خاص: إعداد- سماح عادل
“مريد البرغوثي” شاعر فلسطيني معروف، عاش حياته في الشتات، وحرم من العيش في مصر بسبب السادات.
حياته..
وُلد “مريد البرغوثي” في 8 يوليو1944 في قرية دير غسانة قرب رام الله في الضفة الغربية، تلقى تعليمه في مدرسة رام الله الثانوية، وسافر إلى مصر 1963 والتحق بجامعة القاهرة وتخرج في قسم اللغة الإنجليزية وآدابها في 1967، وهو العام الذي احتلت فيه إسرائيل الضفة الغربية ومنعت الفلسطينيين الذين تصادف وجودهم خارج البلاد من العودة إليها.
تزوج من الروائية المصرية الراحلة “رضوى عاشور” أستاذة الأدب الإنجليزي بجامعة عين شمس بالقاهرة ولهما ولد واحد هو الشاعر “تميم البرغوثي”.
الكتابة..
ل”مريد البرغوثي” 12 ديواناً شعرياً، وكتابان نثريّان وهما “رأيت رام الله” و “وُلِدْتُ هُناك، وُلِدْتُ هُنا”.
نشر ديوانه الأول عن دار العودة في بيروت عام 1972 بعنوان “الطوفان وإعادة التكوين”، ونشر أحدث دواوينه عن دار رياض الريس في بيروت بعنوان “منتصف الليل” عام 2005. وأصدرت له المؤسسة العربية للدراسات والنشر مجلّد الأعمال الشعرية العام 1997.
عرف “مريد البرغوثي” بانتقاده لاتفاقيات السلام بين الكيان الصهيوني والبلدان العربية، واتفاقات أوسلو. سجنته السلطات المصرية وقامت بترحيله في1977 إثر زيارة السادات للكيان الصهيوني وظل ممنوعاً من العودة لمدة 17 عاماً. وكان أول ديوان نشره بعد “طرده” من مصر هو ديوانه الأكثر شهرة قصائد الرصيف (1980).
حصل “مريد البرغوثي” على جائزة فلسطين في الشعر في 2000. وفي كلمته التي ألقاها باسم الفائزين في كل فروعها يوم استلام الجائزة في قصر الثقافة برام الله انتقد السلطة الفلسطينية (بحضور قياداتها في القاعة) على المعلن والمضمر من خياراتها السياسية وكرر ما هو معروف عنه من تشبثه بالدور الانتقادي للمثقف باستقلالية الإبداع. ترجمت أشعاره إلى عدة لغات وحاز كتابه النثري رأيت رام الله – دار الهلال (1997) على جائزة نجيب محفوظ للآداب فور ظهوره وصدر حتى الآن في 6 طبعات عربية. وصدر باللغة الإنجليزية بترجمة ل”أهداف سويف”، ومقدمة لإدوارد سعيد في ثلاث طبعات عن دار النشر بالجامعة الأمريكية في القاهرة ثم عن دار راندوم هاوس في نيويورك ثم عن دار بلومزبري في لندن. ثم ترجم إلى لغات عديدة.
النقاد الطيبون..
في حوار معه أجراه “عفيف إسماعيل” يقول “مريد البرغوثي” عن ما سمي بشعر المقاومة: “شعر المقاومة تسمية أطلقها أولئك النقاد الطيبون الذين أصفهم بـ “نقاد التضامن” وذلك تعبيراً منهم عن تأييدهم للنضال الفلسطيني عموماً. تلك القراءة التضامنية خلطت كل ما يكتبه الشعراء الفلسطينيون في حقبة معينة ووضعته في خانة واحدة. شغل أولئك النقاد أنفسهم بتتبع “مواقف الشاعر” من القضية والمضمون الفكري المستخلص من القصائد. هذا، كما تعلم، أقرب إلى النقد السياسي الاجتماعي منه إلى النقد الأدبي. وإلا لما تم هذا الخلط الفاضح بين ما هو شعر من جهة وما هو خطبة تعبوية تحريضية يكتبها قسم التوجيه المعنوي أو الإرشاد القومي وما شابه ذلك. نحن الآن استرحنا ولله الحمد من هذا النقد (ومن غيره أيضاً!).
معظم النقاد العرب للأسف لا يستطيعون قراءة قصيدة من الشعر. نحن الآن سعداء أكثر بأن النقد كله قد اختفى(!) وبرأيي هذا هو أفضل ما يمكن أن يحدث للشعر. أتمنى صمتاً طويلاً جداً لنقادنا. ما أهتدي به أنا هو أن بوسع الشاعر أن يكتب في كل جانب من جوانب الحياة في هذا الكون مهما صغر أو كبر، ليكتب الشاعر ما يريد، من زر القميص إلى ثقب الرصاصة تحت هذا الزر. المهم عندي أن يكون كل ما يكتب “متأصلاً في الوجدان الشخصي للشاعر”. عندما نكتب “الخارج” علينا أن نجعله جزءاً من “داخلنا” وبأقصى درجة من الحميمية. إذا ظل الخارج خارجاً سقطنا في المقالة والخطبة، وخسرنا الشعر”.
ويواصل عن مجموعته الشعرية “زهر الرمان”: “في ديوان “زهر الرمان” ثلاث قصائد تشكل إذا قرأتها بالتتالي ثلاثية شعرية تحاول كتابة الموت. هذه القصائد هي “ليلة لا تشبه الليل” و “إلى أين تذهب في مثل ليلٍ كهذا؟” و “صلاة إلى زيوس”. أما عن الندية ففي ظني أن كل امرئٍ ند لموته. فهناك ميتة الذليل وهناك ميتة الشهيد إلخ. لكن الإنسان هو الطرف الأضعف في هذه المقابلة بين الحياة وختامها المحتوم. في هذه الثلاثية صوَر تحاول أن ترسم الرغبة في زيادة جرعة الحياة وإرجاء الموت ولو قليلاً . أما وقد قلنا هذا، تظل هناك الحقيقة المتفق عليها وهي أن الشعر أرحب من تلخيصه في مواضيع القصائد. ولا أدري إن كنت في قصائدي هذه قد كتبت الموت أم كتبت الحياة. أزعم أن التناول الحسي الملموس والمفردات المادية الأرضية البعيدة عن آفة “الشاعرية” تجعل من موضوع الموت هنا عتبة للدخول إلى بهاء الحياة من ناحية، وفداحة خسرانها، من ناحية أخرى”.
وعن التمرد في الكتابة يقول:”التمرد على أشكال التعبير السائدة المقولبة ليس خياراً للشاعر بل هو الطريق الأوحد لجعل ما نكتبه مؤثراً. أسوأ أنواع الكتابة هي تلك التي تريد أن تحدد لك كيف تشعر أو تقرر لك أسلوب تفكيرك بما تشاهده أو تسمعه. الكتابة الحقة، كما أراها، هي التي تترك للقارئ حرية التصرف بشعوره وحرية الوصول إلى خلاصات يهتدي إليها بنفسه ولهذا ألجأ إلى الكتابة بالكاميرا كما تلاحظ في كثير من دواويني. وعندما أغادر هذه الدنيا سأكون قد تركت فيها صوراً قابلة للتأمل”.
منطق الكائنات..
وعن مجموعة “منطق الكائنات” يحكي: “ديوان “منطق الكائنات” يضم أكثر من مئة قصيدة قصيرة جداً أعتبرها قريبة من فن التوقيعات الذي عرفه الإغريق القدامى بالأفوجرام حسبما ترجمها الصديق الكبير الراحل إحسان عباس والإبيجرام في ترجمة أخرى وقد كتب اليابانيون قصائد الهايكو على هذا المنوال، وكلمة “منطق” في العنوان قادمة من “النطق” وكنت تخيلت الكائنات كلها وقد امتلكت القدرة على الكلام وتخيلت ما الذي يمكن أن يقوله المغناطيس والضفدعة والمرآة وحبل الغسيل والمزهرية والعاشقة والمبراة إلخ. الإغريق أكثروا من هذا الشكل في كتابات الموت (شواهد القبور) والعرب في الحكمة واليابانيون في الطبيعة وما حاولته في ” منطق الكائنات” هو تناول كل الكائنات من نبات وجماد وحيوان وبشر وأحوالهم النفسية المختلفة والمشترك الجماعي الكوني. هنا يبدو وكأن الشاعر لا دور له إلا الإصغاء لأصوات الكون وصياغتها على الورق بأقصى ما هو ممكن من الإيجاز والتكثيف. فضلاً عن أن في بعض قصائد الديوان شيئاً من الفكاهة، وهو مقصود أيضاً لأنني لا أفهم على الإطلاق لماذا يرتبط الشعر عندنا بالنكد والعبوس والشكوى فقط!”.
ملتزم بالقضية..
في حوار آخر أجراه معه “الدكتور محمود زيادة” يقول “مريد البرغوثي” مجيبا عن سؤال إذا ما كان الكاتب الفلسطيني يجب أن يبقى ملتزماً بقضيته، أو له أن يكتب في الموضوع الذي يشاء: “الكتابة أو الفن سواء كان فيلماً سينمائياً أو مسرحية أو لوحة أو أي نوع من أنواع الفنون يُفترض أن يتحلى بالشروط الإبداعية، فالكتابة عن قضية كبيرة، في رأيه، ليست سبباً لمغفرة رداءة العمل، ذلك لأنه لا المعاني السامية ولا القضية النبيلة تبرر ذلك. بالتالي موضوعك الجغرافي أو السياسي أو القضايا الحميمة التي تكتب عنها يجب أن تعرف كيف تحولها إلى عمل فني. والموضوع في هذه الحالة يمكن أن يكون حول فراشة أو كائنات فضائية.
بالنسبة لطريقتي في إنتاج عمل فني فإنني أصنع التالي: اكتشفتُ أن استخراج المدهش من المألوف، والمباغت من العادي، هو الذي يصنع فناً. بمعنى أنني قد أصف شارعاً أو ميداناً يمر فيه نصف مليون شخص يومياً. لكنني حين أصف هذا الشارع أو هذا الميدان فإنني أقوم بسلسلة من العمليات الفنية التي لا يشعر بها المتلقي. أولاً، أركّز الكاميرا في زاوية معينة، سأتعب في اختيارها، سأقرر على مَن ألقي الضوء، ومَن أبقيه في الظل، سأقصي وأضيف، سأعطي معنى مختلفاً عما يراه المارة في هذا الشارع. عندما تفعل ذلك لا يعود مهماً إن كان موضوعك عن فلسطين أو عن الهند. فكم من تعاطف نجده عند القراء مع أبطال شكسبير أو ماركيز أو أمبرتو إيكو، مع أن لكل من هؤلاء عالمه الخاص. الفلسطيني الذي لا يكتب إلا عن فلسطين يكتب أدباً ناقصاً.
الأديب يكتب الحياة، والحياة أكبر من سكانها وحدودها الجغرافية. هناك مَن يكتب عن كائنات خرافية، أو قد نقرأ قصيدة مشتركة بين دنماركي وفلسطيني. حين أقرأ للشاعرة البولندية الحاصلة على جائزة نوبل فتسوافا تشيمبورسكا التي تُوفّيت عام 1996 أرى في شعرها فلسطين، وحين أقرأ للأميركيين السود أجدهم وكأنهم يكتبون عن قضايانا، وكأنما أقرأ إميل حبيبي أو محمود درويش. المشترك بين البشر لا يحدده ضباط الجوازات ولا حرّاس الحدود. والأديب الذي يقيد نفسه بغرض سياسي بعينه، يعيش بساق واحدة، مع أن الطبيعة منحته ساقين”.
وفاته..
رحل “مريد البرغوثي” عن عمر يناهز الـ77 عامًا، في العاصمة الأردنية عمّان.
قصيدتين لمريد البرغوثي..
قصيدة “أنتِ وأنا”، من ديوان “طال الشتات”
أنتِ جميلة كوطن محرر
وأنا متعب كوطن محتل
أنتِ حزينة كمخذول يقاوم
وأنا مستنهض كحرب وشيكة
أنتِ مشتهاة كتوقف الغارة
وأنا مخلوع القلب كالباحث بين الأنقاض
أنتِ جسورة كطيار يتدرب
وأنا فخور كجدته
أنتِ ملهوفة كوالد المريض
وأنا هادىء كممرضة
أنتِ حنونة كالرذاذ
وأنا أحتاجك لأنمو
كلانا جامح كالانتقام
كلانا وديع كالعفو
أنت قوية كأعمدة المحكمة
وأنا دهش كمغبون
وكلما التقينا
تحدثنا بلا توقف، كمحامييْن
عن العالم.
قصيدة “رضوى”، من ديوان “طال الشتات”
على نَوْلِها في مساءِ البلادْ
تحاول رضوى نسيجاً
وفي بالها كلُّ لونٍ بهيجٍ
وفي بالها أُمّةٌ طال فيها الحِدادْ
على نَوْلِها في مساءِ البلادْ
وفي بالها أزرقٌ لهَبِيُّ الحوافِّ
وما يمزج البرتقال الغروبيّ
بالتركواز الكريمِ
وفي بالها وردةٌ تستطيع الكلامَ
عن الأرجوان الجريحِ
وفي بالها أبيضٌ أبيضٌ كحنان الضِّمادْ
على نَوْلِها في مساءِ البلادْ
وفي بالها اللوتسيُّ المبلّلُ بالماءِ
والأخضر الزعتريّ
وصُوفُ الضُّحى يتخلّل قضبان نافذةٍ
في جدار سميكٍ
فيُدْفِئُ تحت الضلوع الفؤادْ
على نَوْلِها في مساءِ البلادْ
وفي بالها السنبُلِيُّ المُعَصْفَرُ
والزعفران الذي قد يجيبكَ لو أنتَ ناديتَهُ
والنخيليُّ وهو يلاعِبُ غيماً يُحاذيهِ
في كفِّها النَّوْلُ، متعبَةً، تمزجُ
الخيطَ بالخيْطِ واللونَ باللونِ
تَرضى وتستاءُ
لكنها في مساءِ البلادْ
تُريدُ نسيجاً لهذا العراء الفسيحِ
وترسمُ سيفاً بكفّ المسيحِ
وجلجلةً مِن عِنادْ.