22 ديسمبر، 2024 11:13 ص

‫ محمد عفيف الحسيني.. ظلت الكتب ثروته التي لن تحترق

‫ محمد عفيف الحسيني.. ظلت الكتب ثروته التي لن تحترق

 

خاص: إعداد- سماح عادل

“محمد عفيف الحسيني” شاعر كردي سوري يقيم في السويد، من مواليد عامودا 1957، رحل  إلى السويد عام 1989. بدأ الكتابة، منذ حوالي عقدين.

جيل شعري كوردي ضائع..

في حوار معه أجراه “مسعود خلف” يقول “محمد عفيف الحسيني” عن نفسه: “أنتمي إلى جيل شعري كوردي ضائع: كتبنا بالعربية عن قيامة الكورد. وبقيتْ روحي دائماً، تلتفت لأن أستطيع الكتابة بلغتي، لكن، لم أفعل حتى الآن، لأنني أخاف أن تأخذني اللغة الكوردية، إلى تخوم لا أجيدها. بدأت الكتابة، منذ حوالي العقدين، ووجدتُ أن الكتابة بالنسبة لي، هي المنقذ من ضلالة التعريب، والحياة ـ القسوة لأهل عامودا. لم أكتب، لأجد اسمي في قِدْرِ الركاكة السريعة، كتبتُ، لأعرف نفسي أولاً، ولأعرف معنىً بسيطاً، لسؤالٍ بسيطٍ: في أي مكان سأفرش لضيوفي ـ ضيوف القدر، ما أظنه الجدير بالكتابة؟”.

احتراق الكتب..

وعن طفولته والكتابة يقول: “ولدتُ في بيئة هي خليطة من أعراق الكتابة والدين والذاكرة الشجية للغات. وجدتُ نفسي ملموماً بين شيئين: الكتب والفقر. الكتب هي التوابل اليومية للذاكرة، والفقر هو توابل الطفولة الشقية التي منعتنا من الإحساس الباذخ بمعنى هذه الكتب. أينما انتقلتُ من منازل الأهلين، كانت الكتب هي التي تفور من الجدران، الكتب التي كان الفانتازي الأرجنتيني “بورخيس” يتحدث عنها، وهو في عماه البصير. الولادة، ثم الحبو، ثم أن تجد نفسك، فجأة في حضرة الأقطاب: الملا جزيري، المتنبي (الفاشي العربي الكلاسيكي)، إبن الفارض، المتون التي لا تنته لكتب تدون السيرة الأليمة للكتابة.

في الوسط الذي عجَّت به الكتبُ، وعلى مبعدة القليل دياربكر، حيث في المدينة الجد الكبير المقدس “بافي كال”، وأيضا النزيف الهجراني للسلالة من أطراف آمد، إلى نعمة الله، نعمة الأرض، دون ألغام حدودية، ونعمة الكتب ـ الفقر. جدي “الشيخ محمدى موزا”، الذي ارتقى “كري موزا”، كان بإمكانه، أن يدون الأراضي المباركة باسمه، لكن، التفت، إلى المباركة الأشد كثافة: الكتب.

كان يقتني الكتاب ـ المخطوطة، في حين التفت الآخرون، إلى الأرض. مات الجد مبكراً، وأغلب كتبه احترقت في “حريق عامودا” ـ طوشا عامودي؛ الحريق الذي أشعله الفرنسيون عام 1937، في المدينة، الحريق الذي أتلف كل تلك الكتب ـ الثروة. مات الجد صغيراً، في الثالثة والخمسين من عمره، وكان ثمة منزل له، منزل قريب من الجامع الكبير، ومن السوق الصغيرة الأليفة “العرصة”، تقاسم الأبناء البيت القديم، توزع الأبناء من البيت القديم، وبقي الشيخ عفيف، قريباً، من أنفاس ذلك البيت، قريباً من تقاسيم المساحة المباركة التي تضم رفاة الثروة من الكتب.

بنى له منزلاً فقيراً، وتزوج، ثم ولدتُ، كنا نحفر أرض الحوش، لنخفي فيها مواردنا الطفولية الممنوعة: صور الممثلات، والدحاحل، والشجن الطفولي المراهق. نحفر مقدار شبرين، فتخرج مقدار شبرين من مصكوكات جدي الحريق. الكتب. الأغلفة الجلدية المزينة، الأوراق، ليس من أوراق، بل الصحائف الحريق. أرسلت لي الأقدار الأرضية، بيئة، ربما لم أكن أريد أن أكون فيها، كنت أريد أن أكون نجَّاراً، وليس كاتباً؛ لكن الأقدار في العائلة، جعلت من مسار منشاري وقلمي الرصاص العريض، المركون على أذني اليسرى، والنشارة الخشبية التي تتكوم أمام أقدامي، وأزيز الخشب، والطلاء اللامع على نوافذ بيوتات عامودا، والجروح الصغيرة المستديمة على أصابعي.

كنتُ أريد أن أكون نجَّاراً، وليس كاتباً. ومازلتُ أشعر بأنني ذلك النجار الذي يريد من الخشب اللغوي، أن يكون خشب الغابة الطري، وخشب التاريخ الفاجر ـ الملهاة الكوردية”.

ويواصل: “ربما العائلة، هي التي دفعتني إلى ذلك، عبوراً بجلال الأشجار التي نزحتْ مع جدي الأول: “أوركيش”. وانتهاء بالحجرة المنوَّرة للشيخ عفيف، التي فيها درستُ أن الحياةَ هي الكتب. ودرستُ فيها أن الحياة ليست فقط الكتب، بل النجارة أيضاً؛ أهملت النصيحة الثانية، أهملت النجارة، فظللتُ ذلك الفقير القديم. لكن الكتب ظلت ثروتي التي لن تحترق، مثلما احترقت ثروة جدي؛ لستُ في عامودا الآن، وليس ثمة من يحرقها ـ الكتب الممكنات، وبلاغة أنني مازلتُ أدون شيئاً واحداً أحداً: أريد أن أعرف الظاهر من الوجود، أريد أن أعرف كيف سأبدأ بحياة تلك الحجرة القديمة، التي انذهلتُ فيها، وشردتُ فيها، وأنا أسمع رخامة الأصوات الكوردية، بدفوفها ـ دفوفِ الشجن والريحان والتصوف والتأويل والذبح والوله والجفاف المتراكم على جلود المغنين ـ العازفين الفقهاء الشدو. في حجرة الشيخ، لم أبحث عن أي شيء، ولم أفقد فيها أي شيء؛ لكنني فقدتها أبداً؛ يقيناً هي مثل كتبي القديمة ـ كتب الحياة، ستظل بأثرها الكتوم تدون معي، ما أريد نقله من الحياة إلى الكتابة، ومن الكتابة إلى الحلم، ومن الحنين إلى المنفى”.

اختزال الحياة..

وعن مسيرته في الكتابة يقول: “في السويد، أعدت توازني الشعري إلى نفسي، كتبتُ القليل القليل، وغامرنا سوياً: أحمد حسيني، وأنا، في ديوان مشترك، هو بالكوردية، وأنا بالعربية؛ كانت حلبجة تقصف بـ “علي كيماوي”، وكان المغني الفذ “محمد شيخو”، قد توفي قهراً من المخابرات، وكان حنيني إلى تمثال سينما عامودا طازجاً، بعد تركي للسينما والحريق والنصب والله المشدوه، والعصافير المشدوهة، طبعنا ديواناً فانتازياً آنذاك، أحمد تجربة طباعية أولى، له، وأنا كذلك، بلغتين مختلفتين. مع ذلك جاء الشعر، وجاء الديوان، وهي البدايات الطباعية، في بدايات التسعينات. اللغة اقتربتْ من الحنين، وشعر الكتاب الأول الهادئ. لكن، بقي الشعر بيقين الصرامة. اشتغلتُ تالياً، على أن أدون الشعر ـ الشعر، والحياة في المنفى.

طبعت كتابين شعريين أخريين، ثم في حلم من أحلام الله، كان علي أن أكتب نصاً نثرياً أقرب إلى الحلم، من الواقع، أردتُ فيه أن أعيش تجربة المنفيِّ كتابياً، بعد أن عشتُ التجربة حياتياً، فكانت “جهة الأربعاء”. موازنة بين الحياة والحلم، وبين المنفى وعامودا، وبين النساء والجنس، وبين اللغة الكوردية والعربية، وبيني القديم العامودي، والذي يقيم في السويد؛ موازنة أردت منها أن أعرف أين أعيش. كنتُ بحاجة للنثر، في حياة جديدة عليَّ، فيها القتامة والاختزال، فلم أختزل، اختزلتُ حياتي إلى كتابتي. لكن، ظل الشعر بمصكوكاته في روحي. مثلما الأزل.

في “مجاز غوتنبورغ”، وهو كتابي الشعري الرابع المطبوع، كنتُ قد تخلصت من مجازفة ورطة الشعار مع النص الشعري، الذي بدأت به؛ كانت تجربتي الشعرية، قد أخذت منحاها الهادئ، وكان المكان السويدي قد استقرَّ في وجداني وبصري أيضاً، المكان السويدي، الذي تكثّف في روحي، عبر مدينة غوتنبورغ البحرية، المشهد البصري للمدينة، والتآلف معها، خلقا عندي مايشبه الحوار مع المدينة: منفي مع مدينة؛ وكان الدخول في التجربة، يشبه تخوم الحدود الملغومة”.

ويواصل عن التأقلم مع المنفى والكتابة: “لم أكن قد كتبت عن المدن، غير عامودا. وها أنذا في امتحان الأعجمي في لغة أعجمية، في روح تتآلف مع برونزها أكثر من أي شيء آخر. دخلتُ الامتحان، بخفيَّ الرياضيين، وزانتي، كما يقول صديقي سليم بركات، دخلت، ولغتي العربية ـ بلائي ـ تساعدني في ذلك، عندي اللغة الكلاسيك القوية، المشبعة بالفانتازيا، وإلى حد ما الوقحة، أي، أن أكون واضحاً فيما سأكتبه، بعيداً عن التهويمات الشعرية، بعيداً عن غير الذي أعيشه، لأدوِّن المدينة، إذاً؛ فدونتها. فكان التدوين ـ الكتاب، شعراً ألماً. ليس أكثر من ذلك. اقتربت من روح البرونز النائم في روح الملوك والشعراء والرعاة والمهندسين والغزلان والقديسين، الروح الخضراء لهذه الأنصاب الخضراء، المنتصبة في غوتنبورغ. كان علي أن أجعل العنوان أيضاً: مجاز غوتنبورغ.”

بحيرة من يديك..

في مقالة بعنوان (“بحيرة من يديك” وحالة الحزن الخريفي) كتب “رائد الحواري”: “مجموعة شعرية من إصدارات آلاء / أزمنة، عمان، عام 1993، ما يميز هذه القصائد اللغة البسيطة والحزينة التي استخدمها الكاتب “محمد عفيف الحسيني”، فالنص خريفي بامتياز، حيث تسود حالة الحزن، الحزن الموجع الذي يحمل الحنين لشيء مفقود، فمن خلال النص لم يكن الكاتب سوداويا، رغم وجود ألفاظ الموت ومشتقاته في العديد من القصائد، ومع هذا لا يشعر القارئ بالسواد في النص، بل بحالة حزن عميق، فالشاعر يغدق علينا بتلك العاطفة التي تحن إلى المفقود، إن كان وطن أم إنسان.

فنكاد لا نجد قصيدة إلا وفيها ذكر للوجع أو للألم أو الافتقاد لشيء أو لإنسان أو ذكر للموت أو للمطر الذي يواكب معنى الموت. ما يميز النص هو التكثيف الذي يتقنه الشاعر، فهو يستطيع أن يوصل فكرته بأقل الكلمات، وأيضا بصور شعرية جميلة، مفعمة بالعاطفة وتثير المشاعر، وتجعل المتلقي ينحاز إلى جانب الشاعر ويستمتع بما يقرأ، وهنا تكمن حالة التميز في النص، فالنص من المفترض أن يكون سوداويا، لكن استطاع كاتبه أن يطفي عليه حالة الحزن، و يجعل المتلقي يتجاهل ذكر الموت، ويتماهى مع فعل الحنين”.

بهارات هندو ـ أوربية..        

في مقالة بعنوان (قراءة في كتاب: بهارات هندو ـ أوربية “رواية الوجع الكردي، للشاعر والروائي محمد عفيف الحسيني”) كتب “مهدي شاوي”: “الخلطة السحرية الغرائبية للعطّأر الماهر وصانع التوابل المشهية في كل أدبياته. يأخذنا الحسيني في روايته ـ مدونته اللامتخيلة الجديدة إلى حنينه للمكان، وذلك الوجع، وهي حقاً رواية الوجع الكردي، النوستالجيا والبحث عن الوطن المفقود؛ وطن وتاريخ شعب يحمله الجبل على مر الأزمنة التي عاشها ويعيشها.

في لغة من البساطة والألفة!، لغة خالية من التصنّع والاستعراض اللغوي، وهو الشيخ الضالع في اللغة العربية وقواعدها، وكنتُ أخشى أن يثقلها، أقصد لغة السرد بالشعر، وهو الشاعر، فتضيع تفصيلاتها على القارىء، لكن، وكما يبدو هو لايريد أن يضحي بالقارىء على حساب اللغة، لأن لروايته مهمة أخرى وهمّ آخر، إلى جانب آخر أنها لم تُكتب باللغة الكردية، فتبقى محصورة ضمن الناطقين بها، وهو كما يتمناه الحسيني أن يكتب بالكردية، لكنه، نسي أنه يترجم روحة الكردية إلى اللغة العربية”.

ويضيف: “مادة الكتاب هي تاريخ وطن وشعب يمتد على مساحة جهاته الأربع، وكان عليه إيصال عوالمها وتفاصيلها لمن لا يدري ما حدث ويحدث هناك، وقد تكون هي رواية التوثيق.

سردية “عامودا” نعم عامودا (ربما قد يكون هو الاسم المناسب للرواية، فقد جاء على ذكرها في أكثر من 360 مرة، من عمر الكتاب (513 ص)؛ عامودا هي أيقونة الحسيني؛ هي الجزء النازف من روحه، أينما حلّ هناك عامودا، وأينما كان، كانت عامودا هي شغاف قلبه النابض بكرديته، حلبجة الحاضرة أيضاً، تلك البلدة الهادئة الناعمة المكتظة بالمزارعين والرعاة؛ حلبجة، لقد أرادها الحسيني ـ وهو الرائي والروائي ـ أن تكون أماكنه التي عبث بها النازيون، من حريق سينما عامودا حتى دمار حلبجة، أن تكون مزاراً يتفقد فيها الجميع حجم الفواجع والكوارث التي عاشها؛ مثلما جعل بدر شاكر السياب ذلك النهر الصغير “بويب”، وقرية جيكور مزاراً للشعراء والأدباء”.

ويؤكد: “جاءت الرواية بروح كردية خالصة ومطحونة بتوابل وأعشاب، تلك هي خلطة الحسيني، وهو الأديب والشاعر والعطّار الماهر، الذي يجعلك تعشق بهاراته، هو العارف في الخلطة الأدبية في الشعر والرواية؛ إنها رواية أماكن عاشها في طفولته، وامتدت معه في التشرد والتسكع عبر منافيه البعيدة والمتعدد. يشدك للأماكن التي تنقل بينها: كردستان، حلبجة، حاج عمران، عامودا، قبرص، دمشق، بيروت، بولونيا، باريس، كازبلانكا، وغوتنبورغ التي يقول عنها إنها أجمل مدينة في العالم ـ طبعاً عامودا هي الأجمل ـ؛ غوتنبورغ لها خصوصيتها في كتاباته والتي يعشقها حد الثمالة، وهو الحافظ لكل تفاصيلها كجسد أنثوي: معالمها، أبراجها، ساحاتها، تماثيلها وشوارعها. خصص لها الكاتب سابقاً كتاباً شعرياً تحت عنوان “مجاز غوتنبورغ”، فهو عندما يكون حاضراً في غوتنبورغ، تكون عامودا الغائبة حاضرة في غوتنبورغ، وهو حسب اعتقادي أجمل من كتب عنها”.

وفاته..

توقف عن النبض قلب “محمد عفيف حسيني” أمس، 23 أغسطس 2022 في منزله في إحدى مدن السويد. إثر نوبة قلبية.

الألمُ على المرآة

نص ل “محمد عفيف الحسيني”

كان يحملُ كشْكُولًا، ويركبُ نَوْرَجًا، يدرس به قشّ الشمال، وكُرْكُمَ شيخوختِه.

وهي- العاشقةُ- تراه بمرآتِها:

الألمُ- على- المرآة- له رائحةُ التّيسِ الجبليِّ، وعنادُ كبشٍ مدللٍ.

هلالُه أخضرُ على زِنده الأيسرِ.

نقّاشُ الخافقيْنِ.

نقّاشُ الألمِ.

قابسُ الفضّةِ من مرآتِها.

وهو- العاشقُ- ببرونزه، يراها:

لها رائحةُ العسلِ، وعناد الكريستال.

لها نجمةٌ، أسقطتْها بين أصابِعه، فأخذها.

نقّاشةُ الليلِ.

قابسةٌ بنفسج شفتيه الراعلتين.

قابسةُ هلاله الأخضر، البرونزيّ.

كَفَلُ حصان يرتجفُ.

كفلُ حصانِ غوستاف أدولف الثاني، البرونزيّ، يرتعشُ.

صهيلٌ ذهبيٌّ، يسمعه الغريبُ في غوتنبورغ.

صهيلٌ أخضرُ، تسمعه الغريبةُ، وهي تراقبه في مرآتِها.

أسيوفٌ قصيرةٌ تلمعُ في ظلامِ شيخوختِهما؟

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة