عن الرزق في أشق الأعمال وأكثرها قسوة ومرارة..

ونستمر مع “بيرم التونسي” في مشوار حياته، ومعاناته في منفاه..

فإلى اللقاء مع بيرم (2) ..

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة