كتبت: محبوبة خليفة
توسَّلتْ كثيراً لوالدها أن يترك شباك غرفتها كما هو، كان يجري تغييراته السنوية المعتادة على دارتهم الكبيرة خوفاً من تأثير “شرش البحر”- كما يسمونَهُ هنا- على المبنى الجميل الذي لا يبعد عن البحر إلا أمتار قليلة، كان يفضِّل الشبابيك الخشبية لتحمّلها هذا النوع من الطقس، غير أن صديقه المقاول الذي يثق به أقنعه هذه المرة بالتغيير الجذري، وحتماً سيذهب شُبَّاكها ضحيةً لهذا التغيير.
شُبَّاكها أو (مشربية عائشة)* كما تسميه شقيقتها – سخريةً من إقامتها شبه الدائمة بجواره- من الخشب القديم القوي، تماما كعمر بيتهم، فهو بناء مهيب له شرفة واسعة تطل على الشارع مباشرةً، هذه الشُرفة لا تقترب منها نساء العائلة عادةً إلا في آخر الليل عندما “تخفّ الرِجلْ”* ويخلو الشارع من المارّة وإلا تحولت إلى مسرح عامر ببطلاته وتحول الشارع لجمهور من المتسكعين.
أمّا بالنسبة- لمشربيتها- فلها البراحُ والمدى ولا تُمنع عنها أبداً.
من يعرف أن وراءها عيونا تتلصلص؟ لا أحد، كما تظن !.
عيونها تبدأ العمل في مواقيت محدَّدة وحسب فصول السنة، ففي الشتاء وأيام الدراسة يبدأ العمل بعد العصر وراحة الغداء، وتنظيف المطبخ، وقبل المذاكرة اليومية. أما في الصيف فيبدأ العمل خلف الشباك متى ما أرادت ومتى سمعت حركة أقدام أو أصوات المارّة.
تبدأ اللصلصة صباحات الجمعة أبكر من المعتاد بمجرد سماع ندائه على الخضراوات- فؤاد- الأسمر بعينيه الخضراوين الصغيرتين وقامته القصيرة، ابن سيوة* خفيف الدم. هو يعرف حتماً أنها خلف الشباك، لأن صوته سيرتفع عن المعتاد والتنغيم واضح في لحنه الذي يعرفه أهل شارعها. تسمعه يجرّ عربته الصغيرة وينادي (خَضْرَة) فتبتسم لنطقه الغريب، وتراقبه وتلاحظ تلصلصه هو الآخر لكن خطواته محسوبة، فبعد قليل سيخرج شقيقها الصغير ويتبضع منه؛ ربطتي نعناع وربما سلق ومعدنوس وبصل أخضر، ويلاطف فؤاد: “خضرة أبراك* يا فويدة وحتحسبك الحاجَّة معانا ماتخافش”. هذا الفؤاد ضيف دائم على بيوت المدينة وكأنه من أهلها، فؤاده مليء بحبهم وأفئدتهم تبادله المحبة.
أما بطل شباكها اليومي فمروره المعتاد محسوب بالثانية من السبت إلى الخميس، فاتجاهه محكمة المدينة، وعمله، كاتبٌ فيها ليس أكثر، لكنّه وسيم، وهذه أوراق اعتماده الكافية بالنسبة لها ولفتيات الشارع. هو طالب منتسب إلى كلية الحقوق، ويعمل في المحكمة، ويحسده طلبة الكلية فهو في دورة تدريبية تساعده على التفوق في دراسته ومعها أجرٌ مدفوع.
يمر هو الآخر من أمام الشباك ويعلم بالطبع من وراءه ولا يجرؤ على الالتفات، لكنه يُخَفّف الخطى لعل وعسى لكن لا يحدث شيء أبدًا.
ثم تمر كالعادة مابين الثامنة والثامنة والنصف؛ (سهاري درنة)*. اكتسبتْ هذا اللقب اللطيف من واقع عملها في سنترال المدينة. فهي تدير الاتصالات الداخلية بين الناس وحتى خارج حدودها، ولا تمنع نفسها من التنصت، وتلتقط الكثير، وتعود بجراب يكاد أن ينفجر بحمله، فتفرغه خلال ساعات راحتها، أو عندما تستقبل صديقاتها أو تزورهن، وهكذا يصبح سرُّ الأمس حديث جلسات (شاهي العشية) في كامل المدينة الصغيرة مغموساً بالطبع بتحبيشاتٍ هي بريئة منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
لا تتوقف الأقدام عن الحركة وهذا ما يطيل إقامتها خلف الشباك، متأملةً وحالمةً وعاشقةً لخيالات تمر أمامها ولا تعرف من هم لكنهم يأخذون من تفكيرها الكثير، فتحلم ببيتٍ وونس مع أحدهم ولا تهتمُ لصياح شقيقتها طلباً للمساعدة في الأعمال اليومية!.
وأحياناً تكتفي بمراقبة الأحذية فأهل مدينتها معروفون بالأناقة ولذلك فالفرجة تستحق هذا الوقت الذي تمضية في التأمل، فأغلب ما تراه أقدام رشيقة بأحذية لامعة ولا تنافر ظاهر بينها وبين ملابس صاحبها أو صاحبتها، يعجبها ذلك ويروِّق مزاجها.
الوحيدة التي تخشى وقع أقدامها إن اقتربت من بيتهم، هي ما غيرها، المرأة التي ستصبح عمتها مرتين مرة لأنها شقيقة والدها ومرة لأنها ستصبح أم زوجها الذي أخذها فيما بعد ودار بها الدنيا وراء أعماله ومهامه. سوف تغادر مكانها بسرعة وكأنها لم تكن هناك، خشية تعليقاتها وكأنها لا تعرف أن العمة تعرف جيداً موقع ابنة أخيها الدائم خلف الشباك، وتعرف أيضاً نزقها وتملّصها من إلحاحها كي توافق على الارتباط بابنها.
مرت سنوات وسنوات يا (مشربية عائشة) ، تبدَّل حال صاحبتك المتخفية وراءك فقد أرهقها إلحاح عمتها ورضوخ والدها لسيطرة شقيقته فتزوجت ابنها الشاب وغادرت ذلك الشارع وذلك الشباك ذي المنظر الغريب فشبابيك بيتهم وبيوت المدينة تبدلت بتبدل أحوال العصر ومتطلباته إلا ذلك الشبّاك.
صبيحة تلك الليلة كانت تبحث بين آلاف الصور عن شارعهم وما تبقى من بيتهم، ولم تعرفه، فقد أصبح المكان كله ركاماً إلّا شباكها الخشبي المكوَّم فوق ذلك الكيان الذي كان بيتها، كيانٌ حَضَن حياةً طويلة وتاريخاً لا تعرف له توصيف، حيوات وصور وحب ومشاغل وقلق وفرح وخيبات وخوف ونجاحات، وشوق لغِيَّابه، وعيون كانت مشرئبة خلف شباكٍ ترمق الدنيا من حولها وتتمنى أن تبقى كما هي، نفس الكرسي ونفس الشباك ونفس صياح شقيقتها وهدوء أمها ودقات أقدام من راقبتهم وأحبتهم كلهم دونما استثناء، شبّاكها خالف الزمن ومتطلبات العصر وصمد، والآن يحاول البقاء عينًا على بيتٍ كان في يوم من الأيام هنا. شباكها تراه من بعيد على شاشات الأخبار، يعاند المياه ويحضن الركام.
24/6/2024
*”تخْفّ الرِجْل”: بمعنى يتقلص عدد المارَّة.
*شرش البحر: هواء البحر بملحه ورطوبته.
*عائشة ومشربيتها الشهيرة إحدى بطلات رواية (السكرية) لنجيب محفوظ.
*سهاري: حكايات.
*سيوة: واحة مصرية.
*ابراك: ملفوف السلق أو ورق العنب وهو طبق تشتهر به مدينة درنة الليبية.