29 ديسمبر، 2024 9:55 م

“محيي الأشيقر”.. طريقته مميزة في عرض النص بلمسات وضربات موجعة

“محيي الأشيقر”.. طريقته مميزة في عرض النص بلمسات وضربات موجعة

خاص: إعداد- سماح عادل

“محي الأشيقر” روائي وقاص عراقي.

ولد في مدينة كربلاء وعاش في بيروت من 1979 حتى 1990، ثم عاش بعد ذلك في السويد ليعود بعدها إلى العراق حتى وفاته.

التألق بثبات..

في مقالة بعنوان (الروائي محيي الأشيقر وموهبة التألّق بثبات روائي) كتب “د. حسين الهنداوي”: “كانت فرحتي غامرة حين عثرت عليه مؤخرا وللمرة الأولى. بعد هروبنا في أزمنة متخالفة من ملاحقات الشرطة بسبب أفكارنا وأحلامنا الرومانتيكية المتجذرة يسارا بالفطرة. إنما في مكتبة “الحكمة” في شارع الإمام العباس بكربلاء. محيي الأشيقر كان قد سبقني إلى مكان موعدنا ذاك. تواضعه العفوي والجم، لا يشي للوهلة الأولى بأسرار هذا الروائي المتألق والعصامي. بيد أن اندفاعنا التلقائي في الحال، في مقهى فقير مجاور، نحو أحاديث معقدة في الأدب والسياسة والفلسفة والأصدقاء والتاريخ، جعل الوقت يمر سريعا كطيف. وعلى كل حال، كنا نعرف بعضنا جيدا عبر وسائط شتى من قبل وأحيانا منذ ربع قرن، فيما كانت خصائص مهاراته القصصية الواثقة قد أعلنت بثبات عن ملامح منها سلفا في كتاباته المنشورة وخاصة مجموعة قصصية أولى بعنوان “أصوات محذوفة” صدرت في كوبنهاغن عام 1994 قرأتها بتمعن بعد أن تكرم صديقنا الفنان التشكيلي كاظم الخليفة بمنحي نسخة منها قبل سنوات، ومجموعة قصصية أخرى بعنوان “ضريح الصمت” صدرت في بروكسل عام 1994، ورواية عنوانها “كان هناك” نشرها في كوبنهاغن عام 1997. وعززت هذا التقييم، ملاحظات وذكريات أصدقاء مشتركين ونقاد اكتشفوا مبكرا، في نصه القلق والمثقل بالتأمل، مقدمات موهبة أصيلة”.

ويضيف: “إن تجربة محيي الإبداعية تحتاج بعد إلى دراسة شاملة ومتكاملة لاستكناه ملامحها الجوهرية، حيث تَفاعل نزعتين شعرية ومسرحية مع واقعية تغري أحيانا بالهم الفلسفي، ولإبراز إضافاتها العديدة إلى المنجز القصصي العراقي  لفترة العقود الثلاثة الأخيرة. وأكاد أقول المنجز الروائي، لأن قصص الأشيقر المنشورة ونصوصا كثيرة أخرى تنتظر النشر، هي أشبه بأجزاء من رواية واحدة تتوالى فصولها عن غير قصد مستفيدا من قطيعة واعية مع الأيديولوجيا كما مع السردية الواقعية وحتى الرومانسية وقابلياتهما دفعة واحدة.

بكلمة أخرى، لست متخصصاً في الأدب القصصي المقارن كي أتناول بمسؤولية حيثيات المعطى الفني في “سوسن أبيض” أو مجمل تجربة مؤلفها الإبداعية. بيد أن آراء مهمة كثيرة سبقتني في محاولة تقييمهما بجرأة وإسهاب أحيانا، كما لدى الأساتذة هاشم مطر أو سعد عبد الرحيم أو عبدالكريم هداد أو حسين سرمك حسن والعديد سواهم برغم بعض الحماس الذي لا نجاة منه عادة، تطرح دلالات واثقة على استثنائية خصب التجربة ذاتها”.

سوسن أبيض..

في مقالة أخرى بعنوان (سوسن أبيض للكاتب المبدع محيي الأشيقر.. البحث عن زمن جديد) كتب “هاشم مطر”: “يندرج الأدب الذي يقدمه محيي الأشيقر ضمن سياق التجارب الحداثية الكتابية العربية المهمة، وكلمة (مهمة) هنا لا علاقة لها بالأدب الذي قدمه ويقدمه أدباء مهمون في السياق الإبداعي والجمالي، وإنما من حيث التجربة الخاصة في تقديم نمط حداثي بكل تفصيلاته. وعندما نقول تفصيلاته نكون قد عنينا كل الإحداثيات التي تجعل النص متفوقاً على نفسه من حيث شكل الحكاية، الشخوص، الزمان، المكان، العقد، ثم طريقة تصدي الكاتب إلى حلها. إضافة الى لغة السرد والابتكار.

نرى ذلك بشكل جلي في مجموعة محيي الأشيقر القصصية الأولى (أصوات محذوفة) وروايتة “كان هناك” الصادرتين عن دار (فكرة ودار قوس) في كوبنهاكن، واللتين وضعتا الكاتب على أعتاب الريادة الحداثية إضافة إلى توريطه في استكمال مشروعه الكتابي الجريء. ثم يفاجئنا بمجموعته القصصية الأخيرة “سوسن أبيض” الصادرة عن دار شرقيات في القاهرة”.

ويواصل: “محيي أنشأ نمطاً كتابياً من حيث تركيب الجملة بما يضمن لها سوية المعنى والجمال بوقت واحد، ويضيف إليها صفة الرشاقة والأناقة فتبدو عبارته ذابلة-عاشقة- شاحبة- وجريئة. إنه بهذا المعنى يبدو في أدبه وكأنه يقتفي فروع الشجرة في مختلف فصولها بانسياب لوني مميز. إنها طريقته الخاصة بعرض النص بين الواقعية والتصويرية والانطباعية بلمسات وضربات موجعة. أما نمط الإنشاء المستهلك فهو أبعد ما يكون عن نصوصه، فهو يحمّل جملته ضخاً مركباً بالتشكيل مع رسم الحدث الذي هو بصدده، أزعم إن أي قارئ سينصفني بل يلومني بأني لم أقل كل ما أعرف بهذا الخصوص، أتركه للتعبير عن نفسه، بجماله المؤلم حقا.

إن الحداثة والابتكار ميزتان تؤهلان جهده الإبداعي لأن يتربع مع كبار كتاب القصة وله حيزه الخاص غير المنافس لكنه يحتل مكانته بهدوء. فهو يقدم نموذجا قصصيا رائدا بحداثته من جوانب مختلفة، لا أشك إنه سيكون اثراً يقتفيه مبدعون شباب آخرون بإضافات جريئة أخرى.

تمتاز نصوص الأشيقر بطريقة عرض باهرة تتخطى المألوف في الكتابة من حيث كثافة النص وتركيز المعنى والنحت الرشيق. يكون الدخول إلى عالمه صعباً بعض الشيء، لكنه يترك فسحة من المواربة على تفصيلات ذات علاقة لكنها تبقى خفية. وتتميز بقدرة فائقة على الإمساك بجوهر المشكلة، وهو بذلك يترك الخيار للقارئ أن يتفحص النص كقطعة واحدة أو كل مستوىً على انفراد بشرط الدراية الحساسة بالنسيج الروائي الحريري- الخيطي. يمتاز النص كذلك بصفة التركيب والشخوص المعقدة وسمة تشكيلية متفردة، مترعة بشتى مكنونات الجوهر الإنساني الذاهبة إلى مصائر مجهولة، بأغلبها مفتوحة على احتمالات كثيرة في جهد المبدع محيي الأشيقر. مجموعة (سوسن أبيض) تعد رائدة باكتشاف زمن جديد بين الزمن الفعلي والافتراضي”.

مثابات الاحتجاج..

في مقالة ثالثة بعنوان (مثابات الاحتجاج في رواية “كان هناك” لمحي الأشيقر) كتب صاحبها: “الدخول الى العالم الروائي لمحي الأشيقر يستدعى مجموعة من الترتيبات الذهنية لا تقبل في مجملها التهاون في التركي أو انفلات إيقاع القراءة.. فجملته الروائية منحوتة بطريقة استفزازية لا تقبل القارئ الكسول أو المتهاون في استلذاذ الكلمة، فتتوقف الجملة فجأة عن الإدراك ما لم يستدركها القارئ نفسه ويعيد نسق القراءة وفق ما مرسوم لها بدقة الصائغ الحاذق. إنها نوع من التحدي الذي يواجهك حتى لو كنت من نهام القراءة أو عبادها.. هذا الاستفزاز كان مدخلا لروايته “كان هناك” التي تفتح الباب أمام سيل من الاحتمالات، كشريط سينمائي تعمد المخرج فيه رمينا في آتون الحكايات فجأة ومن علو شاهق!”.

ويؤكد: “غير أن المدهش والمصنوع بدراية في المتن الحكائي للرواية، هو تصويرها الدقيق لفترة زمنية مهمة في تاريخ جيل شبابي ثوري، قرر أن يعتنق فكرة الحرية بما تحمله تلك الفكرة من أبعاد رومانسية ويغامر بحياته، رغم عشقهم المتناهي للحياة!! وهو سؤال ظلت الإجابة عنه مبهمة حتى يومنا هذا، فهل عشق الحياة ذاك دفعهم الى اختيار درب الموت القصير؟

حكاية سالم ورجل الامن المتسلط في مدن وقرى الجنوب العراقي واحدة من آلاف الحكايات التي حدثت بالفعل، بل أنها تتخذ أشكالا تتراوح بين البشاعة واللامعقول، وإسهاب الكاتب في رسم شخصية هارون رجل الأمن وكلماته المقززة التي يطلقها بوجه الناس، عبر أكثر من حدث في الرواية، شكل بؤرة سببية ناجحة تماما في مواصلة البناء المعماري للنص الحكائي للرواية بما حملته من أحداث جانبية سارت بمنوال مستقيم نحو هدفها النهائي، كاشفة عن عالم ظل مخبوء لدى من قام بالمغامرة فقط، وهي مقاربة تشبه كثيرا اكتشاف أثر مهم من قبل منقب حاذق سنعرف بمعادلة، سردية عجيبة أنه هو -أي المنقب- من بنى ذلك الأثر أو ساهم به وكان واثقا أنه يستطيع أن يميط اللثام عنه بدقة عالية.”

فاكهة الغرباء..

وفي مقالة رابعة (تحليل قصة “فاكهة الغرباء” للقاص محيي الأشيقر. طعم الحكاية العراقية المسمومة) كتب “حسين سرمك حسن”: “قلت في دراسة سابقة عن مجموعة سوسن أبيض  للقاص محيي الأشيقر نشرت على صفحات ملحق ألف ياء الزمان الغراء، إن قصة فاكهة الغرباء هي من عيون الفن السردي العراقي في مجال القصة القصيرة، وأنها تحتاج وقفة تحليلية مستقلة ها نحن نفي بها وإن بعد سنتين من نشر الدراسة الأولى. مازال محيى حيا في منفاه المشؤوم، ولعل فيها تصبيرا وسلوانا لروحه الممزقة التي جسّدها أروع تجسيد في هذه القصة فاكهة الغرباء، التي من أروع دلالاتها هو أن لا نبحث عن معاني النص المستترة خارج ساحة روح المبدع. المؤلف لا يموت. بالعكس هو الحي الذي لا يموت. ولا تصدّقوا كل ما تطرحه المدارس النقدية الأوروبية. محنة النقد في أوروبا ــ في مرحلة ما بعد حداثته خصوصاــ هو أن العلم سحق معطياته، وهدّد أسسه، فصار لزاما عليه أن يجاريه لعله يلحق به. فحاول خطأ تقعيد ليس النقد، لكن حتى العلوم الإنسانية على اسس إحصائية ورياضية. ولا يمكن فهم دلالات هذا النص فاكهة الغرباء من دون أن نضع تجربة كاتبه محيى الأشيقر في المركز التأويلي، فهذا النص لا يمكن أن يكتبه كاتب أميركي أو سويدي حتى لو أبيضت عيناه.

يكتبه محيي الذي أبيضت عينا روحه وهي ترنو إلى تجربة ممزقة في البعيد يستحضرها بذكاء عبر حوار الناثر بعد أربع فقرات تمهيدية في القصة سنعود إليها لاحقا أمام شاشة جهاز الكمبيوتر الخاص بمكان عمله، ربض واحد من كاتبي النثر وهو يحاول تذكر واستعادة ما كان قد سمعه من طشاش كلمات وإشارات وتلميحات عن لقطة أو أكثر تصلح للاحتفاظ بها وتدوينها كمواد خام لنص مقترح”.

ويجمل: “هي حكاية خرافية تمثل المتنفس لكل لاجئ. ولعل اختيار الاسم مزاحم لم يكن بريئا، فهو يدل على القدرة على المزاحمة في مجتمع تنافسي جديد لم يعتد عليه اللاجئ. كما أن اختيار أفعى من نوع الكوبرا وهو نوع شديد الفتك والسمّية يطمئن في النفس مشاعر الاقتدار وأحاسيس القوة في التحكم والترويض. وليس بعيدا أن تكون مخزونات اللاشعور الجمعي عن دلالات رمز الأفعى الحيّة قد اشتغلت ولعبت دورا كبيرا في انتقاء هذا الرمز. فالحية رمز للتجدد. هي سارقة عشبة الخلود من جدّنا جلجامش الخائب. والحيّة من الحياة والحيا هو فرج المرأة الولود، كما أنه الطين الذي جبلنا الله منه”.

كوميديا سوداء..

ويؤكد: “قام الكثير من النقاد بترويج توصيف اصطلاحي هو الكوميديا السوداء حين يكون النص فكها ومضحكا في ظاهره، ولكنه مثقل بالمعاني القاتمة، والدلالات الخانقة عن كدر المصير البشري، وحال الإنسان المذل المهان. ولكنني لا أؤيد هذا المصطلح عدما يرتبط بوصف الكوميديا العراقية. إنها كوميديا قائمة بحالها ولها توصيفها بذاتها، توصيف لا يخضع لأي تعريف خارجي.

إن تعريف الكوميديا السوداء العراقية يأتي من داخلها. من اشتراطاتها الذاتية التي لا تشبه أية حالة كوميديا سوداء مقاربة في مكان آخر. إن حالها لمن لا يُصدق وببراعة القاص الرائي، هو نفس حال حصالة الكوبرا التي على هيئة أفعى الكوبرا كما سنرى. لكن وقتيا يهمني أن أشير إلى أن كل ما ذكره محيي من صور وتعبيرات ومفردات فكهة وطريفة بل جاء بعضها شديد الإضحاك، خصوصا عندما تحصل نقلة مباغتة من ذروة الجد إلى سفح الهزل، لا صلة لها أبدا بمفهوم الكوميديا السوداء.

إنها جوهر الحياة العراقية منذ عقود. بل وهذا هو الأصح منذ آلاف السنين. يمارسها الإنسان العراقي كسيرة حياة كاملة. وقد وضع محيي المعادلة الدقيقة للتعبير عن هذه الحقيقة على لسان صاحبه ومخلوقه حين قال ملخصا كوميدياه الشخصية المعبرة عن كوميديا البلاد المثكولة.

اسمح لي أن أشرب نخب تلك الأيام.. أبدا، والله، لم يكن فيلما، أنا أسمّيه فيلما من شدة القهر. أنا بالمناسبة أحب المزاح، ولكن القهر والطلايب تلاحقني، ألا يظهر عليّ. هل تدري؟ حتى عندما لا أجد من أضحك معه أو احتال عليه، من دون أذى بالطبع، أشتغل بنفسي، يعني أنصب على حالي، الغربة قلبتني على البطانة. وهذا الذي تراه أمامك من شخصي الكريم، هو مخلوق آخر، مو أنا ــ ص 127 .
لقد أحكم القاص أولا تحقيق المفارقة التيــ وفق أطروحات معلم فيينا في كتابه الشهير سيكولوجية النكتة ــ لا يمكن أن تحقق فعلها من دون الإطاحة بالمنطق من ذرى الجد الدلالي إلى سفح المسخرة الاستعمالية التي تبدو بلا دلالة، في حين أنها تستر الدلالة إيحائيا بمكر مسموم. في أكثر من خمس مواضع كما أتذكر، يسير سياق الحديث بين الأربعيني والسارد بصورة جدّية حادة، ليكسره بـ انخفاض هائل ومفاجئ في المنحى السردي » الصياغة اللغوية، والدلالي الذي يولّد فراغا هائلا في النفس يشكل مقدمة للرهبة والانتعاش”

وفاته..

توفي “محي الأشقير” يوم الجمعة ٢٥ أذار 2024 في كربلاء، بعد معاناة مع المرض.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة