خاص: إعداد- سماح عادل
محمد المليحي، فنان تشكيلي مغربي، يعتبر وفق الكاتب والتشكيلي “عزيز أزغاي”، في مقال له، إلى جانب كل من “الراحل محمد شبعة، ومكي مغارة، وسعد بن السفاج”، أحد أهم خريجي “مدرسة الفنون الجميلة” في مدينة تطوان الذين دشّنوا الخطوات الأولى لمسار التجربة التشكيلية الحديثة في المغرب، بعد جيل الفنانين الفطريين الأوائل.
حياته..
من مواليد مدينة أصيلة عام 1936، تعلم “محمد المليحي” في مدرسة الفنون الجميلة (1953 – 1955) في مدينة تطوانَ بالمغرب، قبل أن يغادرَها لإكمال دراسته في الخارج في المدرسة العليا للفنون الجميلة سانتا إيزابيل دي هنغاريا (1955)، إشبيلية، والمدرسة العليا للفنون الجميلة سان فرناندو (1956)، مدريد، وأكاديمية الفنون الجميلة (1957 – 1960)، ومعهد استاتالي للفن (1960) في روما، والمدرسة الوطنية للفنون الجميلة (1960 – 1961)، باريس، وحصل على منحة مؤسسة روكفلير للدراسة في جامعة كولومبيا (1962) لمدة سنتين قبل العودة إلى المغرب في العام 1964.
عملَ أستاذاً للرسم والنحت والتصوير في مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء (1964 – 1969) في الوقت الذي كان “فريد بلكاهية” مديراً للمدرسة. وشكّل المليحي وبلكاهية ومحمد شيبا “جماعة الدار البيضاء” وتكللت أعمالهم بمعرض في الرباط نُظّمَ عام 1966. وبالإضافة إلى أسلوبهم الحداثي الجديد، اشتهرت المجموعة بمنهجيتها العلمية التي ركّزت اهتمامها على غرس الحداثة في الثقافة البصرية المحلية. وفي عام 1969، نظّم الثلاثة وبالتعاون مع عددِ آخر من أساتذة مدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء معرض “الفن الواضح” الذي أقيمَ في الهواء الطلق في ساحة جامع الفناء بمراكش لغرض التواصل المباشر مع جمهور العامة خارج جدران الأروقة المغلقة.
امتلأت حياة “محمد المليحي” بالتنوع ما بين التدريس والنشر والتصميم الجرافيكي. واقتنى متحف الفن الحديث في نيويورك ملصقَه الذي شارك به في معرض الرباط عام 1966. وكان “المليحي” عضواً ناشطاً في رابطة مجلة سوفل “أنفاس” الثقافية الفكرية اليسارية بين الأعوام 1966 و 1969 وصمّم غلافَها الأيقوني المبدع. ومن 1972 وحتى 1977، شغل “المليحي” منصب مؤسس ومدير المجلة الثقافية “إنتجرال”.
وفي 1974، شارك في تأسيس دار نشر “شوف” وتبوأ إدارتَها. وفي 1978، أسس “المليحي” مع محمد بن عيسى جمعية المحيط الثقافية ونظما موسم أصيلة الثقافي، وهو مهرجان عُرف بجدارياته التي تُعرض في الهواء الطلق سنويا حتى يومنا هذا. وعمل “المليحي” أيضا مديراً عاماً في وزارة الثقافة المغربية بين الأعوام 1985 و 1992 ومستشاراً ثقافيا لوزارة الشؤون الخارجية والتعاون (1999 – 2000) في المغرب.
رسام الأمواج..
في مقالة بعنوان (الرسام محمد المليحي جدد الفن المغربي بحركة الأمواج) يقول كاتبها: “إذا كان هناك من وصف للمليحي فسيكون “رسام الأمواج”، فهو عرف بميله إلى رسم الأمواج في معظم لوحاته. وظل يطور هذه التقنية في مختلف تجاربه، مع تغيير مستمر في الألوان والأشكال وضربات الفرشاة. ومن يتأمل لوحاته تلك يشعر فعلاً بحركة الموج وإيقاعه اللوني وقد يسمع ربما هديره ولكن ببصره وبصيرته”.
ويضيف: “وقبل رحيله حطم المليحي رقماً قياسياً بمزاد “سوثبيز” في لندن الذي أقيم أواخر شهر مارس (آذار) من هذا العام. وبيعت إحدى لوحاته بما يفوق نصف مليون دولار (399 ألف جنيه إسترليني). وحظيت لوحته “ذو بلاكس” بأعلى سعر من بين 71 لوحة لـ48 فناناً من العالم. وكان الفنان المغربي قد رسم هذه اللوحة سنة 1963 خلال إقامته في نيويورك. وقد وصف مزاد سوثبيز المليحي بأنه أحد الفنانين “الأندر والأكثر طلباً في العصر الحديث””.
مجلة أنفاس..
في حوار مع “محمد المليحي” أجرته “زكية الصفريوي”/ ترجمة “سعيد بوخليط” يقول عن مشاركته في مجلة أنفاس: “كنت شيئا ما رافضا للنظام الاجتماعي، وفي نفس الآن اتسم طبعي بكوني هادئا جدا، لقد ارتبطت كثيرا بجماعات شبابية، تنتمي إلى تيارات تقدمية أو بالأحرى يسارية. إسبانيا مازالت تعيش وقتها تحت سلطة نظام فرانكو، وفي إيطاليا، حيث تحدد توجهي بشكل حاسم، كان الشيوعيون هناك الأكثر ليبرالية وصلابة كذلك. في إيطاليا، وقفت على نوع من الألفة المتعددة الاختصاصات : التشكيليون، الشعراء، الكتاب، المهندسون، بحيث نسجوا بينهم اتصالا مستمرا على مستوى معين. هذا مرده إلى طبيعة الحياة الايطالية، الاجتماعية جدا والمتكلمة جدا.هناك، أدركت أن الفن المتعلق بالفن التصويري، ليس فقط مجرد تشكيل، لكنه توجه يتلاقى مع أخرى. يشارك المهندسون، الفنانون التشكيليون، والأخيرون مع الشعراء، الذين يتقاسمون بدورهم الطرح مع رجال المسرح. كل هذه الحركة، دعمتها دائما إصدارات ومجلات، فتوجه باستمرار اهتمامي نحو ذلك، بل أسهمت مع صديق إيطالي، كان يصدر مجلة ثم مع فنانة من الشيلي. ولكي أواصل مراكمة معارفي على مستوى ميدان الفنون البصرية والتشكيلية،أعود دائما إلى المجلات، فأتابع كثيرا مثلا مجلة “الفن العالمي “وهي مجلة مهمة، كانت تصدر في زوريخ، متضمنة مقالات بالانجليزية والفرنسية والايطالية، وقد اسهمت بدوري. كما أن الرواق الذي كنت أعرض فيه، يرتكز جدا على هذه المجلة. انعقدت جلسات من أجل تحضير الأعداد. كنت دائما عنصرا منظِّما، منكبا على الجانب الجمالي، المتعلق بصناعة المجلة وكذا جانب من توجهها.غير الأدب يقينا، كنت عنصرا حاسما، بخصوص مساهمة الفنون في موضوعات المجلة.يلزم، أن يكون المرتكز أدبيا، تحليليا، لكن يلازمه التسلية، كي نظهر للقارئ المغربي شكلا جديدا للفن، يقتضي تفاعلا مغايرا”.
ويواصل:”من وجهة نظري، تعد أنفاس وثيقة مرجعية، وخطا موجِّها، لكنها لم تنجز مهمتها، كما يفترض. صحيح، اختلفت أصول تكويننا، بالنسبة إلي ونيسابوري واللعبي، ولكل واحد منظورات مختلفة، تسكن لا وعيه، جعلته يتمثل هذا المشروع على طريقته.لم نعقد جلسات هادئة، من أجل تحديد استراتجيات بعيدة المدى، بل على العكس، اتسمت رؤيتنا بقصر النظر.لقد أحرقنا بطاقات، تحت طيات ملفات دقيقة. مفعول أنفاس، لم يأخذ وجهته الصحيحة، نتيجة غياب مسار عقلاني وعلمي حقا، ما جعلها تفتقد إلى إستراتجية. فلا يمكننا التخلي، عن مشروع كهذا، لو علمنا أن الكثيرين قد ارتبطوا به، ويعني لدى العديد منهم، انفتاحا وبديلا. هكذا، ستضمحل أنفاس جراء الاعتقالات، ونحن نسينا ذلك تماما، على الأقل فيما يخصني”.
التمسك ببلده..
في حوار آخر معه أجرته “القدس العربي” يقول “محمد المليحي” عن العلاقة بين المحلية والعالمية في الإبداع: “لا يمكن لأية حركة ثقافية أن تقوم على الاستيراد مئة بالمئة، لأن منطلقها وعمودها الفقري ينبثق من الواقع المحلي. ولهذا، أنا من ضمن المثقفين المغاربة الذين لم يتركوا بلادهم رغم إغراء عوالم أجنبية. الآن، يتضح أن الغرب الذي كان يُذهلنا وكنا منبهرين به، يوجد في محنة بسبب أوضاعه الاقتصادية. أؤمن دائما بأنه يمكن أن نكون طليعيين دون أن نترك بلادنا أو نفقد الثقة في أنفسنا.
صحيح أن المغرب يحتاج إلى ديناميكية ثقافية بقدر احتياجه إلى المستشفيات وإلى السدود وإلى الطرق وإلى الاقتصاد الصحيح، ووجود هذه الديناميكية الثقافية رهن بوجود تكوين سليم في المدرسة. لكن الملاحظ أن النخبة التي أمسكت بزمام الأمور في المغرب منذ فجر الاستقلال، هي من نتاج مدارس أقامتها الأحزاب الوطنية، ورغم دورها في مناهضة التوجهات الاستعمارية فهي لم تستطع وضع لبنات نهضة ثقافية حقيقية بعد الحصول على الاستقلال”.
حرية الفن..
وعن الفن التشكيلي يقول “المليحي”: “الفن التشكيلي المغربي صار عوده يشتد ويتقوى مع فجر الاستقلال. وبما أن الدولة المغربية كانت ليبرالية ومتفتحة فإنها لم تنتبه إلى الفن التشكيلي ولم تعره اهتماما، فبقي خارج وصايتها، وتركت الفنان يعمل في غفلة منها وفي كامل الحرية، وينتج أعمالا لا علاقة لها بالإيديولوجية السائدة في البلد، بخلاف دول عربية أخرى شهدت ثورات وكانت فيها حكومات تابعة للإيديولوجيات الحزبية. ومن ثم، استطاع الفن التشكيلي المغربي أن يقلص الفجوة بين المغاربة والعالم، بفضل تلك الحرية وبفضل عدم التدخل من طرف الدولة.
لم يكن هناك فنان مغربي أنتج فنا تقربا من الحاكم، مما جعل الفن المغربي متحررا ومستقلا ومتفتحا على نفسه وعلى العالم. هذه الظاهرة قلما انتبه إليها الكثيرون؛ نلمس ذلك بالخصوص في الفنون التشكيلية، لأنها كانت في منأى عن تأثير التيارات الإيديولوجية الرائجة وقتئذ وكذا عن السلطة الرسمية، بينما سقطت الكتابة الأدبية في هذا الفخ حيث برزت بوضوح سيطرة الاتجاه اليساري والاشتراكي عليها.
كنا دائما متضامنين مع الحركات الشعبية ومع القضية الفلسطينية، وكان شغلنا الشاغل توضيح الرؤية لدى المواطن المغربي أن الفن لا يخدم رسالة (بولشفية) ما، وإنما رسالة فنية محضة، وتفادي السقوط في (الكليشيهات) والفخاخ التي يمكن أن توجهك وتفرض عليك من الخارج”.
وفاته..
توفي “محمد المليحي” عن عمر 82 عاما، في يوم الأربعاء 28 أكتوبر2020، متأثراً بمضاعفات فيروس كوفيد- 19 في العناية المركزة في أحد المستشفيات الباريسية.