خاص: إعداد- سماح عادل
“محمد عثمان” ملحن و مغنى مصري، رائد من رواد الموسيقى البارزين في مصر، من الفنانين الأوائل الذين وضعوا أسس الموسيقى العربية التي تميز بها عصر النهضة منذ القرن التاسع عشر، وهو أبو المطرب والممثل الراحل “عزيز عثمان”. وقد كان منافسا قويا للمطرب “عبده الحامولي”و تلميذه المطرب الكبير “عبد الحي حلمي”.
عمل “محمد عثمان” على إضافة ابتكارات على الغناء منها غناء الكورس، وأضاف عنصرا جديدا رائعا هو تبادل المقاطع بين التخت والمغنى والكورس فيما عرف “بالهنك والرنك”، وإلى “محمد عثمان” و”عبده الحامولى” وقبلهما بقليل الشيخ “محمد عبد الرحيم” الشهير ب”المسلوب” ترجع بداية ظهور الغناء المصري، واستكشاف المقامات العربية الأصيلة في القرن التاسع عشر، بعد أن كان الغناء مهمة الفن التركي الذي ساد في البلاد العربية لمئات السنين، وذلك بارتيادهما واستخدامهما للمقامات والإيقاعات المحلية وتطويعها لأداء التخت الموسيقى.
حياته..
ولد في 1854 وكان والده الشيخ “عُثمان حسن” مدرِّساً في جامع السُلطان أبى العلاء لتحفيظ القرآن الكريم، وقد شغف “محمد عُثمان” بالموسيقى مُنذ طفولته إذ راح يقلد المُغنين ومنشدي الأذكار وما إن اكتشف والده هذه الموهبة حتى ضمّه إلى تخت ” قصطندي منسي” فدرس على يده العود والغناء وبعد وفاة والده انضم إلى تخت “على الرشيدى الكبير” إلى أن تعمّق في فن الغناء وأصبح له لونٌ خاص في التلحين، فكوّن تختاً خاصاً به بلغ من الشهرة ما قارب شهرة “عبده الحامولى” ويعتبر “محمد عثمان” من تلاميذ الشيخ “الشلشلمونى” و “محمود الخضراوى” كما تعلم من الحاج “الرافعي” و من “حسن الجاهل”عازف الكمان الشهير.
وكان “محمد عثمان” شجي الصوت، قوى النبرة، جيد الأداء إلا أن المرض أفقده حلاوة صوته، فاتجه إلي التلحين وقدم ألحانا تعد من روائع الألحان الغنائية. ويعتبر من أوائل الذين حاولوا تطوير الأغاني العربية باستخدام الأسلوب العلمي ونجحت محاولاتهم لدرجة أنه أصبح من الصعب أن يضاف إلى ما حققوه شيء جوهري، ففي الأدوار توصل “محمد عثمان” إلي تراكيب فنية عاشت بعده أكثر من 100عاما دون أن يصل أحد إلي مستواها.
سافر “محمد عثمان” بعد ذلك إلى الأستانة حيث تعرف على بعض جوانب صناعة الموسيقى في تركيا واستفاد كثيراً، ثُم عاد إلى مصر وبدأ يُلحن إبداعاته وأدخل إلى مصر مقاماً جديداً هو مقام “الشوق أفزا” وبمُجرد علم “محمد عثمان” أن اختراعاً حقيقياً ظهر في أوربا و أمريكا اسمه “الفونوغراف” و أن هذا الاختراع قادراً أن يلتقط صوت المُطرب ويٌعيد استماعه مره أخرى ففكر على الفور في كيفية تسجيل أدواره العظيمة لينقلها إلي المُستمعين على وجهها الفني الصحيح، ويحفظها من الضياع، لذلك استدعى تلميذه المطرب الكبير “عبد الحي حلمي” وقال له: “أوصيك يا عبد الحي إذا جاء اختراع الفونغراف إلى مصر أن تسجل دورين على الأقل من أدواري وهما “قدك أمير الأغصان” و”قد ما احبك زعلان منك” وتوفى بعدها وجاءت شركات الأسطوانات إلى مصر بعد موته بأربعة سنوات في عام 1904 فسعى “عبد الحي” إلى الوفاء بالوعد وبادر بالاتصال بشركات الأسطوانات وسجل أغلب أدوار “محمد عثمان”، وساعده في هذه المهمة عازف الكمان “سامى الشوا” ” والذي كثيراً ما كان يقول أن صوته أعجوبة.
أما عن أدوار “محمد عثمان” الغنائية فكان دور “قدك أمير الأغصان” كان كلامه أقرب إلى الفُصحى لأن مؤلفه شاعر فصيح هو “إسماعيل صبري” باشا المُلقب في عصره بشيخ الشعراء، و قد اختار “محمد عثمان” لهذا الدور مقام “البياتى” واستخدم مُعظم تراكيبه وخلاياه النغمية من جنس “نهاوند النوى” و “كُرد الحسيني” ومزج بينهما مزجاً رائعاً في إطار مقام البياتي، وكان يعتز بهذا الدور بشكلٍ خاص، غير أنه كان يطمح إلى الجديد و الابتكار فبدأ بتنقيح التُراث وتثبيت أشكاله وإضافة ما يُمكن إليه من إبداعاته، وساعده في ذلك إمكانياته الصوتية الهائلة.
وكان الخديوي إسماعيل من المُعجبين بصوت “محمد عثمان” فاصطحبه للغناء في الآستانة عاصمة الدولة العثمانية، فانتهز الفرصة أكثر من السفرية الأولى له للتعرف على الموسيقى التركية ومقاماتها وأشكالها، كما سافر إلى البلاد العربية فتعلم نغمات استخدمها في أدواره الجديدة، فأضاف لها مذاقا جديداً وعلى غير ما توقع فإن النغمات المصرية التي مزجها بها جعلت أدواره ذات مذاق جديد على الأتراك أيضاً، فراجت في تُركيا كما في مصر ، علاوة على صوته شديد الجاذبية عظيم التأثير، وتعاون معه الشاعر الشيخ “محمد الدرويش” وقدم الأخير الكثير من أعماله لصديقه “محمد عثمان”، ومن أهم أدواره “ياللى معاك روح الأمل” من مقام البياتى و “على روحي أنا الجاني” من مقام جهار كاه و “طول ياليل” من مقام بياتى و”بدع الحبيب” من مقام جهار كاه.
وقدم له الشاعر “إسماعيل صبري” العديد من قصائده ومنهم “لسان الدمع” من مقام عراق و”الحب أصله فين” من مقام بياتي و”حبيت جميل” من مقام شورى و”اعشق الخالص لحبك” و”لسان الدمع أفصح” من مقام بيانى و”حظ الحياة” و”كادنى الهوى” من مقام النهاوند و”يا ما أنت واحشنى” من مقام حجاز كار و”أصل الغرام نظرة ” من مقام الراست و”جددى يا نفس حظك” و”في البعد يا ما” و ”غنت لطلعته البلابل” و”أنا أعشق في زماني” و ”عشنا وشفنا سنين” من مقام دالانشين والتي غناها بمناسبة الثورة العرابية، و” قد ما أحبك زعلان منك”.
وقد عاش”محمد عثمان” في تبارى مع الفنان ”عبده الحامولى” في حلبة سباق الإبداع والابتكار حتى بلغ هذا التسابُق الفني أن أحدهما لا يرى منقصه بمكانته حين يغنى دور زميله، وكان على الساحة أيضاً من المُلحنين آنذاك ”إبراهيم القباني” و ”يوسف المنيلاوى” و”محمد سالم العجوز” وغيرهم و قد غنى أعمال “محمد عثمان” الكثير من الأصوات الغنائية ومنهم ”مارى جبران” و”سيد درويش” و”محمد السبع” و”الشيخ أحمد إدريس” و”إسماعيل شبانه” و” إبراهيم حموده” و”داود حسنى” و” فتحيه أحمد” و”أجفان الأمير” و”صباح فخري” و” سيد مكاوى” و”محمد الحلو” و”محمد عبد الستار” وكذا فرق الموسيقى العربية في دار الأوبرا وأيضا الفرق الخاصة.
تزوج “محمد عثمان” من السيدة ”سعدية فرحات” و أنجبت له نجلين الأول هو ”ابراهيم” والذي حافظ على تراث والده بترديده وغنائه أمام ميكرفون الإذاعة والحفلات، أما نجله الثاني فهو الفنان خفيف الظل”عبد العزيز عثمان”، والذي اشتهر في الساحة الفنية باسم “عزيز عثمان”.
تنقيح الدور القديم..
يقول” د.أسامة عفيفي” في بحث له: “يذكر ل “محمد عثمان” أنه قام بتنقيح الدور القديم الوارد في التراث العربي وتطويره إلى شكل جديد، قوبل بنجاح عظيم بفضل عدة عناصر جديدة:
- ألحان مميزة.
- استخدام مقامات جديدة.
- إخراج فني رائع في: – الدراما اللحنية فأصبح للحن مقدمة ووسط وذروة ونهاية – تقابل وتباين الغناء الفردي مع غناء الكورس.
4.امتداد المساحات والتلوينات الصوتية التي تساعد المطرب على الإبداع.
- قدر هائل من الطرب جعل ألحانه تميز عصرا بأكمله بأنه عصر الطرب”.
ويضيف: “بهر “محمد عثمان” الجمهور المصري بألحانه وذاع صيته مرتين، أثناء حياته وبعد وفاته، وأما بعد وفاته بعدة عقود وبالتحديد عام 1967 فقد لاقت هذه الألحان نجاحا هائلا عندما قدمتها الفرقة العربية بقيادة “عبد الحليم نويرة” بصفة منتظمة في عروض خاصة بالتراث بقاعة “سيد درويش” بالقاهرة، استمرت لسنوات عديدة وكانت تذاكر العرض تنفذ مبكرا من شدة الإقبال، ثم طبعت أدواره وموشحاته على اسطوانات طبعتها شركة صوت القاهرة، وهذه أيضا نفذت سريعا، ثم انتقلت أدواره وموشحاته إلى فرق أخرى في كافة أنحاء مصر، من بينها فرق قصور الثقافة والجامعات وهو ما دل على حب جيل الشباب خاصة لإبداعات “محمد عثمان””.
وفاته..
في 19 / 12 / 1900 وعن عُمر يناهز الـ 46 عام فقط توفى “محمد عثمان” بعدما ترك تُراثاً زاخراً من الموسيقى والألحان والموشحات والطقاطيق الجميلة التي ستظل خالدة.