19 ديسمبر، 2024 4:06 ص

“مخلص خليل”.. اغترب عن وطنه رغما ليعيش “سيرة التيه”

“مخلص خليل”.. اغترب عن وطنه رغما ليعيش “سيرة التيه”

خاص: إعداد- سماح عادل

“مخلص خليل” شاعر وصحافي عراقي.

عمل في جريدة «طريق الشعب» البغدادية التي صدرت 1973، وأصبح مسئولا في أحد أقسامها. ثم غادر العراق 1979. استقر لفترة في بيروت، ثم غادرها بعد الغزو الإسرائيلي للبنان 1982 إلى دمشق، التي عاش فيها سنوات طويلة، ثم لجأ إلى هولندا في التسعينات من القرن الماضي لحين رحيله.

أصدر “مخلص خليل” عدداً من المجموعات الشعرية، وكان من الأصوات البارزة في فترة السبعينات. ثم توقف عن النشر، لكنه استمر في الكتابة. وقد ترك عدداً من المجموعات غير المنشورة.

مواساة..

وفي مقالة بعنوان (تعاز ومواساة برحيل الرفيق مخلص خليل) نشرت في “طريق الشعب” كتب فيها: “مخلص خليل.. وداعا..   بألم وحزن عميقين تلقينا صباح اليوم نبأ وفاة الرفيق مخلص خليل (أبو علي) في غربته بهولندا بعد صراع مرير مع المرض.

رحل عنا الرفيق المتعدد المواهب والإمكانات، فهو المناضل والشاعر والكاتب، وكذلك الصحفي الذي كان ضمن العاملين في جريدة “طريق الشعب” في السبعينيات.  والراحل واصل عطاءه وهو في غربته التي اضطر إليها، وظل لصيقا بهموم شعبه وفقرائه حتى رحيله.

وكما عمل الفقيد أبو علي بصمت في مختلف المواقع، رحل عنا بصمت تاركا لنا سيرة مفعمة بالعطاء الثر.

في هذا الرحيل المفجع نتقدم بخالص العزاء إلى عائلته ورفاقه ومحبيه، وستظل ذكرى أبو علي عاطرة على الدوام”.

وجع..

في مقالة بعنوان (الشاعر والمناضل مخلص خليل) كتب “عبد الحميد برتو”: “بات رحيل أي مغترب من أشد اللحظات وجعاً على كل المغتربين. وفي الحالات التي يكون فيها الراحل صديقاً أو مبدعاً تتضاعف أوجاع ذلك الرحيل. سمعت تفاصيل الساعات الأخيرة لرحيل مخلص في هولندا، وفيها الكثير من الموجعات. بمثل تلك اللحظات تتداعى الذكريات بانسيابية عجيبة.

دخل مخلص الجامعة وأنا في سنة التخرج منها. بسرعة اعتلى المهرجانات الشعرية في الكلية، إلى جانب الاهتمام بالحياة العامة، السياسية منها والمهنية.

كان اللقاء الثاني عام 1977 بجريدة طريق الشعب، في صفحة حياة العمال والفلاحين تحديداً. شغل مخلص مهمة سكرتير تحرير الصفحة العمالية. إنها مفارقة جميلة بأن يدير الصفحة العمالية شاعر رقيق. هذه الغرفة العمالية في الطابق الثاني مطلة على شارع السعدون، وهو من الشوارع المهمة والجميلة في بغداد. يتحول في أعياد رأس السنة إلى القلب النابض للعاصمة.

ظل كذلك إلى أن انهار التحالف السياسي بين أطراف الجبهة الوطنية والقومية التقدمية. هذه “الغرفة العمالية” كانت أقل غرف البناية تفاؤلاً بالمآل. يقيم فيها بشكل دائم ثلاثة: (مخلص، عبد السلام الناصري وأنا)، إلى جانب ضيوف كثيرين”.

ويضيف: “عندما انقطع أواخر عام 1978 حبل التحالف الجبهوي، بدأت الحملة القمعية الشرسة ضد الشيوعيين. كان لمخلص نصيب فيها، كما حال الآلاف الذين تفرقوا أيدي سبأ. بدأت رحلة شاعرنا في بيروت مثل المئات غيره. هناك كان لقائي معه في جو أمل بعودة سريعة للوطن.

كان اللقاء الأخير وجهاً لوجه أواخر عام 1983 في دمشق. يقع بيته مقابل ساحة زكي الأرسوزي. حافظ مخلص خليل على هدوئه الذي يقترب من الصمت التأملي. وهو يعرض آرائه دون إظهار حماسة أو تشدد، ولكن يطمح إلى الإقناع السلس. مهما حاولت الاقتراب من الصديق مخلص فلن أصل إلى الصورة التي يقدمها عنه ديوانه “سيرة التيه””.

غياب..

في مقالة أخري بعنوان (من يتذكر الشاعر مخلص خليل؟) كتب الشاعر “عواد ناصر”: “يغيب عن ساحة الشعر الراهن ليتفرغ إلى الصمت، هناك في تلك الضاحية الهولندية الصغيرة أوترخت. لكن غياب هذا الشاعر لم يحصل فجأة كاستجابة لقرار شخصي، بل هي جملة من اشتراطات ذاتية وموضوعية أودت بحضوره ماديا وشعريا، لكن من يعرف مخلص خليل، وخزينه الوجداني والمعرفي، لا يسلم بهذا الغياب لأن هذا الشاعر أحد قلائل من الشعراء العرب والعراقيين الذين يؤرقهم مجرد التفكير بكتابة قصيدة.

فهو مقل أصلا، ولا تخرج القصيدة من بين يديه إلا بعد أن أشبعت قلبا وحذفا وتشذيبا، حتى لو بقي منها سطر واحد فقط. كانت لقاءاتنا المتكررة خلال الأسبوع الواحد هي سهرات نقدية حرة ننبش فيها قصائدنا ونتبادل الرأي لكن مخلص كان الأكثر دقة وعناية بالتفاصيل، ويغص بعلامات التنقيط وعدد النقاط: نقطة واحدة أم نقطتان عند نهاية السطر، ولماذا)..”.

ويواصل: “وإذا جاءت قصيدة خليل مواطنة عراقية تتسربل بغبار تلك الدروب البعيدة ودخان الحرائق التي اشتعلت في عموم البلاد فإنها ترمي ببصرها، في الوقت نفسه، نحو آفاق العالم بأسى، وأتذكر عندما كنا نتجول في مدينة من مدن الإتحاد السوفييتي السابق (جمهورية أوكرايينا) جذبه مشهد أطفال يلعبون وهم حفاة، فعلق قائلا: أطفال حفاة بعد مرور سبعين عاما على بناء الاشتراكية .

لكن هذا القول لا يجرد الشاعر من فرديته الفريدة ولا يصادر وجعه الشخصي وهو يحدق في المرآة ويتداعى ذلك الكهل الخارج إلى الأبد من اشتهاءات الطفل المبعثر”.

ويحكي عن خروجه: “خرج، مخلص خليل، مع مجاميع المنفيين العراقيين الأولى، إذا صحت التسمية، عنيت بها مجاميع نهاية السبعينات، عندما اتخذ القمع البعثي الصدامي ذروته ضد اليسار العراقي والمتعاطفين معه من ديمقراطيين ومستقلين، وكاد هذا المنفى أن يكون ثقافيا بامتياز، إذ شكل فيه الكتاب والأدباء والفنانون، نسبة عالية ولا إحصاءات في العراق، كالعادة، حيث تمس الحاجة.

وكان في قلب الحركة الثقافية والسياسية مناضلا صلبا، وطهرانيا إلى حد ما، وكادرا نشيطا في قيادة العمل الثقافي الذي أريد له، مع الأسف، أن يكون سياسيا بواجهة ثقافية، وهنا كان الخلل الخلقي (بكسر الخاء وضمها معا!) فلا السياسيون نجحوا في إدارة اللعبة الثقافية ولا المثقفين تمكنوا من إبداء الاستجابة المطلوبة منهم سياسيا وهم يخوضون مفردات كفاحهم الثقافي بمواجهة الإعلام البعثي النشيط الذي تصادف، لسوء حظنا، مع قدرة مالية حكومية جبارة اشترت الكثير من الكتاب العرب ووسائل الإعلام في باريس ولندن وبيروت وأماكن أخرى من العالم”.

ويؤكد: “اختار مخلص خليل القطيعة مع الوطن كصيغة آيديولوجية مصادرة دائما ليروي لنا سيرة التيه.

حتى انخراطه العضوي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي لم يكن حلا ناجعا ونهائيا لمأزقه الخاص (خاص بالقدر الذي يتعلق بطريقته النوعية لإدارة الصراع مع العالم الخارجي) والدليل هو هذه الخاتمة التي نفى فيها نفسه حتى خارج المنفى، وحيدا، شبه منسي حتى من رفاقه الذين لم يتذكروه برسالة تضامن يستحق أكثر منها)”.

من شعره:

اليوم انتحر رجل وحيد

لم أره إلا مرة واحدة

لا يعرفه إلا القليل من عائلتنا المهاجرة.

لم يجد الطريق إلى الشهرة

لم يقاسمه السكن أحد

لم يبح بسره أبداً

فجأة ذات مساء

كتب ثلاث كلمات ودسها في جيبه:

أنا الذي اهتديت…

وركب الباص.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة