يكتبها: محمد فيض خالد
لم أجد في حياتي رجلا استمرئ عذابات الحياة، وتلذذ قسوتها منه، حتى وإن لم يجاهر تلك الجمل التي يتلفظها أغلب الناس، دلالة على القناعة والرضا بالمقسوم:” الحمد لله !”، هي في الحقيقة لا تتجاوز حناجرهم، أما “مختار القط” فلم يكن من ذلك الصنف، لا يعبأ كثيرا، لا يهمه غير أمر يومه الذي يحيا، فإن وجد قوت أبنائه فهو السعيد الرابح، تتلألأ قسماته في اجتهاد ساعة يضع اللقمة في فم صغيره، أو يجترئ فيغمز زوجته بطرف عينه في دفء، أو يداعب أصابع قدمها أسفل الطبلية، تلك أعظم أمانيه.
لا يعرف له أهل ولا قريب، يحتقن وجه “سيد مرزوق” حين يسأل عنه: “أمه ست طيبة، جاءت قريتنا مع أنفار الجني، ماتت أمها فكفلتها محبوبة بائعة الفول”، ارتضت “زبيدة” به زوجا، فهي تشبهه، فقيرة مثله، اجتمع فقرهما ليصنع هذا العش الهانئ، وعلى غير العادة صنع حبهما من الحجرة المتواضعة براحا، ومن كأبة العيش وضيقه جنة وارفة، ومن فضلة الرزق ثراء وغنى.
أمام باب المدرسة تجد عربته، تتلاعب خيوط دخان البطاطا المشوية كدخان عزيمة ساحر تجلب الزبائن من كل فج عميق، يتحلب لها الريق، على فترات تمتد يده إلى راديو قديم يحرك مؤشره في ونس، يلصقه بأذنه يهز رأسه في هيام، يردد في انتشاء أغاني الصباح، تعلق الأهالي “بمختار” وذاقوا سندوتشاته، واستطعموا حلواه اللذيذة، يهتم بالتفاصيل، يشمر كم جلبابه في تأني يلاطف من حوله: “النظافة رأس مالي، وصحة الزبائن أمانة”، يعرف كيف يخترق قلوبهم، خاصة الصغار فلا مانع من حبة برتقال، أو كف من اللب فهؤلاء وكلاء الشراء، ما إن ينقضي يومه إلا ويعود على عجل لغرفته، يجهز عربيته “الكارو” يحمل عليها أقفاص الفاكهة والخضار، يهمس في أذن حماره “بوشكاش” بصوت ندي: “اليوم لدينا عمل شاق يا بطل “، يسمح رقيته في تعطف، لتبدأ وصلة جديدة من السعي على باب الله.
تبتلعه حتى مقدم الظلام، أمام الغرفة تنتظر “زبيدة” وقد التفت وصغارها بشملة قديمة، وإلى جوارهم فتيل ناعس للهب لمبة صغيرة، يوشك على الاحتضار، فما إن يقبل من بعيد حتى يهبوا في انبساط وتهلل، وقد تعلقوا برقبة الحمار يتطايرون فرحا، يغمرهم بقبلاته يدس حبات “الكرملة” في أفواههم التي تتلمظ في امتنان.
بتعجب الناي لحالهم، فأصوات الضحك وكركرة المداعبة، وصياح الفرح لا يتوقف أبدا، تداعب وجه زوجته غلالة رقيقة من الفرح والانشراح، وهي تدلق طست المياه المحملة بنشوة الليل، حينها يتغامز نساء الزقاق يندبن في حقد حظهن العاثر، عشق “مختار ” “زبيدة ” كما لم يعشق رجل خليلته، يفق كصبي مشاكس يتقافز فرحا ساعة يفرغ جيبه المملوء بقطع النقد، يتراقص على وقعها، تظل يدها مرفوعة بالدعاء مع كل آذان، ومن خلفها يؤمن صغارها أن يحفظ الله راعي البيت ويرزقه برزقهم.
حاول طويلا تحاشي الثقلاء جهده، فآوى بنفسه وأسرته إلى الظل، لا يخالط الناس إلا لماما، تهبط ابتسامة مقنعة يجيب بها سائله، لم يفلت عن بال “مسعود صيره “متطفل القرية الأكبر، يفسر طيبته على أنها مسكنة مفتعلة، يعتقد أنه يخفي أضعاف ما يبدي، لم يكن “مختار” بالذي يشغله هذا المهووس، لكنه مغرم بالحياة البسيطة، خالية من عقد البشر وأحقادهم، عطاياه تغرق “مسعود ” يتحاشى شره.
وفي المولد يكون له شأن آخر، مبكرا يستعد، تتهيأ عربة البطاطا، يرص أقفاص الفاكهة وأجولة الفول السوداني، ترافقه “زبيدة ” يقول: ” لموالد مواسم بركة ورزق”، لا يفوتها أبدا، سارت حياته على تلك الوتيرة، حتى استيقظت القرية على أمر أذهلها، لم يخرج “مختار القط ” ولم تظهر زوجته، ولم يعد لضحكات أولاده أثر ، لكن حماره وعربة البطاطا، وأقفاص الفاكهة الفارغة مكانها، مر أسبوع بالتمام ونار الحيرة تفلق كبد “صيره” هرول يهيج العمدة الذي أمر بكسر الباب، هالهم المنظر، حفرة عميقة باتساع الغرفة، انطق الفضول الحاقد من وسط الحضور، يقول في تأكيد: “آثار اقطع دراعي، لقد هرب الملعون بالدفينة”، أغلقت الغرفة، انشغل الناس بأمر “القط” شهرين كاملين، لتبهت حكايته، ويبرد الحديث، وتقل الثرثرة، لكن “صيره” لم ينس حلف بأغلظ أيمانه أنه سيظل في عقب “القط ” حتى يعرف مكانه.