خاص: إعداد- سماح عادل
“محمود المليجي” ممثل مصري، يعتبر واحدا من أشهر الممثلين المصريين في القرن العشرين، عرف باسم شرير الشاشة المصرية لكثرة تقديم أدوار الشر في أعماله، ومع ذلك كان بارعا في تقديم أدوار الخير والطبيب النفسي، وتمكن من تحقيق جماهيرية كبيرة.
حياته..
ولد “محمود المليجي” في عام 1910 بحي المغربلين في القاهرة، ترجع أصوله لقرية مليج بمحافظة المنوفية، ونـشأ في بيـئة شعبـية حتى بعـد أن إنـتقل مـع عائلـته الى حيّ الحلمية، وبعـد أن حصل على الشهادة الإبـتدائـية إخـتار المدرسة الخديوية ليكمل فيها تعليمه الثانوي. وكان حبه لفن التمثيل وراء هذا الاختيار حيث أن الخـديوية مدرسـة كانت تشـجع التمـثيل، فمدير المدرسة “لبيب الكرواني” كان يشجع الهوايات وفي مقدمتها التمثيل، فالتحق “المليجي” بفريق التمثيل بالمدرسة، حيث أتيحت له الفرصة للتتلمذ على أيدي كبار الفنانين، أمثال: (أحمد علام، جورج أبيض، فتوح نشاطي، عزيز عيد)، والذين استعان بهم مدير المدرسة ليدربوا الفريق.
يتحدث “محمود المليجي” عن أيام التمثيل بالمدرسة، فيقول: “في السنة الرابعة جاء عزيز عيـد ليدربنا، جذبتني شخصيته الفذة وروعة إخراجه وتطور أفكاره، وكنت أقـف بجانبه كالطفل الذي يحب دائماً أن يقلد أباه.. وقد أُعجب بي عزيز عيد وأنا أمثل، ومـع ذلك لم يُعطنِ دوراً أمثله، وكـان يقول لي دائمـاً.. (إنت مش ممثل، روح دور على شغلة ثانية غير التمثيل).. وفي كل مرة يقول لي فيـها هذه العبارة كنـت أُحـس وكأن خنجراً غـرس في صدري، وكثـيراً ما كنت أتوارى بجوار شجرة عجـوز بفـناء المدرسة وأترك لعيني عنان الدموع، إلى أن جاء لي ذات يوم صديق قال لي: إن عزيز عـيد يحترمك ويتنبأ لك بمستقبل مرموق في التمثيل، فصرخت فيه مَنْ قال لك ذلك؟ أجاب إنه عزيز عيد نفسه، وعرفت فيما بعد أن هذا الفنان الكبير كان يقول لي هـذه الكلمات من فمه فقط وليس من قلبه، وإنه تعمَّد أن يقولها حتى لا يصيبني الغرور، وكان درساً لاينسى من العملاق عزيز عيد”.
وفي إحدى عـروض فرقـة المدرسـة المـسرحية، كان من بين الحاضرين الفنانة “فاطمة رشدي”، والتي أرسلت تهنيء “المليجي”، بعد انتهاءالعرض، على أدائه الجيد لدور “ميكلوبين” في مسرحية “الذهب”، ودعته لزيارتها في مسرحها حيث عرضت عليه العمل في فرقتها بمرتب قدره أربعة جنيهات شهرياً. عندها ترك “المليجي” المدرسـة لأنه لم يستطع التوفيق بينها وبين عمله في المسرح الذي كان يسيطر على كل وجدانه. فقدم مع “فاطمة رشدي” مسرحية (667 زيتون) الكوميـديـة.. كما مثل دور “زياد” في مسرحية (مجنون ليلى).. وكان أول ظهور له في السينما في فيلم (الزواج ـ 1932) الذي أنتجته وأخرجته “فاطمة رشدي”، وقام هو بدور الفتى الأول أمامها. وبعـد أن حُلَّت فرقة “فاطمة رشدي”، عمل “المليجي” كملقن في فرقة “يوسف وهبي” المسرحية.
الأرض..
ثم إختاره المخرج “إبراهيم لاما” لأداء دور “ورد” غريم “قيس” في فيلم سينمائي من إخراجـه في عام 1939، كما أنه وقف، في عام 1936، أمام “أم كلثوم” في فيلمها الأول (وداد).. إلا أن دوره في فيلم (قيس وليلى) هو بداية أدوار الشر له، والتي استمرت في السينما قرابة الثلاثين عاماً، حـيث قـدم مـع “فريد شوقي” ثنائياً فنياً ناجحاً، كانت حصيلته أربعمائة فيلماً.
وكانت نقطة التحول في حياة “محمود المليجي” في عام 1970، وذلك عندما إختاره المخرج “يوسف شاهين” للقيام بدور “محمد أبوسويلم” في فيلم “الأرض”، فقد عمل فيما بعد في جميع أفلام يوسف شاهين، وهي: (الاختيار، العصفور، عودة الابن الضال، إسكندرية ليه، حدوته مصرية).
يقول “يوسف شاهين” عن “المليجي”: (…كان محمود المليجي أبرع من يـؤدي دوره بتلقائية لم أجدها لدى أي ممثل آخر، كما أنني شخصياً أخاف من نظرات عينيه أمام الكاميرا…).
وقد ترك ” محمود المليجي” بصماته في المسرح أيضاً منذ أن اشتغل مع “فاطمة رشدي”، حيث التحق فيما بعد بفرقة “إسماعيل ياسين”، وبعدها عمل مع فرقة “تحيَّـة كاريوكا”، ثـم فـرقـة المسرح الجديد.. وبـذلـك قـدم أكثر من عشرين مسرحية، أهمها أدواره في مسرحيات: (يوليوس قيصر، حـدث ذات يوم، الولادة، ودور”أبو الـذهب” في مـسرحية أحمد شوقي “علي بك الكبير”).
دخل “محمود المليجي” مجال الإنتاج السينمائي مساهمة منه في رفـع مستوى الانتاج الفني، ومحاربة موجة الأفـلام الساذجة، فـقدم مجموعة من الأفلام، منها على سبيل المثال: (الملاك الأبيض، الأم القاتلة، سوق الـسلاح، المقامر)، وبذلك قدم الكثير من الوجوه الجديدة للسينما. لقد مثل محمود المليجي مختلف الأدوار، وتقمص أكثر من شخصية: (الـلص، المجرم، القوي، العاشق، رجل المباحث، البوليس، الباشا، الكهل، الفلاح، الطبيب، المحامي)،كما أدى أيضاً أدواراً كوميدية.
كان عضواً بارزاً في الرابطة القومية للتمثيل، ثـم عضواً بالفرقة القومية للتمثيل. عمل في الفن أكـثر من نصف قرن، قدَّم سبعمائة وخمسين عملاً فنياً، ما بين سينما ومسرح وتليفزيون وإذاعة. أطلق عليه الفنانون العرب لقب “أنتوني كوين الشرق”، وذلك بعد أن شاهدوه يؤدي نفس الدور الذي أداه “أنتوني كوين” في النسخة الأجنبية من فيلم “القادسية” بنفس الإتقان بل وأفضل.. وأيضا أداؤه في فيلم “الأرض” فقد أدّى فيه أعظم أدواره على الإطلاق. فلا يمكن لأحد منا أن ينسى ذلك المشهد الختامي العظيم، ونحن نشاهد المليجي أو “محمد أبوسويلم” وهو مكبـَّل بالحبال والخيل تجرُّه على الأرض محاولاً هـو التشـبث بجذورها. ولم تكن روعة “المليجي” في فيلم “الأرض” تكمن في الأداء فقـط، بل في أنه كان يؤدي دوراً معبراً عن حقيقته، خصوصاً عندما رفض تنفـيذ هذا المشهد باستخدام بديل “دوبلير”، وأصَّـر على تنفـيذه بنفسه..
وعند تصوير “المليجي” مشهده الشهير في فيلم “الأرض” يقول “شاهين” في حوار مع “بلال فضل”: “المشهد كان طويل وخطير وسرق عينين كل الناس في الإستوديو، وبعد ما خلص أول مرة، كل اللي موجودين صقفوا بحرارة، أنا كنت مبوّز، فيه جزئية من الحوار وهو بيمثل نسى جمل منها، لكن بمهارته وحرفنته، ما أظهرش أنه نسي، برغم إنه كان بيحاول يفتكر في سره بقية الحوار، أنا حسيت بدة لأني ممثل، ودي ثغرة مهما حاول يغطيها هتبان. بعد ما خلص قولتله حلو بس معلش هنعيد كمان مرة”، فأجابه “المليجي” بتأنيب: “وماله؟ أصلها ما بانتش والناس ما أخدتش بالها”، فرد عليه “شاهين”: “أصل هما حمرة”، ويواصل: “قالي بس دول صقفوا! قولتله حمرة كمان مرة عشان صقفوا”، وبالفعل تم إعادة المشهد 17 مرة حتى يظهر بالشكل النهائي الذي تم تخليده حتى الآن”.
مدرسة فنية..
لم يكن “محمود المليجي” مجرد ممثل، بل كان فناناً عـاش ليقدم لنا دروساً في الحياة من خلال فنه العظيم، كانت معظم أدواره، حتى أدوار الشر، تهدف إلى مزيد من الحب والخير والإخلاص للناس والوطن.. كان مدرسة فنية في حد ذاته، وكان بحق أستاذاً في فن التمثيل العفوي الطبيعي، البعيد عن أي إنفعال أو تشـنج أو عصبية، كان يقنع المتفرج أنه لا يمثل، ومن ثم إكتسب حب الجماهير وثقتهم.
الزوجة الأولى كانت الفنانة “علوية جميل”، وهي الزوجة الوحيدة التي فازت بميزة الزواج في النور وبشكل علني، وتزوجته عام 1939، بعدما تعرفت عليه أثناء عملهما معا في فرقة “يوسف وهبي”، وانجذبت لشخصيته وأحبته وظلت تبحث عن فرصة الاقتراب منه إلى أن توفيت والدته ولم يكن معه المال الكافي لمصاريف الجنازة وهنا تدخلت «علوية» بإعطائه 20 جنيها دون أن تخبر أحدا بذلك.
الزواج..
وفي عام 1939، تزوّج “محمود المليجي” من “علوية جميل”، الزواج الأبدي الذى استمر طوال حياته، حيث كانت “علوية” قوية وصارمة ولا تسمح بأى نزوات يقوم بها “المليجي” في شبابه، حسب شهادات المُقربين، كما قال ابن أخيه، “إيهاب المليجي”، الممثل ومخرج الإعلانات، في تصريحاته التى نشرتها الكاتبة الصحفيّة، “سناء البيسي”: “كان عمي محمود يعتبر علوية زي والدته، وكانت أكبر منه وشخصيتها أقوى منه بكتير، ينصاع لجميع أوامرها وطلباتها خاصة بعد اكتشافه كما أخبره الأطباء بعد فترة من الزواج أنه لا يستطيع الإنجاب كانت علاقته بإخوته طيبة خاصة مع والدي حسن المليجي مدير مصلحة الضرائب، وكان يزورنا شايل الهدايا، وبعد وفاة والدي سنة 70 تبناني لأرافقه حتى وفاته، وفضلت علاقته جيدة بأبناء عمه حسين وأنور وسعد وفاطمة أخته في الرضاعة، وكان كل دخله يحطه عند علوية وهي تشيل الفلوس في البيت”.
استمر زواج “علوية” و”محمود المليجي” لسنوات طويلة، وخلال تلك الأيام كانت ترفض زيارة أى صديق لهُ في المنزل، حسب شهادة ابن أخيه: “كان يقابل أصحابه في القهوة أو علي الكازينو، وأهم أصحابه المخرج كمال الشيخ وسعد الشيخ والمخرج المسرحي أحمد زكي والممثل عبد الله الحفني، وكان يواظب علي صلاة الجمعة في مسجد باب اللوق مع الممثل عبدالمنعم إبراهيم”.
لم تتوقّف سيطرة “علوية” عند ذلك الحدّ، بل كانت تُفسد جميع مشاريع “المليجي” العاطفية تماما، ففي عام 1953، أحب “لولا صدقي”، ولكنه لم يستطع الزواج منها بسبب “علوية”، وفي أواخر الخمسينيات تزوّج من الفنانة “درية أحمد”، وما إن وصل الخبر لزوجته، حتى أجبرته على طلاقها على الفور، وقام إسماعيل ياسين بفصل درية من فرقته إرضاء لرغبة السيدة “علوية”.
وفي أحد الأيام، علمت “علوية” بزواج “المليجي” من فنانة شابة تُدعى، “فوزية الأنصاري”، كانت تعمل بفرقة أم كلثوم، وعلى الفور أجبرت الأولى “المليجي” على تطليقها في اليوم الثالث من الزواج، ولم تهدأ عندما فعلت ذلك، بل اتصلت بها هاتفيا، وقالت لها بنبرة صارمة: “إنت طالق يا فوزية”.
صحيح أنّ أغلب محاولات وأد “علوية” قصص حُب زوجها نجحت، فيما عدا محاولة واحدة، لم تعرف عنها شيئا حتى توفي زوجها حيث تزوج “المليجي” في نهاية السبعينيات من الفنانة الكوميدية، “سناء يونس”، سرا وظلت على ذمته حتى وفاته، وفقا لما كتبه الناقد الفنّي، “طارق الشناوي”.
يوميات..
في ربيع عام 1959، نشرت مجلة (الإذاعة والتليفزيون) بعض الكواليس المهنية والشخصية في حياة “محمود المليجي”، من خلال عرض ما كتبه خلال 7 أيام في أجندته الخاصة التي يدوِّن فيها مذكراته. تباينت مواقف “المليجي” التي رواها ما بين أحاديثه مع العامة في الشوارع وكذلك موقفه من الضرائب، ثم سرد بعض المواقف مع أصدقائه وأسرته، وخوفه من المستقبل وغيره الكثير، وهو كالتالي:
السبت
في السادسة صباحًا كنت اتخذ طريقي إلى الاستوديو، الصباح الباكر جميل، تهب عليك نسمات حالة ما زالت نعيش تحت تأثير حلم الليل، واصلت سيري حتى إذا ما وصلت إلى الجيزة، كان إخوان من العمل في طريقهم، ولمحني أحدهم فصاح: “المليجي أهه !”، ثم أسرع إلى بعض الإخوان وكان صباحًا كله إشراق وسؤال ساذج: على فين كده من بدري؟!. فأجبت: على الشغل! فانبرى أحدهم يسأل في عجب: “شغل بدري كده.. هو أنتم زينا؟. فأجبته: “أنتم أحسن مننا”. وكذبتني نظرته، وكان الباقي أكثر منه جرأة، فقال أحدهم ليعبر عن وجهة نظرهم: “يا عم مين زيكم.. نعيم وراحة”. ولكنني أكدت لهم أنني ذاهب فعلا إلى العمل، وأنهم بالتأكيد أسعد حالا مني، فهم في الأعياد يأخذون أجازة أما نحن فلا نستطيع، لأننا إذا أخذنا أجازة من المسرح في العيد، فإلى أين يذهب المعيدون؟!
عندما يشتد سعير الصيف نعمل تحت الأضواء القاتلة، الفنانون يحسون بأوجاع الناس ولا يدعون الناس يحسون بأوجاعهم.. وأمثلة كثيرة قلتها، ولكن هل اقتنع إخواني العمال؟ لا أظن.. إنهم مصممون على أننا نحن الفنانين نعيش في نعيم دائم، ناسين أنه لا يوجد إنسان فنان أو غير فنان يعيش في نعيم دائم!!
الأحد
مصلحة الضرائب تطالبني بمبلغ كبير. لا اعتراض لي على التقدير ولكن لي وجهة نظر. أنا فنان، والفنان ليس له مرتب ثابت، وأيامه موزعه بين البصل والعسل.. وفي يوم “البصل” يأخذ من يوم “العسل”.. وهكذا يمر العام. وفي آخره يفاجأ بما هو مطلوب منه، وليس معه إلا القليل. ماذا لو حصلت منّا الضرائب أولا بأول؟ أرجو أن يقتنع المسؤولون بوجهة نظري.
الاثنين
قابلت اليوم صديقًا كنت قد تعرفت عليه في إسبانيا منذ عامين أثناء زيارتي لها.. وهناك اتخذت منه مرشدًا. ذهب بي إلى المتاحف وإلى ملاعب الثيران، وإلى المسارح والحدائق، وكان يبدي إعجابه وتقديره لكل شيء في بلاده. وكان ضمن ما شاهدته ترعة لا يزيد اتساعها عن مترين، أخذ الصديق الإسباني يشرح لي بإعجاب متزايد تاريخ الترعة، ويعدد مميزاتها، وسمّاها “النيل”. ووجدت نفسي دون قصد طبعا ألقي بعقب سيجارتي في هذه الترعة، فأسرع والتقطه منها، وفي عينيه نظرة عتاب، فقد لوثت السيجارة مياه الترعة.
قلت له: عندنا في مصر من يمتلك خمسة أفدنة يملك ترعة أكثر اتساعًا من ترعتكم هذه، والنيل عندنا يبلغ اتساعه في بعض الأماكن أكثر من خمسة كيلومترات. نظر إليّ مستريبًا كأنما لا يريد أن يصدق. هنا في القاهرة التقيت به، لقد جاء ليرى مجدنا القديم والحديث، وصحبته ليرى نيلنا الخالد، فقال: رائع.. ولكن أيغضبك إذا قلت لك أنني أرى ترعتنا أروع؟! لم أغضب طبعا.. وإنما أكبرته في أعماقي أنه وطني، ولأنه يحمل كل هذا التقدير والإعزاز لترعة صغيرة.. صغيرة جدًا في بلاده.
الثلاثاء
قرأت خبرًا يقول: إن وزارة الثقافة بعد أن أسست مؤسسة تدعيم السينما، ستتجه إلى المسرح، وستنشئ مؤسسة دعم المسرح لتقوم بمعالجة شؤون المسرح على أسس علمية هادفة. هذا كلام جميل.
ولكن الذي ليس جميلًا هو أن يتصدى قوم أبعد ما يكونون عن طبيعة العمل المسرحي، ويحاولون تحقير مجهود الغير في هذا الميدان، وحجتهم في ذلك بعض اصطلاحات اطلعوا عليها اعتباطًا، أو أرشدهم إليها بعض المقربين المثقفين. فهذا هو ما لا يرضاه للمسرح أحد. إن الفن في مصر أشبه بمريض التف حوله أهله الذي يؤلمهم مصابهم، ثم جاء شخص غريب لم يعرف المريض يومًا، ولم يحس بما يعتمل في أعماقه، وراح يدّعي صداقته، ويطلب إليهم أن يتركوه يباشر علاجه. هل يكون أهل المريض مخطئين إذا هم ألقوا بهذا الغريب من النافذة؟!.. لا أعتقد.
الأربعاء
قرأت للكاتب الإنجليزي “سومرست موم” عبارة جاءت خلال قصة “الآن.. وفيما بعد”: “إنني أستطيع أن أضحي بالحب في سبيل الفن.. إن الحب مؤقت والفن خالد. الحب هو نداء الطبيعة لإنجاب مزيد من الأطفال يعانون الجوع والعطش والمرض والحزن والحسد والكراهية. ولكن الفن.. إنه المبرر الوحيد لخلق الإنسانية”.
ويستطرد الكاتب قائلا: “والإنسان لا يمكن أن يجمع بين الفن والحب.. كل الفنانين الكبار لمع فنهم بعد أن حرموا أنفسهم، أو حرمتهم الظروف، من الحب. والرجل الذي يشبع رغبته من المرأة لا يمكن أن يكون فنانًا. إن موقد الفن هو الإحساس بالحرمان عن المرأة”.
أنا مع سومرست في النصف الأول الذي يقول إن الحب مؤقت والفن خالد. أما النصف الثاني الذي يقول فيه إن الإنسان لا يمكن أن يجمع بين الفن والحب، فأنا ضده، فهناك فنانون لم يلمعوا إلا من خلال الحب.. الحب الكبير. إن الحب في كثير من الأحيان يصنع المعجزات، ومن العبقريات ما لا يستطيع غيره أن يصنعه..
الخميس
خاطر غريب هاجمني هذا اليوم بلا مناسبة.. ماذا سيكون مصيرك عندما تذبل؟!.. فالفنان في رأيي كالوردة، طول ما ريحتها فيها، الناس شايلاها في صدرها، وعندما تذبل تداس بالأقدام. والدليل أمامنا: صالح عبد الحي!
فأنا في أشهر أكسب أكثر من 500 جنيه، وفي شهر آخر أكسب أقل من ذلك بكثير، وفي شهر ثالث لا أكسب شيئًا على الإطلاق.. وشهر يعوض وهكذا.. ولكن عندما ينفض الجمهور عني باحثًا عن فنان جديد، وهذه هي سنة الحياة، ماذا سيكون مصيري؟ ماذا سيقدم لنا المجتمع الذي أرقنا حيويتنا على خشبة مسارحه؟ هل سيؤمن حياتنا ضد الشيخوخة؟ هل سنرى قريبًا صندوق معاشات يقدم لنا معاشات تحفظ لنا آدميتنا من الهوان؟ هل سنرى قريبًا بيتًا يسمى بيت الفن، يفتح أبوابه للفنانين العجزة، الذين قدّموا بعض الشيء لبلادهم؟ أين الضمانات؟! أنا لا أصدق أن وقتًا سيجئ لتدعو جمعية، أيا كانت هذه الجمعية، لإقامة حفلة لمساعدتي أنا.. محمود المليجي الفنان العاجز.. لا أصدق أبدًا.
الجمعة
ذهبت إلى أحد المحلات الكبرى لأشتري منه لعبة لابني “يسري”.. وأنا أنوي بعد ذلك أن أمضي فترة راحتي الصباحية في صحراء الهرم. وفي تقاطع شارع عماد الدين مع شارع 26 يوليو، كانت الإشارة تسمح بالمرور، ولاحظت أن الناس لا يعترفون بقواعد المرور، فوقفت.. وأنا لا أستطيع أن أضرب كلاكس لأن الكلاكس ممنوع!!
وغاظني شاب تسكع أمام عربيتي بطريقة استفزتني.. فقلت له ألفت نظره: “يا أستاذ مش شايف الإشارة؟!. فقال: إيه يعني.. أنت هتعلمني المشي!!. ثم مضى يتحدث بطريقة وألفاظ جعلتني أوقف العربة وأنزل منها مصممًا أن أذهب به إلى مركز البوليس لتأديبه. وبعد نص ساعة اقتنع المارة الذين تجمعوا حولنا بأن الشاب يستحق العقاب فعلا. وذهبنا إلى قسم البوليس وهناك أحس الشاب أن المسألة أصبحت جد، فأخذ يتوسل لكي أصفح عنه وتذلل بشكل جعلني محرجًا أمام الناس. وأخيرًا تنازلت عن المحضر، وضاعت مني رحلتي الخلوية الجميلة.
وفاته..
توفى “محمود المليجي” وهو في سن الثالثة والسبعين، وكان ذلك في السادس من شهر يونيو عام 1983 إثر أزمة قلبية حادة، في مكان التصوير وهو يستعد لتصوير آخر لقطات دوره في الفيـلم التليفزيوني “أيـوب” فجأة، وأثناء تناوله القهوة مع صديقه “عمر الشريف”، سقط “المليجي” وسط دهشة الجميع.
https://www.youtube.com/watch?v=mNvwLl2XaKQ