مخاطر العسكرة: هل يتمدد الصراع الروسي – الغربي إلى الفضاء الخارجي؟
بالتزامن مع انعقاد أعمال النسخة الأولى من “حوار أبوظبي للفضاء”، الأول من نوعه عالمياً، يومي 5 و6 ديسمبر 2022، والتي هدفت إلى مناقشة ثلاثة محاور رئيسية تتعلق باستدامة الفضاء وسهولة الوصول إليه وتعزيز أمنه، تُثار العديد من التساؤلات حول التحديات التي تواجه أمن الفضاء الخارجي في ظل الأزمات الحالية التي يعانيها العالم، وعلى رأسها الحرب الروسية – الأوكرانية.
فقد أفسح استمرار الحرب الأوكرانية، المجال نحو انتقال دوائر التنافس الدولي المحموم على احتلال مكانة مُغايرة في النظام الدولي الذي قد يُعاد تشكيله مستقبلاً، من محاولة تعزيز النفوذ على مناطق حيوية على الأرض إلى نيل نفوذ أكبر على الأرض والفضاء معاً، الأمر الذي ربما يزيد من مخاطر “عسكرة الفضاء”، خاصةً في ظل إصرار أطراف الحرب الجارية على التصعيد، ورفض تقديم أي تنازلات، مع التهديد باستخدام الأسلحة المُتاحة كافة لتحقيق كل طرف أهدافه من هذه الحرب.
أمن الفضاء:
يشير مفهوم أمن الفضاء الخارجي “Outer Space Security” إلى تلك العمليات والإجراءات والتدابير المُتبعة التي من شأنها المساعدة على استتباب الأوضاع في الفضاء، بما يُحقق الأمن والسلم ويُفوّت الفرصة أمام خلق صراعات جديدة أو الانتقال بصراعات جارية إلى بيئة مُغايرة. وهذا ما يتسق مع الأبعاد الحديثة للجغرافيا السياسية التي لم تعد تعتمد فقط على بسط النفوذ على الأرض من خلال الأدوات التقليدية، ولكن تخطت ذلك إلى أن يكون الفضاء مُحدداً رئيسياً في العلاقات الدولية.
وقد أدرك المجتمع الدولي ذلك منذ ما يزيد على 60 عاماً، واستشرف مستقبل التنافس المحموم على الفضاء، وأنشأ في عام 1959 لجنة استخدام الفضاء الخارجي في الأغراض السلمية (COPOUS)؛ وهي لجنة تابعة للأمم المُتحدة أُنشئت بعد إطلاق الاتحاد السوفييتي السابق القمر الصناعي الأول “سبوتنيك 1″، وهدفها الرئيسي هو تنظيم استكشاف واستخدام الفضاء لصالح البشرية من أجل تحقيق التنمية والسلم والأمن، فضلاً عن تشجيع برامج أبحاث الفضاء ودراسة التحديات القانونية الناشئة عن استكشاف الفضاء الخارجي. كما تأسست المعاهدة الإطارية لأمن الفضاء (OST) بقرار أُممي في عام 1967، بهدف تنظيم أنشطة استكشاف واستخدام الفضاء الخارجي بما يُحقق منفعة البشرية، وكذلك وضع أُطر حاكمة لعدم الإضرار بالفضاء الخارجي وتحمُّل الدول والكيانات المعنية مسؤوليتها حيال ذلك.
سوابق خطيرة:
ثمة سوابق دولية عرّضت أمن الفضاء الخارجي للخطر، فمثلاً في نوفمبر 2021 انفجر القمر الصناعي “كوسموس- 1408” على ارتفاع 480 كيلومتراً من سطح السّهوب الروسية، بسبب قذيفة مضادة للصواريخ الباليستية من طراز “A-235” أُطلقت من قاعدة في بليسيتسك، وهي مسافة قريبة بدرجة شديدة الخطورة من مدار محطة الفضاء الدولية. وطُلب على أثرها على الفور من أفراد الطاقم السبعة ارتداء بدلاتهم والاحتماء داخل كبسولات الإنقاذ التي تسمح لهم بالعودة إلى الأرض حال وقوع اصطدام. وحدث ذلك وسط وابل من الحُطام، الأمر الذي جعل البنتاجون يُندد بهذا العمل “الطائش والخطير”، على حد وصفه، في حين ردت موسكو بأن “كُل شيء تم وفق القواعد الأمنية”.
ولم تكن تلك الواقعة الأولى من نوعها، حيث سبق أن قامت كل من الصين في عام 2007، والولايات المتحدة الأمريكية بعدها مباشرة في عام 2008، ثم الهند لاحقاً في عام 2019، بممارسة هذا النوع من استعراض القوة في الفضاء الخارجي. علاوة على الاصطدامات المدارية العَرَضية، سواءً ما وقع منها بقصد أو بغير قصد، فهي تُضيف في كل الأحوال مئات الأجزاء الجديدة للكُتل الحُطامية التي تملأ المدار الأرضي المُنخفض، حيث رُصد منها قرابة 34 ألف كُتلة من الحُطام/ النفايات (Space Junk)، و130 مليون كُتلة حُطامية صغيرة تدور بسرعة تبلغ 20 ضعفاً من سرعة رصاص البندقية.
ومن هنا تأتي الحاجة الماسة لرشادة السلوك لمختلف الدول والكيانات من أجل عدم تعريض أمن الفضاء للخطر، خاصةً بعد أن فُتح المجال أمام شركات علوم الفضاء الاصطناعي الكبرى للعب دور فاعل وغير مسبوق، مثل ثلاثية شركتي “Space X” و”Blue Origin” الأمريكيتين أو “Virgin Galactic” البريطانية، فضلاً عن آلاف الشركات التي دخلت مجال أعمال الفضاء وصارت وجهة للاستثمار، وتنامي دور القطاع الخاص في الفضاء الخارجي.
وبالتالي فالتحدي هنا ليس فقط في زيادة حجم الفاعلين في الفضاء الخارجي، ولكن فيما يمكن أن يُغير مستقبلاً من وجهة تلك الشركات ذات التوجه الاقتصادي من الرغبة في الاستثمار وفتح آفاق جديدة، إلى السعي نحو لعب أدوار مُغايرة حال سيطرتها على الإنترنت من خلال الفضاء والاستغناء عن الكابلات الأرضية والبحرية؛ وذلك بالنظر لمكانة الإنترنت وكونها عصب تكنولوجيا السلم والأمن معاً على كوكب الأرض.
مخاطر الحرب:
لعل استمرار وتصاعد مجريات الحرب الروسية – الأوكرانية، ودخول لاعبين دوليين آخرين مؤثرين، مثل الولايات المتحدة والصين، فضلاً عن القوى الأوروبية الجارة لطرفي الحرب، بالإضافة إلى وجود مُتغير جديد هو تلويح موسكو باستخدام السلاح النووي/ التكتيكي إذا ما تعرضت أراضيها لتهديد؛ كل ذلك يفتح الباب أمام احتمالية انتقال التنافس بين القوى الدولية المُشتبكة في هذا الصراع من دائرة الحسابات الأمنية والعسكرية التقليدية على الأرض إلى الاتكاء قليلاً على ورقة ضغط من نوع فريد في الفضاء الخارجي لترجيح كفتها ولو بصورة غير مباشرة، ولإيصال رسائل معينة في الوقت نفسه.
وبالنظر إلى تأزم الحرب الأوكرانية وإصرار أطرافها على المُضي قُدماً نحو التصعيد، مع وجود بعض الاستثناءات التي تُمليها الضرورة مثل اتفاقية الحبوب وغيرها، فإن مخاطر هذه الحرب من الممكن أن تمتد لتؤثر على تماسُك محطة الفضاء الدولية (ISS) المُكونة من خمس وكالات فضاء، هي وكالة الفضاء الأمريكية (Nasa)، ووكالة الفضاء الروسيّة (Roscosmos)، ووكالة الفضاء الأوروبية (ESA)، ووكالة الفضاء اليابانية (Jaxa)، ووكالة الفضاء الكندية (CSA). علاوة على تعاون الوكالة الفضائية البرازيليّة (AEB)، والوكالة الفضائية الإيطالية (ASI)، ولكن على نحو فرعي. وتأتي هذه المخاطر بافتراض انسحاب روسيا من محطة الفضاء الدولية، وتشكيل تحالف ثلاثي مع كُل من إيران والصين التي هي بصدد الاعتماد الكامل على محطتها الفضائية بحلول عام 2029.
وهذا التصور من شأنه زعزعة أمن الفضاء وتهديد وحدة وتماسك الكيان الناظم لحركة الاستكشاف التي تسير حتى هذه اللحظة وفق إطار تشاركي تعاوني بالرغم من بعض التجاذبات، وذلك من منطلق أن توازن القوى على الفضاء وتغليب المصلحة المشتركة يحميان الأمن والسلم على الأرض.
وأيضاً، من مخاطر استمرار الحرب الأوكرانية، محاولة الأطراف والفاعلين تقديم لاعبين جدد على مسرح الفضاء الخارجي، ويأتي على رأس هؤلاء شركات التقنية الكبرى في كل من الولايات المتحدة والصين وروسيا، على الرغم من حساسية تمدُّد دور القطاع الخاص في هذا الملف على وجه التحديد، وخطورة ما يُمكن أن يُفضي إليه من توتير الأجواء في الفضاء وفك شراكة استراتيجية قائمة بالفعل على النطاق الدولي الرسمي، مبناها مبدأ الكسب المشترك (Win-Win Partnership) بين روسيا والغرب، وهو ما يمكن أن يُعرض الأمن والسلم الدوليين للتهديد.
تنافس دولي:
تنظر الأقطاب الدولية الكبرى للفضاء كمسرح غير تقليدي لاستعراض القوة، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1- الولايات المتحدة: تعتبر واشنطن الفضاء امتداداً لأمنها القومي ومكانتها العالمية كقطب أوحد منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وبالتالي فهي تراه جزءاً أصيلاً من مناطق نفوذها، سواءً ما استطاعت أن تحوزه بنفسها أو عن طريق شركات التقنية الحديثة التابعة لقطاعها الخاص. وما يزيد من أهمية الفضاء بالنسبة للولايات المتحدة ربما اهتزاز مكانتها الدولية خاصةً في ظل الإدارة الحالية للرئيس جو بايدن، وعدم قدرتها على منع أو ضبط أو حسم مسار الحرب الروسية – الأوكرانية الجارية بما لها من انعكاسات واسعة وصلت إلى حد تحديها في قرار خفض “أوبك بلس” إنتاجها من النفط، وهو ما يُفسر حالة الاهتزاز وعدم الثقة التي تُعانيها واشنطن منذ اندلاع هذه الحرب. وبالتبعية، أثبتت التجربة رغبة الغرب في الاحتماء بالولايات المتحدة ومساعدتها على البقاء فترة أطول في كرسي القيادة، وبالتالي لا يمكن استبعاد المُضي قُدُماً نحو عسكرة الفضاء في سبيل تحقيق ذلك.
2- روسيا: تواصل موسكو تدخلها العسكري في أُوكرانيا منذ 24 فبراير 2022، حفاظاً على أمنها القومي، الذي يمتد من وجهة نظرها إلى الداخل الأوكراني، سواءً في الأقاليم الانفصالية أو بطول الحدود معها والتي ستكون محل زعزعة في حال سمحت لكييف بأن تكون عضواً في حلف شمال الأطلسي “الناتو”، وبالتبعية انتشار قوات أوروبية وأمريكية على الحدود الأوكرانية – الروسية بواقع ميثاق الدفاع المُشترك بين أعضاء الحلف. ومن وجهة النظر الروسية، فإن كُلفة الحرب الجارية كبيرة لكن المكاسب الناجمة عنها أكبر، وبالتالي فهي تواصل ما بدأته وتراهن على عامل الوقت، وعلى تأثر أوكرانيا والفاعلين الأوروبيين جراء مشكلات متفاقمة، مثل أزمة نقص إمدادات الطاقة وما أسفرت عنه من ارتفاع غير مسبوق في الأسعار. وفي هذا الإطار، يمثل الفضاء الخارجي مسرحاً لموسكو لإثبات الذات، حيث استطاعت في العام الماضي، من خلال تفجيرها القمر الصناعي “كوسموس- 1408” بقذيفة مضادة للصواريخ الباليستية، أن توصل رسالة للولايات المتحدة مفادها أنها قريبة وقادرة.
3- الصين: باعتبارها تمثل حالياً الاقتصاد الثاني في العالم بعد الولايات المُتحدة، والأول بدءاً من عام 2030 فصاعداً بحسب تقديرات البنك الدولي، تُعد الصين نفسها لنيل مكانة أكبر، ليس فحسب من المنظور الاقتصادي ولكن أيضاً من المنظور السياسي والعسكري، فضلاً عن توسعها في أنشطتها الفضائية من خلال مركبة الفضاء “شنتشو-14” وغيرها، بما فيها الأنشطة العسكرية. وقد دفع ذلك “وكالة ناسا”، على سبيل المثال، إلى اتهام الصين بـ “احتلال القمر”، و”عدم تقديم بيانات لمسارات الصواريخ”. وبالتالي يعد الفضاء بالنسبة لبكين مسرحاً للتحضير لمكانة مُغايرة في المستقبل القريب.
4- الهند: هي الأخرى وإن جاءت في مرتبة تالية بعد كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين، بيد أن قفزاتها الاقتصادية الكبيرة التي جعلتها تحتل المرتبة السادسة في اقتصادات العالم في عام 2022، فضلاً عن تنامي أدوارها السياسية في مناطق مختلفة حول العالم؛ كل ذلك جعل الهند تنظر إلى الفضاء نظرة مُغايرة، حيث إنه لم يعد قاصراً فقط على إحراز تقدُّم تكنولوجي محكوم بالأُطر العلمية السلمية كما كان في السابق.
تفادي العسكرة:
أصبح الأمن والسلم الدوليان مُهددين بسبب تنامي الأنشطة البشرية غير المحسوبة في الفضاء الخارجي وتحويل وجهته من الاستكشاف وعمل البحوث العلمية بما فيه صالح البشرية إلى حلبة تتنافس فيها القوى الكبرى لإثبات الذات أو البحث عن مكانة أو حسم الصراعات الجارية، وهي التهديدات التي تتزايد مع انعكاسات الحرب الروسية – الأوكرانية التي مازال مستقبلها غامضاً.
وفي ضوء ذلك، ولتفادي مخاطر “عسكرة الفضاء”، ربما يتعين على المجتمع الدولي التفكير في المسارات التالية:
1- حوكمة الفضاء، فهناك ضرورة مُلحّة لوجود أُطر عادلة ومُلزمة لمختلف القوى المتنافسة من أجل ضبط عملية التوسع في الأنشطة العسكرية وشبه العسكرية، ومنع تسليح وعسكرة الفضاء، خاصةً في ظل تداعيات الحرب الأوكرانية؛ نظراً للارتدادات شديدة الخطورة لهذا الأمر.
2- توفير وتشارك البيانات والمعلومات، بما يخدم صالح البشرية ويحفظ قضيتي الأمن والسلم الدوليين من التهديد، خاصةً في ظل تنامي ظاهرة إطلاق الأقمار الصناعية مع ما تُرتبه من احتمالية أكبر للاصطدامات المدارية وما تُخلّفه من حُطام يصعب حصره أو التخلُّص منه.
3- متابعة الأنشطة الفضائية، والوقوف أولاً بأول على مستجداتها وما يمكن أن يُعرّض الأمن والسلم الدوليين للتهديد أو الخطر، نتيجة التوسع غير المحسوب في تلك الأنشطة.
4- استخدام الفضاء في تحقيق التنمية المستدامة، بما في ذلك تفعيل الأُطر المنظمة والحاكمة لصون الأمن الإنساني وأمن الفضاء، مثل خطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2030، وإطار سنداي للحد من مخاطر الكوارث 2015 – 2030، واتفاق باريس بشأن تغير المناخ، وغيرها.
5- تعزيز الأنشطة السلمية الاستكشافيّة، بما في ذلك مراقبة تغير المناخ، وإدارة المياه، ورفع كفاءة الزراعة، وتحسين الرعاية الصحية والتعليم، بحيث تكون تلك الوجهات هي البوصلة الأساسية للمجتمع الدولي.
6- دعم وتشجيع الحوار بين الجهات المعنية وأصحاب المصلحة، وذلك من أجل مناقشة موضوعية للقضايا المتعلقة بأمن الفضاء والتفاهم حول صيغ مُرضية للقضايا العالقة، وذلك على غرار ما شهدته جلسات “حوار أبوظبي للفضاء”.
ختاماً، يبقى أمن الفضاء الخارجي على المحك بالنظر إلى انعكاسات الحرب الروسية -الأوكرانية، وإمكانية بحث الأطراف أو الفاعلين فيها عن “ورقة ضغط جديدة” من أجل حلحلة الموقف المأزوم الذي يراهن فيه الجميع على عامل الوقت. ومن أبرز هذه الانعكاسات المُحتملة، إمكانية لجوء موسكو لتخطي حاجز استعراض القوة في الفضاء الذي قامت به في العام الماضي إلى ما هو أبعد من ذلك؛ رداً على العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من الغرب بسبب التدخل العسكري في أوكرانيا. لذا، على المجتمع الدولي أن يبذل جهداً في سبيل النأي بملف الفضاء الخارجي عن أن تطاله أية تجاذبات بين القوى الدولية المتصارعة في الحرب الأوكرانية، واعتبار ذلك مصلحة حيوية تُعزز من الأمن والسلم الدوليين.
المصدر/ مركز المستقبل للابحاث المتقدمة