عرض :كرم نعمة
إذا كان ينتابك أي تشويش ولو بقدر ضئيل عما جرى في العراق في لجة القتل على الهوية بعد الاحتلال، فلديك إجابات معبرة بقدر من الألم في رواية ذكرى محمد نادر “القرن بعد اكتماله”.هذه الرواية بمثابة درس قاسٍ، تكسر قلب قارئها بالوجع المنهمر في متنها كساقية دموع تجري في مدن العراق حتى تعبر بحار العالم، وتعترف كاتبتها بأنه ليس هناك نسيان كاف على هذه الأرض كي ننسى الذي حصل، وتطالب قارئها العراقي تحديدا بألا يهرب من آلامه.
“القرن بعد اكتماله” رواية محنة شقيقات نجت فيهم “مراثي” من لجة القتل العراقية، شاء القدر أن يجعلها كطائر أبيض مع طفلين سيفقدان كل ما يمت بصلة للعراق القتيل، ليجدا نفسيهما مع “مراثي” في أحد مستشفيات جنيف وسط ذهول من يحيط بهم.
من حسن حظ العراق، ثمة ما يكتب من أجل التاريخ المعاصر الذي يراد كسره، ويبدو لي أن اللغة قادرة ببراعة تفوق العدسة أحيانًا لتكون الشاهد المثالي. الرواية شاهد معبر لا يكتفي بمجرد السرد، وتسنى لذكرى محمد نادر أن تكون بين أولئك الشهود في تلك السردية التي تطول.
وجدت ذكرى نفسها مدونة لزمن محطم في بلاد افتقدت فيه العائلة قيمها الإنسانية، وعندما حاولت “مراثي” بطلة الرواية أن تهرب من واقعها، وجدت في الموصل ملاذًا لأمل وإن كان ضئيلاً، لكن القدر العراقي جمعي وسائد هنا وهناك ولن يكتفي بمحاصرة “مراثي” في بغداد، عندما وجدت نفسها تحت وطأة الموت في الموصل التي وقعت في الجانب المظلم من التاريخ. لتبدأ محنة الهروب من جديد.
لا تكمن متعة الألم المتدفق في السرد، بهذه الرواية السائرة من بغداد إلى الموصل هروبًا، ثم عبر البحر صوب حياة مفعمة بالغموض بين غجر رومانيا، حتى السقوط تحت جبل الثلج السويسري لتنتشل الرعاية الإلهية امرأة مخذولة وطفلين من تحت ركام الثلج، بل تكمن في معرفة ما معنى أن تنهار القيم الإنسانية عندما يجد العراقي نفسه أمام سؤال ما زال قائمًا منذ عشرين عامًا “هل نحن مختلفون عن بعضنا إلى هذا الحد”.
لا تقترح علينا ذكرى محمد نادر إجابة محددة عن هذا السؤال الذي صار وجوديّا في العراق، بل تضعنا أمام جدار مفتوح للموت والشقاء والعذاب عندما يصيب النساء أكثر من أي كائن آخر، بيد أنها تؤرخ لذلك في مقبرة على جدار بيت العائلة الكبير، هكذا تصبح جدران البيوت مقابر لأهلها عندما يغيب الرجاء في نفوس كانت في يوم ما متوائمة مع بعضها البعض!
عندما تستعيد “مراثي” بطلة الرواية مع الطفلين الحياة في ما تبقى من المتن “من قال إنه يوشك على الانتهاء؟”، فلا يعني أن الابتذال الكامن في شخصية عمها “عباس” قد تراجع، بل أن النتانة مرض سيعيش في داخل تلك الأجساد وسيتعذر تحديد سببه، إذا لم يتوفر حتى اللحظة علاج لمرض نادر جعل من نفسه سائبًا، إذ أن ندرته لم تحفز شركات الأدوية لتبذير أموال طائلة لعلاج لن يعود عليها بعوائد مالية مُرضية.
صحيح أن النهاية تبدو سعيدة ومحظوظة لـ”مراثي” والطفلين، لكنها سعادة ناقصة في بلاد بقيت تعيش تحت وطأة مفهوم “وطن” لم يعد يفهم نفسه، وليس بمقدوره الهروب من آلامه.
تقترح علينا الكاتبة أن نعيش الألم كقراء، من دون أن تسلب منا الأمل، مع أن المرور بين هذا الدم المسفوح والدموع المراقة والجحيم المتقد والخذلان والخيبة والقسوة والوحدة والعفن، يحتاج إلى قلب صلد ولم يعد بمقدور كل القراء امتلاكه. مع ذلك ثمة أمل في “القرن بعد اكتماله” مع المحنة العراقية المريرة والمستمرة.